بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا ولوالديه، ولوالدينا وللمستمعين وللمسلمين يا رب العالمين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا وعملًا يا كريم.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسير سورة ص: الفائدة الثانية والثلاثون:
ومن فوائد هذه القصة:
- أن الله تعالى غفر لداود -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وبيَّن ما لديه من الثواب لداود في قوله تعالى ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾، ومن الفوائد لهذه الآية: إثبات العندية لله تعالى، وهي عندية قربٍ، وعندية علم.
- ففي قوله تعالى ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ هذه عندية علم.
- وفي قوله تعالى ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ هذه عندية قُرب.
- ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ومن فوائدها أيضًا: الثناء على داود -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بُحسن مآبه أي مرجعه إلى الله، لقوله تعالى ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسير سورة ص ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.
قال -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفًا بذلك مقصودًا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما الله فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب الله عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ فإنه نبأ عجيب ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا﴾ على داود ﴿الْمِحْرَابَ﴾ أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان، ولم يدخلوا عليه مع باب، فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف.
الشيخ: نعم، لأنه لو كان من الباب أو كان مجلس الحكم المعتاد لم يحصل له هذا الفزع، لكن لما تسوروا المحراب في مكان عبادته منعزل عن الناس، ما جلس القضاء، ما جلس للحكم، إنما جلس في مكانه الخاص به للعبادة، دخلوا على هذه الحال ففزع منهم هذا طبيعي، طبيعة الإنسان هكذا.
من قال إنهما ملكان هذا يحتاج إلى دليل قرينة تدل على أنهم ملكان، لكن في قضية كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ- في القضية جعل الله فتنةً له لخلل حصل منه، فكان سببًا في توبته، فتاب فغفر الله له بنص القرآن ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾، ولهذا هذه السجدة هنا سجدة توبة اختلف العلماء فيها.
من العلماء من قال:
§ يسجد فيها.
§ ومنهم من قال لا يسجد، لأنها توبة نبي.
وثبت عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا»، هذا يكفي، رأى النبي يسجد فيها، فالسنة السجود فيها.
الطالب: فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف، فقالوا له: نحن ﴿خَصْمَانِ﴾ فلا تخف ﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ بالظلم ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا ﴿وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾.
والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عُرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي الله داود من وعظهما له، ولم يؤنبهما.
الشيخ: الشيخ محمد -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسيره، قال: إن هذه يُلاحظ عليهما أنهما قالا: احكم بيننا بالحق، وهذا إن خالط فيه شيء هنا قال: ما أنبهما، لأنه عرف أن قصدهما الحق.
الطالب: والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي الله داود من وعظهما له، ولم يؤنبهما.
فقال أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره.
الشيخ: كيف يبغي عليه، وهو أخٌ له، أخوه في النسب أو أخوه في الدين أو في الصداقة، ومنه قوله تعالى ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ أخاهم في النسب، لأنهم خالفوا في الدين، أو ذكر الأخوة بالنسبة لمن آمن.
الطالب: ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه الله.
الشيخ: هنا الشيخ نص على إنها نعاج على حالها.
الطالب: ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه الله.
﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ فطمع فيها ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ أي: غلبني في القول، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد.
فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما، أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول القائل: " لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر"؟ ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم، فقال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لأن الظلم من صفة النفوس.
الشيخ: المتنبي يقول:
والظُّلْمُ مِن شِيَمِ النفوسِ فإِن تَجِدْ |
|
ذا عِفَّةٍ فلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ |
الظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعلة مانعة، إما منعه خوف من السلطان، أو خوف من أن يُقام عليه الحد، أو خوف الله، منعه مانع، وإلا الأصل الظلم من طبيعة الإنسان، فإن تجد ذا عفة، فلعلة العلة منعته، ما هي هذه العلة؟
- خوف الله.
- خوف أن يُقام عليه الحد، أو غير ذلك من الأسباب.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ كثير من الشركاء، الشركاء في المال، والشركاء في أي خلطة في الغالب بعضهم يبغي على بعض، كثير من الخلطاء، وبعض الخلطاء لا يبغي، لكن الكثير قد يبغي.
الطالب: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لأن الظلم من صفة النفوس.
﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يمنعهم من الظلم. ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ كما قال تعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ﴾ حين حكم بينهما ﴿أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ لما صدر منه، ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ أي: ساجدا ﴿وَأَنَابَ﴾ لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ الذي صدر منه، وأكرمه الله بأنواع الكرامات، فقال: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ أي: منزلة عالية، وقربة منا، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أي: مرجع.
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ﴾ تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية، ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ أي: العدل، وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة على تنفيذ الحق، ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ فتميل مع أحد، لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ الهوى ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ويخرجك عن الصراط المستقيم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ خصوصًا المتعمدين منهم، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.
الشيخ: يعني داود -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ما أنبهما عن دخولهما وتسورهما المحراب، لما ذُكر في القصة، لم ينكر عليهما، وما أنبهما لما أتى عليه في هذا الوقت، وإنما اختصما وحكم بينهما، فالله أعلم السبب، لم يقل لهما إئتياني في وقتٍ آخر أنا الآن مشغول، أو قال لمَ لم تأتيا من الباب المعتاد ما فيه ذكر، والله أعلم السبب في ذلك.