شعار الموقع

سورة ص - 7

00:00
00:00
تحميل
60

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.

قال الحافظ بن كثير –رحمه الله تعالى- في تفسيره، عند تفسير سورة ص، عند قوله: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ)[ص:26].

قال الشيخ محمد صالح بن عثيمين –رحمه الله تعالى- عند قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ): بان المتخاصمين كل منهما يأتي بحجة، يتكلم ويقول، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما اقضي بنحو ما أسمع".

ثم قال: يقول المؤلف –رحمه الله-: وهما ملكان جاء في صورة خصمين.

كيف يقول المؤلف؟

شرح الجلييلين.

يقول المؤلف –رحمه الله-: وهما ملكان جاء في صورة خصمين، وقع لهما ما ذكر على سبيل الفرض لتنبيه داود على ما وقع منه، وكان له تسعة وتسعون امرأة، وطلب امرأة شخص ليس له غيرها، وتزوجها ودخل بها، يقول المؤلف: إن هذين الخصمين ملكان أرسلهما الله –سبحانه وتعالى- إلى داود من أجل أن ينبهه على قضية معينة، هذه القضية كما تقول الإسرائيليات: إنه عشق امرأة رجل، فأمر زوجها أن يخرج للجهاد لعله يقتل، فإذا قتل تزوجها، فأرسل الله تعالى إليه الملكين من اجل أن ينبهاه على بشاعة هذه القضية؛ لأن بشعة من أدنى الناس، فكيف تكون من نبي. وكأن الله  سبحانه لم يشأ أن ينبهه بالوحي فيقول: يا داود لما تفعل كذا كما نبه الله آدم حين أكل من الشجرة بدون ضرب مثل، وكذلك نبه محمد –عليه الصلاة والسلام- حين عفى عن قوم من المنافقين بدون أن يتبين أمرهم، بدون ضرب مثل، ونبهه على تحريم.

(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)[التوبة:43].

ونبهه على تحريمه ما أحل الله له لابتغاء مرضات أزواجه بدون ضرب مثل.

(يًا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)[التحريم:1].

إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى- ينبه عما يحصل من الرسول بدون أن يضرب لهم أمثالًا، لكن هذه القصة الإسرائيلية أبت إلا أن يضرب مثلًا لفعل داود المدعى المزعوم، والحقيقة أن هذه القصة باطلة، لا يحل لأحد أن يعتقدها في داود عليه الصلاة والسلام، أنه عشق امرأة رجل وأراد أن يتزوجها، وأنه كان عنده تسع وتسعون امرأة، فأراد أن يكمل بها المائة، هذا غير لائق بأدنى واحد من الناس فضلًا عن نبي من أنبياء الله، لكن اليهود لعنة الله عليهم لا يبالون أن يلطخوا الأنبياء كما لطخوا من أرسل الأنبياء فقالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)[المائدة:64]، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ)[آل عمران:181]، وقالوا: "إن الله يتعب"، فليس غريبًا أن يلطخوا الأنبياء بالعشق والحيل والمكر؛ فلهذا لطخوا داود –عليه السلام- بهذه الكذبة.

وهذا موجود في الإسرائيليات في كتبهم في أناجيلهم وشروحها، رموا الأنبياء بالعظائم والعياذ بالله، ومنهم من رموا لوط بالزنا ولا يبالون، كل الأنبياء هذا موجود في الأناجيل في شروح الأناجيل والتوراة، نسأل الله السلامة والعافية أن نحرفها، فلا يستعجب على اليهود، قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فإذا تجاسروا، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، وقالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، فلا يستغرب أن يرموا الأنبياء بالكبائر.

والصحيح الذي لا شك فيه: أنهم خصمان من البشر وليسوا  ملائكة، خصمان من البشر تنزعا بينهم في قضية ستاتي في القرآن الكريم، وكل ما سوى ذلك فإنه كذب؛ لان القرآن يكذبه، فإن القرآن إذا أتى بالقصة فلابد أن يأتي بها على وجه الكمال؛ لتكون عبرة، وعلى وجه الصراحة لئلا تكون فيها التباس أو اشتباه، فالقصة كما هي في القرآن تمامًا لا يوجد ملائكة، ولا يوجد رجل له زوجة حسناء، أرادها داود أبدًا، ولا يجوز لمسلم أن يعتقد هذا في أحد من أنبياء الله.

