شعار الموقع

العقيدة الطحاوية 7 تابع الكلام على صفة الكلام - إلى قوله وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصَفَاتِهِ لَيْسِ كَالبَشَرِ

00:00
00:00
تحميل
167

الشبه الشرعية:

من الشبه الشرعية التي استدلوا به على أن القرآن مخلوق: قول الله : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الرعد آية: 16]، ووجهُ الاستدلال: أنهم قالوا: إن «كل» من صيغ العموم فتعم كل شيء، ويدخل في هذا العموم: صفةُ الكلام؛ فيكون القرآن مخلوقًا.  

وقد أجاب أهل السنة والجماعة عن هذه الشبهة بأجوبة؛ منها:  

الجواب الأول: أن اسم الخالق يشمل الذات والصفات؛ فصفاته ليست خارجة عن مسمى ذاته، فالله بذاته وصفاته؛ هو الخالق، وكلامُه صفة من صفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه، فالله هو الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق.  

وعلى ما سبق فيقال للمعتزلة: كيف أدخلتم كلامَ الله الذي هو صفة من صفاته في هذا العموم، وأخرجتم أفعالَ العباد؛ فقلتم: إن الله لم يخلقها؟! هذا يدل على أنكم أهل هوى، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الرعد آية: 16]؛ فهو خالق الذوات والصفات والأفعال، وأفعال العباد داخلة في هذا العموم؛ فتكون مخلوقة، فكيف أخرجتموها عن عموم «كل» وأدخلتم في هذا العموم الكلام الذي هو صفة من صفاته؟!!

الجواب الثاني: أن الكلام صفة من صفات الله، به تكون المخلوقات، فالله تعالى يخلق بالكلام؛ قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس آية: 82]، وقد فرَّق اللهُ بين الخلق والأمر فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [سورة يس آية: 82]، فالخلْق شيء، والأمر شيء آخر، فلو كان الكلام مخلوقًا، ولو كان الأمر مخلوقًا: للزم أن يكون مخلوقًا بأمرٍ آخر، والآخرَ بآخر إلى ما لا نهاية، فيلزم التسلسل؛ وهو باطل.  

ويتبين بهذا: أن الكلام صفة من صفات الله؛ به تكون المخلوقات؛ لأن الله يخلق كل شيء. 

والجواب الثالث: أن عموم «كل» في كل موضع بحسبه؛  يبيّن هذا قولُ الله في الريح التي أهلك بها عادًا: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف آية: 25]، فهي لم تدمر المساكن، ولم تدمر السماوات والأرض كما قال تعالى: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [سورة الأحقاف آية: 25]، فالمعنى -والله أعلم- تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأحقاف آية: 25] يصلح للتدمير، أو يستحق التدمير عادة؛ فالعموو في كل موضعٍ بحسبه.  

وَمِثْلُ قولِ الله عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل آية: 23]، فهناك أشياء ما أُوتِيَتْهَا، والمعنى -والله أعلم-: وأوتيت من كل شيء يصلح للملوك؛ فكذلك عموم «كل» في هذه الآية الكريمة هو بحسبه؛ فالمراد من قوله : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي: الله خالق كل شيء مخلوق، ولا يدخل في ذلك صفات الله، ولا يدخل في ذلك الكلام؛ لأنه صفة من صفاته؛ داخل في مسمى اسمه.  

الجواب الرابع: على مذهب المعتزلة أنه يلزم أن تكون جميعُ الصفات: من العلم، والقدرة، والحياة، مخلوقة، وهذا صريح الكفر.

الشبهة الشرعية الثانية:

ومن شبههم الشرعية التي استدلوا بها قول الله -تعالى-: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الزخرف آية: 3]، فقالوا: (جعل) بمعنى خلق، والمعنى: إنا خلقناه قرآنًا عربيًّا؛ وهذا يدل على أن القرآن مخلوق. 

أجاب أهل السنة:

بأنه استدلال باطل؛ لأن (جعل) إنما تكون بمعنى خلق إذا تعدت إلى مفعول واحد لا إلى مفعولين؛ فإذا تعدت إلى مفعول واحد؛ كانت بمعنى (خلق) كقوله -تعالى-: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [سورة الأنبياء آية: 30]، وكقوله -تعالى-: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [سورة الأنبياء آية: 31]، وكقوله -تعالى-: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [سورة الأنبياء آية: 31]، وكقوله -تعالى-: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [سورة الأنبياء آية: 32]، وكقوله -تعالى-: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام آية: 1].

أما إذا تعدت إلى مفعولين؛ فلا تكون بمعنى خلق، كما في هذه الآية التي احتجوا بها؛ وكما في قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [سورة النحل آية: 91]، فلو فُسّرتْ (جعل) بمعنى خلق؛ لفسد المعنى، فهل يستطيع معتزليٌّ أن يقول: المعنى: وقد خلقتم الله كفيلًا؟! وكقوله -تعالى-: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [سورة الحجر آية: 91]؛ هل يقول المعتزلي: الذين خلقوا القرآن عضين؟! وكقوله -تعالى-: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة آية: 224]، هل يمكن أن تُفَسَّر (جعل) بمعنى خلق؛ وكذلك في هذه الآية التي احتجوا بها: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [سورة الزخرف آية: 3] لا تكون بمعنى (خلق)، وبهذا يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية.  

الشبهة الشرعية الثالثة:

استدلوا بقول الله : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة الحاقة آية: 40]؛ قالوا: وجه الدلالة: أن الله أخبر أن القرآن قولُ رسول؛ فدل على أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله؛ لأن الله نسبه إلى الرسول، والله خلق الرسول، وخلق كلامه؛ فيكون القرآن مخلوقًا.  

أجاب أهل السنة عن هذه الشبهة بأجوبة منها:  

الجواب الأول: أن الله تعالى قال: لَقَوْلُ رَسُولٍ [سورة الحاقة آية: 40]، والرسولُ إنما يبلِّغ عن الـمُرْسِل، فلم يقل: إنه قول نبي، بل قال: قول رسول؛ والرسول لا ينشئ الكلام، وإنما يبلغ كلام غيره، فدل على أن الكلام كلامُ الله.  

الجواب الثاني: أن الرسول جاء في موضعين من كتاب الله : في سورة «التكوير» في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [سورة التكوير آية: 19- 20]، والمراد به هنا: الرسول الملكي؛ وهو جبريل، وجاء في سورة «الحاقة» في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [سور الحاقة آية: 40- 42]، والمراد به هنا: الرسول البشري؛ وهو محمد -عليه الصلاة والسلام -، فأيُّ الرسولين -على زعمكم أيها المعتزلة- أحدَثَ نَظْمَ القرآن؟! إنْ أحدثه محمدٌ؛ امتنع أنْ يـُحْدِثَهُ جبريلُ، وإنْ أحدثَهُ جبريلُ امتنع أنْ يـُحْدِثَهُ محمد؛ وهذا يدل على بطلان قولكم، ويدلُّ على أن المراد: أن الرسول مبلِّغ، والله تعالى تكلم بالقرآن، وسمعه جبرائيل وبلَّغه محمدًا، ثم قرأه محمد -عليه الصلاة والسلام -وبلَّغه الأمةَ.  

رابعًا: أنه قال في وصفه: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [سورة التكوير آية: 21] كما في سورة «التكوير»؛ وَوَصْفُهُ بالأمانة يدل على أنه يبلغ ما أُرسل به، كما أُنـزل، لا يزيد، ولا ينقص، فجبريل يبلِّغه كما سمعه من الله ، على ما أُرْسِلَ به؛ لا يزيد فيه، ولا ينقص منه.  

خامسًا: أن قولكم: إن محمدًا أحدث نظمَ القرآن؛ هذا القول يجعله داخلًا في الوعيد الذي توعد الله به الوليدَ بنَ المغيرة، الذين قال الله عنه:  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ۝ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [سورة المدثر آية: 18- 26]، فالله توعد من قال: (إنْ هذا القرآن إلا قول البشر) بأن يصليه سقر، فمن قال: إن القرآن قول محمد، ومحمد بشر -عليه الصلاة والسلام- فهو داخل في هذا الوعيد، فيكون المعتزلة داخلين في هذا الوعيدأيضًا.

أدلة أهل السنة على أنَّ القرآن كلام الله:

من أدلة أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله: أن الله أخبر بأنه منـزل؛ قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة غافر آية: 2]، وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت آية: 2]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل آية: 102]. فهذه النصوص صريحة في أن القرآن منـزل.

واعترض المعتزلة على هذه النصوص التي فيها أن القرآن منـزل؛ قالوا: إن الإخبار عن القرآن أنه منـزل لا يمنع أن يكون مخلوقًا؛ لأننا نجد أن بعض المخلوقات أخبر الله عنها بأنها منـزلة وهي مخلوقة، وقد اتفقتم معنا يا أهل السنة على أنها مخلوقة، فالله تعالى قال عن الحديد: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد آية: 25]، فالله أخبر عن الحديد أنه منـزل؛ ومع ذلك فهو مخلوق؛ وأنتم توافقوننا على هذا، وقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر آية: 6]، فأخبر الله عن الأنعام بأنها منـزلة؛ وهي مخلوقة، وأنتم توافقوننا على هذا، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [سورة المؤمنون آية: 18]، فأخبر الله أنه أنـزل من السماء ماءً، والمطرُ مخلوق، وأنتم توافقوننا على هذا؛ فكذلك القرآن مخلوق؛ ولو أخبر الله بأنه منـزل، فلا يمنع أن يكون مخلوقًا.  

أجاب أهل السنة على هذا الاعتراض:    

أن هناك فرقًا بين إنـزال القرآن وإنـزال الحديد والأنعام والمطر؛ فإنـزال القرآن صريح في الآيات أنه منـزل من عند الله لا من غيره؛ قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت آية: 2]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل آية: 102]، فهو صريح بأنه منـزل من عند الله.

أما الحديد فإن إنـزاله مطلق فلم يخبر الله أن الحديد منـزل من عنده، وذلك: أن الحديد إنما يؤخذ من الجبال، والجبال عالية على وجه الأرض؛ وكلما كان أَخْذُ الحديدِ من أعلى الجبل؛ كان حديده أجود؛ فالمقصود الإنـزال من الجبال.

والأنعام أخبر الله أنها منـزلة: قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر آية: 6]، وذلك أن الأنعام إنما تخلق بالتوالد، والتوالد يستلزم إنـزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ثم الأجنة تنـزل من بطون الأمهات على وجه الأرض؛ فهذا إنـزال.  

وأما إنـزال المطر؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ [سورة المؤمنون آية: 18] هو مقيد بأنه من السماء، والسماء من جهة العلو، وفي الآية الأخرى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا [سورة النبأ آية: 14]، والمعصرات السحاب، والآية الأخرى: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ [سورة الواقعة آية: 69] والمزن هو السحاب، فتبين بهذا؛ الفرقُ بين إنـزال القرآن، وإنـزال الحديد والأنعام والمطر.

هذه أمثلة لشُبَهِ المعتزلة، وهذه الشبه موجودة ومُدَوَّنَة في الكتب وفي التفاسير؛ فإنك لو طالعتَ «الكشاف» للزمخشري أو غيره، تجد فيها هذه التأويلات، وقد ذكرناها ليكون طالب العلم على بصيرة من أمره، فإذا عرف بعض الأمثلة، قاس عليها بقية الأمثلة.  

