بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالديه ولمشايخه وللحاضرين والمسلمين.
قال الحافظ أبو الفداء ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: (سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ-عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: أخبرني بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ. تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ).
الشيخ: تكلم على الحديث؟
الطالب: قال أخرجه النسائي بسنده ومتنه، وصححه الألباني.
الشيخ: هات السند، سند الحديث.
الطالب: (قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ-عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: أخبرني بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ، وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ. تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ).
كان الظاهر أنه في صلاة الفجر يعني، يؤمهم بالصافات، وهذا تخفيف؛ لأنه يأمرنا بالتخفيف، يعني فعله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو التخفيف، وصلاة الفجر السنة فيها الإطالة في القراءة، كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ بالستين إلى المئة، والناس في حاجة إلى استماع القرآن بعد النوم، فلا ينافي التخفيف، وقد ثبت أن الصديق رضي الله عنه قرأ بسورة البقرة في الفجر، فقالوا: يا خليفة رسول الله! كادت الشمس أن تطلع، قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، رضي الله عنه، كذلك عمر كان يقرأ في صلاة الفجر بيوسف والنحل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يأمهم بالصافات، والسنة في الفجر الإطالة.
قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء:78]، يسىمى الصلاة القرآن؛ لأنهم يطولون فيها القراءة، ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾[الإسراء:78]، يعني وصلاة الفجر، ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء:78]، تشهده الملائكة، فسماها قرآن؛ لأنهم يطولون فيها القراءة، سمى الصلاة قرآن كلها، وقرآن الفجر أي: وصلاة الفجر، ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء:78]، العادة الآن أن كثير من الأئمة في هذا الوقت يقرأون قراءة قصيرة، ما يطيلون في صلاة الفجر، قليل منهم من يطيل، أكثر الأئمة يقرأ آيات، يقرأ صفحة، وجه، أو أقل، والسنة الإطالة من غير مشقة على المؤمنين، ولهذا السنة في صلاة الفجر يقرأ بـألم السجدة والإنسان، طويلتان، بعد الناس ما يتحملها.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥)}.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} وَهِيَ: الْمَلَائِكَةُ، {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} وَهِيَ: الْمَلَائِكَةُ، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} هِيَ: الْمَلَائِكَةُ).
يعني أوصاف الملائكة.
(وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وعِكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ، والسُّدِّيّ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ فِي السَّمَاءِ).
في الحديث: «تصفون كما تصف الملائكة عند ربها»، قالوا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف»، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} وصف للملائكة حين تصف.
(وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلنا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعلت صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وجُعلت لَنَا تُربتها طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ».
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المُسَيَّب بْنِ رَافِعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفة، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «ألا تَصُفّون كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ " قُلْنَا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُتِمون الصُّفُوفَ الْمُتَقَدِّمَةَ ويَتَراصون فِي الصَّفِّ».
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أَنَّهَا تَزْجُرُ السَّحَابَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} : مَا زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ زيد بن أسلم.
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} قَالَ السُّدِّيُّ: الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ بِالْكِتَابِ، وَالْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَاتِ:٥، ٦] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ إلا هو {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ بِتَسْخِيرِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَوَاكِبَ ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ تَبْدُو مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ عَنِ الْمَغَارِبِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [الْمَعَارِجِ:٤٠]).
فتكون هذه كلها أوصاف الملائكة، والله تعالى أقسم بها، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾[الصافات:1]، أقسم بالصافات حين تصف الملائكة عند ربها، ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾[الصافات:2]، الملائكة تزجر السحاب، ﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾[الصافات:3]، الملائكة تنزل بالذكر والقرآن من عند الله عز وجل، أقسم الله به، الصافات أي: الملائكة حين صفها عنده سبحانه وتعالى، وأقسم بالملائكة حين تزجر السحاب، وأقسم بالملائكة حين تنزل بالوحي والذكر، والمقسم به: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾[الصافات:4]، أن المعبود الحق هو الله تعالى واحد، لا شريك له، وهو رب المشارق والمغارب.
﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ(5)﴾[الصافات:4/5]، المشارق والمغارب جمعت باعتبار مشرق كل يوم ومغرب كل يوم، وفي آية أخرى في سورة الرحمن ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾[الرحمن:17]، ثناهما، المشرقين مشرقي الشتاء ومشرقي الصيف، والمغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف، ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[المزمل:9]، أفرده باعتبار الجنس، رب المشرق جنس المشرق وجنس المغرب، فلا منافاة، مشرق الجنس، ومشرقي الشتاء والصيف، والمشارق مشرق كل يوم ومغرب كل يوم، أعد.
(وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ إلا هو {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ بِتَسْخِيرِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَوَاكِبَ ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ تَبْدُو مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ عَنِ الْمَغَارِبِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [الْمَعَارِجِ:٤٠].
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرَّحْمَنِ:١٧] يَعْنِي فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠)}.
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}، قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالْبَدَلِ).
الإضافة، {إنا زينة السماء الدنيا بزينةِ الكواكب}، والبدل: {بزينةٍ الكواكب}، قراءة حفص: {بزينةٍ الكواكب}، {بزينةٍ الكواكب}، أو {بزينةِ الكواكب}، قرئت بالإضافة والبدل، بالإضافة بزينةِ الكواكب، والبدل بزينةٍ الكواكب، بالتنوين، الكواكب بدل من الزينة، هذا بدل، والإضافة، بزينةِ الكواكب، بكسرة واحدة، قرئ بالإضافة والبدل.
(قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالْبَدَلِ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ وَالثَّوَابِتُ يَثْقُبُ ضَوْءُهَا جِرْمَ السَّمَاءِ الشَّفَّافَ، فَتُضِيءُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ:٥] ، وَقَالَ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الْحِجْرِ:١٦-١٨].
وَقَوْلُهُ هَا هُنَا: {وَحِفْظًا} تَقْدِيرُهُ: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} يَعْنِي: الْمُتَمَرِّدَ الْعَاتِيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ، أَتَاهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَأَحْرَقَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى} أَيْ: لِئَلَّا يَصِلُوا إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذَا تَكَلَّمُوا بِمَا يُوحِيهِ اللَّهُ مِمَّا يَقُولُهُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٍ:٢٣]، وَلِهَذَا قَالَ {وَيُقْذَفُون} أَيْ: يُرْمَوْنَ {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أَيْ: مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ مِنْهَا، {دُحُورًا} أَيْ: رَجْمًا يُدْحَرُونَ بِهِ وَيُزْجَرُونَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ مُوجِعٌ مُسْتَمِرٌّ، كَمَا قَالَ: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الْمُلْكِ:٥] .
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أَيْ: إِلَّا مَنِ اخْتَطَفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الخطفة، وهي الكلمة يسمعها مِنَ السَّمَاءِ فَيُلْقِيهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، وَيُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الشِّهَابُ فَيُحْرِقَهُ، فَيَذْهَبُ بِهَا الْآخَرُ إِلَى الْكَاهِنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أَيْ: مُسْتَنِيرٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلشَّيَاطِينِ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ فَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ. قَالَ: وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا تَجْرِي، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرْمى قَالَ: فَإِذَا سَمِعُوا الْوَحْيَ نَزَلُوا إِلَى الْأَرْضِ، فَزَادُوا فِي الْكَلِمَةِ تِسْعًا. قَالَ: فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل الشَّيْطَانُ إِذَا قَعَدَ مَقْعَدَهُ جَاءَ شِهَابٌ فَلَمْ يُخْطئه حَتَّى يُحرقَه. قَالَ: فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أمْر حَدَثَ. قَالَ: فَبَثّ جُنُودَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ -قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بَطْنَ نَخْلَةَ-قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي حَدَثَ.
وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مَعَ الْآثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ:٨-١٠]).