والقصة هي: أنهم دخلوا عليه فقالوا: (قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ)[ص:22]، خصمان بغى بعضهما على بعض: أي اعتدى عليه؛ لان البغي هو: العدوان، وطلبوا منه أن يحكم بينهم، لكنهم أضافوا كلمة ليست بجيدة، قالوا: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ): وهذا ومثل هذا لا ينبغي أن يقال لنبي من الأنبياء، بل ولا ينبغي أن يقال لأي حكم يتحاكم إليه؛ لأنك إ1ذا تحاكمت إلى رجل مع خصمك فإنكما تعتقدان أن ما يقوله هو الحق، ليس الحكم في مقام تهمة حتى يقال: (احْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)؛ ولهذا انتقد الصحابة –رضي الله عنهم- في قصة العفيف الذي زنى بامرأة من استأجره لما حضر أبو الولد الزاني وزوج المرأة، قال أحدهما لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فناشد الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يقضي بينهم بكتاب الله، قالوا: وقال الآخر: وكان أفقه منه نعم فاقضي بيننا بكتاب الله ولم يناشد الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأن طلب المناشدة في هذا المقام خطأ، فانت ما جئت إليه إلا وأنت تعلم أنه يحكم بكتاب الله فلا حاجة لأن تناشده.

 

هؤلاء قالوا: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ): وهو لن يحكم إلا به، حتى بإقرارهم؛ لأنهما جعله حكمًا، (وَلَا تُشْطِط): الشطط النقص أو الجور؛ ولهذا قال المؤلف في تفسيره: لا تجر: أي لا تجر بالحكم فتميل مع أحدنا، (واهدنا): أرشدنا إلى سواء الصراط، وسط الطريق الصواب، يعني إذا حكمت فاحكم بالحق بالعدل بدون جور، واهدنا إلى سواء الصراط: أي دلنا إلى الصراط السواء: يعني إلى وسط الصراط، أو إلى الصراط المستقيم، وعليه فتكون سواء من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، يعني: اهدنا إلى الصراط السوي العدل، والهداية هنا: من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، يعني اهدنا إلى الطريق السوي العدل، والهداية هنا: هداية دلالة وإرشاد؛ لأنه لا يستطيع أن يجيرهم إلى ما يحكم به، لكن هي دلالة، فلو قال المؤلف في (واهدنا) لو قال: دلنا لكنا أحسن.

والقضية هي: أن أحد الخصمين قال: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) سبحان الله: هذا الخصمان غريبان يختصمان، ثم يقول أحدهما للآخر: إن هذا أخي، والخصومة عادة أن الخصم يسب خصمه يقول: هذا المعتدي الظالم الفاجر، أما هذا فقال: (إِنَّ هَذَا أَخِي) وهو يدل علي أن الخصومة ليست تحمل ورائها شيئًا من العداوة والبغضاء.

قال المؤلف: (إِنَّ هَذَا): أي على ديني، وقال المؤلف: هذا يفيد أن الأخوة هنا ليست أخوة نسب، بل هي أخوة الدين، (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً): أي مائة إلا واحدة، ونعجة منصوبة على انها تمييز، وكل عدد له تمييز؛ لأن العدد إذا لم يذكر المعدود كان مبهمًا، وإذا ذكر المعدود كان هذا تميزه، ثم هذا التمييز قد يكون مجرورًا، وقد يكون منصوبًا، ففي قوله عشرة رجال: التمييز مجرور، وفي قولنا: عشرون رجلًا، التميز منصوب. هنا نعجة: التميز منصوب. ثم هذا التمييز قد يكون مجرورًا، وقد يكون منصوبًا، ففي قولنا عشرة رجال: التمييز مجرور، وفي قولنا: عشرون رجلًا: التمييز منصوب، هنا نعجة التمييز منصوب؛ لان كل ألفاظ العقود من عشرين إلى تسعين كلها يكون تميزها منصوبًا.

