بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ})
يقول الإمام ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسيره: (يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فَضَائِلَ عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْعَابِدِينَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ} يَعْنِي بِذَلِكَ: الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْقُوَّةَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْبَصِيرَةَ النَّافِذَةَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أُولِي الأيْدِي} يَقُولُ: أُولِي الْقُوَّةِ {وَالأبْصَارِ} يَقُولُ: الْفِقْهِ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أُولِي الأيْدِي} يَعْنِي: الْقُوَّةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ {وَالأبْصَارِ} يَعْنِي: الْبَصَرَ (5) فِي الْحَقِّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أعطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وبَصرًا فِي الدِّينِ.
[وَقَوْلُهُ] (6) {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ هَمّ غَيْرُهَا. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: ذِكْرُهُمْ لِلْآخِرَةِ وَعَمَلُهُمْ لَهَا.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا وَأَخْلَصَهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذَكَرِهَا. وَكَذَا قال عطاء الخراساني.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: يَعْنِي بِالدَّارِ الْجَنَّةَ يَقُولُ: أَخْلَصْنَاهَا لَهُمْ بِذِكْرِهِمْ لَهَا (1) وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: {ذِكْرَى الدَّارِ} عُقْبَى الدَّارِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يذَكّرون النَّاسَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَالْعَمَلَ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جُعِلَ لَهُمْ (2) خَاصَّةً أَفْضَلُ شَيْءٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ} أَيْ: لَمِنَ الْمُخْتَارِينَ الْمُجْتَبِينَ الْأَخْيَارِ فَهُمْ أَخْيَارٌ مُخْتَارُونَ.)
الشيخ: مثل مصطفين، مصطفين مختارين.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه الآيات الكريمة فيها مدح وثناء عظيم على هؤلاء الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، والد الحنفاء وأبو الأنبياء، وكل نبيٍّ بعث بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو من ذريته، وكلٌ كتابٍ أنزل بعد إبراهيم فهو على واحدٍ من ذريته، هذه منقبة عظيمة، لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تزوج بنت عمه سارة وأنجبت له إسحاق وتسرى قبلها هاجر وأنجبت له إسماعيل، إسماعيل أكبر من إسحاق بما يقارب اثنتا عشرة سنة هو الذبيح إسماعيل، هو أبو العرب وهو الذبيح ومن ذريته محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإسحاق أنجب يعقوب ويعقوب أنجب يوسف وكلهم أنبياء، أربعة أنبياء في نسق واحد، إبراهيم نبي وابنه إسحاق نبي وابن ابنه يعقوب نبي وابن ابنه يوسف نبي، ولهذا في الحديث الصحيح: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم»، أربعة أنبياء في نسق، ويعقوب هو إسرائيل، ومن ذريته جميع أنبياء بنو إسرائيل كلهم من ذريته، ختموا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وبهذا يكون الأنبياء كلهم من ذرية إبراهيم، إما من ذرية إسماعيل وإما من ذرية يعقوب.
وإبراهيم هو الذي بنى البيت، هو الذي بنى المسجد الحرام ويسمى المسجد باسم مسجد إبراهيم، وابنه يعقوب هو الذي بنى المسجد الأقصى بعد أربعين سنة كما ثبت في الحديث الصحيح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل أول بيتٍ وضع قال: «المسجد الحرام»، قيل: وما بعده؟ قال: «المسجد الأقصى»، قيل: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة»، وأما ما ورد عن سليمان أنه بنى فهو إن صح يكون المراد التجديد، والذي بنى يعقوب، والله تعالى أثنى على إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثناءً عطرًا ثناءً عظيمًا، ({وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ}) للقوة في العبادة والبصر والبصيرة النافذة في العلم ({إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}) هذه منقبة عظيمة، أخلصهم الله، جعل قلوبهم ونياتهم وأعمالهم خالصة للآخرة وذكرهم للآخرة، وهم يذكرون الناس بالآخرة، ({إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}) ثم قال: ({وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ}) اجتباهم الله اختارهم، منقبة عظيمة من ربِّ العالمين، اصطفاهم الله واجتباهم اختارهم على الناس، مختار، فهم أخيار، أخيار مصطفون مجتبون، وأعطاهم الله القوة في العبادة والبصر والبصيرة في العلم وجعل قلوبهم خالصة لله عَزَّ وَجَلَّ، وذكرهم للآخرة يذكرونها ويُذكرون الناس، يالها من منقبة عظيمة.