مناقشة أدلة الأشاعرة في كلام الله والقرآن:  

ننتقل بعد هذا إلى شبه الأشاعرة، والأدلة التي استدلوا بها على تقرير مذهبهم في كلام الله، وهم طائفة كبيرة يسمون أنفسهم «أهل السنة»، وتأويلاتهم موجودة ومنتشرة في كتب الفقه وكتب الأصول والتفاسير التي يتداولها الناس، ويتدارسونها في كثيرٍ من المؤسسات العلمية وغيرها، وهم ينافسون أهل السنة في كثير من الأزمان؛ فلا بد لطالب العلم أن يكون على إلمام بحقيقة مذهب الأشاعرة، وبيان بعض الشبه التي يركزون عليها.

حقيقة مذهب الأشاعرة:

يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس؛ ليس بحرف ولا صوت، والله تعالى لا يُسْمَع منه الكلامُ، بل الكلام معنى قائم بنفسه؛ لا يُسْمَعُ.  

وأما الموجود في المصاحف فهذا عبارة عن كلام الله، عبَّر به جبريل، أو عبَّر به محمد ﷺ، ويُسمَّى ما في المصحف كلام الله مجازًا، ولهذا إذا قلتَ لبعض الأشاعرة -عند التسامح-: المصحف فيه كلام الله، يقولون: المصحف كلام الله، لكن عند المناظرة وبيان حقيقة المذهب يقولون: لا ليس في المصحف كلام الله، لكن نسميه كلامَ الله مجازًا؛ لأنه تأدَّى به كلامُ الله؛ ولأنه دليل على كلام الله؛ أما كلام الله فهو معنى قائم بنفسه -ولهذا -والعياذ بالله- فبعضهم قد يجعل المصحف تحت قدميه، ويقول: ليس فيه كلام الله، نسأل الله السلامة والعافية-. وأما النظم المسموعُ المقروءُ في المصاحف فهو دليل على أن القرآن مخلوق.

فعلى هذا: يكون القرآن من شيئين أو كلام الله من شيئين: شيء له نصفان: نصف غير مخلوق؛ وهو المعنى القائم بنفس الرب، ونصفه الآخر مخلوق: وهو الحروف والكلمات التي يقرؤها القارئ.

وأمَّا كيف عرف جبريل ما في نفس الله؟ فلهم أقوال في ذلك، وبعضهم يقول: إن الله اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه اضطرارًا فعبَّر عنه، فالقرآن عبارة عبَّر بها جبريل، مثال ذلك: أن يكون عندك أخرس؛ لا يتكلم، فيشير إليك بالإشارة، ثم تفهم إشارته وتكتبها، فهؤلاء -والعياذ بالله- جعلوا الله كالأخرس -نسأل الله العافية-، وبعضهم يقول: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ.

وحقيقة مذهب الأشاعرة يوافق نصف مذهب المعتزلة؛ فالمعتزلة يقولون: القرآن مخلوق لفظًا ومعنًى، والأشاعرة يقولون: معناه غير مخلوق، ولفظه مخلوق.

كما أن الأشاعرة يشابهون النصارى في مسألة اعتقادهم في عيسى؛ فالنصارى يعتقدون أن عيسى مكون من شيئين: جزء من الإله، وجزء من الناس؛ اتحدا وامتزجا فصارا شيئًا واحدًا يقال له: المسيح عيسى ابن مريم. 

والأشاعرة لهم شُبَهٌ وأدلة حول مذهبهم، إلا أنها أوهى من بيت العنكبوت مثلهم في ذلك كمثل إخوانهم من الفرق الأخرى؛ فإن الأشاعرة يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأما الألفاظ والحروف والكلمات فدليل يُفهم بها المعنى القائم بنفس الرب؛ فإفهام المعنى القديم الذي هو في نفس الرب بواسطة الألفاظ والحروف والكلمات؛ يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى، كما أوضحناه.

من أدلة الأشاعرة على أن القرآن معنى قائم بالنفس لا يُسْمَع؛ ليس بحرف، ولا صوت، ولا لفظ:  

استدلوا بقول الله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة المجادلة آية: 8]، قالوا: وجه الدلالة أن الله قال: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [سورة المجادلة آية: 8]، فدل على أن القول إنما يكون في النفس، وأما الألفاظ والحروف والأصوات فليست من القول؛ فدل على أن كلام الله معنى قائم بنفسه.  

أجاب أهل السنة عن هذا بجوابين:  

الجواب الأول:  جواب بالمنع: وهو أن نقول: نمنع أن يكون المراد في الآية في قوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [سورة المجادلة آية: 8] المعنى القائم بالنفس، وإنما المراد القول سرًّا؛ أي: يقولون سرًّا ويتكلمون بألسنتهم سرًّا، كما قاله أكثر المفسرين؛ وذلك أن اليهود كانوا يأتون النبي ﷺ ويقولون: «السام عليك»([1])؛ والسام الموت، وهم يُظْهِرون أنهم يلقون السلام، ثم إذا خرجوا من عند النبي ﷺ قال بعضهم لبعض سرًّا: لو كان نبيًّا لعُذِّبنا بقولنا له الذي نقول، فأنـزل الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [سورة المجادلة آية: 8]، وهذا هو الذي عليه أكثر المفسرين، ويؤيده ما ثبت في «الصحيحين» في الحديث القدسي أن النبي ﷺ قال: فَإِنْ َذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. ([2])، معناه: ذكر الله سرًّا؛ بدليل قوله: وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ....

الجواب الثاني: جواب بالتسليم؛ وهو أن نقول: سلمنا جدلًا أن قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [سورة المجادلة آية: 8] قولٌ في النفس، وأنه ليس فيه حروف ولا كلمات؛ لكن الآية مقيدة بأنه قول في النفس، وإذا قيد القول بأنه في النفس تَقَيَدَ، ونظيره الحديث الصحيح: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ أَوْ تَعْمَلَ تَتَكَلَّمْ. ([3])، فإذا قيد القول بأنه في النفس تقيد، فهل قيد كلام الله أنه في النفس في قوله : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء آية: 164] هل قال الله: وكلم الله موسى في نفسه، فإذا لم يتقيد فلا يكون القول في النفس، وإنما يكون قولًا يتكلم به المتكلم؛ حروفًا وألفاظًا وكلمات.  

ومن أدلتهم:

الاستدلال ببيت من الشعر منسوب إلى الأخطل؛ وهو:

إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا


وجه الدلالة:

قالوا: إن هذا بيت عربي، والقرآن نـزل بلغة العرب، وأثبت الشاعر العربي أن الكلام إنما يكون في الفؤاد، أي: في النفس، وأما ما يكون في اللسان فالحروفُ والكلماتُ واللفظ.  

أجاب أهل الحق عن هذا الاستدلال بأجوبة:  

الجواب الأول: أنا لا نسلم أن هذا البيت للأخطل، فهذا البيت مصنوع مختَلق لا يوجد في ديوان الأخطل، وكثير من النحويين ينكرون نسبته إليه؛ فكيف تستدلون ببيت مصنوع مختلق لا أساس له من الصحة؟! وبهذا يبطل استدلالاتكم، كيف تصنعون بيتًا ثم تستدلون به على كلام الله وكلام رسوله؟!   

الجواب الثاني:  ولو سلمنا بصحة البيت جدلًا، وأن الأخطل قاله؛ لكنه قول واحد من أهل اللغة، فلا يُقبل حتى يوافقه أهل اللغة، فإذا كان حديث رسول الله ﷺ لا يقبل حتى يصح سنده وتُعَدَّل رواتُه، ولا يكون شاذًّا ولا معللًا؛ فكيف ببيت من الشعر لا يدرى من صاحبه؛ قاله واحدٌ ولم يوافقه أهل اللغة: فيكون شاذًّا.  

الجواب الثالث: سلمنا صحةَ البيت، وسلمنا نسبته إلى الأخطل، وسلمنا قبول أهل اللغة له، لكن ليس مقصود الشاعر بقوله: إن الكلام لفي الفؤاد: الكلام العاري عن الألفاظ والحروف والكلمات؛ بل مقصود الشاعر أن الكلام الحقيقي هو الذي يهيئه الإنسان في نفسه، ويزنه بعقله قبل أن ينطق به ويتروى فيه؛ أما الكلام الذي يجري على اللسان من دون تَرَوٍّ، ومن دون نظر؛ فهذا يشبه كلام النائم والهاذي؛ الذي لا قيمة له، ولهذا روي البيت برواية أخرى، وهي أقرب إلى الصحة:

إنَّ البَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا

رابعًا: سلمنا صحة البيت، وأنه للأخطل، وسلمنا موافقة أهل اللغة له، وسلمنا أن المراد بالبيت الكلام النفسي العاري عن الحروف والألفاظ؛ لكنه قول نصراني؛ لأن الأخطل نصراني، ومعلوم أن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام؛ فإن النصارى زعموا أن المسيح هو كلمة الله؛ أي كلمة «كن».   

وأهل السنة يقولون: ليس نفس الكلمة، إنما هو مخلوق بالكلمة، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران آية: 59]، فكيف تستدلون بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، وَيُترك ما يُعرِّفُ بمعنى الكلام من النصوص واللغة؟!

خامسا: سلمنا جدلًا الاستدلال بقول النصارى؛ لكن البيت يلزم عليه معنى فاسد؛ وهو أن يسمى الأخرس متكلمًا؛ لقيام الكلام بنفسه، وإن لم يتكلم به؛ والأخرس لا يسمى متكلمًا لا شرعًا، ولا عقلًا، ولا لغةً، ولا حسًّا، وبهذا يبطل استدلال الأشاعرة بهذا البيت.  

مناقشة أهل السنة للأشاعرة في أن كلام الله معنى واحد لا يتجزأ:    

ومما ناقش به أهلُ الحقِّ الأشاعرةَ القائلين: إن الكلام معنى واحد؛ لا يتعدد، ولا يتجزأ، ولا يتكثّر، والتعدد والتجزؤ والتكثر إنما هو في الدلالات والعبارات.  

ناقشوهم وأجابوهم عن قولهم هذا بأنَّ الله تعالى أخبر أن موسى سمع كلام الله، فهل سمع موسى جميع المعنى أو بعض المعنى؟ 

إن قلتم: سمع جميع المعنى؛ فقد زعمتم أن موسى سمع جميع كلام الله؛ وهذا باطل. وإن قلتم: سمع بعض كلام الله فقد قلتم بالتبعض وأبطلتم مذهبكم بأنفسكم؛ فلا محيد لكم عن هذيْن الإلزاميْن.  

ثانيًا:  أن يقال: لو كان الكلام معنى قائمًا بالنفس، كما تزعمون أيها الأشاعرة، وأن الدلالات والعبارات هي التي تختلف؛ للزم على ذلك لوازم فاسدة منها:

أولًا: أنْ يلزم على قولكم: إن الكلام معنى قائم بالنفس وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، أن يكون معنى قوله : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [سورة البقرة آية: 43] هو معنى قوله: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [سورة الإسراء آية: 32]، وأن يكون معنى آية الدين هو معنى آية الربا، وأن يكون معنى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص آية: 1]، هو معنى تَبَّتْ يَدَا [سورة المسد آية: 1]، وهذا باطل.

ثانياً:  لو كان الكلام معنى قائمًا بالنفس، وأن المصحف ليس فيه شيء من كلام الله؛ لجاز للمُحْدِث مس المصحف، وهذا خلاف ما أجمع عليه الأئمة الأربعة: أنه يجب على المحدث أن يتوضأ لِمَسِّ المصحف، كما جاء في الحديث الذي كتبه النبي ﷺ لعمرو بن حزم: أَلَّا يَمَسَّ القُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ. ([4]). ولو كان القارئ لا يقرأ كلام الله؛ لجاز للجُنُب أن يقرأه وهو لم يغتسل، وكذلك الحائض عند كثير من الفقهاء على الخلاف في المسألة.  

ويقال للأشاعرة: إن النصوص الكثيرة تبطل قولكم منها:

قول الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء آية: 88]؛ هل الإشارة تعود إلى ما في نفس الله، أو تعود إلى القرآن المتلو المسموع المكتوب في المصاحف؟! لا شك أن الإشارة تعود إلى القرآن المتلو بالألسن، المكتوب في المصاحف؛ لأن ما في نفس الله غير مشار إليه ولا متلو ولا مسموع.

وكذلك قوله: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ هل الضمير يعود إلى ما في نفس الله، أو إلى ما في هذا القرآن المتلو المكتوب في المصاحف؟! لا شك أنه يعود إلى ما في المصحف؛ لأن ما في نفس الله لا حيلة إلى الوصول إليه؛ فهو غير متلو، وغير مسموع، كذلك أيضًا قول الله : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [سورة التوبة آية: 6]؛ صريح في أن الذي يسمعه المشرك كلام الله، ولم يقل: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله كما تقولون.

ومن الأدلة أيضًا ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه ﷺ قال: إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ. ([5])، وحديث: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ. ([6]).

وقد أجمع العلماء على أن الإنسان المصلي لو تكلم في الصلاة عامدًا في غير مصلحتها؛ بطلت صلاته، وقد أجمعوا أيضًا على أن حديث النفس الذي يكون في القلب من تصديق بأمور دنيوية، وطلب؛ لا يبطل الصلاة، فدل على أن الكلام إنما هو لفظ ومعنى، والكلام الذي يتكلم به الإنسان بلسانه هو اللفظ والمعنى، وهو حروف وأصوات، فكلام الله لفظ ومعنى، وهو بحرف وصوت يُسْمَعُ. فهذا هو حَدُّ الكلام عند أهل اللغة.  

ومن الأدلة أيضًا:  ما ثبت في «الصحيحين» عن النبي ﷺ أنه قال: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلَ. ([7])؛ ففرَّق النبيُّ ﷺ بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أن الله عفا عن حديث النفس، وأن ما تكلم به الإنسان بلسانه لا يعفى عنه؛ فدل على أن الكلام لفظ ومعنى، حروف وأصوات.  

ومن الأدلة أيضًا: ما ثبت في «السنن» من حديث معاذ الطويل لما سئل النبيَّ ﷺ   عن عمل يدخله الجنة ويبعده عن النار قال: لَقَدْ سَأَلْتني عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدَ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصومُ رمضانَ، وَتَحُج البيت... ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلَّهِ؟ قُلتُ: بَلى يَا رسول الله. قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسانه. قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤِاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِمْ -أو عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. ([8]).

فأخبر النبي ﷺ أن الإنسان إنما يؤاخذ بما يتكلم به بلسانه، فدل على أن الكلام ألفاظ ومعان؛ حروف وأصوات، وكذلك كلام الله تكلم به، فكلامُ الله اسم للمعنى واللفظ جميعًا، والله تكلم به، وبهذا يتبين أن مسمى كلام الله: المعنى واللفظ جميعًا، وأن كلام الله بحرف وصوت يُسمع. والحق: أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلهم من كلام الله، وكلام الله لا يتناهى، ولو مُدَّ البحر بسبعة أبحر، وجُعل ما في الأرض من الأشجار كله أقلام وجُعلتْ البحارُ مداداً يُكتبُ بها؛ لتكسرتْ الأقلامُ، ونفدت مياه البحر، وما نفدت كلمات الله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [سورة الكهف آية: 109]، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة لقمان آية: 27].  

فهذه المسألة -مسألة الكلام- مسألة عظيمة اشتد النـزاع فيها بين أهل السنة وبين المخالفين لهم، والتبس الأمر على كثير من الناس، ولا سيما مذهب الأشاعرة، ثم مذهب المعتزلة فينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذا الأمر، وأن يعتني بالنصوص، وأن يتأمل حينما يقرأ في الكتب حتى لا يلتبس عليه معتقد أهل السنة والجماعة المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة، بخلاف مذهب المعتزلة والأشاعرة المبني على الأراء والأهواء والشبهات.  

| المتن |

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَإِنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةِ قَوْلًا):

| الشرح |

قوله: (وَإِنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةِ قَوْلًا) الطحاوي -رحمه الله- يقرر مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله؛ أي: لفظه ومعناه، هذا هو الأصل، فالكلامُ لفظةٌ تشمل اللفظَ والمعنى، فالقرآن كلام الله، لفظاً ومعنى. 

وقوله: (منه بدا) هذا فيه الرد على المعتزلة والأشاعرة؛ فإن المعتزلة لا يقولون: منه بدا؛ وإنما يقولون: بدا من شيء آخر؛ بدأ من الشجرة، أو بدأ من الهواء، أو بدأ من اللوح المحفوظ يعني: خلقه الله في اللوح المحفوظ، فأضافه إليه إضافةَ تشريف وتكريم.

وكذلك الأشاعرة لا يقولون: منه بدا، بل يقولون: لم يبد منه شيء، لأنَّ الكلام معنى قائم بنفسه تعالى، فلم يَبْدُ منه ما من شأنه أن يُسْمَعَ؛ فما سمع جبريلُ منه كلامًا ولا لفظًا ولا حرفًا ولا صوتًا، وإنما جبريلُ هو الذي أحدث لفظ القرآن، أو أحدثه محمد؛ لأنه فهم المعنى القائم بنفس الرب، إمَّا لأنَّ الله اضطره لذلك؛ ففهم المعنى، أو أنَّ الله خلقه في الهواء، وأخذه من الهواء.   

وأهل السُّنة يقولون: القرآن منـزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود؛ فالقرآن كلام الله منـزل، نَزَّله الله كما قال سبحانه: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت آية: 2]، وغير مخلوق لا كما تقوله المعتزلة. ومعنى قوله: (منه بدا)، أي: بدا من الله، وظهر منه، وأكدَّ هذا المعنى بقوله: (قولاً)، فأتى بالمصدر المعرّف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت لنا في للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء آية: 164]، ومعنى قول أهل السنة: (وإليه يعود)، أي: في آخر الزمان.

فمن أشراط الساعة الكبرى التي تعقبها الساعة مباشرة ما يلي:    

أولها: خروج المهدي في آخر الزمان فَيُبايَعُ له، واسمه كاسم النبي ﷺ وكنيته: أبو عبدالله: محمد المهدي؛ يملأ الأرض عدلًا، كما مُلئت جورًا، يُبَايَعُ له في وقت ليس للناس فيه إمام. وفيه أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع، والاعتمادُ على ما ثبت من أخباره.

ثم يخرج الدجال في زمنه؛ يدّعي الصلاحَ، ثم يدّعي النبوة، ثم يدّعي الربوبية.

ثم ينـزل عيسى ابن مريم فيقتله.

ثم يخرج يأجوج ومأجوج.

ثم بعدها تتتابع أشراط الساعة، فتُهدم الكعبةُ -والعياذ بالله-، ثم يصلي الناس إلى جهتها، ثم ينسون الجهة، وَيُنْزَعُ القرآنُ من الصدور ومن السطور في آخر الزمان؛ فإذا ترك الناس العمل به؛ نُزع من صدورهم؛ أي: من صدور الرجال، ونُزع من المصاحف؛ فيصبح الناس لا يجدون في صدورهم آيةً، ولا في المصاحف آية -نعوذ بالله- إذا ترك الناس العمل به. هذه هي أبرز أشراط الساعة.  

ومنها أيضاً: الدخان الذي يملأ الأرض.

ومنها: طلوع الشمس من مغربها.

ومنها: الدابة.

ثم يعقب ذلك نار تخرج من قعر عدن؛ تسوق الناس إلى المحشر. فهو شرط من أشراط الساعة.

وقوله: (وإليه يعود) يعني: يعود إلى الله في آخر الزمان؛ فالقرآن منـزل غير مخلوق، بدا من الله، وإليه يعود في آخر الزمان؛ يعود إلى الله حينما يترك الناس العمل به، فيُنزعُ من صدور الناس، ومن المصاحف -نسأل الله السلامة والعافية-.

| المتن |

القرآن أنـزل على الرسول وحيًا   

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيةِ قَوْلًا وَأَنْـَزلَه عَلَى رَسَوُلِهِ وَحْيًا):

| الشرح |

قوله: (مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيةِ قَوْلًا وَأَنْـَزلَه عَلَى رَسَوُلِهِ وَحْيًا)؛ أي: أن القرآن أنـزله على رسوله وحيًا؛ هذا ردٌّ على قول المعتزلة والأشاعرة؛ فإن المعتزلة لا يقولون: أنـزله بل يقولون: خلقه. وقولُه: (وأنـزله على رسوله وحيًا)؛ معناه: أن الله تكلم به، وسمعه منه جبرائيل؛ سمع كلام الله، بحرف وصوت. ثم أوصله جبرائيل إلى محمد -عليه الصلاة والسلام- وفي قوله: (وَأَنْـَزلَه عَلَى رَسَوُلِهِ وَحْيًا) ردٌّ أيضاً لقول المعتزلة، وردٌّ لقول الأشاعرة؛ لأن الأشاعرة لا يقولون: أنزله بل يقولون: إن القرآن معنى قائم بالنفس، أما ما في المصاحف فليس فيه شيء منـزل؛ إنما الموجود في المصاحف هذا شيءٌ أحدثه جبريل أو محمد؛ فهو عبارة عن كلام الله، عبارة عما في نفْس الله.  

| المتن |

إيمان وتصديق المؤمنين بأن القرآن كلام الله  

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَصَدَّقَهُ المُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا):

| الشرح |

قوله: (وَصَدَّقَهُ المُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا)؛ أي: المؤمنون صدّقوا واعترفوا، واعتقدوا أن هذا القرآنَ كلامُ الله حقًّا، لا مرية فيه ولا شك، فهكذا أهل السنة والجماعة، وهكذا أهل الحق؛ يصدقون ويؤمنون ويوقنون -من قلوبهم-: بأن القرآن كلام الله حقًّا، وأنه كلام الله؛ ألفاظُه ومعانيه.  

| المتن |

تيقن المؤمنين بأن القرآن كلام الله بالحقيقة   

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللهِ -تَعَالى- بِالحَقِيقَةِ):

| الشرح |

قوله: (وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللهِ -تَعَالى- بِالحَقِيقَةِ)؛ وأيقنوا: أي: تيقنوا بذلك؛ ليس عندهم شك ولا ريب، أن القرآن المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسن؛ أنه كلام الله بالحقيقة.

وهذا فيه رد أيضًا على المعتزلة والأشاعرة؛ فإنهم لا يقولون: هذا كلام الله بالحقيقة، بل المعتزلة يقولون: كلام الله مخلوق، والأشاعرة لا يقولون: إنه كلام الله بالحقيقة، بل يقولون: كلام الله بالحقيقة؛ معنى قائم بنفسه، أما هذا الموجود في المصاحف، فليس كلام الله بالحقيقة، وإنما يُسَمَّى كلام الله مجازًا، فلماذا قالوا: يسمى ما في المصحف كلام الله مجازًا؟ لأن كلام الله تأدَّى به؛ فهو مجاز عن كلام الله؛ لأنَّ كلام الله عندهم لا يُسمع؛ ليس بحرف ولا صوت، وإنما قائم بنفسه؛ فيُسمَّى كلام الله مجازًا -أي: من باب المجاز لا الحقيقة- لأنه دليل على كلام الله؛ ولأنه فُهِمَ به كلامُ الله الذي هو المعنى القائم بنفسه؛ وإلا فكلام الله قائم بنفسه؛ لا يُسمع، ولازم لذات الرب؛ كلزوم الحياة، والعلم، والسمع، والبصر.  

| المتن |

القرآن كلام الله ليس بمخلوق ككلام البرية

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللهِ بِالحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ البَرِيِّةِ):

| الشرح |

هذا رد على المعتزلة فإنهم يقولون: كلام الله مخلوق؛ بل يقولون: هو معناه ككلام الناس، والأشاعرة يقولون: نصفه مخلوق، -وهو الألفاظ المقروءة، المتلوة، المسموعة، المكتوبة في المصاحف- ونصفه غير مخلوق -وهو المعنى القائم بالنفس-.

| المتن |

كُفْرُ من قال: القرآنُ كلام البشر، صراحةً من دون شبهة    

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ):

| الشرح |

هذا تصريح بأن من قال: إن القرآن كلام بشر: فقد كفر؛ هذا إذا قاله من دون تأويل؛ فهذا كافر بالإجماع، لكن إذا قاله متأولًا؛ لشبهةٍ حصلتْ له؛ كالأشعري؛ فهذا يُدْرأُ عنه التكفير؛ لأن له شبهة؛ فهو لم يقل صراحة: إنه كلام البشر، بل يقول: أعترفُ أن القرآن كلام الله، لكن كلام الله معنى قائم بنفسه، أما ما في المصاحف والألفاظ فهذا يتأدّى به كلامُ الله؛ فهذا قاله عن شبهة.

مثال ذلك أيضاً: قولُ الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه آية: 5] من قال فيه: إن الله لم يستو على العرش حقيقة، بدون شبهة؛ فهو كافر بالإجماع، لأنه رد كلام الله، لكن إذا قال شخص: أنا أؤمن أن هذه آية في كتاب الله، لكن معنى استوى: استولى؛ وكان قوله هذا لشبهة حصلت له؛ فهذا لا يكفر؛ لأنه قول عن شبهة وتأويل، فكذلك من قال: إن القرآن كلام البشر بدون شبهة أو تأويل؛ فهو كافر، كما قال الله عن الوليد بن المغيرة: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر آية: 25]، ثم قال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [سورة المدثر آية: 26].

| المتن |

ذم اللهِ من قال: إن القرآن كلام البشر وتوعده  

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَقَدْ ذَمَّهُ اللهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرٍ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [سورة المدثر آية: 26]:

| الشرح |

هذا ذم من الله لمن قال: إن القرآن كلام البشر، وتوعده الله بأنه سيصليه سقر؛ وهذه الآية نـزلت في الوليد بن المغيرة كما قال الله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ۝ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ۝ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ۝ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [سورة المدثر آية: 26- 29]؛ فمن قال: إن القرآن ككلام البشر، من دون تأويل؛ فهو كافر، وله هذا الوعيد؛ أما من قال عن تأويل؛ فهو على خطر عظيم، ولكن الشبهة التي حصلت له، والتأويل الذي حصل له يَدْرأُ بها عن نفسه التكفير، فلا يكفر كما سبق إيضاحه.  

| المتن |

كلام الله ليس ككلام البشر

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لِمَنْ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر آية: 25]، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ البَشَرِ، وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ البَشَرِ):  

| الشرح |

لما توعد الله الوليدَ بنَ المغيرة حينما قال: قَوْلُ الْبَشَرِ؛ عَلِمْنَا أن كلام الله ليس ككلام البشر، بل الله -تعالى- ليس له مثيل؛ كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى آية: 11]، ولا يشابه أحدًا من خلقه، ولا يماثل أحدًا من خلقه؛ لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه ؛ لأن الله لما توعد من قال: إن هذا إلا قول البشر أيقنا من قلوبنا -ولم نشك- أن كلام الله ليس ككلام البشر؛ لأن الله ليس له مثيل، وقد نفى عن نفسه مماثلة شيء من خلقه كما قال -سبحانه-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورة آية: 11]، وقال -سبحانه-: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم آية: 65]، وقال -سبحانه-: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية: 22]، وقال -سبحانه-: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [سورة النحل آية: 74]، وقال -سبحانه-: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص آية: 4].

| المتن |

كفر من وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَمَنْ وَصَفَ اللهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ):

| الشرح |

أي: ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر -كالصفات- وقال: إن الله مثل المخلوقات -كما تقول المشبهة؛ وهم من غلاة الشيعة فإنهم يقولون: علم الله كعلم المخلوقين، وصفاته كصفاتهم، وقد قالوا: إن الله مثل الإنسان-: من قال ذلك؛ فهو كافر إن لم يكن ذلك عن تأويل؛ لأنه تنقّص الربَّ؛ ولأنه صادم النصوص؛ فالله -تعالى- يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو يقول: الله مثل الأشياء -تعالى سبحانه عن ذلك-والله تعالى يقول: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ​​​​​​​ [سورة مريم آية: 65]، وهو يقول: له شيء مماثل؛ وهي: المخلوقات، والله يقول: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [سورة البقرة آية: 22]، وهو يجعل لله أندادًا، وأمثالًا، ونظراء؛ فهذا كافر بالاتفاق، ولكن من قال ذلك عن تأويل: تَدْرأُ عنه الشبهةُ وَصْفَ الكفر.  

| المتن |

من أبصر وقرأ النصوص تبين له أن الله سبحانه لا يماثل شيئًا من مخلوقاته

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَر، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الكُفَّارِ انْـزَجَرَ):

| الشرح |

أي: من أبصر هذا وقرأ النصوص وتدبّرها: تبينَ له أن الله لا يماثل شيئًا من مخلوقاته، وأنه كامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وأنه لا شبيه له، ولا مثيل له ولا سمي له، ولا كفو له؛ فمن أبصر هذا ونظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات صفات الله على الوجه اللائق، ونفي المماثلة والتشبيه، وما توعد الله به المشبهةَ: اعتبرَ، واتضحتْ له الحقيقة، وحينئذ ينزجر عن مِثْلِ قولِ الكفّار؛ فإن الكفار هم الذين يمثلون الله بخلقه، ويتنقصونه؛ كاليهود وأشباههم، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة آية: 64]، وقال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [سورة آل عمران آية: 181]، وكذلك المشبهة الذين يقولون: إن الله مثل المخلوقات، وإن سمعه كسمعهم، وهكذا.  

فمن أبصر هذا: اعتبر، وانزجر، عن أن يقول قولًا يماثل قول الكفار.  

| المتن |

الله تعالى بصفاته ليس كالبشر  

قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:

(وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصَفَاتِهِ لَيْسِ كَالبَشَرِ):

| الشرح |

أي: علم أن الرب بصفاته ليس كالبشر؛ لأن الله يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة الشورى آية: 11].  

فالله لا سميَّ له، ولا مثل له، ولا نِدَّ له، ولا كفو له ؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله.

| الحواشي |

([1])   أخرجه البخاري (2935)، ومسلم (2165)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي الباب أيضاً من حديث ابن عمر عند البخاري (6257)، ومسلم (2164)، ومن حديث أنس عند البخاري (6926)، ومن حديث جابر بن عبدالله عند مسلم (2166)، وفي الباب أيضاً عن زيد بن أرقم عند الطبراني في «الأوسط» (7741 -تحقيق: طارق عوض الله)، لكن بإسنادٍ فيه عبدالنور بن عبدالله، وهو كذاب، كما قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/42)، لكن الحافظ في «الفتح» (11/42) اقتصر على تضعيفه، ولم يُسلِّم في «لسان الميزان» (4/77) للذهبي حُكْمَهُ على عبدالنور بوضع الحديث، والله أعلم.

([2])   أخرجه البخاري (7405) والسياقُ له، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أيضاً عن أنس؛ أخرجه أحمد في «المسند» (3/138)، وعبد بن حُميد في «المنتخب من المسند» (1169). وقد قال الهيثمي عن رواية أحمد كما في «مجمع الزوائد» (10/78) -: «ورجاله رجال الصحيح».

([3])   أخرجه البخاري (5269) واللفظ له، ومسلم (127) من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصِيْن عند الطبراني في «المعجم الكبير» (539)، وإليه عَزاهُ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/250)، ثم قال: «وفيه المسعودي؛ وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح»، وذكر ابن عدي في «الكامل» (3/310) أن المسعودي غلط في هذا الحديث، فجعله من مسند عمران، وهو من مسند أبي هريرة، والحديث رُوي بنحوه عن عائشة أيضاً ولا يَصحُّ. انظر: «ميزان الاعتدال» (8/48).

([4])   أخرجه النسائي (8/57)، وأبو داود في «المراسيل» (259)، والدارمي (1621- 1628- 1635-...)، والدارقطني (1/122، 2/285)، وابن حبان (6559)، والحاكم (1/552)، والبيهقي (1/87- 309، 4/89- 90، 8/73)، والطحاوي (2/34، 4/374)، وغيرهم من طرق، وقد اختُلف في وصله وإرساله، والصواب المرسل والمرسل من قسم الضعيف، لكنه هنا يرتقي إلى الصحة بأمرين:

الأول: تلقي العلماء له القبول: قال الحافظ في «التلخيص» (4/18): (وقد صح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد؛ بل من حيث الشهرة: فقال الشافعي في «رسالته» (422): لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله ﷺ).

وقال ابن عبدالبر (17/388): هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفةً يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التوارت في مجيئه، لتلقِّي الناس له بالقبول والمعرفة).

وقال شيخ الإسلام (21/266): (قال أحمد: لا شكَّ أن النبي ﷺ كتبه) اهـ.

الأمر الثاني: أن للحديث شواهد كثيرة: من حديث حكيم بن حزام، وعثمان بن أبي العاص، وابن عمر، وثوبان، وغيرهم، وأسانيدها ضعيفة. وانظر: «الإرواء» (122).

([5])   علَّقه البخاري بهذا اللفظ (13/496 - فتح)، عن ابن مسعود مرفوعاً، لكن رواه موصولاً بغير هذا السياق.

وأخرجه أبو داود (924) من حديث ابن مسعود بلفظ: ... إنَّ الله يُحْدِث مِنْ أَمْرِهِ مَا يشاءُ، وإنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لا تَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ​​​​​​​، وأخرجه أيضاً النسائي في «السنن الكبرى» (559، 1144)، وفي «الصغرى» (1222)، والحميدي في «المسند» (94)، والطبراني في «المعجم الكبير» (1020- 10123) وغيرهم.

والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع» (1888) وحَسَّنه النووي في «المجموع» (4/115)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (4/173). 

([6])   أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي .

([7])   سبق تخريجه قريباً.

([8])   أخرجه الترمذي (2616) والسياق له، وابن ماجه (3973)، والنسائي في «السنن الكبرى» (11394)، وأحمد في «المسند» (5/231، 237)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وانظر ما علّقه الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (ص 269 - 270) عن طُرق حديث معاذٍ هذا.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد