شعار الموقع

سورة الزمر - 3

00:00
00:00
تحميل
52

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.

قال الإمام ابن كثير –رحمه الله تعالى- في تفسيره العظيم، عند تفسير سورة الزمر: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الزمر:21-22].

قال رحمه الله تعالى: يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفُرْقَانِ:48] ، فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَن فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ تَعَالَى فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَمَا يَشَاءُ، ويُنِبُعه عُيُونًا مَا بَيْنَ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ}.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ عُتْبَةُ بْنُ يَقْظَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ} ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَكِنْ عروق في الأرض تُغَيِّرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ} ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فَلْيُصَعِّدْهُ.

وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: أَنَّ كُلَّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَأَصْلُهُ مِنَ السَّمَاءِ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَصْلُهُ مِنَ الثَّلْجِ يَعْنِي: أَنَّ الثَّلْجَ يَتَرَاكَمُ عَلَى الْجِبَالِ، فَيَسْكُنُ فِي قَرَارِهَا، فَتَنْبُعُ الْعُيُونُ مِنْ أَسَافِلِهَا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أَيْ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ زَرْعًا {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أَيْ: أَشْكَالُهُ وَطُعُومُهُ وَرَوَائِحُهُ وَمَنَافِعُهُ، {ثُمَّ يَهِيجُ} أَيْ: بَعْدَ نَضَارَتِهِ وَشَبَابِهِ يَكْتَهِلُ {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}، قَدْ خَالَطَهُ اليُبْس، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أَيْ: ثُمَّ يَعُودُ يَابِسًا يَتَحَطَّمُ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} أَيِ: الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا فَيَعْتَبِرُونَ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا هَكَذَا، تَكُونُ خَضرةً نَضِرَةً حَسْنَاءَ، ثُمَّ تَعُودُ عَجُوزا شَوْهَاءَ، وَالشَّابُّ يَعُودُ شَيْخًا هَرِما كَبِيرًا ضَعِيفًا [قَدْ خَالَطَهُ الْيُبْسُ]، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَوْتُ. فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ حَالُهُ بَعْدَهُ إِلَى خَيْرٍ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ، وَيُنْبِتُ بِهِ زُرُوعًا وَثِمَارًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ حُطاما، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الْكَهْفِ:45] .
وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}.

بسم الله، والحمد لله على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، هذه الآية الكريمة بين الله –سبحانه- حال الدنيا، ضرب الله هذا المثل بأنه -سبحانه وتعالى- ينزل الماء من السماء، ثم يستقر في الأرض ويسلك ينابيع في الأرض ثم ينبع عيونًا جارية، وكذلك الثلج التي في الجبال تبع من سافلها، ثم يخرج به زرعًا خضرًا يعجب الناس لنضارته، ثم بعد مدة يكتهل لكي يكون كهلًا، كالإنسان الذي ينتقل من الشباب إلى الكهولة، ومن الكهولة إلى الشيخ وهو الهرم، يكتهل ثم بعد ذلك ييبس، يكتهل: يعني يصاب بالصفرة مع اليبس، ثم ييبس يبسًا كاملًا ويتحطم ويكون حطامًا.

وهكذا مثلًا الدنيا: تكون حلوة خضرة ثم بعد ذلك تزول عن الإنسان أو يزول عنها، وهكذا عمر الإنسان: يكون شابًا ثم كهلًا، ثم شيخًا هرمًا، ثم الموت بعد ذلك، هذا فيه العبرة، العبرة لأصحاب العقول الذين أرشدتهم عقولهم للاعتبار والنظر والتأمل والاستعداد للآخرة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

قال الله تعالى في الآية الأخرى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد:20].

قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24ٍ].

وقال تعالى في الآية التي استشهد بها المؤلف، وهي آية الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} هكذا يضرب الله الأمثال، ضرب الله تعالى الأمثال للناس للعبرة والتذكر، وأن مصير كل شيء إلى الزوال والفناء، ولا يبقى إلا الله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن:27]، وما يبقى إلا الله، وما عدا الله فهو زائل إذا ما كتب الله له البقاء.

وإذا قضى الله ونفخ في الصور مات كل شيء، إلا ما كتب الله له البقاء (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)[الزمر:68]، من استثناه الله من الحور والولدان ومن كتب الله له البقاء.

وهكذا يعتبر أولوا الألباب وأصحاب العقول السليمة يعتبرون ويتعظون، ويعلمون أن هذه الحياة الدنيا زائلة، وكلنا يعلم أنها زائلة، كلنا يعلم حتى الكفار وغيره أنها زائلة، ولكن من الذي يعتبر ويتذكر وتنفعه العبرة ويستعد للآخرة هذا يكون قليل، وإلا الكل يعلم الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، الكل يعلم أنهم ميتون وأنهم زائلون، ولكن الموفق هو الذي يعتبر ويستعد للقاء الله –عز وجل- (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) ليس لكل أحد (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[الزمو:21]: أصحاب العقول السليمة التي أرشدتهم عقولهم إلى التذكر والاتعاظ والاعتبار، والاستعداد للقاء الله –عز وجل- أسأل الله أن يلهمكم البصيرة.

ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ هُوَ قَاسِي الْقَلْبِ بِعِيدٌ مِنَ الْحَقِّ؟! كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الْأَنْعَامِ:122]؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: فَلَا تَلِينُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَلَا تَخْشَعُ وَلَا تَعِي وَلَا تَفْهَمُ، {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.

لا شك أن المثل واضح (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) مقارنة (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ): أفمن شرح الله صدره للسلام لنور الإيمان، وحي بطاعة الله –عز وجل- وكان خادمًا لله –عز وجل- يخدم بطاعة الله ومستعد للقاء الله، كمن هو قاسي القلب لا يلين، ولا يدخل إليه شيء من النور والإيمان فلا يرعوي ولا ينتبه لوعظ ولا ينزجر، فهو قاسي القلب لا يستويان (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ).

(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، أي فمن شرح الله صدره للإسلام كمن هو قاسي القلب، لم يستمعوا إلى نور الإسلام، هل يستويان؟ لا يستويان (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، ولشدة العذاب والهلاك (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ): الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يتعظوا ولم ينزجروا وماتوا على الكفر ويل لهم من شدة العذاب والهلاك، (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، في ضلال بعدهم عن الحق.

مبين: بين واضح لكل أحد، قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:125]، (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ): ينشرح وينفسح الإسلام، ويستنير بنور الإسلام ويقبل الحق ويعمله، ويستعد للعمل الصالح.

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ): لا يقبل الحق، تعظه وتتكلم معه، فلا يقبل، ولا يلين ولا يخشع، ولا يرعوي، قد يسهر ويستهزأ بالناصح والواعظ؛ لأن قلبه مقفل نسأل الله العفو والعافية.

نجعل صدره ضيق حرجًا انفسح بنور الإسلام محجوب نسأل الله العفو والعافية، كما قال الله تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)[فصلت:5]، (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) مقفل عليها.

(مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ): صدأ. (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ): حجاب معلوم، منع من قبول الحق. (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) نسأل الله السلامة والعافية.

ثم قال تعالى: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}[الزمر:23].

هَذَا مَدْحٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-لِكِتَابِهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ مَثَانِي.

وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ تُشْبِهُ الْآيَةَ، وَالْحَرْفُ يُشْبِهُ الْحَرْفَ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {مَثَانِيَ} تَرْدِيدُ الْقَوْلِ لِيَفْهَمُوا عَنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: ثنَّى اللَّهُ فِيهِ الْقَضَاءَ -زَادَ الْحَسَنُ: تَكُونُ السُّورَةُ فِيهَا آيَةٌ، وَفِي السُّورَةِ الْأُخْرَى آيَةٌ تُشْبِهُهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {مَثَانِيَ} مُرَدَّد، رُدِّد موسى في القرآن، وصالح وهود وَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَثَانِيَ} قَالَ: الْقُرْآنُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُرَدُّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وُيرْوى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} أَنَّ سِيَاقَاتِ الْقُرْآنِ تَارَةً تكونُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَتَارَةً تكونُ بِذِكْرِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ الْكَافِرِينَ، وَكَصِفَةِ الْجَنَّةِ ثُمَّ صِفَةِ النَّارِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهَذَا مِنَ الْمَثَانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارِ:14، 13]، وَكَقَوْلِهِ {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [الْمُطَفِّفِينَ:7]، إِلَى أَنْ قَالَ: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [الْمُطَفِّفِينَ:18]، {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:49]، إِلَى أَنْ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55]، وَنَحْوِ هَذَا مِنَ السِّيَاقَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَثَانِي، أَيْ: فِي مَعْنَيَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ:7]، ذَاكَ مَعْنًى آخَرُ.

وَقَوْلُهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ  وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ.