قال المؤلف في تفسير نعجة: قال الشيخ: يعبر بها عن المرأة يفيد بأن هذا ليس هو الأصل في النعجة وهو كذلك، الأصل أن النجعة أنثى الغنم، أنثى الشياه، وليست هي المرأة، وإذا كان هذا هو الأصل، فمن ادعى أن المراد بالنعجة هنا المرأة فعليه الدليل؛ لأن كل من ادعى خلاف الأصل، فعليه الدليل، فالنعجة ليست هي المرأة في هذه الآية، بل هي واحدة الضأن، قال الله –عز وجل-: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً): أي مائة إلا واحدة، (وَلِيَ نَعْجَةٌ)، وأكدها بقوله (وَاحِدَةٌ) من أجل تقليلها، وإلا فإن الواحدة مفهومة من قوله: (وَلِيَ نَعْجَةٌ)، لكنه قال (وَاحِدَةٌ): تأكيدًا للقلة: أي ليس لي إلا واحدة.

ثم قال: (أَكْفِلْنِيهَا): أي اجعلني كافلها، وذلك بأن تضمها إلى نعاجه؛ لأنه إذا ضمها إلى نعاجه صارت في ملكه، وهو الكافل لها.

قوله: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ): غلبني في الخطاب، قال المؤلف: أي الجدال، قال الشيخ –رحمه الله- يعني أنه صار يجادلني حتى غلبني فأقررت له، وأقره الآخر على ذلك الآخر، يعني المدعى عليه وليس في  الآية ما يدل على أن المدعى عليه أقر، أو أنه أنكر، المدعى عليه مسكوت عنه، فدعوى أنه أقره: يحتاج إلى دليل، ولو كان هذا هو الواقع لذكره الله –عز وجل- لما في حذفه من الإيهام الذي يجعل حكم داود حكمًا فيه شيء من الجور؛ لأن حذفه يؤدي إلى سوء الظن بداود عليه الصلاة والسلام؛ حيث لم يجري مجريات القضية.

فالظاهر والله أعلم: أن داود -عليه الصلاة والسلام- لما سمع هذا العدوان من هذا الشخص الذي أنعم الله عليه بنعم كثيرة، ثم يحاول أن يستسلب حق هذا الفقير الذي ليس عنده إلا نعجة واحدة، كانه –عليه الصلاة والسلام- غضب وحكم للمدعى، فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ)، الجملة هنا مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام، وقد؛ لأن تقدير الكلام: والله لقد ظلمك.

ثم تكلم على قوله تعالى: (ظَلَمَكَ)، وقوله: (ظَلَمَكَ): أصل الظلم في اللغة: نقص، ومنه قوله تعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)[الكهف:33]، ويطلق في الشرع على النقص والعدوان: يعني على نقص الحق، والعدوان في طلب ما ليس للإنسان، فهو في الحقيقية العدوان سواءًا كان بنقص ما يجب أو بادعاء ما لا يستحق، فمن ظلم شخصًا أو أخذ ماله قيل: إنه ظلمه، ومن جحد ما هو له وأنكر قيل: إنه ظلمه، والظلم في قوله: (لَقَدْ ظَلَمَكَ) من العدوان؛ ولهذا قال المؤلف: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ) ليضمها إلى نعاجه، قدر المؤلف يضمها من أجل أن يصح التعبير بإلى؛ لأن السؤال لا يتعدى بإلى، لكنه مضمن معنى الضم: أي بسؤاله أن يضم نعجتك إلى نعاجه، وجه الظلم في هذا ظاهر؛ لان صاحب التسعة والتسعين قد أنعم الله عليه نعمة كبيرة، وصاحب الواحدة معدم فقير. وأيضًت فإن هذه الواحدة ملك له، كيف يعتدي هذا ويقول: أعطينها، ويلح عليه حتى يغلبه في الهجاج والمخاصمة.

ثم قال داود: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ) الشركاء (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)، عندنا كثير وقليل، كثير يبغي بعضهم على بعض، وقليل لا يبغي بعضهم على بعض، فالقليل الذي لا يبغي بعضهم على بعض، هم الذين وصفهم الله بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فالمؤمن العامل للصالحات لا يحدث منه البغي لما معه من الإيمان والعمل الصالح، ومن فاته شيء من هذا الوصف حصل منه من البغي بمقدار ما فاته من الوصف، فمن نقص إيمانه حصل منه البغي، ومن قلت أعماله الصالحة حصل منه البغي؛ لأن الأعمال الصالحة يجر بعضها بعضًا، فإذا عمل الإنسان عملًا صالحًا أتبعه بعمل آخر؛ لأن للطاعة لذة وسرورًا في القلب، إذا قام الإنسان بها ازداد رغبة فيها، وإذا أعرض قلت أهمية الطاعات عنده، وضعف قصده للطاعات وتجرأ على المعاصي.

قوله: ) وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ(: يعني الشركاء، (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، اللام في قوله: ليبغي: للتوكيد، ويبغي من البغي، وهو العدوان، وهذا هو الواقع: أن كثيرًا من الشركاء يبغي بعضهم على بعض، إما: بأخذ بعض من مال الشركة، أو بكتمان الربح لو ربحت، وهذا هو الواقع: أن كثيرًا من الشركاء يبغي بعضهم على بعض، إما: بأخذ بعض من مال الشركة، أو بكتمان الربح لو ربحت، أو التغرير بالمال بحيث يتصرف فيه على وجه ليس فيه حظ للشركة، أو بادعاء أن المشترك ملك خاص، وأنواع العدوان بين الشركاء كثيرة، ولكن كثير من الشركاء يبغي بعضهم على بعض؛ ولهذا إذا أصلح الشركاء النية وأصلح بعضهم بعضًا أفلحوا. وفي الحديث إن الله تعالى يقول: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما".

قال الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، إلا أداة استثناء، وما بعدها في محل نصب؛ لأن الجملة السابقة كلام تام موجب، وإذا سبق الاستثناء كلام تام موجب وجب النصب، قال ابن مالك:

ما استثنيت إلا مع تمام ينتصب   وبعد نفي أو كنفي انتخب

اتباع ما اتصل وانصب ما انقطع    وعن تميم فيه إبدال وقع

ولتمام الفائدة إذا جاءت بعد كلام تام موجب وجب نصب ما بعدها على الاستثناء، وإذا جاءت بعد كلام تام منفي، أي مستكمل المفعالة لكنه منفي جاز فيما بعدها وجهان:

الأول النصب على الاستثناء، وإتباع ما بعدها لما قبلها في الإعراب، إلا إذا كان الاستثناء منقطعًا أي أن ما بعد إلا ليس من جنس ما قبلها، فيجب النصب.

وإذا وقعت إلا بعد كلام منفي ناقص كانت بحسب العوامل التي قبلها، وإن كان العامل يقتضي رفعًا رفع، وإن كان يقتضي نصبًا نصب، وإن كان يقتضي جرًا جر، ونضرب لذلك أمثلة.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ).

قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)، الواو حالية، وقليل: خبر مقدم، وهم مبتدأ مؤخر، يعني وهم قليل، وما في قوله: (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ): زائدة لفظًا، وزائدة معنى، والمقصود بها: تأكيد القلة، أي قلة قليلة من العباد الصالحين، من المؤمنين العالمين للصالحات، وإذا طبقنا الواقع وجدنا الآية منطبقة تمامًا عليه، فإن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج، فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين، هؤلاء كلهم في النار، وواحد في الجنة".

 هذا ف الحديث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، هذا لضعف النقل واحدة؛ ولذلك ابن  القيم  نصب هذا الحديث نظم هذا الحديث، قال: في أسئلة الرحمن ليست خالية إلا على الإنسان، في أسئلة الرحمن لا ينالها في الألف إلا واحد إلا اثنان، واحد في المائة واحد في الألف كيف.

ذكر في الحاشية أخرجه البخاري كتاب الرقاق، قال: أخرج من كل مائة مائة تسعة وتسعين، هؤلاء كلهم في النار، واحد في الجنة، إذن القلة قليلة، من كل ألف تسعة وتسعين، هؤلاء كلهم في النار.

لما شقاء الصحابة قال: أبشروا، فمنكم واحد، ومن يأجوج ومأجون ألف، هؤلاء كلهم في النار وواحد في الجنة إذ القلة قليل، وواحد مائة قليلًا جدًا، قال ابن القيم في النونية: إن أسئلة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان.

هذا الذي بينا خطأ له.

إذن نقول: إن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) من بني قليلون جدًا، ويوكدوا القلة قوله تعالى: ماء في، (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)، قال المؤلف رحمه الله: ما هذه تأكيد القلة، فقال الملكان صاعدين في صورتهما إلى السماء، قضى الرجل على نفسه فتنبه داود، فقال الملكان، قال المؤلف –رحمه الله- ما لتأكيد القلة، فقال الملكان صاعدين في صورتهما إلى السماء، قضى الرجل على نفسه فتنبه داود.

قال الشيخ رحمه الله: الرجل يعني داود؛ لأن حسب القصة الإسرائيلية المزعومة: أن له تسعًا وتسعين امرأة فطلب من رجل ليس عنده إلا امرأة واحدة، أن يطلق امرأته ليتزوجها داود، وفي وجه آخر للقصة: أنه أمره أن يخرج في الجيش من أجل أن يقتل حتى يتزوج امرأته، وقد بينا أن هذا لا دليل عليه؛ لأنه لا يليق بمقام العقلاء فضلًا عن الأنبياء، وأن هذه قصة مزعومة من اليهود، فهم الذين ركبوها على داود عليه السلام؛ لأن اليهود لا يعتقدون داود نبيًا، وإنما هو على زعمهم ملك.

قال تعالى: (وَظَنَّ دَاوُودُ): قال المؤلف: أي أيقن أنما ما أوقعناه في فتنة، أي بلية في محبته في المرأة، قال: ظن أي أيقن، وإنما نفسره باليقين لأن الأمر أمر وقع من داود –عليه السلام- حسب القصة، والشيء الواقع لا يقال إنه ظل، بل يقال إنه علم، فإن قال قائل هل لديك شاهد على أن الظن يأتي بمعنى العلم؟ قلت نعم. قال تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة:45]، فإن يظنون هنا بمعنى أيقنون؛ لأن الظن الذي هو الراجح لا يكون إيمانًا بملاقاة الله –عز وجل- بل يجب على الإنسان أن يؤمن إيمانًا يقينيًا بأنهم ملاق ربه، والظن لا يكفي فيه، وإذا كان الظن لا يكفي فلا يمكن أن يكون مدحًا، وظن داود: أيقن أنما فتناه، قال: أوقعناه في فتنة أي بلية، قال الشيخ –رحمه الله- هذا ما ذهب إليه المؤلف –رحمه الله- بناء على صحة القصة، ولكن الصحيح: أن المراد بالفتنة الاختبار، فتناه واختبرناه؛ لان الفتنة من معانيها الاختبار، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً )[الأنبياء:35]، أي اختبارًا وابتلاءًا كما قال تعالى عن سليمان، (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)[النمل:40]، أي أنما فتناه: أي اختبرناه، وعلى رأي المؤلف: أي ابتليناه بمحبة تلك المرأة، ولكن هذا ليس بصحيح،   وزن داود أنما فتناه، الصحيح: أن ما اختبرناه ولكن بأي شيء اختبرناه لننظر.

قال تعالى: (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ): أي طلب المغفرة، والمغفرة لغة: مأخوذة من المغفر، وهو ما يستر به الرأس؛ ليتقي به السهام، أما شرعًا: فالمغفرة هي ستر الذنب، والتجاوز عنه: أي أن الله يستر على عبده ذنبه فيما بينه وبين الخلق، ويتجاوز عنه فيما بينه وبين العبد؛ لأنها تتحقق الوقاية من الإخفاء؛ لأنه غذا ستر عن الخلق ثم عفي عنه من جانب الخالق –عز وجل- حصلت الوقاية بالعفو من الخالق، والثاني: الستر بعدم إظهار الخلق عليهم، فداود –عليه الصلاة والسلام- طلب من ربه أن يغفر له ما جرى منه، وخر راعكًا: خر بمعنى: نزل من أعلى إلى أسفل، ومنه خرير الماء من الميزاب أو من الشلال، وقوله: (راكعًا): حال من فاعل خر، ولكن المؤلف –رحمه الله- فسر الوقوع بالسجود، فقال: أي ساجدًا؛ وذلك لأن الركوع الذي هو الانحناء لا يمكن أن يكون فيه خرور؛ لأن الراكع يركع ثابتًا، ولا يتصور الخرور إلا بالسجود، ولكن التعبير بالركوع عن السجود من باب التعبير بالمعنى العام على المعنى الخاص؛ لأن أصل الركوع في اللغة العربية هو الذي، كما قال الشاعر:

لا تهين الفقير لعلك أن             تركع يومًا والدهر قد رفعه

يعني أن تذله، والدهر قد رفعه: أي قد رفع هذا الفقير، إذن فالذي عين أن يكون الركوع هنا بمعنى السجود هو قوله: (وخر)، ولكنه عبر بالركوع عن السجود لإظهار أن هذا الركوع، ركوع ذل لله –عز وجل- ثم قال: (وأناب): أي رجع إلى الله، والإنابة: الرجوع مع الخشية، فهو رجع إلى الله مع خشية الله –سبحانه وتعالى- قال تعالى: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ): أي سترنا وتجاوزنا له أي لداود، واللام في له يحتمل أن تكون للتعدية، أو أن تكون للتعليل، لكنها للتعدية أولى، وفي كونها للتعليل تأمل، أي أننا غفرنا لداود ذلك الذي وقع منه.

قال: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) مع المغفرة أضاف الله له هذه المنقبة، وإن له: أي لداود عندنا لزلفى، قال المؤلف –رحمه الله- أي زيادة خير في الدنيا، قال الشيخ –رحمه الله-: ويحتمل أن يراد بالزلفى: زيادة في القرب، كما قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الشعراء:90]: أي قربت، فالزلفى تفسيرها بزيادة الخير فيه شيء من النظر. والصواب: أن المراد بالزلفى: القربى.

وأما (حسن المئاب): فهو زيادة الخير، قال المؤلف –رحمه الله- (وَحُسْنَ مَآبٍ): مرجع في الآخرة، قال المؤلف –رحمه الله- هذا هو زيادة الخير، فصارت النتيجة بعد أن وقع من داود ما وقع ثم رجع إلى الله واستغفره، أن الله –سبحانه وتعالى- رفع عنه آثار هذا الذنب، فغفر له، وزاده على ذلك زيادتين عظيمتين مهمتين: إحداهما القرب من الله. والثانية: حسن المئاب.

لكن يبقى إشكال يعني هذا الخصمان كيف يتصوروا المحراب؟ استبقا الجدار ما تبعا الباب، كيف تجرأ على داود وملك إذا كان من البشر، ولم ينكر عليهما ففزع منهما، لما دخلا ففزع منهما، (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)، يعني كيف يتسوروا المحراب عليه، كيف يدخلوا عليه وقت الحكم، يسأله عن بيته، ويحكم عليهما، ولا ينكر عليهما، هذا إشكال، ما أنكر عليهما ولا عاقبهما، ولا قال الإتيان في مجلس الحكم، يدخلان عليه البيت، وهو قائم في المحراب يصلي، ويقولون: احكم بيننا، هذا خصمان، ثم يحكم بينهما، ويحكم الواحد ولا يسمع كلام الثاني، في إشكال، ما صارت خصومة، إن شاء الله ننظر التفسير الثاني اقرأ.

ذكر أربع أوجه في الجمع، قال قد جمع بين الحديثين بعدة طرق، ومنها:

أولًا: أن مفهوم العدد لا اعتبار له، فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الذات، والمقصود من العددين واحد، وهو تقليل عدد المؤمنين، وتكثير عدد الكافرين، هذا الأول أحسن الله إليك.

الثاني: حمل حديث أبي سعيد الخدري على جميع ذرية آدم، فيكون من كل ألف واحد، وحمل حديث أبي هريرة على من عدا يأجوج ومأجوج، فيكون من كل ألف عشرة، ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة.

الجمع الثالث: ويحتمل أن تقع القسمة مرتين: مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة، فيكون من كل ألف واحد، ومرة من هذه الأمة، فيكون من كل ألف عشرة.

الجمع الرابع: ويحتمل أن يكون المراد بالنار الكفار وما يدخلها من العصاة، فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرًا، ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيًا. والله تعالى أعلم.

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد