بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا، وللحاضرين، وللمستمعين.
قال الحافظ ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
(يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَفَّارِ بِاللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ: إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أَيْ: هُوَ وَحْدَهُ قَدْ قَهَرَ كل شيء وغلبه. {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أَيْ: هُوَ مَالِكٌ جَمِيعَ ذَلِكَ وَمُتَصَرِّفٌ فِيهِ {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أَيْ: غَفَّارٌ مَعَ عِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أَيْ: خَبَرٌ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ بَلِيغٌ وَهُوَ إِرْسَالُ اللَّهِ إِيَّايَ إِلَيْكُمْ {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أَيْ: غَافِلُونَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أَيْ: لَوْلَا الْوَحْيُ مِنْ أَيْنَ كُنْتُ أَدْرِي بِاخْتِلَافِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى؟ يَعْنِي: فِي شَأْنِ آدَمَ وَامْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَمُحَاجَّتِهِ رَبَّهُ فِي تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ).
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ اما بعد:
هذه الآيات فيها بيان وظيفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن وظيفته البشارة والنظارة، فالله يقول ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ هو منذر وهو أيضًا بشير كما في الآيات الأخرى، فوظيفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النظارة والبشارة، وليس بيده من هداية القلوب، وتفريج الكروب شيء، فالهداية بيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو يهدي من يشاء برحمته وفضله وإحسانه، ويضل من يشاء بعدله وحكمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ولو كان بيد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيءٌ من ذلك لأوقع الكفار ما يستحقون به، ولكنه ليس بيده شيء، ولهذا لم يهد عمه أبا طالب.
أبا طالب كان [02:58] ويحميه، وينصره، ويدافع عنه، ولكنه لم يستطع هدايته، فالهداية بيد الله، ولهذا سله الله لما مات على الكفر وأبى أن ينطق بالشهادة أنزل الله ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فوظيفة النبي النذارة والبشارة، والهداية بيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- والهداية هدايتان:
- هداية توفيق وتسديد، وخلق الهداية في القلوب، وكونه يقبل الحث ويرضى به هذا إلى الله كما في هذه الآية ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ لا توفق فالذي يوفق هو الله.
- هداية الدلالة والإرشاد وإيضاح للحق، هذه يملكها الرسول ويملكها الدُعاة كما قال الله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ترشد وتدل.
فهداية الدلالة والإرشاد بيد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن هداية التوفيق والتسديد، وكونه يقبل الحق ويرضى به هذا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإنما وظيفة النبي هي البشارة والنذارة، وبيان الحق للناس ودعوتهم إليه، وإرشادهم إليه، ونهيهم عن الباطل وعن الشرك، هذا بيد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيد الدعاة، ولهذا قال ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ وفي الآية الثانية ﴿بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾.
فبين الله أن وظيفة النبي البشارة والنذارة، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ فيه بيان وحدانية الله في الألوهية، وأنه لا معبود بحقٍ سواه، ﴿الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾.
وبين الله تعالى أن إرسال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ﴿نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ أعرض عنه المشركون، أعرضوا عن القرآن فلم يقبلوه، وأعرضوا عن محمد فلم يؤمنوا به، ولهذا قال تعالى ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ الملائكة يختصمون في خلق الله تعالى لآدم وامتناع إبليس من السجود له، النبي لا يعلم ذلك لولا ما علمه الله، وهو لا يعلم الغيب، وإنما يعلم ما علمه الله، كما قال تعالى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ قال سبحانه ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ هذه وظيفته النذارة والبشارة، ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ لكنه لا يعلم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
الرد على الغلاة الذين غلوا في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزعموا أنه يعلم الغيب كالطائفة التي تنتسب للبروية يزعمون أن الرسول يعلم الغيب، وهي طائفةٌ كافرة، لأنهم أضافوا علم الله إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورفعوه فوق منزلته جعلوه إلاهًا، وكذلك من المتأخرين منهم البُصيري في قصيدته التي غلى فيها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به |
|
سواك عند حلول الحدث العمم |
||
إن لم تكن آخذًا بيدي فضلًا |
|
وإلا فقل يا ذلة القدم |
||
وقال:
فإن من جودك الدنيا وضرتها |
|
ومن علومك علم اللوح والقلم |
نعوذ بالله من هذا الغلو، نسي ربه، وقال أنه لا يجد أحد يلوذ به سوى الرسول عند حلول الحدث العمم وهو يوم القيامة، حدث عم الناس، والحساب والجزاء والبعث، وقال: إن لم يأخذ الرسول بيده فهو هالك، وقال أيضًا: فإن من جودك الدنيا وضرتها يخاطب الرسول، من جودك يعني أنت تملك الدنيا والآخرة، ماذا بقي لله إذا كان الرسول يملك الدنيا والآخرة، ومن علومك علم اللوح والقلم، يعني ما في اللوح المحفوظ على ما كتبه القلم، نعوذ بالله من هذا الغلو.
الرسول وظيفته النذارة والبشارة، وبيان الحق، وإرشاد الناس ودعوتهم إليه، أما هداية القلوب فهي بيد الله، أما علم الغيب فهو لله تعالى لا يعلمه أحد إلا من أطلع عليه أحدٌ من خلقه ومن ملائكته ورسله ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾، ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾، ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ما عندي علم إلا ما علمني الله.
(فَأَمَّا الْحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا جَهْضَمٌ الْيَمَامِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا فَثَوّب بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وتَجَوّز فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ". ثُمَّ أَقْبَلُ إِلَيْنَا فَقَالَ: "إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدّر لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يختصم الملأ الأعلى؟
قُلْتُ لَا أَدْرِي رَبِّ -أَعَادَهَا ثَلَاثًا-فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ. قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي).
في رواية: وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي.
(وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً بِقَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ).
في نسخة أخرى: وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون.
(وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا" فَهُوَ حَدِيثُ الْمَنَامِ الْمَشْهُورُ وَمَنْ جَعَلَهُ يَقَظَةً فَقَدْ غَلِطَ وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ "جَهْضَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَمَامِيِّ" بِهِ. وَقَالَ: "حَسَنٌ صَحِيحٌ" وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِصَامُ هُوَ الِاخْتِصَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا قَدْ فُسِّرَ وَأَمَّا الِاخْتِصَامُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ فُسِّرَ بَعْدَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾).
هذا يبين المؤلف أن اختصام الملأ الأعلى في الآية غير اختصام الملأ الأعلى في الحديث، الذي في الحديث في المنام، وهو مُفسر، وأما الذي في الآية ليس في المنام، والحديث هذا حديث معاذ عن الحسن ذكره شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية وقال: له طرق يشد بعضها بعضا، وكذلك شرح الحافظ ابن رجب في رسالةٍ خاصة، رسالة شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، والرؤية التي رآها منام، رؤية منامية، يرى ربه في منامه، رأيت ربي في أحسن صورة، ورؤية الله تعالى في المنام كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللَّهُ- أثبتها جميع الطوائف إلا الجهمية لشدة نفيهم وإنكارهم رؤية الله حتى أنكروا رؤية الله في المنام، ولا يُذم ذلك التشبيه وأن الله له شبيه.
كما قال شيخ الإسلام: رؤية الإنسان في المنام على حسب اعتقاده لا يلزم من ذلك مشابهة، فإن كان اعتقاده صحيحًا رأى ربه في صورةٍ حسنة، وإن كان اعتقاده خلاف ذلك رأى ربه في صورةٍ تناسب اعتقاده، ولما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصح الناس اعتقادًا قال: رأيت ربي في أحسن صورة، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قُلْتُ لَا أَدْرِي رَبِّ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ فعلمت قال فيما يختصم الملأ الأعلى قال: في الدرجات، نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ.... إلى آخر الحديث.
فهذا رؤية في المنام، وهو حق، الرسول حق فيه أن الملأ الأعلى يختصمون في هذا، الدرجات نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ، الكريهات يعني المشقة، حينما يكون الوقت بارد، ثم يسبغ الوضوء يعني يُبلغ العظة، لأنه مع شدة البرد قد لا يبلغ الإنسان العضو قد ينمو بعضه، فإذا أبلغ الوضوء مع الكريهات مع شدة الحر وشدة البرد، هذا صار أجره عظيم وأعظم، ودرجاته عالية يختصم فيها الملأ الأعلى.
نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ.
وانتظار الصلاة بعد الصلاة، صلي ثم ينتظر الصلاة الأخرى بعدها، يصلي الظهر ثم يجلس ينتظر العصر، يصلي المغرب ثم ينتظر العشاء، هذا من الرباط، مثل المجاهد المرابط على حدود الدولة الإسلامية هذا رباط، وهذا رباط في العبادة، وهذا رباط في الجهاد، وانتظار الصلاة.
