شعار الموقع

سورة الزمر - 6

00:00
00:00
تحميل
56

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.

قال الحافظ ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسير قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

(يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أَيْ: لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لِتُنْذِرَهُمْ بِهِ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أَيْ: فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أَيْ: إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أَيْ: بِمُوَكَّلٍ أَنْ يَهْتَدُوا، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هُودٍ:12]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرَّعْدِ:40]).

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول الله تعالى ﴿إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ في هذه الآية الكريمة بيان أن القرآن كلام الله، وأنه منزلٌ غير مخلوق، وفيها إثبات العلو لله -عَزَّ وَجَلَّ-، لأن النزول إنما يكون من الأعلى إلى الأسفل، ففيها إثبات العلو، وفيها إثبات الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ- وهما صفتان عظيمتان من العلامات الفارقة بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل البدع، وقد أنكر ذلك الجهمية والمعتزلة فينسبوا لله كلامًا ولم يسجدوا لله علوًا ففسقوا بذلك فكانوا من القوم الفاسقين.

﴿إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ أنزله الله تعالى بالحق، فهو حق، الله تعالى هو الحق، ودينه حق ونبيه حق، والقرآن حق، وأصل الثبوت ثبوت الشيء؛ فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزل الكتاب بالحق هدايةً للناس ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ يهدي لأقوم الأخلاق، يهدي لأحسن الصفات، وهي أحسن العبادات، وأحسن الأمثال.

﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ من اهتدى فإنما هو الذي يستفيد ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ من ضل فضلاله على نفسه، ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ما أنت عليهم يا محمد موكل على هدايتهم، إنما أنت مبلغ ومنذر، فالهداية بيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه أن الهداية والإضلال بيد الله، فيه رد على المعتزلة الذين قالوا إن الإنسان هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، وفيه أن وظيفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإنذار، وليس بيده من هداية الخلق شيء.

ففي هذه الآية الكريمة من الفوائد:

§ إثبات العلو لله -عَزَّ وَجَلَّ-.

§ إثبات الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ-.

§ إثبات الهداية، وأن الهداية والإضلال بيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

وفي هذا كله (هذه الأحكام الثلاثة فيها ردود على المعتزلة والجهمية).

§ أنكروا نزول القرآن، قالوا القرآن مخلوق.

§ وأنكروا علو الله، قالوا إن الله في كل مكان.

§ وأنكروا أن تكون الهداية والإضلال بيد الله، فقالوا: الإنسان هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، تعالى الله عما يقولون.

وفيه دلالة على أن وظيفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البلاغ والإنذار، ولهذا قال ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ يعني موكل بهدايتهم، إنما عليك أن تُبلغ، وأما خلق الهداية في القلوب وكونه يقبل الحق ويرضى به ويختاره هذا إلى الله لا إلى غيره -عَزَّ وَجَلَّ-.

(ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الْوَفَاةَ الْكُبْرَى، بِمَا يُرْسِلُ مِنَ الْحَفَظَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا مِنَ الْأَبْدَانِ، وَالْوَفَاةَ الصُّغْرَى عِنْدَ الْمَنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الْأَنْعَامِ:61، 60]، فَذَكَرَ الْوَفَاتَيْنِ: الصُّغْرَى ثُمَّ الْكُبْرَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الْكُبْرَى ثُمَّ الصُّغْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فلْينْفُضْه بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ".

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ [رَحِمَهُمُ اللَّهُ] يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِذَا نَامُوا، فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَتَعَارَفَ {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الَّتِي قَدْ مَاتَتْ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى.

قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُمْسِكُ أَنْفُسَ الْأَمْوَاتِ، وَيُرْسِلُ أَنْفُسَ الْأَحْيَاءِ، وَلَا يَغْلَطُ).

الله تعالى لا يخفى عليه شيء، من الغلط بخلاف الإنسان، فيغلط يختلط عليه الأمر يناجي هذا من هذا؟

أما الله فلا يغلط ولا يلحقه نقص -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بل هو كامل في ذاته وصفاته.

({إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}).

هذه الآية الكريمة فيها الوفاة الكبرى والوفاة الصغرى كما في آية الأنعام ذكر الله الوفاتين، قال الله ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ هذه الوفاة الكبرى ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ هذه الوفاة الصغرى ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال بعض السلف أنها تتعارف، وأنها تلتقي أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، أرواح الأموات قُبضت، وأرواح الأحياء تخرج ثم تعود بعد أن تتعارف ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى الوقت الذي قدر الله فيه أن تقبض.

وذكر ابن القيم في كتاب الروح: أن الأرواح تتعارف وأنها تلتقي، جاء في هذا بعض الآثار، وأنهم يتساءلون، الأرواح تتساءل عن فلان إذا مات، ويستبشرون هل يأتي إليهم أو لا يأتي، فإذا لم يأتي قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية.

ذكرت في هذا آثار، والله أعلم بصحتها، وتحتاج إلى تخريج وتدقيق وتحقيق.

والمقصود أن الله ذكر الوفاتين في هذه الآية، وذكرهما أيضًا في آية المعاد، قال تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ هذه الوفاة الكبرى، ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ هذه الوفاة الصغرى في النوم ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ وهو الذي مات الموتة الكبرى تبقى روحه لا ترجع ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾ التي لم تمت، وإنما جاءت في المنام لتلتقي، ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى الوقت الذي قدر الله أن تموت الموتة الكبرى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ لدلائل على قدرة الله ووحدانيته، لكن ليس لكل أحد بل ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ من رزقه الله التفكر والتدبر والتأمل يستدل بذلك على قدرة الله ووحدانيته، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، أما من أصيب بالغفلة والإعراض فلا يستفيد.

قال تعالى في آية الأنعام، أيضًا ذكر الوفاتين ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ ذكر هذه الوفاة الصغرى، ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ يعني ما عملتم وما كسبتم، ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ هذا بعث، وهو الانتباه من النوم، بعث الأرواح الموتة الصغرى، وهو النوم، ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ هذه الوفاة الكبرى، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ في هذه الآية ذكر الله الوفاة الكبرى، ثم الوفاة الصغرى، وفي آية الأنعام بالعكس، ذكر الله الوفاة الصغرى أولًا، ثم الوفاة الكبرى ثانيًا.

({أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}.

يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ، الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ، بَلْ هِيَ جَمَادَاتٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِكَثِيرٍ.

ثُمَّ قَالَ: قُلْ: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلِّهَا إِلَيْهِ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].

{لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِعَدْلِهِ، وَيَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ أَيْضًا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أَيْ: إِذَا قِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: {اشْمَأَزَّتْ} انْقَبَضَتْ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَفَرَتْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَفَرَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: اسْتَكْبَرَتْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصَّافَّاتِ:35]، أَيْ: عَنِ الْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ لَهَا. فَقُلُوبُهُمْ لَا تَقْبَلُ الْخَيْرَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْخَيْرَ يَقْبَلِ الشَّرَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون ويسرون).

هذا في الآية فيه إنكار من الله -عَزَّ وَجَلَّ- على الكافرين باتخاذهم الأصنام والأوثان، وزعمهم أنها تشفع لهم عند الله، وبطلان ما زعموا، وأن هذا كفرٌ وضلال، فلا أحد يستطيع أن يشفع عند الله إلا بعد إذنه، والله لا يأذن إلا لمن رُضي قوله عمله، وهو الموحد.

﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ﴾ هذه الأصنام لا تملك شيئًا ولا تعقل، وليس لها سمع ولا بصر، فهي أسوأ حال من الحيوان، الحيوان له سمع وبصر وإن لم يكن له عقل، لكن هذه ليس لها سمع ولا بصر ولا عقل، كيف تُتخذ واسطة وشفيع عند الله؟! وهي لا تسمع ولا تبصر، ولهذا قال الله تعالى أنكر في آية الأعراف ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ﴾ لا يوجد، لا أرجل، ولا أيدي، ولا أعين ولا أبصر، كيف تتخذ هذه تعبد وتكون وسيلة؟!

﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ﴾ لا يملك شيئًا الذي يملك هو العاقل هو الذي يملك، الآدمي يكون له ملك (يتملك المال، يتملك الأراضي، يتملك العقار) أما هذه الأصنام والأوثان ليس عندما عقل، الحيوانات ما عندها عقل لكن أحسن حال منها، تسمع وتبصر وتذهب إلى مراعيها، هداها الله إلى مراعيها، أما هذه الأصنام ليس لها سمع ولا بصر ولا عقل فهي أسوأ حال من الحيوان، كيف تُتخذ وسيلة؟! كيف يتخذونها وسيلة ويجعلونها واسطة بين الله وتشفع لهم عند الله؟! أين العقول؟! ذهبت العقول؟ أين ذهبوا بعقولهم ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ﴾ لا يملكون شيء ليس عندهم عقار ولا ملك.

﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ الله تعالى هو مالكها، ولا يشفع عنده أحد إلا أن يأذن الله للشافع ويرضى عن المشفوع له، له ملك السماوات والأرض وهو المتصرف فيهما، وإليه يرجع العباد، وسيجازيهم على أعمالهم.

﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ هذه حال المعرضين الذين صدوا عن السبيل، صدوا عن السبيل، فإذا ذُكر الله وحده، وقيل لا إله إلا الله، وحد الإنسان ربه اشمأزت قلوب الكفرة، نفرت وأعرضت واستكبرت، ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون، لأن القلوب مصدودة، قلوبهم مقفلة، قلوبهم في أكنة، قلوبهم عليها غلف فلا يدخل إليها شيءٌ من الخير، ولا يأخذون منها شيءٌ من الشر، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من الخذلان والضلال.

قال تعالى في سورة الصافات ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ هكذا إذا ذكر الله استكبروا، قالوا كيف نترك الأصنام والأوثان لشاعرٍ مجنون، وهو الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصفوه بأنه شاعر وأنه مجنون، نعوذ بالله من عمل القلوب.

({قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}.

يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمَذَمَّةِ، لَهُمْ فِي حُبِّهِمُ الشِّرْكَ، وَنُفْرَتِهِمْ عَنِ التوحيد {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ: ادْعُ أَنْتَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَفَطَرَهَا، أَيْ: جَعَلَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ: السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: فِي دُنْيَاهُمْ، سَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنُشُورِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.

وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: "اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَخْبَرَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، إِلَّا قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ".

قَالَ سُهَيْلٌ: فَأَخْبَرْتُ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَوْنًا أَخْبَرَ بِكَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: مَا فِي أَهْلِنَا جَارِيَةٌ إِلَّا وَهِيَ تَقُولُ هَذَا فِي خِدْرِهَا. انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنِي حُييّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ قَالَ: أَخْرَجَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قِرْطَاسًا وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا يقول: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ، أُعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأُعُوذُ بِكَ أَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي إِثْمًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا).

ما تخريجه؟

الطالب: الأول قال: إسناده ضعيف، لانقطاع عبد الله بن عتبة بن مسعود، لأنه لم يسمع من عبد الله بن مسعود.

والثاني: قال: صحيحٌ لغيره.

الشيخ: هذا شعيب، لكن الثاني فيه ابن لهيعة، يشهد له هذا الحديث، ويشهد له الحديث السابق يشد بعضه بعضًا، وفيها أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول هذا الدعاء «اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فاطر السموات وَالْأَرْضِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ثبت في صحيح مسلم أن النبي كان يستفتح بهذا الدعاء «اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» هذا ثابت في مسلم.

وكذلك أيضًا من أذكار الدعاء، «اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ...» من أذكار الصباح والمساء «اللَّهُمَّ فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

الطالب: هذا ليس فيه الذي علمه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي بكر الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

الشيخ: أين هو؟

(وَقَالَ [الْإِمَامُ] أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الحُبْرَاني قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَي صَحِيفَةً فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيٍّ وَمَلِيكَهِ، أُعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، أَوْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ").

تخريجه؟

الطالب: صحيحٌ لغيره، في مسند أحمد، ولكن صحيحٌ لغيره.

الشيخ: ماذا قال في النسخة الثانية؟

الطالب: أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

(وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أَقُولَ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي من الليل: "اللهم فاطر السموات وَالْأَرْضِ" إِلَى آخِرِهِ).

[29:56] الليث والانقطاع.

(وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، {مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أَيْ: وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ مُلْكِ الْأَرْضِ وَضِعْفِهُ مَعَهُ {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ} أَيِ: الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ هَذَا لَا يُتقبل مِنْهُمُ الْفِدَاءُ وَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي بَالِهِمْ وَلَا فِي حِسَابِهِمْ.

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أَيْ: وَظَهَرَ لَهُمْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فِي الدَّارِ الدنيا).

في هذه الآية بيان حال الكفار، وأن حالهم أسوأ حال، وأنهم مستمرون في العذاب، وأنه لا يقبل منهم الفداء، ولو افتدوا بملأ الأرض ذهبًا، وهذا لا يمكن فهو من باب التقدير، ولا يمكن أن يأتوا بملأ الأرض ذهبًا، لكن لو أعطوا ملأ الأرض ذهبًا ما قُبل منهم ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ظلموا بالشرك، فيه دليل على أن الشرك أعظم الظلم، كما قال الله تعالى عن لقمان وهو يقول ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ والمراد بالشرك هنا الشرك، والظلم ثلاثة أنواع:

  1. ظلم الشرك، وهذا أعظم الظلم.
  2. والثاني ظلم العباد في دمائهم وأموالهم....
  3. والثالث ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله، دون الشرك.

فهذا الظلم هو ظلم الشرك ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ بالشرك افتدوا بملأ الأرض ذهبًا، وأعطوا ملأ الأرض ذهبًا وأرادوا أن يدفعوه فداءً لهم، وفكاكًا لأنفسهم لا يقبل منهم مع إنه لا يمكن هذا، هذا من باب التقدير [33:19] ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ والنبي معصوم من الشرك، لكن من باب التقدير، بيان أن الشرك أمره عظيم، وأن من أشرك مهما كانت حاله فعمله حابط.

وهذا فيه بيان أنهم لو وكلوا وأعطوا ملأ الأرض ذهبًا وقدموه فداءً لهم لا يقبل منهم ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بيان لهم سوء العذاب، العذاب السيء، ﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾ ظهر لهم ﴿مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ ظهر لهم شيءٌ لم يكن في حسبانهم، ولا يدور في خالقٍ في الدنيا، ما ظنوا أن حالهم ستصير إلى هذه الحال، ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ ظهر لهم سوء عاقبة السيئات ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ نزل بهم وحل بهم ما كانوا يستهزءون به في الدنيا، كانوا يستهزءون من العذاب، وكانوا يسخرون من المؤمنين، فنزل بهم سوء العاقبة.

فأبو جهل [34:34] قال أعطوني كذا، أعطوني التمر أتذقمه، يستهزأ ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ نزل بهم وظهر لهم ما كانوا به يستهزءون، وكما قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ جزاءً لضحكهم في الدنيا، في الدنيا الكفار يضحكون من المؤمنين، وفي الآخرة المؤمنون يضحكون منهم، ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ هل جوزوا؟ نعم جوزوا بعملهم ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يهدينا.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد