الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام الحافظ ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسيره عند سورة ص ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
(يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أَيِ: اخْتَبَرْنَاهُ بِأَنْ سَلَبْنَاهُ الْمُلْكَ مَرَّةً، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: يَعْنِي شَيْطَانًا. {ثُمَّ أَنَابَ} أَيْ: رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَأُبَّهَتِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ صَخْرًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: آصِفُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقِيلَ: آصِرُوا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: حبقيقُ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَدْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ مَبْسُوطَةً وَمُخْتَصَرَةً.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ أَمَرَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقِيلَ لَهُ: ابْنِهِ وَلَا يُسمَعُ فِيهِ صَوْتُ حَدِيدٍ. فَقَالَ: فَطَلَبَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ شَيْطَانًا فِي الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُ: "صَخْرٌ" شِبْهُ الْمَارِدِ. قَالَ: فَطَلَبَهُ وَكَانَتْ عَيْنٌ فِي الْبَحْرِ يَردهُا فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً فَنُزِحَ مَاؤُهَا وَجُعِلَ فِيهَا خَمْرٌ، فَجَاءَ يَوْمَ ورْده فَإِذَا هُوَ بِالْخَمْرِ فَقَالَ: إِنَّكِ لَشَرَابٌ طَيِّبٌ إِلَّا أَنَّكِ تُصْبِينَ الْحَلِيمَ، وَتَزِيدِينَ الْجَاهِلَ جَهْلًا. ثُمَّ رَجَعَ حَتَّى عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا ثُمَّ أَتَاهَا فَقَالَ: إِنَّكِ لَشَرَابٌ طَيِّبٌ إِلَّا أَنَّكِ تُصْبِينَ الْحَلِيمَ).
تُصْبِينَ الْحَلِيمَ: يجعله في فعل أهل اللهو والجهل.
(وَتَزِيدِينَ الْجَاهِلَ جَهْلًا. ثُمَّ شَرِبَهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى عَقْلِهِ، قَالَ: فَأُرِيَ الْخَاتَمَ أَوْ خُتِمَ بِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَذَلَّ. قَالَ: وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فأتي به سليمان فقال: إنه قَدْ أُمِرْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَقِيلَ لَنَا: لَا يُسْمَعَنَّ فِيهِ صَوْتُ حَدِيدٍ. قَالَ: فَأَتَى بِبَيْضِ الْهُدْهُدِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ زُجَاجَةً فَجَاءَ الْهُدْهُدُ فَدَارَ حَوْلَهَا، فَجَعَلَ يَرَى بَيْضَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَذَهَبَ فَجَاءَ بِالْمَاسِ فَوَضَعَهُ عَلَيْهِ فَقَطَعَهَا بِهِ حَتَّى أَفْضَى إِلَى بَيْضِهِ. فَأَخَذَ الْمَاسَ فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ بِهِ الْحِجَارَةَ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ -أَوِ: الْحَمَّامَ-لَمْ يَدْخُلْ بِخَاتَمِهِ فَانْطَلَقَ يَوْمًا إِلَى الْحَمَّامِ وَذَلِكَ الشَّيْطَانُ صَخْرٌ مَعَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُقَارَفَةٍ قَارَفَ فِيهِ بَعْضَ نِسَائِهِ. قَالَ: فَدَخَلَ الْحَمَّامَ وَأَعْطَى الشَّيْطَانَ خَاتَمَهُ فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ فَالْتَقَمَتْهُ سَمَكَةٌ، وَنُزِعَ مُلك سُلَيْمَانَ مِنْهُ وَأُلْقِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ شَبَه سُلَيْمَانَ. قَالَ: فَجَاءَ فَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَسَرِيرِهِ وسُلِّط عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ كُلِّهِ غَيْرَ نِسَائِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ مِنْهُ أَشْيَاءَ حَتَّى قَالُوا: لَقَدْ فُتِنَ نَبِيُّ اللَّهِ. وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُشَبِّهُونَهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْقُوَّةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَأُجَرِّبَنَّهُ. قَالَ: فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ -وَهُوَ لَا يَرَى إِلَّا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ-أَحَدُنَا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ فَيَدَعُ الْغُسْلَ عَمْدًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَتُرَى عَلَيْهِ بَأْسًا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى وَجَدَ نَبِيُّ اللَّهِ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ فَأَقْبَلَ فَجَعَلَ لَا يَسْتَقْبِلُهُ جِنِّيٌّ وَلَا طَيْرٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ صَخْرٌ).
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه الآيات فيها أن الله سبحانه قد يبتلي الأنبياء وغيرهم، وله الحكمة البالغة، كما ابتلى داود قال ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ وسليمان ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ والله تعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء، يبتليه بالخير والشر، يبتلي المؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين، ويبتلي الأشرار بالأخيار، والأخيار بالأشرار، ويبتلي الأنبياء وله الحكمة البالغة.
أما هذه القصة اسم الشيطان فلان وفلان صخر أو كذا كل هذه من أخبار الإسرائيليات لا يُعول عليها، وهذه القصة كلها التي نقلها عن ابن جرير كلها من أخبار بني إسرائيل لا يُعول عليها، فالأولى الإعراض عنها وتركها.
(وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أَيِ: ابْتَلَيْنَا سُلَيْمَانَ، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: جَلَسَ الشَّيْطَانُ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. قَالَ: وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَا: "جَرَادَةُ"، وَهِيَ آثَرُ نِسَائِهِ وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ وَكَانَ إِذَا أَجْنَبَ أَوْ أَتَى حَاجَةً نَزَعَ خَاتَمَهُ وَلَمْ يَأْتَمِنْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ غَيْرَهَا فَأَعْطَاهَا يَوْمًا خَاتَمَهُ وَدَخَلَ الْخَلَاءَ فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: هَاتِي الْخَاتَمَ. فَأَعْطَتْهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهِ خَاتَمَهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ قَبْلُ؟ قَالَ: لَا. وَخَرَجَ مَكَانَهُ تَائِهًا. قَالَ: وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يُحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ أَحْكَامَهُ فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَاؤُهُمْ فَجَاءُوا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا فَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانَ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ وَأَنْكَرْنَا أَحْكَامَهُ. قَالَ: فَبَكَى النِّسَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأَقْبَلُوا يَمْشُونَ حَتَّى أَتَوْا فَأَحْدَقُوا بِهِ ثُمَّ نَشَرُوا التَّوْرَاةَ فَقَرَءُوا. قَالَ: فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ وَالْخَاتَمُ مَعَهُ. ثُمَّ طَارَ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ فَوَقَعَ الْخَاتَمُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ. قَالَ: وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ فِي حَالِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ وَهُوَ جَائِعٌ وَقَدِ اشْتَدَّ جُوعُهُ. فَاسْتَطْعَمَهُمْ مِنْ صَيْدِهِمْ وَقَالَ: إِنِّي أَنَا سُلَيْمَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ فَجَعَلَ يَغْسِلُ دَمَهُ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي ضَرَبَهُ فَقَالُوا بِئْسَ مَا صَنَعْتَ حيث ضربته. قال: إنه زَعَمَ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ. قَالَ: فَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ).
مَذِرَ أي فسد.
(عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الضَّرْبِ حَتَّى قَامَ إِلَى شَطِّ الْبَحْرِ فَشَقَّ بُطُونَهُمَا فَجَعَلَ يَغْسِلُ [دَمَهُ] فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَهَاءَهُ وَمُلْكَهُ، وَجَاءَتِ الطَّيْرُ حَتَّى حَامَتْ عَلَيْهِ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَامَ الْقَوْمُ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا [بِهِ] فَقَالَ: مَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى عُذْرِكُمْ وَلَا أَلُومُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، كَانَ هَذَا الْأَمْرُ لَا بُدَّ مِنْهُ. قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى أَتَى مُلْكَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَجِيءَ بِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ أَطْبَقَ عَلَيْهِ وَقَفَلَ عَلَيْهِ بِقُفْلٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي الْبَحْرِ فَهُوَ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَكَانَ اسْمُهُ حبقيقُ قَالَ: وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَلَمْ تَكُنْ سُخِّرَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ: آصِفُ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ قَالَ: أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ. فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ آصِفُ فِي الْبَحْرِ فَسَاحَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَ مُلْكُهُ، وَقَعَدَ آصِفُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَمَنَعَهُ اللَّهُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَقْرَبْهُنَّ -وَلَمْ يَقْرَبْنَهُ وَأَنْكَرْنَهُ. قَالَ: فَكَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَطْعِمُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونِي؟ أَطْعِمُونِي أَنَا سُلَيْمَانُ فَيُكَذِّبُونَهُ، حَتَّى أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ يَوْمًا حُوتًا فَجَعَلَ يُطَيِّبُ بَطْنَهُ، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ وَفَرَّ آصِفُ فَدَخَلَ الْبَحْرَ فَارًّا.
وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَمِنْ أَنْكَرِهَا مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ: أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَأَعْطَى الْجَرَادَةَ خَاتَمَهُ -وَكَانَتِ الْجَرَادَةُ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ-فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي. فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ. فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ فَلَمَّا خَرَجَ سُلَيْمَانُ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي. قَالَتْ: قَدْ أَعْطَيْتُهُ سُلَيْمَانَ. قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ. قَالَتْ: كَذَبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ فَجَعَلَ لَا يَأْتِي أَحَدًا يَقُولُ لَهُ: "أَنَا سُلَيْمَانُ"، إِلَّا كَذَّبَهُ حَتَّى جَعَلَ الصِّبْيَانُ يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَرَف أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقَامَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى سُلَيْمَانَ سُلْطَانَهُ أَلْقَى فِي قُلُوبِ النَّاسِ إِنْكَارَ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ. قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَى نِسَاءِ سُلَيْمَانَ فَقَالُوا لَهُنَّ: أَتُنْكِرْنَ مِنْ سُلَيْمَانَ شَيْئًا؟ قُلْنَ: نَعَمْ إِنَّهُ يَأْتِينَا وَنَحْنُ حُيَّضٌ وَمَا كَانَ يَأْتِينَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ فَطِنَ لَهُ ظَنَّ أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ انْقَطَعَ فَكَتَبُوا كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ أَثَارُوهَا وقرءوها على الناس. وقالوا: بِهَذَا كَانَ يَظْهَرُ سُلَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ [وَيَغْلِبُهُمْ] فَأَكْفَرَ النَّاسُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَزَالُوا يُكَفِّرُونَهُ وَبَعَثَ ذَلِكَ الشيطانُ بِالْخَاتَمِ فَطَرَحَهُ فِي الْبَحْرِ فَتَلَقَّتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَتْهُ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَحْمِلُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ بِالْأَجْرِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَى سَمَكًا فِيهِ تِلْكَ السَّمَكَةُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ فَدَعَا سُلَيْمَانُ فَقَالَ: تَحْمِلُ لِي هَذَا السَّمَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ بِسَمَكَةٍ مِنْ هَذَا السَّمَكِ. قَالَ: فَحَمَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّمَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا انْتَهَى الرَّجُلُ إِلَى بَابِهِ أَعْطَاهُ تِلْكَ السَّمَكَةَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ فَأَخَذَهَا سُلَيْمَانُ فَشَقَّ بَطْنَهَا، فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي جَوْفِهَا فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ. قَالَ: فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالشَّيَاطِينُ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ وَهَرب الشَّيْطَانُ حَتَّى دَخَلَ جَزِيرَةً مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ فِي طَلَبِهِ وَكَانَ شَيْطَانًا مَرِيدًا فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَجَدُوهُ يَوْمًا نَائِمًا فَجَاءُوا فَبَنَوْا عَلَيْهِ بُنْيَانًا مِنْ رَصَاصٍ فَاسْتَيْقَظَ فَوَثَبَ فَجَعَلَ لَا يَثِبُ فِي مَكَانٍ من البيت إلا أنماط معه من الرَّصَاصُ قَالَ: فَأَخَذُوهُ فَأَوْثَقُوهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُقِرَ لَهُ تَخْتٌ مِنْ رُخَامٍ ثُمَّ أُدْخِلَ فِي جَوْفِهِ ثُمَّ سُدَّ بِالنُّحَاسِ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}).
هذا من أنكر، من النكارة فيها قوله يأتي نسائه وهن حيَّض، هذا لا يمكن، كل هذه من أخبار بني إسرائيل المنكرة التي ينبغي تنزيه كتاب الله عنها.
ابن حاتم عن من؟
(ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
ابن عباس لو صح سنده من بني إسرائيل...
والأول عن من؟
(وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة عَنْ قَتَادَةَ).
كل هذه من الأخبار التي لا يُعول عليها، ومن أنكرها كما قال المؤلف هذه الأخيرة (يأتي النساء وهي حيَّض) هذا كله من أخبار بني إسرائيل لا يُعول عليها، ينبغي تنزيهه.
الآية واضحة في أن الله تعالى فتنا سليمان، ثم أناب ورد الله إليه ملكه، أما هذه الأخبار كلها لا يُعول عليها، ولا يُسأل عنها.
(فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ: يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي كَانَ سُلِّطَ عَلَيْهِ.
إِسْنَادُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَوِيٌّ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -إِنْ صَحَّ عَنْهُ-مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ فِي السِّيَاقِ مُنْكَرَاتٌ مِنْ أَشَدِّهَا ذِكْرُ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ ذَلِكَ الْجِنِّيَّ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَى نِسَاءِ سُلَيْمَانَ بَلْ عَصَمَهُنَّ اللَّهُ مِنْهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مُطَوَّلَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ وَكُلُّهَا متُلقًّاة مِنْ قَصَصِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ).
الله كذبهم ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾.
كل هذا لا يُعول عليه من أخبار بني إسرائيل، الله تعالى فتنه ثم رد عليه ملكه، والله أعلم بكيفية ذلك، يقول ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾ تاب إلى الله، والله تعالى سخر له الريح وسخر له الجن، سأل ربه أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده قال الله تعالى ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ يعني سخرنا له الريح والشياطين هذا خاصٌ بسليمان.
ولهذا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جاء الشيطان وهو يُصلي جاء بشعلة ليُحرقه، دعدته النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الصباح إني دعدت الشيطان وجاء بشهاب ليحرقني ودعدته حتى وجدت برد لعابه فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى يلعب به صبيان أهل المدينة فذكرت قول أخي سليمان ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ فتركته، أو كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
هذا من خصائص سليمان الذي سأل الله أن يهبه، سخر له الريح، وسخر له الشياطين ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ والفتنة هذه أفتتن الله بها سليمان ثم تاب الله عليه ورد عليه ملكه.