قَالَ: سَلْ. قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وفي رواية وتتوب علي.
وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ.
وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون.
هذا مبين، فيما يختصم الملأ الأعلى؟ في هذا في الدرجات، ونقل الأقدام إلى الجمع والجمعات، وإسباغ الوضوء على الكريهات، وإطعام الطعام، ولين الكلام.
أما اختصام الملأ الأعلى في الآية فلم يُذكر، قال ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ما كان لي من علم، فأنا نذيرٌ مبين، العلم عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا أعلم إلا ما علمني.
الطالب: هذا الحديث قال عنه الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديثٌ حسن صحيح.
الشيخ: كذلك شيخ الإسلام قال له طرق، وكما سبق فيه إثبات رؤية الله في المنام، وأنها حق، ولكن لا يلزم من ذلك المشابهة، الله تعالى ليس له مثيل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فكون الإنسان يرى ربه في الصلاة لا يلزم منه المماثلة وأن الله على مثل هذه الصورة، إنما هذا يُمثل له يرى ربه في صورة تناسب اعتقاده.
الطالب: مطبوع؟
الشيخ: نعم مطبوع، رسالة اختصام الملأ الأعلى مطبوعة، رسالة للحافظ ابن رجب شرح حديث اختصام الملأ الأعلى.
(هَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ، تَعَالَى فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" وَفِي أَوَّلِ "الْأَعْرَافِ" وَفِي سُورَةِ "الْحِجْرِ" وَ [فِي] سُبْحَانَ" وَ "الْكَهْفِ").
يعني قصة آدم، قصة خلق الله لآدم وأمر الله الملائكة بالسجود وامتناع إبليس هذه القصة مذكورة في سورة البقرة، وفي سورة سبحان يعني الإسراء، وفي عددٍ من السور، وفي سورة طه.
(هَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ، تَعَالَى فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" وَفِي أَوَّلِ "الْأَعْرَافِ" وَفِي سُورَةِ "الْحِجْرِ" وَ [فِي] سُبْحَانَ" وَ "الْكَهْفِ"، وَهَاهُنَا وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْأَمْرِ مَتَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ وَتَسْوِيَتِهِ فَلْيَسْجُدُوا لَهُ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
السجود عبادة لله -عَزَّ وَجَلَّ- إكرام لآدم وهو عبادة الله لأن الله أمر، وفيه إكرام لآدم وتعظيمٌ له ورفعٌ لشأنه.
(فَامْتَثَلَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ ذَلِكَ سِوَى إِبْلِيسَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ جِنْسًا كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَخَانَهُ طَبْعُهُ وَجِبِلَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ).
لأنه لم يكن منهم جنسًا فجنس الملائكة مخلوقٌ من نور، والشيطان مخلوقٌ من نار، فرق بين النور والنار، كان معهم في العبادة لكن جنسه غير جنسهم، في صحيح مسلم أن الملائكة خُلقوا من نور، وإبليس خُلق من مارجٍ من نار، خانه طبعه وأصله فامتنع، والملائكة امتثلوا أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويسر الله لهم الاستقامة مع طبعهم وأصلهم، وهم خلقٌ من نور، فسجد الملائكة إلا إبليس.
(وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْأَمْرِ مَتَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ وَتَسْوِيَتِهِ فَلْيَسْجُدُوا لَهُ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَامْتَثَلَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ ذَلِكَ سِوَى إِبْلِيسَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ جِنْسًا كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَخَانَهُ طَبْعُهُ وَجِبِلَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ).
وكما قال تعالى ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
(فَاسْتَنْكَفَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ وَخَاصَمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ وَادَّعَى أنه خير من آدم فإنه مخلوق).
إيباء واستكبار عن عبادة الله، فالاستكبار عن عبادة الله كفرٌ وضلال، أول من استكبر عن عبادة الله إبليس، وأول من قاس قياسًا فاسدًا إبليس، القياس الفاسد هو القياس مع وجود النص.