الطالب: (وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَصَصِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ مُسْتَقْصَاةً فِي سُورَةِ "الْأَنْبِيَاءِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.)
الشيخ: إسماعيل أثنى الله عليه بقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾[مريم:55-54] منقبة عظيمة، صادق الوعد يسمونه صادق الوعد، ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ فهو رسول نبي ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ واليسع ذكر في سورة الأنبياء، واختلف فيه هل هو نبي، اختلف في نبوته ﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ﴾[ص:48] وكذلك ذا الكف اختلف في نبوته، ولكنهم من الأخيار، اختارهم الله واصطفاهم فهم من الأخيار سواءً كانوا أنبياء أو لم يكونوا أنبياء، اليسع وذا الكفل.
الطالب: (وَقَوْلُهُ: {هَذَا ذِكْرٌ} أَيْ: هَذَا فَصْلٌ فِيهِ ذِكْرٌ لِمَنْ يَتَذَكَّرُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْقُرْآنَ.
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ أَنَّ لَهُمْ فِي [الدَّارِ] (3) الْآخِرَةِ {لَحُسْنَ مَآبٍ} وَهُوَ: الْمُرْجِعُ وَالْمُنْقَلَبُ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ: جَنَّاتِ إِقَامَةٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا (4) بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: "مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا" أَيْ: إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا.
قَالَ (5) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوَابٍ الهَبَّاري حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْر، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ -يَعْنِي: ابْنَ هُرْمُزَ-عَنِ ابْنِ سَابِطٍ (6) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (7) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:
"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ: "عَدْنٌ" حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ خَمْسَةُ آلَافِ حبَرَة لَا يَدْخُلُهُ -أَوْ: لَا يَسْكُنُهُ-إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ إِمَامٌ عَدْلٌ". (8))
الشيخ: تكلم عنه؟
الطالب: قال: سنده ضعيفٌ لضعف عبد الله بن مسلم بن هرمز.
الشيخ: سند ضعيف، ولو صح فهو أيضًا مما أخذه من بني إسرائيل لأنه كان له [00:12:18] أخذها من بني إسرائيل يحدث بها، لو صح، مع أنه لا يصح هذا، والآية كافية يقول الله تعالى: ({هَذَا ذِكْرٌ}) يعني القرآن العظيم، ذكر وموعظة يتذكر به الناس، وشرف للمؤمنين، ({وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}) المتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة، ({وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ}) مرجعٌ حسن وموطنٌ حسن ومكانٌ حسن ومسكنٌ حسن، ثم فسر قال: ({جَنَّاتِ عَدْنٍ}) جنات إقامة، لا يرحلون ولا يضعنون، بساتين ({مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}) الأل الألف واللام نائبة عن الإضافة، والتقدير مفتحةً أبوابها، كما قال الله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾[الزمر:71] مفتحتًا لهم الأبواب، ({مُتَّكِئِينَ فِيهَا}) معتمدين على السرر، وهذا فيه راحتهم وعدم لحوق تعبٍ لهم ({يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}) يدعون يطلبون، كل فاكهة وشراب، أي فاكهة أرادوا وشراب يطلبون يأتيهم ({مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) }) عندهم قاصرات الطرف الحور العين والزوجات، قاصرات الطرف قصرّْن أبصارهنَّ على أزواجهن، لا ينظرون إلى غيرهم، أتراب يعني متقاربات في السن، في سن الشباب لا يزدن عليه ولا ينقصن منه، ({هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}) يقال لأهل الجنة تكريمًا لهم: ({هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}) هذا الذي وعدتموه، هذا الثواب وهذا الأجر، قال الله تعالى: ({إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}) هذا النعيم الذي أعطوه في الجنة رزقٌ من الله رزقهم الله إياه، ولا ينفذ ولا يفنى، نسأل الله أن يكرمنا من فضله، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الطالب: (وَقَدْ وَرَدَ فِي [ذِكْرِ] (9) أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} قِيلَ: مُتَرَبِّعِينَ فِيهَا عَلَى سُرُرٍ (10) تَحْتَ الْحِجَالِ {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ}
أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا وَحَضَرَ كَمَا أَرَادُوا. {وَشَرَابٍ} أَيْ: مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِهِ شَاءُوا أَتَتْهُمْ بِهِ الْخُدَّامُ {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الْوَاقِعَةِ: 18])
الشيخ: من أي نوع من الفاكهة ومن أي نوع من الشراب يطلبونه يأتيهم في الحال.
