بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
يقول الإمام ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (قَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا قِصَّةً أَكْثَرُهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا عَنِ الْمَعْصُومِ حَدِيثٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ).
وهو أن ينزل ملكان وتسور أهل المحراب، هذا ما ذكره المفسرون، ولكن لا يوجد دليل على الملكان.
(وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ -وَيَزِيدُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ-لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَالْأُولَى أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَنْ يُرَدَّ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَمَا تَضَمَّنَ فَهُوَ حَقٌّ أَيْضًا).
يعني الحافظ يرى أن يقتصر على تلاوتها، وإن يقتصر على تلاوتها يقال الخصم، كما هو ظاهر أنه خصم من البشر، لا يوجد دليل على أنهم من الملائكة، ناس يختصمون هذا هو الأصل، هذا هو ظاهر الآية، يقتصر على تلاوتها يعني لا يؤتى بشيءٍ يُخالف ظاهر الآية.
(وَقَوْلُهُ: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مِحْرَابِهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي دَارِهِ وَكَانَ قَدْ أَمَرَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا بِشَخْصَيْنِ قَدْ تَسَوَّرا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ أَيِ: احْتَاطَا بِهِ يَسْأَلَانِهِ عَنْ شَأْنِهِمَا).
في النسخة الثانية (أحاط) أحسن.
ويبقى الإشكال، كيف سكت عنه داود -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ألم يقل شيء؟ يعني لم يقل (لم تدخلون)؟ ماذا حكم بينهم؟ تخاصم وحكم بينهم ولم يقل لهم لم تدخلون؟ أو قال تأتوني في وقتٍ آخر، أو أنا قلت لا يدخل علي أحد؟ أو قال لماذا تسوروا المحراب ما أتت من الباب؟
كل هذا الله أعلم هذا مسكوت عنه، يعني لم يذكر الله شيئًا من هذا، يعني داود نبي وملك وهم تسوروا المحراب ودخلوا عليه وأحاطوا به وحكم بينهم، قال ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ ولم يعاتبهم في دخولهم عليه، وتسورهم المحراب، وفي إحاطتهم به، حتى أنه فزع منهم.
الطالب: فزع منهم فلم يسألهم على شيء.
طالب آخر: فيه دلالة على حلمه -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟
الشيخ: لا يوجد شك، فزع وسكت ما أنبهم لأنه فزع.
الطالب: أنساه الفزع كل شيء.
الشيخ: الله أعلم، محتمل، فزع ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ الله أعلم.
كما ذكر الشيخ محمد والشيخ عبد الرحمن شيئًا من هذا، والحافظ كذلك أعرض عنه.
تفسير ابن جرير هل أشار إلى شيءٍ من ذلك، أو تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية المجموع هل فيه شيءٍ من هذه الآية؟
(وَقَوْلُهُ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أَيْ: غَلَبَنِي يُقَالُ: عَزَّ يَعِزُّ: إِذَا قَهَرَ وَغَلَبَ.
وَقَوْلُهُ: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيِ اخْتَبَرْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَخَرَّ رَاكِعًا} أَيْ: سَاجِدًا {وَأَنَابَ} وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَكَعَ أَوَّلًا ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا).
وقد ذكر بصيغة التمريض، وهذا بعيد، أربعين صباح مدة طويلة، البشر لا يستطيع يسجد هذا، هذه مدة، هل يستطيع البشر....؟ وأيضًا هذا ترك لبعض الواجبات أربعين صباح يحكم بين الناس؟ والصلوات إذا كان الصلاة واجبة عليه يوجد صلوات أخرى كلها في سجدة واحدة أربعين صباح.
قد ذكر هذه من صيغة التمريض.
هذا بعيد، إلا إذا كان المراد تكرار السجود في كل يوم محتمل، الله أعلم، فهذه صيغة تمريض، وليس هناك سند.
لأن معناه ترك العبادات الأخرى (عبادة القراءة بالزبور- عبادة الصلوات في الأربعين يومًا – عبادة الجهاد – عبادة الصوم كان يصوم يومًا ويفطر يومًا) كل هذه عطلها؟! وكذلك الصلاة كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، أربعون صباح كلها في سجدة وترك هذه الأعمال كلها؟! هذا مما يدل على أن هذه ليس لها خطام ولا زمام هذا القول.
({فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أَيْ: مَا كَانَ مِنْهُ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ).
المقربين أعلى درجة من الأبرار، فحسناتهم تكون سيئات، لأنهم أعلى درجة فيكون ما يفعله الأبرار حسنة يكون خلاف الأولى عند المقربين.
يعني كان مقصود الحافظ أنه لم يفعل ذنبًا، وإنما فعل خلاف الأولى، وغفر الله له ذلك، لأن مقامه عالي مقام النبوة عالي، فسمي ذنبًا بالنسبة لمقامه العالي، وإلا فليس ذنبًا، وإنما خلاف الأولى، مثل قوله تعالى ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ عتاب الله لماذا؟ لكونه أقبل على صناديد قريش، وترك ابن أم مكتوم اجتهادٌ منه، فجُعل هذا من جنس هذا، النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طمع في إسلام هؤلاء الصناديد، وترك عبد الله بن مكتوم لأنه في أي وقت يأتيه اجتهادًا منه، لكن الله عاتبه، فصار هذا من جنسه، مثل قوله تعالى ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ يعني من هذا الباب، وكذلك في قوله تعالى في سورة الأحزاب ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ هذه العتاب كلها يُقال فيها مثل حسنات الأبرار سيئات المقربين، خلاف الأولى.
(وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَجْدَةِ "ص" هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ بَلْ هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ-عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي السُّجُودِ فِي "ص": لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا).
يعني ليست من السجدات المؤكدة، (وقد رأيت) ما دام رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسجد فيها ثبت السنية سجدة، يكفي أنه رأى النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسجد فيها، بقوله (لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ) اجتهادٌ منه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، اجتهاد من ابن عباس.
(وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ -هُوَ الْمِقْسَمِيُّ-حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي "ص" وَقَالَ: "سَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا".
تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَقَدْ أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُدَرَّجِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الثَّقَفِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَامِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الكَنْجَرُوذي أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا محمد بن يزيد ابن خُنَيْس عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَا حَسَنُ حَدَّثَنِي جَدُّكَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ وَهِيَ سَاجِدَةٌ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا حَكَى الرَّجُلُ مِنْ كَلَامِ الشَّجَرَةِ).
تخريجه؟
قال أخرجه المزي بسنده ومتنه في تهذيب الكمال، وأخرجه الحاكم من طريق محمد بن يزيد بن خنيسٍ به، وصححه ووافقه الذهبي بقوله: صحيحٌ ما في رواته مجروح، ولكن محمد بن يزيد بن خنيس مقبول تقرير.
وقال الذهبي غير حجة.
الشيخ: لعل الشواهد تقويه.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدِ الطَّنَافِسِيُّ عَنِ الْعَوَامِّ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ "ص" فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أين سجدت؟ فقال: أو ما تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الْأَنْعَامِ:84] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ:90] فَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
سجد داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا لله.
(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا بَكْرٌ -هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ-أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَأَى رُؤْيَا أَنَّهُ يَكْتُبُ "ص" فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى الَّتِي يَسْجُدُ بِهَا رَأَى الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ وَكُلَّ شَيْءٍ بِحَضْرَتِهِ انْقَلَبَ سَاجِدًا قَالَ: فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا بَعْدُ. تَفَرَّدَ بِهِ [الْإِمَامُ] أَحْمَدُ).
قال أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه، وضعّف سنده محققوه، لأن بكر المزني لم يسمع من أبي سعيدٍ الخدري، وأخرجه الحاكم من طريق حُميدٍ به، وصححه ووافقه الذهبي.
(وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ "ص" فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزّن)
يعني تهيأوا.
(النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزّنْتُم". فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ).
ماذا قال على تخريجه؟
الطالب: قال أبو داود بسنده ومتنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
الشيخ: معروف هذا عمر، يعني عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خطب الناس ثم قرأ السجدة فنزل فسجد، فسجد الناس، ثم قرأها في الخطبة الثانية فتهيأنا نسجد فلم يسجد، وقال: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، هذا مرويٌ عن عمر.
الطالب: كأنه هنا نص على ص.
نص عمر كأنه عام على السجدة.
الشيخ: نعم يُحتمل.
(وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أَيْ: وَإِنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا وَحُسْنَ مَرْجِعٍ وَهُوَ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَاتُ فِي الْجَنَّةِ لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِّ فِي مُلْكِهِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلٍ -وَهُوَ ابْنُ مَرْزُوقٍ الْأَغَرُّ-عَنْ عَطِيَّةَ بِهِ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} قَالَ: يُقَامُ دَاوُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي الْيَوْمَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ الرَّخِيمِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: وَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبْتُهُ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أَرُدُّهُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَيَرْفَعُ دَاوُدُ بِصَوْتٍ يَسْتَفْرِغُ نعيم أهل الجنان).
تخريجه؟
الطالب: قال سنده ضعيفٌ بسبب إرسال مالك بن دينار.
({يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)}.
هَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ فَيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَقَدْ تَوَعَّدَ [اللَّهُ] تَعَالَى مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَتَنَاسَى يَوْمَ الْحِسَابِ، بِالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ أَبُو زُرْعَةَ -وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكِتَابَ-أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَيُحَاسَبُ الْخَلِيفَةُ فَإِنَّكَ قَدْ قَرَأْتَ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَفَقِهْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ فِي أَمَانٍ. قَلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ أَوْ دَاوُدُ؟ إِنِ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-جَمَعَ لَهُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ} الْآيَةَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا تَرَكُوا أَنْ يَعْمَلُوا لِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَمَشَى عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ فَاللَّهُ أعلم).
لا شك أن هذه الآية كما قال الحافظ موجَّه للحكام أن يحكموا بين الناس ولاة الأمور، إن الله أمرهم بالعدل، وتحذير لهم من اتباع الهوى ووعيدٌ شديد لمن انحرف عن الجادة وعن الصراط المستقيم بالعذاب الشديد، لأنه لم يعمل لذلك اليوم.
﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيه تحذيرٌ من اتباع الهوى، وأن الهوى يُضل عن سبيل الله، ولهذا قال: الهوى يُعمي ويصب، ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهذه موجه لولاة الأمور والحكام ان يحكموا بالعدل وأن يحذروا من الهوى، وفيه الوعيد الشديد لمن اتبع الهوى بالعذاب الشديد يوم القيامة ﴿بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ تقديم وتأخير، والتقدير: لهم بما نسوه عذابٌ شديد، سببه ترك العمل.
وقوله ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قد يُستفاد منه قول الخصمين، ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ﴾ فقول الخصمين ﴿وَلَا تُشْطِطْ﴾ يعني لا تتبع الهوى، ليس عليه نظائر في هذا.
الشيخ محمد بن تيمية -رَحِمَهُ اللَّهُ- قال: إنهم أخطأوا في قولهم ﴿وَلَا تُشْطِطْ﴾ الله تعالى قال لداود ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فأنا مع الخصمين في قوله ﴿وَلَا تُشْطِطْ﴾، وكما استظهر الشيخ عبد الرحمن [25:59] في هذا.