النص ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ والقياس ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ كيف أسجد لآدم وعنصري خيرٌ من عنصر آدم، عنصر آدم الطين وعنصري النار والنار خيرٌ من الطين، والفاضل لا يخضع للمفضول ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ أول من قاس قياسً فاسدًا إبليس، وما عبدة الشمس إلا بالمقاييس، والعلماء يقولون القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار، أين النص؟ ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ لا يوجد قياس امتثل أمر الله لا يوجد قياس، إذا جاء أمر الله بطل ما هو..... لكنه استكبر عن عبادة الله وعرض لنص بالقياس الفاسد فطرده الله ولعنه، فاقتدى به كل كافرٍ ومنافق، وكل معارضٍ للحق، وكل مستكبر، فسلفه ومقدمه إبليس.
(مِنْ نَارٍ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ فِي زَعْمِهِ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، وَكَفَرَ بِذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ).
نعم أخطأ في ذلك وأيضًا كلامه غير صحيح قياسه غير فاسد، وليست النار خيرٌ من التراب والطين، النار تحرق ما حولها لا تبقي ولا تذر، النار من شأنها العلو والخفة والطيشان وإحراق كل شيء لا تبقي ولا تذر، والطين والتراب من شأنه الركون والطمأنينة والثبات وما حوله يزهو وينبت، فرقٌ بين هذا وهذا.
هو قاس قياسًا فاسدًا وهو مخطأ في هذا.
(فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ وَطَرَدَهَ عَنْ بَابِ رَحْمَتِهِ وَمَحَلِّ أُنْسِهِ وَحَضْرَةِ قُدْسِهِ وَسَمَّاهُ "إِبْلِيسَ" إِعْلَامًا لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أبْلَس مِنَ الرَّحْمَةِ).
إبليس أبلس يعني أيس من رحمة الله ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ يعني المطر قال الله تعالى ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ قبل نزول المطر كانوا آيسيين فلما نزل المطر، أنسوا برحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالإبلاس هو الإياس إياس من رحمة الله، سمي إبليس لإياسه من رحمة الله، نسأل الله السلامة والعافية.
(وَأَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مَذْمُومًا مَدْحُورًا إِلَى الْأَرْضِ فَسَأَلَ اللَّهَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَأَنْظَرَهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَل عَلَى مَنْ عَصَاهُ. فَلَمَّا أَمِنَ الْهَلَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَمَرَّدَ وَطَغَى).
لأن الله أنظره ابتلاء وامتحان، ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي﴾ أعطاه البقاء، فلما أمن أنه باقي إلى يوم القيامة استغل عمره قال هذه المدة الطويلة الدعوة إلى الباطل، والدعوة هي الكفر والضلال، وأن يكون قوادًا للباطل ولك شر، وأن يكون مفسدًا وداعيًا للباطل، وداعيًا أتباعه إلى كل شر، ولهذا أقسم للرب أنه سيضل الناس وسيهلكهم، وسيأتيهم من جميع الجهات، من بين أيديهم وعن أيمانهم.... وأنه لا يكون أكثر الناس شاكرًا، قال تعالى ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ قال هذا ظنه فوقع، ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ اتبعه أكثر الناس إلا القلة، صدق عليهم قال هذا بظنه، وفي آيةٍ أخرى ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ أكثرهم غير مؤمن والقليل هو المؤمن، صدق عليهم ظنه، قال هذا بظنه ولهذا وقع.
(فَلَمَّا أَمِنَ الْهَلَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَمَرَّدَ وَطَغَى وَقَالَ: {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} كَمَا قَالَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 62]).
الإشارة لآدم ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ﴾.
(وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَثْنَوْنَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 65]).
هم الفريق من المؤمنين وهم القليل من الشاكرين، وهم المستثنون في قوله ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ هم عباد الله المخلصين وهم العباد المؤمنين، وهم القلة من الشاكرين.
(وَقَوْلُهُ: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} قَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ بِرَفْعِ "الْحَقُّ" الْأَوْلَى وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا الْحَقُّ، وَالْحَقُّ أَقُولُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَأَقُولُ الْحَقَّ).
﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ فأنا الحق أو الحق قولي التقدير، أنا الحق: تكون خبر والمبتدأ محذوف، أو الحق قولي تكون مبتدأ، والحق أقول: الحق منصوب مفعول مقدم، فأنا الحق وأقول الحق.
(وَقَرَأَ آخَرُونَ بِنَصْبِهِمَا.
قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السَّجْدَةِ: 13] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 63].
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}.
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَهَذَا النُّصْحِ أَجْرًا تُعْطُونِيهِ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أَيْ: وَمَا أَزِيدُ عَلَى مَا أَرْسَلَنِي اللَّهُ بِهِ، وَلَا أَبْتَغِي زِيَادَةً عَلَيْهِ بَلْ مَا أُمِرْتُ بِهِ أَدَّيْتُهُ لَا أَزْيَدُ عَلَيْهِ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ).
هذه وظيفة الرسل، كل نبي يقول لقومه ﴿مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ يعني ما أسألكم شيء من أمور الدنيا إن أجري على الله، قال تعالى ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ثم قال ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
الأنبياء كلهم هكذا لا أسألكم شيء من الدنيا أجرنا على الله، إنما ندعوكم لله -عَزَّ وَجَلَّ-.
(قَالَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ من العلم أن يقول الرجل لما لا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أخرجاه من حديث الأعمش به).
يبين للناس أن الإنسان أن لا يتكلف، وهذا قاله في سورة الدخان لما رأى الناس يُحدثون عن الدخان الذي يخرج في آخر الزمان، قال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لا ينبغي للإنسان أن يتكلف، إن الله قال ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ من كان عنده علمٌ فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم، ولا أعلم نصف العلم، لأن العلم نوعان:
- نوعٌ تعلمه.
- ونوعٌ لا تعلمه.
فالذي لا تعلمه تقول: الله أعلم، نصف والذي تعلمه نصفٌ آخر، ولهذا قال من أخطأ لا أعلم أصيبت مقادره.
فإذا سأل عن شيء لا يعلمه فليقول لا أعلم أو يحيل السائل أو يقول أمهلني أو يقول أمهلني أو يحيله إلى غيره من أهل العلم، أو يقول أمهلني أراجع المسألة، لا يتكلم بغير علم.
عبد الله بن مسعود أنكر على من تكلم في الدخان وفسره بأنه دخان يخرج في آخر الزمان، قال: وإنما الدخان هو الذي أصاب الناس في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصاب قريش لما ردوا دعوته دعا عليهم بسني كسني يوسف فأصابهم الجذب حتى الإنسان كان يرى ما بينه وبين الدنيا كهيئة الدخان من الجوع، وأنكر على من قال: أن الدخان آخر الزمان، وهذا خفي على عبد الله بن مسعودـ فإن الدخان دخانان:
- دخان أصاب قريش.
- ودخان يأتي آخر الزمان.
كما دلت على ذلك الأحاديث من أشراط الساعة الكبار، وهو دخانٌ يملأ ما بين السماء والأرض يصيب المؤمن كهيئة الزكام، والكافر والمنافق يدخل في منخريه وفمه حتى يصيبه شدة، هذا جاء في الأحاديث، ولكن خفي عن عبد الله بن مسعود-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وعلم الدخان الذي أصاب قريش.
فعبد الله بن مسعود يقول: لا يتكلف الإنسان وأن الله قال لنبيه قل ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ من علم شيء فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم، هذا من العلم.
(وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي: الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19]، [وَكَقَوْلِهِ] {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُودٍ: 17].
وَقَوْلُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أَيْ: خَبَرَهُ وَصِدْقَهُ).
القرآن ذكر وبيان للعالم جميعًا، والعالم ما سوى الله، ولكن الجمادات والحيوانات غير مكلفة، يبقى الجن والإنس ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ ذكر وتذكير، وفي آيةٍ أخرى ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ فالقرآن نذارةٌ له، ولهذا من بلغ القرآن قامت عليه الحجة، ومن لم يبلغ لم تقم عليه الحجة ﴿لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾، فمن بلغه القرآن قامت عليه الحجة، ومن لم يبلغه القرآن يبقى من أهل الفترات يُمتحن يوم القيامة.
({بَعْدَ حِينٍ} أَيْ: عَنْ قَرِيبٍ. قَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ، عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سورة "ص"، ولله الحمد والمنة).
نعم في البرزخ وإن كان الدار مستقلة بين دار الدنيا إلا أنها متصلة بالآخرة فمن مات قامت عليه القيامة ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ يعني خبر هذا تعلمون بعد الموت وفي يوم القيامة.
(قَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ، عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ.
آخَرُ تَفْسِيرِ سورة "ص"، ولله الحمد والمنة).