بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧)}.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ} يَقُولُ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ).
والضم يعود إلى نوح عليه الصلاة والسلام، قال: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾[الصافات:75]، ثم قال: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ﴾[الصافات:83]، من أهل دينه، وعلى منهاجه إبراهيم، إبراهيم من شيعة نوح وعلى دينه، والأنبياء دينهم واحد، قال عليه الصلاة والسلام: «إنا معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى».
قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، فالأنبياء دينهم واحد، أما الشرائع تختلف، التحليل والتحريم، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48]، الشرائع تختلف والدين واحد.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
دينهم التوحيد، والأمر بعبادة الله عز وجل، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، هذا كله من الأنبياء، كلهم جاؤوا بتوحيد الله والنهي عن الشرك، وتعظيم الأوامر والنواهي، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، أما الشرائع فتختلف، كل نبي له شريعة، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48]، المحرمات في شريعة آدم كان الإنسان يتزوج، كانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل بطن، وكان في شريعة آدم للإنسان أن يتزوج أخته التي لم تكن معه في بطن واحدة، في بطن سابق وبطن لاحق، حتى تكاثر الناس، ثم حرم الله تعالى نكاح الأخت، وفي شريعة يعقوب الجمع بين الأختين، وفي شريعتنا، ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾[النساء:23]، في شريعة التوراة يجب القصاص، قتل القاتل، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو، ولهذا يقال في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، تسامح، في شريعتنا، في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الشريعة هي أكبر الشرائع يخير أولياء القتيل بين القصاص، وبين الدية، وبين العفو مجانًا، هذا حكم الشرائع، هذه الشرائع تختلف، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48]، أما الدين فهو واحد، توحيد الله، تعظيم الأوامر، امتثال الأوامر واجتناب النواهي، واتباع كل نبي بما جاء به من الشريعة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْف: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرين: مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ قَالَ: يعلم أن الله حق، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
سالم من الشرك، سالم من الشرك، يعلم أن الله يبعث من في القبور، يعلم أن الله يبعث من في القبور، وأن الله هو المعبود بالحق، وغيره معبود بالباطل، ما ينجو إلا القلب السليم، ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:89].
(وَقَالَ الْحَسَنُ: سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ عُرْوَةُ: لَا يَكُونُ لَعَّانًا.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}: أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: مَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ إِذَا لَاقَيْتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟!
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (٩٨)}.
إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ ذَلِكَ، لِيُقِيمَ فِي الْبَلَدِ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خروجُهم إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ بِآلِهَتِهِمْ لِيَكْسِرَهَا، فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهموا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيمٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ، {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}).
وهو قاله متأولًا عليه الصلاة والسلام، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78)﴾[الأنعام:76/78)، الصواب أنه قال ذلك إيهامًا؛ ليريهم أنها لا تصلح للعبادة، متأول.
(قَالَ قَتَادَةُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَفَكَّرَ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ: يَعْنِي قَتَادَةُ: أَنَّهُ نَظَّرَ فِي السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فِيمَا يُلْهِيهِمْ بِهِ، فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} أَيْ: ضَعِيفٌ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، غَيْرَ ثَلَاثِ كَذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٢]، وَقَوْلُهُ فِي سَارَةَ: هِيَ أُخْتِي»).
{بل فعله كبيرهم}، هذه يجادل بها عن دين الله، والثالثة قوله عن زوجته أنها أخته هذه له، ثنتان يجادل بهما عن دين الله، والثالثة دافعًا عن زوجه.
فَهُوَ حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ مِنْ طَرُقٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَذِبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُذَمُّ فَاعِلُهُ، حَاشَا وَكَلَّا وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْكَذِبُ على هذا تَجُوُّزًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ دِينِيٍّ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ»).
لأنه أخبر بغير الواقع في الظاهر، يسمى كذبًا من هذه الجهة، في الظاهر أنه خلاف الواقع، ولكن له معنى آخر قصده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فسمي كذبًا من هذه الجهة، كما يقال: كذب فلان، كذب أبو السنابل، إذا أخبر بغير الواقع، ولا يكون متعمدًا الكذب، «كذب بطن أخيك»، لما قال رجل: استطلق بطن أخي، قال: «اسقه عسلًا»، ثم قال في الثالثة: «صدق الله وكذب بطن أخيك»، فسماه كذب، كذب يعني خلاف الواقع، يعني إذا أخبر الشخص بخلاف الواقع، يقال: كذب ولا يتعمد الكذب.
(وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الثَّلَاثِ التي قال: «ما منها كلمة إلا ماحل بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَالَ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وَقَالَ لِلْمَلِكِ حِينَ أَرَادَ الْمَرْأَةَ: هِيَ أُخْتِي»).
ماحل بها عن دين الله يعني يجادل بها عن دين الله، الحديث فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف من جهة الحفظ، ماذا قال عليه؟
الطالب: قال: أخرجه البستي عن ابن أبي عمر العدني به، وسنده ضعيف؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان.
(قَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي سَقِيمٌ} يَعْنِي: طَعِينٌ. وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَطْعُونِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْلُوَ بِآلِهَتِهِمْ. وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} ، فَقَالُوا لَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِمْ: اخْرُجْ. فَقَالَ: إِنِّي مَطْعُونٌ، فَتَرَكُوهُ مَخَافَةَ الطَّاعُونِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَأَى نَجْمًا طَلَعَ فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} كَابَدَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}).
كايدهم يعني كادهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾[الأنبياء:57]، من الكيد.
(وَقَالَ آخَرُونَ: فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُسْتَقْبَلُ، يَعْنِي: مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ {إِنِّي سَقِيمٌ} أَيْ: مَرِيضُ الْقَلْبِ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
المهم أنه تأول، تأول عليه الصلاة والسلام، تأول تأولًا ليجادل به عن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يعني هذا التأويل يصب في مصلحة الدين، من أجل دين الله، من أجل الدفاع عن دين الله، وهم في الظاهر أخذوا بالظاهر، سقيم أو مطعون، هذا التأويل تركوه، فخلا بالأصنام فكسرها، وترك الفأس على الصنم الأكبر، كما قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾[الأنبياء:58].
(وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ، فَأَرَادُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَاضْطَجَعَ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي السَّمَاءِ فَلَمَّا خَرَجُوا أَقْبَلَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَكَسَرَهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أَيْ: إِلَى عِيدِهِمْ، {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أَيْ: ذَهَبَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا فِي سُرْعَةٍ وَاخْتِفَاءٍ، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيهَا طَعَامًا قُرْبَانًا لتُبرّك لَهُمْ فِيهِ).
سبحان الله! العقول تضعف مع الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، أين العقول؟ يضعون عندها الطعام لتبارك وهي جماد، لكن هكذا الإنسان إذا بعد عن النور الإلهي، وعن نور الله، وعن هدي الله، هكذا يضل عقله، نسأل الله السلامة والعافية.
(قَالَ السُّدِّيُّ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ، فَإِذَا هُمْ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَإِذَا مُسْتَقْبِلُ بَابِ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ، إِلَى جَنْبِهِ [صَنَمٌ آخَرُ] أَصْغَرُ مِنْهُ، بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ).
الله أعلم، هذه من أخبار بني إسرائيل، الله أعلم هل هم في بهو أو في غير البهو أو هل هناك أصنام صغار أو كبار؟ المهم أصنام، أصنام في مكان كسرها، كانوا في بهو أو كان بعضها أصغر من بعض، هذا ما عليه دليل، لكن القرآن دل على أكبرها تركه، ووضع عليه الفأس، فلما سألوه قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾[الأنبياء:63]، يبين لهم أنها لا تنفع ولا تضر، وهذا الصنم الكبير هو الذي كسرها.
(وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا وَضَعُوهُ بَيْنَ أَيْدِي الْآلِهَةِ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ وَقَدْ بَرَكَت الآلهةُ فِي طَعَامِنَا أَكَلْنَاهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ والسلام، إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: {أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}؟! وَقَوْلُهُ: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مَالَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْجَوْهَرِيُّ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ.
وَإِنَّمَا ضَرَبَهُمْ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ وَأَنْكَى؛ وَلِهَذَا تَرَكَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ).
اليمين أقوى من الشمال، الشمال عادة يكون فيها نقص، يد المخلوق الشمال تكون ناقصة، واليمين تكون فيها قوة، ضربهم باليمين بالقوة، باليد اليمنى.
قَوْلُهُ هَاهُنَا: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} : قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ يُسْرِعُونَ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةٌ، وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مَبْسُوطَةٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا مَا عَرَفُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى كَشَفُوا وَاسْتَعْلَمُوا، فَعَرَفُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ).
في سورة الأنبياء قالوا: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾[الأنبياء:59]، ظالم، ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ(63)﴾[الأنبياء:60/63]، أين عقولكم؟! اسألوهم إن كانوا ينطقون، ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67)﴾[الأنبياء:64/67]، بعد ذلك استعملوا القوة، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء:68]، الله تعالى بسط هذه القصة في سورة الأنبياء.
فَلَمَّا جَاءُوا لِيُعَاتِبُوهُ أَخْذَ فِي تَأْنِيبِهِمْ وَعَيْبِهِمْ، فَقَالَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؟! أَيْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا وَتَجْعَلُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ؟!).
تنحتون الأصنام بأيديكم وتعبدونها، ترونها، مثل ما كانوا في الجاهلية، كان الواحد منهم إذا خرج في البرية أخذ أربعة أحجار، ثلاثة يجعلها للقدر ينصب عليها، والرابع إله يعبده، يختار واحدًا من الأحجار الأملس والأحسن يجعله إله، وثلاثة يضع عليها القدر، هكذا العقول، ضاعت العقول، وإذا لم يجد شيئًا جمع كتلة من تراب وحلب عليها الشاة ثم صار يطوف بها، عقول بعدت عن النور الإلهي، كانوا في الجاهلية قبل بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كثرت الأصنام والأوثان حتى صار لكل أهل بيت صنم، بل لكل واحد صنم، نسأل الله السلامة والعافية، الله تعالى منَّ على المؤمنين، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[آل عمران:164].
({وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "الَّذِي" تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ خَلْقَكُمْ وَالَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ متلازم).
الأول مصدرية، يعني الله خلقكم وعملكم، الله خلقكم وما تعملون.
(والأول أظهر؛ لما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "أَفْعَالِ الْعِبَادِ"، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ ربْعِيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ»، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}).
الشيخ: ماذا قال في تخريج الحديث؟
الطالب: أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد.
الشيخ: هذا اللفظ في خلق أفعال العباد، ما هو في الصحيح، لكن هناك لفظ آخر، «الله خالق كل صانع وصنعته»، هنا: «إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ»، والمعنى واحد، صانع وخالق بمعنى واحد.
طالب: [00:23:09]
الشيخ: وهذا فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وفيه الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فالله تعالى خلق الإنسان وخلق عمله، {والله خلقكم وما تعملون}، هو مخلوق للإنسان، والله تعالى هو الخالق، فأفعال العباد هي من الله خلقًا وإيجادًا، ومن المخلوق فعلًا وكسبًا وتسببًا، وقال بعضهم وهم الجبرية، قالوا: العبد مجبور، ليس له أفعال، أفعاله كلها اضطرارية، وخالفوا القدرية فقالوا: العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
في المسألة ثلاث مذاهب: المذهب الأول: مذهب القدرية، أن العبد يخلق فعل نفسه، والقول الثاني قول الجبرية وهو أن العبد ليس له اختيار، وأن أفعاله كلها اضطرارية مثل حركة النائم والمرتعش، قالوا: إن العبد وعاء، والله تعالى هو الخالق، هو المصلي والصائم، نعوذ بالله، فالعباد وعاء، والله تعالى كصباب الماء، مثل الكوز الذي يُصب فيه الماء، فالعباد مثل الكوز والله تعالى كصباب الماء فيه، تجري عليهم أفعالهم من دون اختيار، كلهم مجبورون على أفعالهم، نعوذ بالله، هذا قول الجبرية، والثاني: قول القدرية، مقابل هذا، قالوا: العبد هو الذي يخلق نفسه استقلالًا، والثالث: مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم، فأفعالهم هي من الله خلقًا وإيجادًا وتقديرًا، ومن العبد فعلًا وتسببًا وكسبًا، ما هي مباشرة، هذا هو الصواب.
(فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَدَلُوا إِلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ، فَقَالُوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَى حَجَّتَهُ وَنَصَرَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ}).
الشيخ: قال: ما من مؤمن غيري وغيرك، جاء هذا الحديث في الصحيح، فلا تكذبيني، فأنت تقولين: أنا أخته، وأنت أختي في الإسلام.
الطالب: [00:26:47]
الشيخ: يمكن بعد ذلك، قال الله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾[العنكبوت:26]، يمكن بعد ذلك؛ لأن لوط ابن أخيه، يمكن بعد ذلك، قد يكون بعد ذلك، وقد يكون أمر آخر، محتمل.