الطالب: ({وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ: عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَلْتَفِتْنَ إِلَى غَيْرِ بُعُولَتِهِنَّ {أَتْرَابٌ} أَيْ: مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ وَالْعُمُرِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالسُّدِّيِّ.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} أَيْ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْجَنَّةِ الَّتِي (1) وَعَدَهَا لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الَّتِي (2) يَصِيرُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ نُشُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ النَّارِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ وَلَا زَوَالَ وَلَا انْتِهَاءَ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْلِ: 96] وَكَقَوْلِهِ {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108] وَكَقَوْلِهِ {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فُصِّلَتْ: 8] أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَكَقَوْلِهِ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرَّعْدِ: 35] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.)
الشيخ: يعني لا شك خالدين فيها إلا ما شاء ربك كما قال تعالى: ({عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}) غير منقطع، نعيمٌ مستمر، نسأل الله من فضله.
الطالب: ({هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)}
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَآلَ السُّعَدَاءِ ثَنّى بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَمَرْجِعِهِمْ وَمَآبِهِمْ فِي دَارِ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ فَقَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} وَهُمُ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ الْمُخَالِفُونَ لِرُسُلِ اللَّهِ {لَشَرَّ مَآبٍ} أَيْ: لَسُوءَ مُنْقَلَبٍ وَمَرْجِعٍ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} أَيْ: يَدْخُلُونَهَا فَتَغْمُرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ {فَبِئْسَ الْمِهَادُ. هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ: الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وَأَمَّا الغَسَّاق فَهُوَ: ضِدُّهُ، وَهُوَ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ الْمُؤْلِمِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أَيْ: وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، الشَّيْءُ وَضِدُّهُ يُعَاقَبُونَ بِهَا.
قَالَ (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة حَدَّثَنَا دَرّاج عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ (2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (3) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاق يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدنيا" (4))
الشيخ: هذا ضعيف فيه ابن اللهيعة وفيه الدراج أبو السمح عن أبي الهيثم، ما قال عنه؟
الطالب: قال: أخرجه الإمام احمد بسنده ومتنه وسنده ضعيف لضعف رواية دراجٍ عن أبي الهيثم.
الشيخ: وضعف ابن اللهيعة أيضًا، ولكن الآيات كافية، نسأل الله أن يكرمنا من فضله، نعوذ بالله من غضبه وعقابه، ({هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}) لما ذكر حال السعداء ذكر حال الأشقياء ثنى بحال الأشقياء ليكون المؤمن بين الخوف والرجاء ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾[الحجر:50-49] يذكر الجنة ويذكر النار، ويذكر أهل الجنة ويذكر أهل النار، ليكون المؤمن خائفًا راجيًا، جمع بين الخوف والرجاء ({هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}) الطاغين الذين طغوا وتكبروا عن عبادة الله وعصوا الله، لهم شرٌ مآب، شرُ مسكن وشرُ مرجع ومآب، جهنم، فسر بقول جهنم ({جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}) بئس المقر والمستقر، ({هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}) هذا عذابهم حميم وهو الحار الذي اشتد حره وانتهى غليانه، إذا شربوا سقط لحم وجوههم، نعوذ بالله، فإذا شربوا قطع أمعائهم في أجوافهم، ثم تعاد مرةً أخرى، تعاد ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾[النساء:56] الجلود تبدل، والجلود هي هي تبدل حتى يستمر العذاب، والوجوه إذا شربوا سقط لحم الوجوه ثم تعاد، وكذلك إذا شربوا قطع أمعائهم ثم تعاد، وهكذا يكرَّ عليهم، نسأل الله السلامة والعافية. ({هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}) غساق الماء الذي اشتد بروده، يعذبون بنوعين من العذاب، النار قسمان: حار وبارد، نعوذ بالله، حار شديد الحر وبارد شديد الزمهرير، ولهذا ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن جهنم اشتكت إلى ربها فأذن الله لها بنفسين نفس في الشتاء فذلك أشد ما يجد الناس من البرد ونفسٌ في الصيف وذلك أشد ما يجد الناس من الحر»، ({هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}) حميم الماء الحر الذي اشتد غليانه وانتهى غليانه، وغساق هو البارد الذي اشتدت برودته وبلغت النهاية، ({وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}) كذلك يعني أنواعٌ أخرى يعذبون بها من الأضداد، من الشيء وضده، نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ رِشْدين بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرّاج بِهِ. ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ" (1) كَذَا قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِهِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بِهِ (2))
الشيخ: رشدين ابن سعد ضعيف، كذلك الدراج أبو الهيثم.
الطالب: (وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: غَسَّاقٌ: عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَة كُلِّ ذَاتِ حُمَة مِنْ حَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ)
الشيخ: حمة ذات السموم، الحيات.
الطالب: (وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَسْتَنْقِعُ فَيُؤْتَى بِالْآدَمِيِّ فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً وَاحِدَةً فَيَخْرُجُ وَقَدْ سَقَطَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ عَنِ الْعِظَامِ وَيَتَعَلَّقُ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ فِي كَعْبَيْهِ وَعَقِبَيْهِ ويُجَر لَحْمَهُ كَمَا يَجُر الرَّجُلُ ثَوْبَهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.)
الشيخ: على كل حال كعب الأحبار
الطالب: قال: سنده ضعيف لإرسال كعب.
الشيخ: وكعب ممن أسلم من بني إسرائيل، وينقل عن بني إسرائيل كثير.
الطالب: (وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَالزَّمْهَرِيرِ وَالسَّمُومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ وَأَكْلِ الزَّقُّومِ وَالصُّعُودِ وَالْهُوِيُّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَضَادَّةِ (3) وَالْجَمِيعُ مِمَّا يُعَذَّبُونَ بِهِ وَيُهَانُونَ بِسَبَبِهِ.)
الشيخ: هذه أنواع من العذاب، الزمهرير البارد، شدة البرد، السموم الحرارة، والحميم الماء الحار، والزقوم شجرةٌ يأكلها أهل النار يعذبون بها، تنبت في النار، ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ ﴿طَعَامُ الأَثِيمِ﴾ ﴿كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ﴾ ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾[الدخان:43-46] نسأل الله السلامة والعافية.
ومن أنواع العذاب الصعود، يكلفون بالصعود ويكلفون بالهوي والسقوط، يرتفع من أعلى في النار، مع أن العذاب ملازمه ما معناه أنه خف عنه العذاب ثم يسقط، هذا هوي، صعودٌ وهوي، أنواعٌ من العذاب، نعوذ بالله، تتكرر العملية يصعد ويسقط، مع أن العذاب ملازمٌ له في جميع الحالات، ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾[الأعراف:41]
الطالب: (وَقَوْلُهُ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قِيلِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الْأَعْرَافِ: 38] يَعْنِي بَدَلَ السَّلَامِ يَتَلَاعَنُونَ وَيَتَكَاذَبُونَ (4))
الشيخ: يكذب بعضهم بعضًا.
الطالب: (وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَتَقُولُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَدْخُلُ قَبْلَ الْأُخْرَى إِذَا أَقْبَلَتِ الَّتِي بَعْدَهَا مَعَ الْخَزَنَةِ مِنَ الزَّبَانِيَةِ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ} أَيْ: دَاخِلٌ مَعَكُمْ {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [أَيْ] (5) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ (6) {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} أَيْ: فَيَقُولُ لَهُمُ الدَّاخِلُونَ: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أَيْ: أَنْتُمْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أَيْ: فَبِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمُسْتَقَرُّ وَالْمَصِيرُ. {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ (7) {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38] أَيْ: لِكُلٍّ مِنْكُمْ عَذَابٌ بِحَسَبِهِ)
الشيخ: هكذا والعياذ بالله حالهم، يكفر بعضهم البعض ويلعن بعضهم البعض ويكذب بعضهم بعضًا، كما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾[العنكبوت:25] هنا يقول: ({هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ}) تقول الخزنة: ({هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا}) ردوا عليهم: ({قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}) أنتم الذين قدمتم لنا، أنتم الذين تسببتم لنا بدخولنا النار، أنتم الذين دعوتمونا إلى المعصي والكفر ({أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}) بئس المهاد، وهكذا يلعن بعضهم بعضًا ({قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38]}) ﴿وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾[الأعراف:39] وهكذا يكون بينهم الحوار، ثم النهاية إقامتهم بالنار ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ﴾[سبأ:31-33] قال الله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾[سبأ:33] هكذا يتحاورون، يكذب بعضهم بعضًا ويكفر بعضهم بعض ويلعن بعضهم بعضًا ويكذب بعضهم بعضًا والنار هي مصيرهم ومستقرهم، الشيطان يوم القيامة يخطب خطبته في أهل النار كما أخبر الله في القرآن الكريم ويتبرأ منهم، ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[إبراهيم:22] هكذا يخطب الشيطان في أوليائه ويتبرأ منهم، نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: هل يفهم منن الآية أن الأقدمون في الكفر يكونون قبل الآخرين؟
الشيخ: نعم هم يتفاوتون في العذاب لا شك، الكفرة يتفاوتون ولهم دركات، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء:145] كل دركة سفلى أشد عذاب من التي قبلها، والكافر الذي يفتن الناس عن دينهم ويضل الناس ويقتل المسلمين ليس كالكافر الذي كفره على نفسه، بل ذاك يضاعف عذابه، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾[النحل:88] يتفاوتون، كما أن المؤمنين يتفاوتون في الدرجات، المؤمنين كلهم في الجنة، يدخلون الجنة بالإيمان والتوحيد ويتقاسمون الدرجات بالأعمال الصالحة، يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «إن أهل الجنة كل درجة عليا أعظم نعيم من الدرجة التي تحتها، والنار دركات كل درجة سفلى أشد عذاب من التي فوقها»، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أهل الجنة يتراءون الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الغابر الدري في المشرق أو في المغرب»، يعني من شدة ارتفاعه، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! هذه درجات عالية، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا والذي نفسي بيده رجالٌ أمنوا بالله وصدقوا المرسلين ينالونها»، هذه درجات متفاوتة، فهم متفاوتون في النعيم وكذلك أهل الكفر متفاوتون في العذاب، أبو طالب في النار لكنه أخف أهل النار عذابًا، تشفع له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث: «إن أهون الناس عذابًا أبو طالب وإنه في ضحضاحٍ من نار يغلي منها دماغه»، من شدة ما يجد يتصور أنه أشد أهل النار وهو أخفهم، نسأل الله السلامة والعافية، في حديثٍ آخر: «إن أخف أهل النار لرجلٌ في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه».
الطالب: صفة الصديق؟
الشيخ: الصديق هو الذي قوى إيمانه وتصديقه حتى أحرق إيمانه الشبهات والشهوات فلا يصر على معصية، الصديق من المبالغة، من قوة إيمانه وتصديقه يحرق الشبهات والشهوات فلا يصر عليها، وهي مرتبة تلي مرتبة الأنبياء، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه.
الطالب: ({وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ} هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ رِجَالًا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فِي زَعْمِهِمْ قَالُوا: مَا لَنَا لَا نَرَاهُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟.
قَالَ (8) مُجَاهِدٌ: هَذَا قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ يَقُولُ: مَا لِي لَا أَرَى بِلَالًا وَعَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. وَهَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ، وَإِلَّا فَكُلُّ الْكُفَّارِ هَذَا حَالُهُمْ: يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَمَّا دَخَلَ الْكُفَّارُ النَّارَ افْتَقَدُوهُمْ فَلَمْ يَجِدُوهُمْ فَقَالُوا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا (9) {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ} يُسَلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُحَالِ يقولون: أو لعلهم مَعَنَا فِي جَهَنَّمَ وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ بَصَرُنَا عَلَيْهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ (1) وَهُوَ (2) قَوْلُهُ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 44 -49] (3))
الشيخ: هكذا حال الكفرة ({مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ}) هذه مما يسلون به أنفسهم، الكفرة حينما يسخرون من المؤمنين في الدنيا يظنون أنهم سيدخلون النار، ولهذا قالوا: ({مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ}) ثم يسألون أنفسهم ({أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا}) يعني نحن سخرنا منهم وهم في الجنة أم هم معنا في النار ولكن لا نراهم لا نبصرهم ({أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ}) ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف:104] ومع ذلك بعضهم قد يظن أنه على الحق فاليهود يظنون أنهم على الحق والنصارى يظنون أنهم على الحق ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾[البقرة:113] ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾[البقرة:111].
الطالب: (وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أَيْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لَحَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.)
الشيخ: ({إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}) يعني تخاصم أهل النار حقٌ واقع، الله تعالى يخبرنا أن أهل النار يتخاصمون، وأن هذا حقٌ واقع، وكما أخبر الله في الآية السابقة أنه يكذب بعضهم بعضًا ويكفر بعضهم بعضًا وتكفر أولاهم أخراهم وأخراهم أولاهم، وهكذا ({إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}).