مع الكفار من الفساق سماع نغمات الأصوات المغنين والمغنيات، والأبيات الشعرية التي تتردد في الغنى، وأما المؤمنون فسماعهم سماع الآيات القرآنية، بالصوت الحسن الجميل، كما كان موسى الأشعري كان صوته حسنًا، سماع المؤمنين، فسماعهم سماع الآيات القرآنية، الصوت الحسن الجميل كما كان أبو موسى الأشعري أوتي صوتًا حسنًا وكان النبي يستمع إلى قراءته، هذا سماع المؤمنين سماع الآيات. وأما سماع الفساق: فهو سماع الفساق فهو سماع الأبيات المطربة التي يترنوا بها.

مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.

بخلاف.

أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات الِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.

 الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ:2-4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الْفُرْقَانِ:73] أَيْ: لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ سَمَاعِهَا مُتَشَاغِلِينَ لَاهِينَ عَنْهَا، بَلْ مُصْغِيينَ إِلَيْهَا، فَاهِمِينَ بَصِيرِينَ بِمَعَانِيهَا؛ فَلِهَذَا إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَيَسْجُدُونَ عِنْدَهَا عَنْ بَصِيرَةٍ لَا عَنْ جَهْلٍ وَمُتَابَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ [أَيْ يَرَوْنَ غَيْرَهُمْ قَدْ سَجَدَ فَيَسْجُدُونَ تَبَعًا لَهُ].

 الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ.

في خلاف التابعين ومن بعدهم فإنهم تصيبهم الغشية والصراخ، والصحابة أحسن حال منهم، ما وجد من الصحابة مثل ما حصل لبعض التابعين وجد من مات، وجد من صعق ومات ببعض الآيات، عندهم ثبات، الصحابة عندهم ثبات سكون إيمانية توجل قلوبهم وتطمئن، والنبي –صلى الله عليه وسلم- تسمع لصوته صوته عزيز (27:13)، وكذلك الصديق كان لا يملك عينيه من البكاء لكن عندهم ثبات، لكن ما يحدث له صعق وموت مثل ما حصل لبعض التابعين، يصعق ويموت وصراخ وأصوات هذا ما حصل، الصحابة أكمل منهم أكمل حال منهم ثبات، توجل قلوبهم لذكر الله، وجل خشية، بكاء العنين (27:42) النبي –صلى الله عليه وسلم- الصدر لكان عندهم ثبات.

لكن وجد في التابعين من تجاوز هذا، صار بعض التابعين يسمع أغاني ويصعق ويموت، وبعضهم يكون له صراخ بصوت، فالصحابة أكبر حالة منهم، والنبي –صلى الله عليه وسلم- هو القدوة والأسوة في هذا.

بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

يعني بلغوا الغاية حصلوا على الثواب العظيم والأجر الكبير والجائزة الكبيرة.

وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

رضي الله عنهم وأرضاهم.

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ، وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ.

مثل ما حصل لبعض التابعين، الغشي عليه أو صعق، غشي عليه مدة ولا يفوق إلا بعد مدة، وارد أن يموت، أو يحصل له صراخ.

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، قَالَ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ، وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَقَالَ السُّدِّي: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: إِلَى وَعْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ: هَذِهِ صِفَةُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرَّعْدِ:33].

(اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، وصف الله تعالى كتابه بأنه أحسن الحديث، وأحسن الكتب وأفضلها، وأعلاها الكتب المنزلة التوراة كتاب عظيم أنزله الله على موسى، وهو يلي القرآن، وكثيرًا ما يقرنه الله تعالى بينه وبين القرآن كما قال الكفار: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)[القصص:45-48].

فالله تعالى يقرن بين التوراة، وبين القرآن فهما كتابان عظيمان فيهما الأحكام، وفيهما النور، وفيهما الهدى، التوراة فيها أحكام بيني إسرائيل، وبني إسرائيل أهم أمرهم الله أن يخرجوا الكتاب بقوة، والتوراة، والقرآن هو كتاب العظيم الذي هو أنزله على نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-، وهو آخر الكتب وأعلاها، والمهين عليها والحاكم عليها، وأنزل الله الزبور على عيسى، على داود فيه مواعظ، وعبر وكذلك أنزل الله صحف على إبراهيم، وصحف على موسى، فالقرآن أحسنها، (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أحسن الكتاب متشابهًا، فالمتشابه يشبه بعضه بعضًا ويوافق بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، فإذا أخبر بخبر لم يخبر خلافه، وإنما يخبر ما يوافقه.

