درس الخميس 9-6-1440هـ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
أما بعد
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قال تعالى: ({مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}.
يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَدْفَعُ الْحَقَّ وَيُجَادِلُ فِيهِ بَعْدَ الْبَيَانِ وَظُهُورِ الْبُرْهَانِ {إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيِ: الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أَيْ: فِي أَمْوَالِهِمْ وَنَعِيمِهَا وَزَهْرَتِهَا، كَمَا قَالَ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آلِ عِمْرَانَ: 196،197] ، وَقَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 24].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةَ مَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُمْ أُمَمُهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَمَا آمَنَ بِهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَقَالَ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثه اللَّهُ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، {وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أَيْ: حَرَصُوا عَلَى قَتْلِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ رَسُولَهُ، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أَيْ: مَاحَلُوا بِالشُّبْهَةِ لِيَرُدُّوا الْحَقَّ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ أَبُو النعمان، حدثنا مُعْتَمِر ابن سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ حَنَش، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَعَانَ بَاطِلًا لِيَدْحَضَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ".
وَقَوْلُهُ جلة عظمته: {فَأَخَذْتُهُمْ} أَيْ: أَهْلَكَتْهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ هَذِهِ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ الْعِظَامِ، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أَيْ: فَكَيْفَ بَلَغَكَ عَذَابِي لَهُمْ، وَنَكَالِي بِهِمْ؟ قَدْ كَانَ شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا.
وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أَيْ: كَمَا حَقَّتْ كلمةُ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَذَلِكَ حَقَّتْ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ وَخَالَفُوكَ يَا مُحَمَّدُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَكَ فَلَا وُثُوقَ لَهُ بِتَصْدِيقِ غَيْرِكَ، والله أعلم).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد....
يقول الله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}، يعني ما يرد الحق ويدفعه بعد وضوحهن وبعد وضوح برهانه، إلا الذين كفروا، إلا الذين جحدوا توحيد الله، هذه صفة الجاحدين هم الذين يردون الحق بعض وضوحه، وبعد بيان البرهان، هذا وصف الكفار، فيجب على المسلم أن يبل الحق، وأن يلتزم به بعد وضوحه، ولا يشابه الكفرة في رد الحق، ({مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا}، هم الذين يردون الحق بعد وضوحه وبرهانه، فالكفار من كل أمة ظهر لهم الحق، جاءتهم الرسل بالبينات والحجج والبراهين على أن الله تعالى هو المعبود بالحق، وأن غيره هو المعبود بالباطل، ومع ذلك جحدوا وجادلوا وكفروا وردوا الحق ودفعوه، بعد وضوح وظهور البرهان، هذا وصف الكفار، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}؛ لأن تقلبهم في نعم الله هذا شيء مؤقت في الدنيا، إمهال من الله لهم، يملهم الله، لهم الدنيا، وللمؤمنين الآخرة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، يعين للكفرة، فإنها للكفرة في الدنيا ولكم في الآخرة، فكذلك هنا، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}.
الدنيا هي جنة الكافر وسجن المؤمن، فلا يغتر الإنسان بما أوتي الكفرة من زهرة هذه الدنيا ونعيمها، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾[آل عمران:196]، في آخر سورة آل عمران، ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[آل عمران:197]، متاع قليل، يتمتعون، الدنيا كلها من أولها إلى آخرها متاع قليل، كلها وقت قليل، زائل، منقضي، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}.
ثم سلى الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام، قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ}، يعني أنت يا محمد كذبك هؤلاء الكفار، كفار قريش، لك أسوةٌ بالأنبياء السابقين، فإنهم كذبوا، كذبتهم أممهم وصبروا، كذب قوم نوح، وهو أول رسول بعثه الله لأهله، لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم، وهو يدعوهم ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلا يزيدون إلا عتوًا وعنادًا، ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾[نوح:6 - 9]، ما قصر عليه الصلاة والسلام، ولكنهم لا حيلة فيهم، لا حيلة فيهم، اختاروا الكفر، وخذلهم الله عز وجل لما يعلمه من عدم صلاحيتهم، نسأل الله السلامة والعافية، حتى إن الله تعالى أوحى إليه في آخر الأمر، أنه لم يزداد المؤمنون، قال الله تعالى في الآية: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[هود:40]، وأوحى الله إليه قال: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾[هود:36]، فعند ذلك دعا عليهم، ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾[نوح:2 6 - 27]، وما آمن معه على طول المدة هذه ألف سنة غلا خمسن عامًا، إلا قليل ركبوا في السفينة، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[هود:40]، وهو لم يقصر عليه الصلاة والسلام، يدعوهم ليلًا ونهارًا، لكن من شدة عناهم وكفرهم وعتوهم يوصي أولهم آخرهم من قوم نوح، فيوصي الأجداد الأحفاد بعد الاستجابة لنوح عليه الصلاة والسلام، ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾[غافر:5]، والأحزاب من كل أمة كذبوا نبيهم.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}، كل أمة هموا بقتل نبيهم، ومنهم من قتل، قتل يحيى وزكريا، قال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾[البقرة:87]،
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}، جادلوا بالباطل ليزيلوا الحق ويمحوه، فأخذهم الله وأهلكهم، ولهذا قال: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، فهو عقاب شديد، أهلكهم الله تعالى في الدنيا، مع ما أعد لهم من العذاب والنكال في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
طالب آخر: الحديث ذكر الطبراني، قال: (إسناده ضعيف، فيه حنش وهو حسين بن قيس الرحبي، وهو متروكٌ وأخرجه أيضًا مطولًا من طريق أبي محمد بن الجزري، حمزة النصيبي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس به، أبو محمد بن الجزري مجهول لا يعرف، وأخرجه أيضًا في الأوسط وفي الصغير، وفي الشاميين، من طريق سعيد بن رحمة، عم محمد بن حميض، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عكرمة به، قال ابن حبان: سعيد بن رحمة لا يجوز الاحتجاج به لمخالفته الأثبات.
الشيخ: في الحديث،... قال أبو القاسم الطبراني...
الطالب : (وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ أَبُو النعمان، حدثنا مُعْتَمِر ابن سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ حَنَش، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما]، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَعَانَ بَاطِلًا لِيَدْحَضَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ").
الشيخ: هذا يعني أنه من كبائر الذنوب، هذا لو لم يصح الحديث، لا شك أن من أعان باطلًا ليزيل به، وليدحض به الحق أنه مرتكب للكبيرة، وأن عليه الوعيد الشديد، حتى لو لم يصح الحديث، في النصوص الأخرى، له شواهد تشهد وتدل على صحت المعنى.
قوله: (فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ"). يعين ارتكب الكبيرة، وظاهره الكفر، لكن المراد فقد ارتكب كبيرة، ويختلف هذه الإعانة، إذا أعان باطلًا ليزيل الحق، إن كان ليزيل التوحيد، فهذا كفر وردة والعياذ بالله، وإن كان ذو نفع، ذو معصية وكبيرة [12:15].
طالب آخر: [15:18] (صوت غير مسموع.
الشيخ: له طرق وشواهد؟ ماذا قال عليه عندك؟
طالب آخر: [12:25] (صوت غير مسموع).
الشيخ: يعني بشواهده، له شواهد، لا شك أن من أعان وجادل بالباطل ليزيل الحق هذا يتفاوت، إن كان يزيل التوحيد فهذا ردة عن الإسلام والعياذ بالله؛ لأنه رضي بالكفر، وإن كان دون ذلك فهو مرتكب [12:50]، له شواهد في المعنى.
الطالب: عندي أيضًا قال المحقق عبد الرزاق مهدي: الحديث حسن بشواهده.
الشيخ: صدق، شواهده كثيره، حسن بشواهده، له شواهد وإن كان سند الحديث ضعيف، لكن له شواهد.
الطالب : قال تعالى: ({الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ حَمَلة الْعَرْشِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْكُرُوبِيِّينَ، بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أَيْ: يَقْرِنُونَ بَيْنَ التَّسْبِيحِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ النَّقَائِصِ، وَالتَّحْمِيدِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْمَدْحِ).
الشيخ: قال: أربعة أملاك [14:16] يحملون عرش الدنيا أربعة ويوم القيامة ثمانية، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾[الحاقة:17]، يوم القيامة ثمانية، والآن أربعة، حاء في الحديث أوصافهم أن بعضهم على صورة نسر، وبعضهم على صورة كذا، والله أعلم.
الطالب : (يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ حَمَلة الْعَرْشِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْكُرُوبِيِّينَ، بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أَيْ: يَقْرِنُونَ بَيْنَ التَّسْبِيحِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ النَّقَائِصِ، وَالتَّحْمِيدِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْمَدْحِ، {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ: خَاشِعُونَ لَهُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُمْ {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مِمَّنْ آمَنَ بِالْغَيْبِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ أَنْ يَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سَجَايَا الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانُوا يُؤمِّنون عَلَى دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ".
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ -حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدّق أُمَيَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ، فَقَالَ:
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه ... وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ ...).
الشيخ: يعني هذه أوصافهم.
الطالب: رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه ... وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ ...).
الشيخ: يعين واحد على صورة الليث الأسد، وواحد على صورة النسر، وواحد على صورة الإنسان، وواحد على صورة الثور، هذه الأربعة الذين يحملون العرش، في الدنيا، أربعة، واحد على صورة إنسان، واحد على صورة نسر، وواحد على صورة أسد، وواحد على صورة ثور.
النبي صدق أمية، وقال: آمن لسانه، وكفر قلبه، وقد قال.....
الطالب : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدّق أُمَيَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ، فَقَالَ:
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه ... وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ ...
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ". فَقَالَ:
وَالشمس تَطلعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلةٍ ... حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ ...
تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا فِي رِسْلها ... إِلَّا معَذّبَة وَإلا تُجْلدَ ..
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ"..)
الشيخ: وجاء في الحديث أنها تسجد تحت العرش كل ليلة، فيؤذن لها، ما تطلع حتى تسجد تحت العرش، تستأذن ربها، وأنها في اليوم الذي تطلع فيه من مغربها لا يؤذن لها، يقال لها: أرجعي من حيث أتيت، فترجع وتطلع من مغربها، وهذه من علامات الساعة الكبار، فإذا طلعت الشمس من مغربها، آمن من في الأرض لله الحي القيوم، ولكن كما قال: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾[الأنعام:158]. وفي الحديث: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، جاء في تفسير قوله تعالى: : ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾[الأنعام:158]، أنها طلوع الشمس من مغربها، ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾[الأنعام:158]، يبقى على ما كان عليه، إذا طلعت الشمس، كل يبقى على ما كان عليه من إيمان أو كفر.
الطالب : (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ: وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القيامة كانوا ثمانية).
الشيخ: نعم، كما قال الله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ}، يعني يوم القيامة {ثَمَانِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 17]، في الدنيا حملة العرش أربعة، وفي يوم القيامة ثمانية، الأربعة في صورة نسر صورة أسد ثورة ثور، وصورة إنسان، أربعة.
الطالب : (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 17].
وَهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَدَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ وَبَيْنَ لْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سِماك، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرة، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قيس، عن العباس بن عبد الْمُطَّلِبِ، قَالَ: كُنْتُ بِالْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: "مَا تُسَمَّوْنَ هَذِهِ؟ " قَالُوا: السَّحَابَ. قَالَ: "وَالْمُزْنَ؟ " قَالُوا: وَالْمُزْنَ. قَالَ: "والعَنَان؟ " قَالُوا: وَالْعَنَانَ -قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَلَمْ أُتْقِنِ الْعَنَانَ جَيِّدًا -قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ " قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: "بُعد مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ، أَوِ اثْنَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، ثُمَّ السماء فوقها كذلك" حتى عَدّ سبع سموات "ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ، بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أوْعَال، بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ ورُكبهن مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَوْقَ ذَلِكَ" ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَريب).
الشيخ: والله سبحانه هو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، ليس محتاج للعرش ولا لغيره، بل هو سبحانه هو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته، لا يعلم الكيفية إلا هو.
الطالب : (ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَريب.
هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، كَمَا قَالَ شَهْر بْنُ حَوْشَب: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ". وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ".
وَلِهَذَا يَقُولُونَ إِذَا اسْتَغْفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَكَ تَسَع ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَعِلْمُكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ [وَأَقْوَالِهِمْ] وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أَيْ: فَاصْفَحْ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِذَا تَابُوا وَأَنَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ، مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ: وَزَحْزِحْهُمْ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ الْأَلِيمُ.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ: اجْمَعْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مَنَازِلَ مُتَجَاوِرَةٍ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطُّورِ: 21] أَيْ: سَاوَيْنَا بَيْنَ الْكُلِّ فِي الْمَنْزِلَةِ، لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ، وَمَا نَقَصْنَا الْعَالِيَ حَتَّى يُسَاوِيَ الدَّانِيَ، بَلْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا طَبَقَتَكَ فِي الْعَمَلِ فَيَقُولُ: إِنِّي إِنَّمَا عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ. فَيُلحَقُونَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ، ثُمَّ تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
قَالَ مُطرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِّخِّير: أنصحُ عبادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الملائكةُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ}.
الشيخ: هذا من نصحهم العظيم، يدعون لهم لدخول الجنات ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات، عليهم الصلاة والسلام، لا شك في نصح الملائكة، يدعون لهم، والملائكة [25:00] الخير، ويثبتون المؤمنين بأمر الله عز وجل.
قال: (وأغشُّ عِبَادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الشياطينُ).
الشيخ: أغش عباده الشياطين وأنصح الخلق هم الملائكة.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيِ: الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، مِنْ شَرْعِكَ وَقَدَرِكَ.
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أَيْ: فِعْلَهَا أَوْ وَبالها مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أَيْ: لَطَفْتَ بِهِ وَنَجَّيْتَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}).
الشيخ: هذه الآيات الكريمات فيها بيان أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام يدعون للمؤمنين، وأن حملة العرش والكروبيون من حولهم، وهذا أشراف الملائكة، الذين يحملون العرش ومن حوله من الكروبيين، يقال لهم الكربيون حول قربهم من الله عز وجل، يسبحون الله ويحمدونه ويستغفرون للمؤمنين، ({الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، يجمعون بين التسبيح والتحميد، فالتسبيح فيه تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميد فيه الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وهو المستحق للحمد وهو المالك للحمد كله.
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، لهم زجل بالتسبيح، والاستمرار ليل نهار، يسبحون الله ويحمدونه ويستغفرون للذين آمنوا، قائلين هذا دعائهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)}، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، هذا توسل إلى الله في الدعاء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، كل شيء وسعه علم الله ورحمته.
ثم قال: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}، اغفر يا ربنا، اغفر استر العيوب والذنوب، اغفرها واسترها حتى يسلموا من شرها، فالذنوب هي أسباب الشرور والعقوبات والنكبات في الدنيا والآخرة، فإذا غفرها الله سلم من شرها، فالملائكة يدعون الله بأن يغفر، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}، تابوا يعني أقلعوا عن المعاصي، ورجعوا إلى الله، وندموا على ما مضى، اغفر لهم يا ربنا.
{وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}، استقاموا على طاعة الله، واتبعوا سبيل الحق، وآمنوا بالله ووحدوه وأخلصوا العبادة.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)}ـ اجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ}، دعا لهم بدخول الجنة، {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، يعني إقامة، عدن سميت بـ (عدن) لما فيها من إقامة وعدم الخروج منها.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}، ربنا أدخلهم معهم الصالحين من أزواجهم وذرياتهم من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، فيكون في منزلة واحدة، فيرفع الله تعالى من كان درجته أقل ليكون مع درجة العالي منهم، فضلًا من الله تعالى وإحسانًا.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)}، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[الطور:21]، يلحق الذرية بالآباء ليكونوا في درجتهم وطبقتهم، ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾[الطور:21]، يعني وما نقصنا الآباء من ثوابهم من شيء حينما رفعنا الأبناء، بل الآباء على درجتهم، والأبناء يرفعون، وكذلك في هذه الآية الأزواج والذرية ومن صلح من الأبناء، كلهم يرفعون يكونوا مع من هو أعلى درجة، يرفعون إلى الأعلى درجة، حتى تقر أعينهم، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ثم قال: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ}، اجعل بينهم يا ربنا وبين السيئات وقاية، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}، من وقيته السيئات فقد رحمته، فقد وفقته للعمل الصالح، ووقيته أسباب الشر والهلاك وهي السيئات، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}، هذا هو الفوز العظيم، من وقاه الله السيئات ووفقه لعمل الصالحات فقد فاز، فاز فوزًا عظيمًا، هذا هو الفوز العظيم، ليس الفوز الذي يحصل لبعض الناس في الدنيا من التجارات وغيرها، أو كذلك الفوز بما يسمى فوز من أنواع اللعب وغيرها، هذا شيء نسبي الفوز العظيم هو الفوز بالجنة والسلامة من عذاب الله ومن النار، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}، هذا دعاء، هؤلاء الملائكة الذين هم حملة العرش ومن حوله، الذين هم أفضل الملائكة يدعون بهذا الدعاء، سخرهم الله، وهذا يدل على نصحهم عليهم الصلاة والسلام، ومن نصح الملائكة أن من دعا لأخيه بظهر الغيب، وكل الله ملكًا يؤمن على دعائه، ويقول ولك بالمثل، كما في الحديث الصحيح، "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا وكل الله ملك، يقول: آمين، ولك بالمثل"، "آمين"، يعني اللهم استجب دعاءه، وأعطه بمثل ما دعا لأخيه، هذا يدل على نصحهم عليهم الصلاة والسلام.
طالب آخر: شرط أن يكون بظهر الغيب؟
الشيخ: نعم، بظهر الغيب لأن هذا يدل على الإخلاص، أما إذا دعا له أمام النماس لا بأس، لكن الوعد هذا إنما هو بظهر الغيب؛ لأنه لا يعلم به أحد إلا الله.
طالب آخر: الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، ذكر هنا ابن كثير: (وهذا إسنادٌ جيد).
الشيخ: ما هو الحديث؟
طالب آخر: حديث أبيان الشعر.
الشيخ: حديث أمية ابن الصلد.
طالب آخر: قال: ([32:09]، بل ضعيف، وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وكل الذين صرحوا بالتحديث من قبله أو عنه من أصحابه ليسوا ثقات)، الذي هو حدثنا عبد الله بن محمد وهو ابن أبي شيبة، وحدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق، ثم بعد ذلك عنعن ابن إسحاق...
الشيخ: فيه أنه صرح بالسماع عندهم؟
طالب آخر: لا، لم يصرح بالسماع، اللي صرح الذين رووا عنه.
الشيخ: ماذا قال عليه عندك؟ أظن أن هذا الحديث مشهور، حديث أمية بن الصلد مشهور هذا، الظاهر أن له شواهد، محمد ابن إسحاق ثقة، الظاهر أنه صرح بالسماع في بعض [32:59]، ماذا قال عليه؟
طالب آخر: قال: (وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد وهو ابن أبي شيبة، قال حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس)، وذكر هنا الإمام ابن كثير رحمة الله عليه: (وهذا إسناد جيد)، قال شعيب: بل ضعيف في إسناده، محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وكل الذين صرحوا بالتحديث عنه من أصحابه ليسوا ثقات).
الشيخ: الحافظ محدث، ما قال السند جيد إلا لأنه يعلم أن له شواهد وله أسانيد أخرى، فتعقيب شعيب يحتاج إلى تأمل [33:56]، ماذا قال في النسخة الأخرى؟
طالب آخر: [33:59] (صوت غير مسموع).
الشيخ: قال ضعيف، يعني بهذا السند ضعيف، لكن حديث أمية مشهور، والظاهر له شاهد، يعني المؤلف أتى به في التفسير وأتى به في البداية والنهاية، هذا يدل على أنه منتبه وله عناية بهذا السند، جود السند هنا، وهناك
طالب آخر: ابن خزيمة كذلك أخرجه في كتاب التوحيد، هذا المتن.
الشيخ: كتاب التوحيد مررنا به، كتاب التوحيد انتهينا منه، ما بقي إلا قليل، مررنا أظن، ماذا قال عليه ابن خزيمة؟
طالب آخر: يقول: (رجاله ثقات وجود إسناده هاهنا، والحديث ذكره المصنف في البداية والنهاية، قال: حديث صحيح الإسناد، رجاله ثقات، وجود إسناده هاهنا، وعله الهيثمي بن جمع، ومن بعده ابن عبد الرحمن الألباني، في تحقيق السنة بعنعنة ابن إسحاق، غير أنه متابع، فقد رواه ابن خزيمة، قال: حدثنا أبو هشام زياد بن أيوب، حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا عمارة بن أبي حفص، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر القصة، وهذا إسناد صحيح والله الموفق.
الشيخ: لعله متابع، فالحافظ لم يقل الإسناد جيد إلا أنه محدث، يعرف له متابع، المتابع ابن خزيمة، هل عندك ابن خزيمة؟
الطالب: أي نعم، يقول:...
الشيخ: أعد السند الآن، هل فيه ابن خزيمة؟
الطالب: وقد رواه ابن خزيمة.
الشيخ: المقصود أن الحديث مشهور، والآن شعيب إن تعقب الحافظ لأنه نظر لهذا السند، والحافظ أوسع نظرًا منه، الحافظ نظر إلى الحديث ككل، ولم ينظر إلى هذا السند وأن له متابع.
طالب آخر: ذكر شعيب فقال: وانظر مصادر تخريجه، لعله أطلع على جميع المصادر.
الشيخ: ولو الحافظ مقدم عليه.
طالب آخر: أكيد..
طالب آخر: في كتاب التوحيد ابن خزيمة رحمه الله قال: (26 - بَابُ ذِكْرِ إِثْبَاتِ الرِّجْلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ رَغَمَتْ أُنُوفُ الْمُعَطِّلَةِ الْجَهْمِيَّةِ، الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِصِفَاتِ خَالِقِنَا عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ , وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بَعْضُ الْكُفَّارِ مِنْ دُونِ اللَّهِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَيَدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [الأعراف: 195] فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مَنَ لَا رِجْلَ لَهُ، وَلَا يَدَ، وَلَا عَيْنَ، وَلَا سَمْعَ فَهُوَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ , فَالْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ: الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ: كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ؛ فَالْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ عِنْدَهُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
ثم قال: (فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيَّ:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
وَالشَّمْسُ تُصْبِحُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
تَأْبَى فَمَا تَطْلُعُ لَنَا فِي رِسْلِهَا ... إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى يَعْنِي ابْنُ الطَّبَّاعِ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَدَقَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ شَعْرِهِ، قَالَ رَجُلٌ وَثَوْرٌ» ، بِمِثْلِهِ لَفْظًا وَاحِدًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَنْشَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَيْنِ مِنْ قَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» ، وَأَنْشَدَ قَوْلَهُ:
" لَا الشَّمْسُ تَأْبَى فَمَا تَخْرُجُ ... إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِلَّا تُجْلَدُ: مَعْنَاهُ: اطْلُعِي، كَمَا قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ ، قَالَ: ثنا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ عِكْرِمَةُ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: وَتُجْلَدُ الشَّمْسُ؟ فَقَالَ: عَضَضْتَ بِهَنِّ أَبِيكَ، إِنَّمَا اضْطَرَّهُ الرَّوِيُّ إِلَى أَنْ قَالَ: تُجْلَدُ.
حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ سَابِقٍ الْخَوْلَانِيُّ، قَالَ: ثنا أَسَدُ السُّنَّةِ يَعْنِي ابْنَ مُوسَى، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: «حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَحَدُهُمْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، والثَّانِي عَلَى صُورَةِ ثَوْرٍ، وَالثَّالِثُ عَلَى صُورَةِ نَسْرٍ، وَالرَّابِعُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَنَذْكُرُ قَوْلَهُ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ).
الشيخ: فيه صرح بالسماع هنا، فدعوى شعيب أنهم كلهم ضعفاء فيه نظر.
طالب آخر: قال شعيب في المسند، تحقيقه على المسند: (إسناده ضعيف، محمد ابن إسحاق مدلس، فقد رواه بالعنعنة، والتصريح بالحديث في بعض الروايات عند غير المصنف إنما جاء عن غير الثقات من أصحابه).
الشيخ: هذه دعوة قد لا تقبل منه.
طالب آخر: ولو ثبت تصريح ابن إسحاق فلا يعتد به في مثل هذا المطلب، وهو في المصنف لابن أبي شيبة من طريقه، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وعبد الله بن احمد في السنة، وأبو يعلى والطبراني، وأخرجه الدارمي، وأبو يعلى وابن خزيمة في التوحيد، والطحاوي والطبراني من طريق عبدة بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه عبد الله بن أحمد وابن خزيمة والآجوري في الشريعة، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق محمد بن إسحاق به، وأخرجه ابن خزيمة من طريق إسماعيل بن علية ابن عمارة عن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس، فذكر القصة، وقد انفرد ابن خزيمة بهذا الإسناد ولم نقف عليه عند غيره، ويغلب على الظن إن صح أنه موقوف على ابن عباس من قوله، وأمية ابن الصلت وهو الثقافي الشاعر المشهور، قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء: وقد كان قرا الكتب المتقدمة من كتب الله عز وجل ورغب عن عبادة الأوثان، وكان يخبر بأن نبي يبعث قد أظل زمانه، ويؤمل أن يكون ذلك النبي، ولما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسدًا، وفي صحيح مسلم عن الشريد بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشده من شعره، فقال: كاد يسلم في شعره، وفي البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا من حديث وكاد أمية ابن الصلت أن يسلم، ولم يختلف أصحاب الإخبار أنه مات كافرًا، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر).
الشيخ: [42:47] وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمن لسانه وكفر قلبه)، يعني كاد أن يسلم، المقصود أن دعوى شعيب أنه ضعيف لا يسلم له، فالمتابعة، الحديث مشهور عند أهل العلم، والحافظ جود إسناده، وابن خزيمة متابع، وذكر أيضًا بعض الطرق صرح بها في السمع.
الطالب: قوله في الآية الأخرى: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ﴾[الشورى:5]، هل يحمل المطلق؟
الشيخ: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ﴾، يعني المؤمنين منهم.
طالب آخر: هل يلحق بالأبناء بالآباء والآباء بالأبناء؟
الشيخ: نعم، هذا هو الظاهر، يعين يلحق، الآية عامة، ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[غافر:8].
طالب آخر: [42:38].
الشيخ: هذا هو الظاهر، الظاهر أنه يلحقوا بأقاربهم حتى يكونوا معهم، هم الأبناء بنص الآية، آية الطور، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾[الطور:21]، في هذه الآية -كما ذكر الحافظ- أنها عامة،﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾[غافر:8]. الآية في العموم، وآية الطور في الأبناء،وهنا الآية في الآباء والأزواج والذرية.
الطالب : قال تعالى: ({إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ يُنَادَون يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي غَمَرات النِّيرَانِ يَتَلَظَّوْنَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا بَاشَرُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا لَا قِبَل لِأَحَدٍ بِهِ).
الشيخ: نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: ( فَمَقَتُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَبْغَضُوهَا غَايَةَ الْبُغْضِ، بِسَبَبِ مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ دُخُولِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَخْبَرَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَالِيًا، نَادَوْهُمْ [بِهِ] نِدَاءً بِأَنَّ مَقْتَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ كَانَ يُعرض عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ، فَيَكْفُرُونَ، أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَيُّهَا الْمُعَذَّبُونَ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} يَقُولُ: لمقتُ اللَّهِ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حِينَ عُرض عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا، فَتَرَكُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ، أَكْبَرُ مِمَّا مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وذَرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الهَمْداني، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطبري، رحمهم الله).
الشيخ: وفي هذه الآية [46:16]، إثبات صفة المقت لله عز وجل وهو أشد البغض، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، الكفار إذا دخلوا النار وباشروا عذاب النار مقتوا أنفسهم، يعني أبغضوها أشد البغض، حيث أنها أوردتهم الموارد، فتناديهم الملائكة من فوقهم أن مقت الله لكم في الدنيا حينما دعيتم إلى الإيمان ولم تستجيبوا، أشد من مقتكم لأنفسكم اليوم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ}، من قبل الملائكة، {لَمَقْتُ اللَّهِ}، بغض الله لكم في الدنيا حينما عرض عليكم الإيمان ولم تقبلوه، أشد من بغضكم لأنفسكم حينما باشرتم العذاب، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ}، يعني حين تدعون، حين تدعون إلى الإيمان فتكفرون في الدنيا، (إذ) ظرف بمعنى حين، فمقت الله لكم حينما {تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، أشد من مقتكم الآن لأنفسكم، والمقت هو أشد البغض، وفيه إثبات المقت لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.
الطالب: (وَقَوْلِهِ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 28] وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُميتوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ فَخُوطِبُوا، ثُمَّ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُحْيَوْا حِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ [ثُمَّ أَحْيَاهُمْ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ -مِنَ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ-ضَعِيفَانِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمَا عَلَى مَا قَالَا ثَلَاثُ إِحْيَاءَاتٍ وَإِمَاتَاتٍ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ:12] ، فَلَا يُجَابُونَ. ثُمَّ إِذَا رَأَوُا النَّارَ وَعَايَنُوهَا وَوَقَفُوا عَلَيْهَا، وَنَظَرُوا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ والنَّكال، سَأَلُوا الرَّجْعَةَ أَشَدَّ مِمَّا سَأَلُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَا يُجَابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الْأَنْعَامِ:27، 28] فَإِذَا دَخَلُوا النَّارَ وَذَاقُوا مَسّها وحَسِيسها وَمَقَامِعَهَا وَأَغْلَالَهَا، كَانَ سؤُالهم لِلرَّجْعَةِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فَاطِرٍ:37] ، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 107، 108] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَلَطَّفُوا فِي السُّؤَالِ، وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِمْ مُقدّمة، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أَيْ: قُدْرَتُكَ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّكَ أَحْيَيْتَنَا بَعْدَ مَا كُنَّا أَمْوَاتًا، ثُمَّ أَمَتَّنَا ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا، فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تَشَاءُ، وَقَدِ اعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، وَإِنَّنَا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ فَهَلْ أَنْتَ مُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تُعِيدَنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا؟ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ. فأُجِيبُوا أَلَّا سَبِيلَ إِلَى عَوْدِكُمْ وَمَرْجِعِكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا. ثُمَّ عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا تَقْتَضِيهِ بَلْ تَجْحَده وَتَنْفِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أَيْ: أَنْتُمْ هَكَذَا تَكُونُونَ، وَإِنْ رُدِدْتُمْ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 28].
وَقَوْلُهُ: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ، الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، فَيَهْدِي مَنْ يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
الشيخ: بارك الله فيه، نقف على قوله: هو الذي.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}، {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، ذكروا إماتتين، وإحيائين، الإماتة الأولى حينما كانوا عدمًا، كانوا عدمًا فأوجدهم الله، كانوا عدمًا فخلفهم الله وأحياهم، ثم يميتهم، ثم الموتة التي بعد الحياة، ثم الحياة الأخرة، إماتتين وحياتين، الإماتة الأولى لما كانوا عدمًا، ثم أحياهم الله في هذه الدنيا، هذه الحياة الأولى، حياة وموت، ثم يميتهم الموت الذي كتبه الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، هذا هو الصواب، أما من قال أنه يميتهم في القبر ثم يحييهم، هذا كما ذكر الحافظ ضعيف، يلزم عليه عدة إماتات.
{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا}، هذا تلطف منهم، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}، هل ربنا لخروج من النار لنعمل مرة أخرى في الدار الآخرة {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}؟!.
قال الله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا}، هذه من طبائعم وهذه سجاياهم، ولو ردوا إلى الدنيا قال الله تعالى: لعلم ما سيكون، ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهو عنه، ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الأنعام:28]، يعني هذه سجاياهم وهذه طبائعهم،
{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}، الحكم لله تعالى يحكم بين عباده، وقد حكم بينهم بالعدل، {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}، فيه إثبات اسم العلي واسم الكبير، إسمان من أسماء الله عز وجل، العلي والكبير، ويعبد لهما، يقال: عبد العلي وعبد الكبير.
(وَقَوْلِهِ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 28].
الشيخ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}، حينما كنتم عدمًا، {فَأَحْيَاكُمْ}، في الدنيا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، في الآخرة.
الطالب: (وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُميتوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ فَخُوطِبُوا، ثُمَّ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُحْيَوْا حِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ ثُمَّ أَمَاتَهُمْ [ثُمَّ أَحْيَاهُمْ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ -مِنَ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ-ضَعِيفَانِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمَا عَلَى مَا قَالَا ثَلَاثُ إِحْيَاءَاتٍ وَإِمَاتَاتٍ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ:12] ، فَلَا يُجَابُونَ. ثُمَّ إِذَا رَأَوُا النَّارَ وَعَايَنُوهَا وَوَقَفُوا عَلَيْهَا، وَنَظَرُوا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ والنَّكال، سَأَلُوا الرَّجْعَةَ أَشَدَّ مِمَّا سَأَلُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَا يُجَابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الْأَنْعَامِ:27، 28] فَإِذَا دَخَلُوا النَّارَ وَذَاقُوا مَسّها وحَسِيسها وَمَقَامِعَهَا وَأَغْلَالَهَا، كَانَ سؤُالهم لِلرَّجْعَةِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فَاطِرٍ:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 107، 108].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَلَطَّفُوا فِي السُّؤَالِ، وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِمْ مُقدّمة، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أَيْ: قُدْرَتُكَ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّكَ أَحْيَيْتَنَا بَعْدَ مَا كُنَّا أَمْوَاتًا، ثُمَّ أَمَتَّنَا ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا، فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تَشَاءُ، وَقَدِ اعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، وَإِنَّنَا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ فَهَلْ أَنْتَ مُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تُعِيدَنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا؟ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ. فأُجِيبُوا أَلَّا سَبِيلَ إِلَى عَوْدِكُمْ وَمَرْجِعِكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا. ثُمَّ عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا تَقْتَضِيهِ بَلْ تَجْحَده وَتَنْفِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أَيْ: أَنْتُمْ هَكَذَا تَكُونُونَ، وَإِنْ رُدِدْتُمْ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 28].
وَقَوْلُهُ: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ، الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، فَيَهْدِي مَنْ يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
الشيخ: (سَجَايَاكُمْ) يعني طبائعكم، يعني هذه طبائعم التي، نسأل الله السلامة والعافية.