هذه الآيات فيها بيان أن الله تعالى زين السماء الدنيا بالنجوم، بالمصابيح، وأنه حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع، وتحرقهم الشهاب، ومن خطف الخطفة منهم واستمع الكلمة فإنه يلقها إلى من تحته، وتأتي الشهاب وتحرقه، كما في الحديث أن الشياطين يركب بعضهم بعضًا كما وصف سفيان هكذا واحد فوق واحد، بدون ملاصقة، حتى يصلوا إلى العنان، فيسمعون الملائكة يتكلمون بالوحي؛ لأن تعالى إذا تكلم بالوحي، فإن الملائكة يصعقون، ثم أول ما يرفع رأسه جبريل، فتسأله الملائكة ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، ثم يتخابر أهل السماوات من سماء إلى سماء، حتى يصل الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ثم يتكلم به الملائكة في السحاب، والشياطين يركب بعضهم بعضًا حتى يصل إلى السحاب، فيسمعون الملائكة يتحدثون بالكلام من وحي الله عز وجل، فالشيطان الفوقاني يسمع الكلمة، ثم يلقيها إلى من تحته والآخر إلى من تحته والآخر إلى من تحته، حتى تصل إلى الشيطان الأسفل، الشيطان الأسفل يلقيها في أذن الكاهن، وهو وليه، يقرها فيه، يخرج قر قر قر، فإذا وصلت الكاهن خلط معها مئة كذبة، فيحدث الناس بهذا الكذب الكثير، وتقع الواحدة هذه التي سمعت من النساء، فالناس يصدقون الكاهن في مئة كذبة من أجل واحدة، هذا يدل على قبول النفس للشر والباطل.
أما الشياطين الذين يسمعون هذا الكلام كلهم تحرقهم الشهب، الشهاب يلاحقهم، لكن أحيانًا الشهاب يدرك الشيطان الأسفل قبل أن يلقي الكلمة في أذن الكاهن، وأحيانًا يلقيها في أذن الكاهن ثم تحرقه الشهاب، مرة ومرة، مرة يدركه الشهاب، ومرة يسبق الشهاب، وهذا يدل على كثرة الشياطين، وأنهم يولد آلاف مؤلفة في دقيقة؛ لأن الشهاب تحرقهم ومع هذا يأتي غيرهم، يأتي غيرهم شياطين كثير، لو كانوا قلة انتهوا، يدل على كثرة الشياطين الذين تلاحقهم الشهب، وهذا من الحكمة من خلق النجوم، أنها زينة للسماء، وأنه رجومًا للشياطين، قال تعالى: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[الملك:6]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾[الملك:5].
والحكمة الثالثة أنها علامات يُهتدى بها في البر وفي البحر، ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾[النحل:16]، قال قتادة رضي الله عنه: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، رجومًا للشياطين، وعلامات يهتدون بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.
هذه هي الحكم من خلق النجوم، ذكر في هذه الآيات حكمتان: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)﴾[الصافات:6/7]، وكذلك أيضًا في سورة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾[الملك:1]، وفي سورة النحل الحكمة الثالثة ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾[النحل:16]، نعم.
(وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)}.
يَقُولُ تَعَالَى: فَسَل هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ: أَيُّمَا أَشَدُّ خُلُقًا هُمْ أَمِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؟ -وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أَمْ مَنْ عَدَدْنَا"-).
فاستفتهم من أشد خلقًا؟ هل خلقهم أشد أم خلق الملائكة والسماوات والجن والشياطين؟ ومع ذلك لا يعجزون الله، فلماذا تستمرون على كفركم وأنتم خلق ضعيف لا تتحملون العذاب؟ ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾[الصافات:11]، هذا المخلوق من طين لازب، أبونا آدم وذريته مخلوقون من النطفة، نعم.
(فَإِنَّهُمْ يُقرّون أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرُوا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غَافِرٍ:٥٧] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خُلقوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ، فَقَالَ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يَلْتَزِقُ بعضه ببعض. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ: هُوَ اللَّزِجُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بِالْيَدِ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَيْ: بَلْ عَجِبْتَ -يَا مُحَمَّدُ-مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا. وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ، مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَخِر ضُلال بَنِي آدَمَ. {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أَيْ: دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ {يَسْتَسْخِرُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَسْتَهْزِئُونَ.
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ:إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ، {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: نَعَمْ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَا تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ: حَقِيرُونَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّمْلِ:٨٧] ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ:٦٠].
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} أَيْ: إِنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدْعُوهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ [قِيَامٌ] بَيْنَ يَدَيْهِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
الله أكبر! هذا فيه تقرير البعث، والرد على منكري البعث، ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾[الصافات:11]، استفهم هل هم أشد خلق من الملائكة والجن والشياطين والسماوات والأرض، يقرون أنهم أضعف خلقًا، إذن لماذا تنكرون البعث؟ ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾[الصافات:11]، من خلق آدم، من خلق أبيكم آدم، من نطفة، ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾[الصافات:8]، الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى الملائكة، ويقذفون من كل جانب، ﴿دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾[الصافات:9/10] فإنه يتبع بالشهاب وتحرقه، ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾[الصافات:10]، أعد شرح ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾[الصافات:11].
(يَقُولُ تَعَالَى: فَسَل هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ: أَيُّمَا أَشَدُّ خُلُقًا هُمْ أَمِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؟ -وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أَمْ مَنْ عَدَدْنَا"- فَإِنَّهُمْ يُقرّون أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرُوا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غَافِرٍ:٥٧]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خُلقوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ، فَقَالَ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يَلْتَزِقُ بعضه ببعض).
وهو الصلصال كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾[الحجر:26]، وهو الطين اللازب، ويصوت إذا يبس، خلق منه آدم، ثم خلق ذريته من ماء مهين، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾[المؤمنون:14]، كما ذكر في سورة السجدة أنه خلق آدم من طين، وخلق ذريته من سلالة.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ: هُوَ اللَّزِجُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بِالْيَدِ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَيْ: بَلْ عَجِبْتَ -يَا مُحَمَّدُ- مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا. وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ، مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ).
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، بل عجبت يا محمد من تكذيبهم، وهم يسخرون ويستهزئون، وفي قراءة: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}، وفيه إثبات العجب لله عز وجل، كما في الحديث: «عجب ربك من الشاب ليس له صبوة»، ففيه إثبات العجب على ما يليق بالله جل عظمته، ما أشار الحافظ إلى هذه القراءة، وهي قراءة معروفة، {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}، والضمير يعود إلى الله، وقراءة حفص {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، والضمير يعود إلى الرسول، {بل عجبتُ}، الضمير يعود إلى الله.
({وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أَيْ: دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ {يَسْتَسْخِرُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَسْتَهْزِئُونَ.
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ:إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ).
﴿وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾[الصافات:14]، يستهزئون بالآيات القرآنية، والآيات الدالة على نبوة الرسول صلى الله عليه، {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ}، أي: هذا القرآن سحر، ثم أنكروا البعث، ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾[الصافات:16]، كيف نبعث مرة أخرى وقد بليت عظامنا؟ يستبعدون البعث، قال الله لهم: ﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾[الصافات:18]، وأنتم داخرون يعني وأنتم مسخرون، داخرون يعني ليس لكم اختيار، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]، حقيرين ذليلين، ﴿نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾[الصافات:18]، لا اختيار لكم في ذلك، ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾[الصافات:19]، زجرة واحدة، يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، زجرة واحدة وإذا الناس قائمون.
({قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: نَعَمْ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَا تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ: حَقِيرُونَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ).
أي: مسخرون، ليس لكم اختيار، حقيرون ذليلون لا تمتنعون، والذي لا يمتنع حقير، ليس له من الأمر شيء.
(كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّمْلِ:٨٧]، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ:٦٠].
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} أَيْ: إِنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدْعُوهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ [قِيَامٌ] بَيْنَ يَدَيْهِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ(.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾[الروم:27]، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}، ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾[ق:42]، صيحة جبريل، أمر واحد، أيتها العظام البالية اخرجي فتخرج.
(ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} أَيْ: إِنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدْعُوهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ [قِيَامٌ] بَيْنَ يَدَيْهِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