وإذا نهى عن شيء لم يأتي بما يثبته وإنما ينفيه أو يلفظه، فهو متشابه: يعني يشبه بعضه بعضًا ويوافق بعضه، ويصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا المتشابه في الصدق والموافقة والاتفاق، يوافق بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، فإذا أمر بشيء لم يأمر بضده في موضع آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بخلاف الكتاب المختلط، أن يكون الكتاب مختلف ضد المتشابه المختلف، الذي يخالف بعضه بعضًا، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)[الذاريات:8]، ضد المتشابه المختلف، يخالف بعضه بعضًا (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء:82].

فالكلام المختلف هو الذي تجده متناقض، الكلام المختلف تجد متناقض، يأمر بالشيء في مكان ثم يأمر بضد في مكان آخر، ينهى عن شيء ثم يأمر به في موضع آخر، يخبر عن شيء ثم يخبر بنقيضه في مكان آخر، هذا المختلف المتناقض.

أما القرآن فهو متشابه يعني متوافق يوافق بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، ويؤيد بعضه بعضًا، فإذا أمر بشيء لم يأمر بنفيه في موضع آخر، وإنما يأمر به أو بنظيره، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، وإذا أخبر بشيء لم يخبر بضده في موضع آخر، وإنما يخبر به أو بنظيره يوافق بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا، ويؤيد بعضه بعضًا ويصل بعضه بعضًا، هذا المتشابه.

أما قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) هذا معنى آخر، المعنى أنه يشتبه على بعض الناس، ولا يشتبه على العلماء، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)[آل عمران:7].

والراسخون يعلمون تأويله، متشابهات: يعني متشابهة على بعض الناس، متشابه على بعض الناس دون بعض، أما المتشابه هنا المتوافق الذي يصدق بعضه بعضًا يوافق بعضه بعضًا، يؤيد بعضه بعضًا مثاني: يثنى، تذكر آيات الترغيب وآيات الترهيب، (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ)[الحجر:49،50] تذكر الآية أوصاف المؤمنين ثم تذكر بعدها أوصاف الكافرين، وهكذا تثنى الآيات تذكر صفة أهل الجنة وصفة أهل النار، صفة الجنة وصفة النار (مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، تقشعر وتلين وتوجل من ذكر الله –عز وجل- هذه صفات المؤمنين تقشعر وتوجل وجلت قلوبهم (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]، (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ليس كل أحد الذين يخشون ربهم هم الذين تقشعر جلودهم إلى ذكر الله.

ثم تلين جلودهم (مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه) له الحكمة البالغة، وله الفضل والمنة على عباده فيهديهم، وله الحكمة في غالب الأمر، يضل من يشاء بعدله وحكمته، ويهدي من يشاء بفضله ومنته، (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) فمن أضله الله فلا أحد يهديه؛ لأن الهداية بيد الله –عز وجل-.

والله تعالى يعلم الذوات التي تصلح لغرس الكرامة فيوفقهم، ويعلم الذوات التي لا تصلح لغرس الكرامة فيضلهم لعدله وحكمته، ويهدي من وفقهم الله في رحمته وحكمته(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) من يضلل الله فلا هاد، من أضله الله فلا هادي له، ومن هداه الله فلا مضل له، الرسول في خطبته كان يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له.

ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}.

كتاب الزبور مواعظ وعبر، داود وسليمان والأنبياء كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة، الله تعالى أنزل التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا، الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا)[المائدة:44]، أما كتاب الزبور مواعظ وعبر، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، كيف لمن أيقن بالدنيا وزوالها كيف يطمئن إليها، عجبت للجنة كيف نام طالبها، عجبت للنار كيف نام هاربها، مواعظ وعبر.

كان أوتي صوتا حسنًا مزمارًا، المزمار يطلق على الصوت، فالصوت الحسن يقال له مزمار، والصوت السيء يقال له مزمار أيضًا هذا وهذا، أتاه الله داود مزمار صوت حسن، فكان إذا قرأ التوراة تقف الطيور في جو السماء وتستمع  وتجاوبه الجبال، (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ:10]، وأبو موسى الأشعري، قالوا فيه: أوتي مزمارًا من مزامير آل داود، يعني أن داود أتاه الله صوتًا حسنًا، وأبو موسى الأشعري أتاه الله صوتًا حسنًا مثل ما أتى داود.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد