بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}.
يَوْمَ الْآزِفَةِ هُوَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاقْتِرَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النَّجْمِ:57، 58] وَقَالَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1]، وَقَالَ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ:1] وَقَالَ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْلِ:1] وَقَالَ {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الْمُلْكِ:27].
وَقَوْلُهُ: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [أَيْ سَاكِتِينَ]، قَالَ قَتَادَةُ: وَقَفَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَمَعْنَى {كَاظِمِينَ} أَيْ: سَاكِتِينَ، لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ:38].
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: {كَاظِمِينَ} أَيْ: بَاكِينَ.
وَقَوْلُهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أَيْ: لَيْسَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهُمْ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُشَفَّعُ فِيهِمْ، بَلْ قَدْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، دَقِيقِهَا وَلَطِيفِهَا؛ لِيَحْذَرَ النَّاسُ عِلْمَهُ فِيهِمْ، فَيَسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقّ الْحَيَاءِ، ويَتَّقُوهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَيُرَاقِبُوهُ مُرَاقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ وَإِنْ أَبْدَتْ أَمَانَةً، وَيَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ خَبَايَا الصُّدُورِ مِنَ الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه الآيات الكريمات فيها بيان عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه تعالى خبير بعباده وأحوالهم، وأنه سيجازيهم يوم القيامة، وأن يوم القيامة له أسماء متعددة، هي القارعة، وهي الصاخة، ويسمى يوم الناقور، ويوم الآزفة، والغاشية، والقارعة، وغير ذلك من الأسماء، وأنذرهم يوم الآزفة، سميت الآزفة لقربها، لاقترابها، كما قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾[القمر:1]، الآزفة القريب، ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ﴾[غافر:18]، أنذرهم يوم القيامة، يوم الحساب، يوم الجزاء، فإن وقته قريب، اقتربت الساعة، ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾[النحل:1]، كل آت قريب، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ﴾[غافر:18]، من شدة الخوف والهول تكون القلوب في الحناجر، لا ترتفع ولا ترجع إلى مكانها، كاظمين أي: ساكتين لا يستطيعون الكلام، أصيبوا بالذهول من شدة الهول.
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾[غافر:18]، الظلم أنواع، وأعظم الظلم الشرك، الذين ظلموا أنفسهم بالشرك ليس لهم قريب ينفعهم، وليس لهم شفيع يشفع فيهم، الشفاعة لا تنفع الكفرة، ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[المدثر:48]، ولا هم ينصرون، ولا تنفع فيهم الشفاعة، ولا يؤخذ منهم عدل وفداء، بل حقت عليهم كلمة العذاب؛ لكفرهم وضلالهم، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:18/19]، فيه بيان علمه سبحانه، وأنه عليم بكل شيء، فيه بيان دقيق علمه، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:19]، يعلم ما تكن صدورهم، لا يعلم ما في الصدور إلا الله، ما يعلم ما في الصدور إلا الله، ما تكن صدورهم وما تخفيه، وما تتحدث به في أنفسها، وفي صدورها، تتحدث بكل نفس في صدرها وفي نفسها يعلمه سبحانه؛ ليكون العباد على حذر، وعلى وجل، وعلى خوف من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والله تعالى يخوف عباده، في هذا حث للعباد على التوبة النصوح، والعمل الصالح، والحث على الإخلاص والصدق مع الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ﴾[غافر:18]، خوفهم يوم القيامة الذي أزف وقرب وقته، ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾[غافر:18]، وصلت القلوب إلى الحناجر، لا ترجع ولا ترتفع، كاظمين ساكتين، والظلمة والكفرة ليس لهم قريب ينفعهم، وليس لهم شافع يشفع فيهم، فلا تقبل الشفاعة، فلا تقبل الشفاعة فيهم، ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[المدثر:48]، إنما الشفاعة خاصة بالمؤمنين، أما المؤمنون الموحدون لهم الشفاعة، أما الكفرة فلا نصيب لهم في الشفاعة، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾[غافر:18]، الله تعالى جعل للشفاعة شرطين: إذن الله للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، وهو سبحانه لا يأذن إلا لأهل التوحيد، ولا يرضى إلا لأهل التوحيد، ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾[النجم:26]، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]، أما الكفرة فليس لهم شفيع يطاع، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾[غافر:18]، نسأل الله السلامة والعافية.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وَهُوَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ، وَفِيهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ وَبِهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَطِنُوا غَضّ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ، فَإِذَا فَطِنُوا غَضَّ [بَصَرَهُ عَنْهَا] وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدّ أَنْ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى فَرْجِهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
هذا مثال لخائنة الأعين، أن يلحظ المرأة بعينها إذا مرت، أو إذا دخلوا البيت، فإذا فطن له الناس غض بصره، وإذا غفلوا لحظ، هذا مثال لخائنة الأعين، أن الله تعالى يعلم هذا الإنسان، وما يخفيه في نفسه، وما يقصده، وأنه يود أنها تكون عنده فيطلع عليها.
(وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {خَائِنَةَ الأعْيُنِ} هُوَ الْغَمْزُ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ؛ أَوْ: لَمْ أَرَ، وَقَدْ رَأَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ [اللَّهُ] تَعَالَى مِنَ الْعَيْنِ فِي نَظَرِهَا، هَلْ تُرِيدُ الْخِيَانَةَ أَمْ لَا؟ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ).
وكلها تشمل الآية، كلها، الغمز، يغمز، يلحظ ببصره عند غفلة الناس، كل هذا داخل في الآية.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} يَعْلَمُ إِذَا أَنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهَا هَلْ تَزْنِي بِهَا أَمْ لَا؟).
يعني ما يتمناه بنفسه، وما يظهره، والله تعالى يعلم، الناس لا يعلمون ولكن الله تعالى يعلم.
(وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي: من الوسوسة.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أَيْ: يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ).
كل هذا داخل، الوسوسة مما تكن الصدور، وما يلحظ الإنسان بالعين مما تخفي الصدور، وما يتمناه لو قدر لفعل الفاحشة هذا داخل أيضًا، وما يلحظه عند غفلة الناس بعينه، كل هذا داخل في خائنة الأعين، فليحذر الإنسان.
(وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أَيْ: يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشِ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ، وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ: 31]. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَحْكُمُونَ بِشَيْءٍ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَيْ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ خَلْقِهِ، بَصِيرٌ بِهِمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ).
سبحانه وتعالى، والله يقضي بالحق، أي: بالعدل، فهو سبحانه الحكم العدل، ومن ذلك أنه يجزي بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف أضعافًا كثيرة، ويجزي بالسيئة السيئة، ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾[غافر:20]، الذين يدعون من دونه من الأصنام والأوثان ليس عندهم شيء، وليس لهم قدرة، تقطعت بهم الأسباب، ليس لهم إضرار ولا نفع، لا قليل ولا كثير، أما الله فهو الحكم العدل، وهو الذي يجزي بالحسنة، ويجزي بالسيئة، ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[غافر:20]، سميع لأقوال عباده، فيه إثبات اسم السميع والبصير من أسماء الله، يقال: عبد السميع، عبد البصير، إثبات صفة السمع، والبصر لله -عَزَّ وَجَلَّ-، على ما يقضي بجلاله وعظمته، إن الله هو السميع، فمن صفات الله السمع، ومن صفاته البصر، ومن أسمائه السميع والبصير سبحانه وتعالى، فهو يسمع أقوال عباده، ويرى أحوالهم وأعمالهم، فليحذروا بطشه ونقمته، فليحذر العصاة بطش الله ونقمته.
({أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}.
يقول تعالى: أو لم يَسِرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِرِسَالَتِكَ يَا مُحَمَّدُ {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ قُوَّةً {وَآثَارًا فِي الأرْضِ} أَيْ: أَثَّرُوا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبِنَايَاتِ وَالْمَعَالِمِ وَالدِّيَارَاتِ، مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الْأَحْقَافِ: 26]، وَقَالَ {وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الرُّومِ: 9] أَيْ: وَمَعَ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْبَأْسِ الشَّدِيدِ، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَهِيَ كُفْرُهُمْ بِرُسُلِهِمْ، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أَيْ: وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ، وَلَا وَقَاهُمْ وَاقٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ وَذُنُوبَهُمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا وَاجْتَرَمُوهَا، فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ: بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، {فَكَفَرُوا} أَيْ: مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ كَفَرُوا وَجَحَدُوا، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أَيْ: أَهْلَكَهُمْ ودمَّر عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ: ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ: عِقَابُهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وَجِيعٌ. أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ).
يقول تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾[غافر:21]، الله تعالى فتن هؤلاء الكفار إلى أن يسيروا في الأرض ويمشوا، وينظروا أمكنة من سبقهم من الأمم المكذبة من الرسل، فإنها موجودة، تموت قوم صالح وديارهم موجودة، وكذلك قوم لوط وغيرهم، ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[غافر:21]، ما حل بهم من النكال والعقاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم، فليحذر هذا، فليحذروا، ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ﴾[غافر:21]، قوم هود كانوا أشد قوة من قريش، كان لهم قوة في الأجسام والآلات، وكذلك قوم صالح كانوا ينحتون، ويتخذون من الجبال بيوتًا، ومن السهل قصورًا، وينحتون الجبال، فكانوا أقوى منهم وأشد، ومع ذلك أهلكهم الله، فليحذر، تحذير، يعني احذروا أيها الكفار، سيروا في الأرض، انظروا مدائن صالح، ما يسمى مدائن صالح، آثارهم في البناء موجودة، في الجبال، ماذا أحل بهم من النكال، هم أشد منكم قوة، ومع ذلك أخذهم الله، أخذ الله قوم نوح، وأخذ الله قوم هود، وكذلك بقية الأمم التي كذبت أنبيائها، احذروا بطش الله ونقمته، آمنوا بالله ورسوله قبل أن تحل بكم العقوبة التي حلت بالأمم السابقة.
﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ﴾[غافر:21]، تأثيرهم في الأرض ظاهر، قوتهم أشد، فأخذهم الله بذنوبهم، أخذهم الله أي: أهلكهم الله بسبب ذنوبهم، ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾[غافر:21]، ما كان لهم أحد يقيهم ويرفع عنهم العذاب إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وسبب ذلك أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات، وسبب ذلك العذاب الذي أصابهم بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات والحجج الظاهرات، فكفروا فأخذهم الله، موسى آتاه الله آيات، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾[الإسراء:101]، قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾[الأعراف:133]، أهلكهم الله، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[غافر:22]، أخذهم الله بسبب ذنوبهم، قوي لا يغلب، ولا يرد أمره، شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وارتكب نهيه، فليحذر تهديد هذه الأمة، تفعل مثل ما فعل السابقون من الكفر بالله، والرد على أنبياء الله، وعدم الاستجابة فيصيبهم ما أصابهم من العقوبات والنكبات والمصائب، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾[غافر:22]، لا يغالب، شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره.
({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}.
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهُ، وَمُبَشِّرًا لَهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا جَرَى لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وَالسُّلْطَانُ هُوَ: الحُجة وَالْبُرْهَانُ.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} هُوَ: مَلِكُ الْقِبْطِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، {وَهَامَانَ} وَهُوَ: وَزِيرُهُ فِي مَمْلَكَتِهِ {وَقَارُونَ} وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ مَالًا وَتِجَارَةً {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أَيْ: كَذَّبُوهُ وَجَعَلُوهُ سَاحِرًا مُمَخْرِقًا مُمَوِّهًا كَذَّابًا فِي أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ [تَعَالَى]: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذَّارِيَاتِ 52، 53] .
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} وَهَذَا أَمْرٌ ثَانٍ مِنْ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ وُجُودِ مُوسَى، أَوْ لِإِذْلَالِ هَذَا الشَّعْبِ وَتَقْلِيلِ عَدَدِهِمْ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَلِلْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ، لِإِهَانَةِ هَذَا الشَّعْبِ، وَلِكَيْ يَتَشَاءَمُوا بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 129].
قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا أَمْرٌ بَعْدَ أَمْرٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أَيْ: وَمَا مَكْرُهُمْ وَقَصْدُهُمُ الَّذِي هُوَ تَقْلِيلُ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يُنصروا عَلَيْهِمْ، إِلَّا ذَاهِبٌ وَهَالِكٌ فِي ضَلَالٍ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ-عَلَى قَتْلِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ: قَالَ لِقَوْمِهِ: دَعُونِي حَتَّى أَقْتُلَ لَكُمْ هَذَا، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أَيْ: لَا أُبَالِي مِنْهُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَحْدِ وَالتَّجَهْرُمِ وَالْعِنَادِ.
وَقَوْلُهُ -قَبَّحَهُ اللَّهُ-: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ} يَعْنِي: مُوسَى، يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلَّ مُوسَى النَّاسَ وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتِهُمْ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: "صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا" يَعْنِي: وَاعِظًا، يُشْفِقُ عَلَى النَّاسِ مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: "أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَنْ يَظهَر فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" وَقَرَأَ آخَرُونَ: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ} وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "يَظْهَر فِي الْأَرْضِ الفسادُ" بِالضَّمِّ.
وَقَالَ مُوسَى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أَيْ: لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} قَالَ مُوسَى: استجرتُ بِاللَّهِ وعُذْتُ بِهِ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ أَمْثَالِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، مجرم، {لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: "اللَّهُمَّ، إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَنَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ" (1) .
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}.
الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ كَانَ قبْطيًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي نَجَا مَعَ مُوسَى. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ انْفَعَلَ لِكَلَامِهِ وَاسْتَمَعَهُ، وَكَفَّ عَنْ قَتْلِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا لَأَوْشَكَ أَنْ يُعَاجَلَ بِالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ سِوَى هَذَا الرَّجُلِ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي قَالَ: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [الْقَصَصِ:20] رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
يعني هو الثالث، ويحتمل أنه هو الذي قال لموسى: إن الملأ يأتمرون بك، يحتمل أنه واحد.
(وَقَدْ كَانَ هَذَا الرجلُ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ عَنْ قَوْمِهِ الْقِبْطِ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}، فَأَخَذَتِ الرَّجُلَ غَضْبَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَ«أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»، كَمَا ثَبَتَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ]، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ مِمَّا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبة بْنُ أَبِي مُعَيط، فَأَخَذَ بمَنْكب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ ودَفَع عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدة عَنْ هِشَامٍ -يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِل: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: مَرَّ بِهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَقَالَ: «أَنَا ذَاكَ» فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، فرأيتُ أَبَا بَكْرٍ مُحْتَضِنُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَيَسِيلَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا.
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدَةَ، فَجَعْلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: كَيْفَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا لِكَوْنِهِ يَقُولُ: "رُبِّيَ اللَّهُ"، وَقَدْ أَقَامَ لَكُمُ الْبُرْهَانَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ؟ ثُمَّ تَنزل مَعَهُمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} يَعْنِي: إِذَا لَمْ يُظْهِرْ لَكُمْ صِحَّةَ مَا جَاءَكُمْ بِهِ، فَمِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ التَّامِّ وَالْحَزَمِ أَنْ تَتْرُكُوهُ وَنَفْسَهُ، فَلَا تُؤْذُوهُ، فَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجَازِيهِ عَلَى كَذِبِهِ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا وَقَدْ آذَيْتُمُوهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمِنَ الْجَائِزِ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَلَّا تَتَعَرَّضُوا لَهُ، بَلِ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ يَدْعُوهُمْ وَيَتْبَعُونَهُ.
وَهَكَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ [تَعَالَى] عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْمُوَادَعَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدُّخَانِ:17 -21]. وَهَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ أَنْ يَتْرُكُوهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ [تَعَالَى] عِبَادَ اللَّهِ، وَلَا يَمَسُّوهُ بِسُوءٍ، وَأَنْ يَصِلُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ فِي تَرْكِ أَذِيَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشُّورَى: 23]، أَيْ: إِلَّا أَلَّا تُؤْذُونِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَلَا تُؤْذُونِي وَتَتْرُكُوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا وُقِّعَتِ الْهُدْنَةُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ فَتْحًا مُبِينًا.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أَيْ: لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ كَاذِبًا كَمَا تَزْعُمُونَ، لَكَانَ أَمْرُهُ بَيِّنًا، يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَانَتْ تَكُونُ فِي غَايَةِ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، وَهَذَا نَرَى أَمْرَهُ سَدِيدًا وَمَنْهَجَهُ مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ الْكَذَّابِينَ لَمَا هَدَاهُ اللَّهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا تَرَوْنَ مِنِ انْتِظَامِ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ مُحَذِّرًا قَوْمَهُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَحُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ} أَيْ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْمُلْكِ وَالظُّهُورِ فِي الْأَرْضِ بِالْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، فَرَاعُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِشُكْرِ اللَّهِ، وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْذَرُوا نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ كَذَّبْتُمْ رَسُولَهُ، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} أَيْ: لَا تُغْنِي عَنْكُمْ هَذِهِ الْجُنُودُ وَهَذِهِ الْعَسَاكِرُ، وَلَا تَرُدُّ عَنَّا شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنَا بِسُوءٍ.
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لِقَوْمِهِ، رَادًّا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ الَّذِي كَانَ أَحَقَّ بِالْمُلْكِ مِنْ فِرْعَوْنَ: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} أَيْ: مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي وَقَدْ كَذَبَ فِرْعَوْنُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ صِدْقَ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ} [الْإِسْرَاءِ:102] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14].
فَقَوْلُهُ: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} كَذَبَ فِيهِ وَافْتَرَى، وَخَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَرَعِيَّتَهُ، فَغَشَّهُمْ وَمَا نَصَحَهُمْ وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أَيْ: وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالرُّشْدِ وَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ قَدْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هُودٍ: 97]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طَهَ: 79] ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا لَمْ يَرح رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»).
هذه الآيات الكريمات فيها بيان هذه القصة العظيمة التي قصها الله تعالى علينا في مواضع، مرة مبسوطة، ومرة مختصرة، ومرة متوسطة، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾[غافر:23]، بين الله تعالى أنه أرسل موسى بالبينات والحجج الباهرة، في الآيات الأخرى بين أنه آتاه تسع آيات بينات، العصا، واليد، والضفادع، والقمل، والطوفان، والجراد، إلى آخر التسع آيات، أهمها العصا واليد، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾[غافر:23]، أرسله الله تعالى بالآيات والحجج، السلطان البيان والحجج الظاهرة، ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾[غافر:24]، فرعون ملك القبط، وهامان وزيره، وقارون من بني إسرائيل وهو أكبر تاجر، ﴿فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾[غافر:24]، هكذا، كذبوه، قالوا: كذاب، وقالوا: إنه ساحر، فقالوا: ساحر كذاب.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا﴾[غافر:25]، فلما جاءهم موسى بالبينات والحق قال فرعون: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، واستحيوا نسائهم، هكذا أمر بقتلهم، يقتل أبنائهم ويستحي نسائهم، يقتل الأبناء الذكور حتى يستذلهم، حتى ينقص عددهم، حتى لا يكون لهم شأن، ولا مدافعة، ولا قوة، ولا خطر، هكذا أمر بقتل الذكور وإبقاء النساء، يقتل أبنائهم ويستحي نسائهم، وهنا في هذا قال: ﴿قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾[غافر:25]، أبقوهم أحياء، أبقوا النساء أحياء، واقتلوا الذكور، ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾[غافر:25]، هذا كيدهم، ولكنه ذاهب ضائع، وسوف يجازيهم الله تعالى على ذلك يوم القيامة، ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾[غافر:25]، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾[غافر:26]، هكذا صرح، اتركوني أقتل موسى، هو قادر، ولكن هذا من باب الإظهار للناس، ذروني أقتل موسى وليدع ربه، اتركوني أقتل موسى، هم لا يستطيعون منعه، لكن هذا من باب إظهار قوته وجبروته، ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾[غافر:26]، ينادي ربه، يعني لا أبالي.
﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[غافر:26]، هكذا جعل نفسه واعظًا ومذكرًا لقومه، فرعون يخاف على الناس من موسى أن يبدل دينهم، ويرى أن دعوة موسى فيها فساد، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[غافر:26]، هكذا جعل نفسه مذكرًا، ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾[غافر:27]، موسى استجار بالله، واستعاذ بالله، قال: أعوذ بالله، إني عذت بالله ربي وربكم عن الإيمان، وعن طاعة الله، وعن الاستجابة لله ولرسوله، ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾[غافر:27]، هكذا؛ لأنه لو كان يؤمن بيوم الحساب لما تكبر، وما تجبر، ولكنه جحد الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وهو مستيقن في الباطن، ولكن الذي حمله على ذلك الكبر والجبروت، وعدم الإيمان بيوم الحساب، ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾[غافر:28]، هذا الرجل من بني إسرائيل، الصواب أنه من بني إسرائيل؛ لأنه لو كان من القبط، من آل فرعون، ليس من بني إسرائيل، لو كان من بني إسرائيل لقتله ولا يبالي به، هذا هو كما قال المفسرون، كما قال شيخ المفسرين ابن جرير.
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾[غافر:28]، في الأول، لكنه في هذا المقام ظهرت غيرته، وسلامته في دينه، وعدم صبره، فأعلن إيمانه وإسلامه، ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾[غافر:28]، ثم أظهر إيمانه، ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[غافر:28]، كيف تقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ فرعون ينكر، يقول: أنا ربكم الأعلى، ومع ذلك قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[غافر:28]، جاء بأدلة وحجج، ليس دعوى، الدعوى عليها أدلة، ثم تنزل، إن لم تظهر لكم صحة هذه الأدلة، فمن العقل، ومن المروءة أنكم تتركونه، وإن كان كاذبًا فسيصاب بكذبه، وإن كان كاذبًا فسيصيبكم بعض الذي وعدكم، لا بد أن ينصر عليكم، ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾[غافر:28]، الله تعالى لا يهدي المسرفين والكذبة، وإنما يعاجلهم بالعقوبة، وقد بقي أمره مستقيم فدل على أنه صادق.
﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ﴾[غافر:29]، هذا يؤيد أنه من القبط، يا قوم لكم اليوم، أيها القبط لكم اليوم ظاهرين في الأرض، فرعون ملك القبط، ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ﴾[غافر:29]، لكم الكلمة النافذة، لكم السلطان، ولكم القوة، ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾[غافر:29]، من يرد بأس الله إن جاءنا، نصيحة من هذا الرجل، أنتم الآن مكنكم الله، لكم القوة، والكلمة النافذة، والقدرة، فإذا جاء بأس الله من يردكم، قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[غافر:29]، مصرٌّ على رأيه، قال: أنا رأيي هو النافذ والتام، وأنا الذي أهديكم سبيل الرشاد، ماذا عند فرعون من الهداية؟! والعياذ بالله، ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[غافر:29]، هكذا هؤلاء الظلمة والطغاة، وعلى رأسهم فرعون، هكذا يظنون أنهم أو يوهمون الناس أنهم على الحق، وأنهم يهدون الناس سبيل الرشاد، ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[غافر:29]، نسأل الله السلامة والعافية.
ولكن الرسل وأتباعهم صبروا واستقاموا على أمر الله، فكانت العاقبة لهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف:128]، لما قالوا له: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:129]، قال قبل ذلك: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف:128]، العاقبة للمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، وصبروا على أمر الله وطاعته، فالعاقبة الحميدة لهم في الدنيا والآخرة، لهم النصر، فهم المنصورون بالحجة والبيان في كل وقت، ومنصورون بالسلاح في بعض الأوقات، ولهم العاقبة الحميدة في الآخرة بالثواب الجزيل والأجر الكبير.