بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
قال الحافظ ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسيره العظيم عند تفسير سورة غافر:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾.
(هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ} أَيِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، كَيْفَ حَلَّ بِهِمْ بَأْسُ اللَّهِ، وَمَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ، وَلَا صَدَّهُ عنهم صاد.
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أَيْ: إِنَّمَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ، وَمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَهُ. فَأَنْفَذَ فِيهِمْ قَدَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ: إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا زُلْزِلَتْ وَانْشَقَّتْ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَمَاجَتْ وَارْتَجَّتْ، فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ ذَهَبُوا هَارِبِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ: بَلْ ذَلِكَ إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ، ذَهَبَ النَّاسُ هِرَابا، فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَتَرُدُّهُمْ إِلَى مَقَامِ الْمَحْشَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الْحَاقَّةِ: 17]، وَقَوْلُهُ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرَّحْمَنِ:33].
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ قَرَؤُوا: "يَوْمَ التَّنَادِّ" بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ مِنْ نَدَّ الْبَعِيرُ: إِذَا شَرَدَ وَذَهَبَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمِيزَانَ عِنْدَهُ مَلَكٌ، وَإِذَا وَزَنَ عَمَلَ الْعَبْدِ فَرَجَحَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلَا قَدْ سَعِدَ فَلَانُ بْنُ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا. وَإِنْ خَفَّ عَمَلُهُ نَادَى: أَلَا قَدْ شَقِيَ فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يُنَادَى كُلُّ قَوْمٍ بِأَعْمَالِهِمْ: يُنَادَى أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ أَهْلَ النَّارِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُنَادَاةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الْأَعْرَافِ: 44]. وَمُنَادَاةُ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 50]، وَلِمُنَادَاةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَاخْتَارَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد؛
هذه الآيات الكريمة فيها بيان من الله -عَزَّ وَجَلَّ- لقول هذا المؤمن من آل فرعون، وأنه حذر قومه بأس الله في الدنيا والآخرة، وحذرهم يوم القيامة هو يوم التناد، يناد الناس بعضهم بعضًا إذا هربوا في الأرض أو أن أهل الجنة ينادون أهل النار، وأهل النار ينادون أهل الجنة أو أن الملك ينادي سعد فلان وشقي فلان، و[07:39] كله، وهذا هو الأقرب، الأقرب أنه عام يشمل هذا كله.
كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَاخْتَارَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ.
سُمي يوم التناد، لأن الناس ينادي بعضهم بعضًا، ولأن أهل الجنة ينادي أهل النار، وأهل النار ينادي أهل الجنة، ولأن الملك ينادي، وقد يكون التناد إذا جاء بالنار يشمل هذا كله، فهذا من أسمائه، يوم القيامة له أسماء يُسمى:
- الحاقة.
- الغاشية.
- يوم التناد.
وكل هذه الأسماء الكثيرة كلها من أسمائه، ومن أوصافه.
فهذا المؤمن من آل فرعون أخبر الله عنه أنه نصح قومه وأنه حذرهم بأس الله ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ حذرهم مثل يوم الأحزاب يعني الأمم المكذبة التي تحزبت واجتمعت على الكفر وخالفت نبيها فحل بها بأس الله، كقوم نوح، ولهذا قال ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ ماذا حل بهم، حل بقوم نوح؟
أغرقهم الله، وفي قوم عاد حل بهم العذاب الريح الصرصر العاتية، وحل بقوم ثمود الصيحة، وكذلك من بعدهم من الأمم، حل بهم بأس الله، ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ ما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أعطاهم الله الأسماع والأبصار والأفئدة وأرسل عليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب وأمهلهم، وحذرهم، وأنزل عليهم الكتب، ولكنهم اختاروا الكفر على الإيمان، فحل بهم بأس الله ونقمته.
﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ أخاف عليكم هذا اليوم يوم القيامة، يناد الناس بعضهم بعضًا، ينادي أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، وينادي الناس بعضهم بعضًا إلى ما ماج بعضهم في بعض، قال ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ لا أحد يعصمكم من الله، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ من يضله الله فلا حيلة فيه، فلا أحد يهديه، كما أن من هدى الله، فلا أحد يضله.
(وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أَيْ: ذَاهِبِينَ هَارِبِينَ، {كَلا لَا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [الْقِيَامَةِ: 11، 12]، وَلِهَذَا قَالَ: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أَيْ: مَا لَكُمْ مَانِعٌ يَمْنَعُكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أَيْ: مَنْ أَضَلَّهُ [اللَّهُ] فَلَا هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ).
هكذا من شدة الهول يول الناس مدبرين، ولا أحد يمنعهم، ولا عاصم، ولا أحد يردهم، ليس لهم مفر ولا مهرب من الله إلا إليه، لابد من الحساب، ولابد من الجزاء، ولهذا قال سبحانه ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ من أضله الله فلا حيلة فيه.
(وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: أَهْلَ مِصْرَ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ قَبْلِ مُوسَى، وَهُوَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ عَزِيزَ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَانَ رَسُولًا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ أُمَّتَهُ الْقِبْطَ، فَمَا أَطَاعُوهُ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْوِزَارَةِ وَالْجَاهِ الدُّنْيَوِيِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} أَيْ: يَئِسْتُمْ فَقُلْتُمْ طَامِعِينَ: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: كحالكم هذا.
ثُمَّ قَالَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيِ: الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُجَادِلُونَ الْحُجَجَ).
النسخة الثانية (بالحجج).
(بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا يُبغضُون مَنْ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ {جَبَّارٍ}.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ -وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ-أَنَّهُمَا قَالَا لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ جَبَّارًا حَتَّى يَقْتُلَ نَفْسَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَقَتَادَةُ: آيَةُ الْجَبَابِرَةِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37)}).
بيَّن الله تعالى في هذه الآيات قال ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ إثبات الرسالة ليوسف -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ويوسف كان قبل موسى بدهرٍ، بزمنٍ طويل، لأن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولهذا في الحديث الصحيح «الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ».
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج والبراهين، وهكذا كل الأنبياء، أعطاهم الله من الحجج ما يؤمن على مثله البشر، كما جاء في الحديث الصحيح ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ يعني كذبوه وارتابوا في رسالته ونبوته، ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ هؤلاء الذين أسرفوا وارتابوا وشكوا وجادلوا الحجج ليبطلوها بغير دليل وبغير حجةٍ ظاهرة، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ وهذا فيه إثبات نبوة الرسالة، فيه إثبات أن يوسف رسول، وأنه أرسل إلى أهل القبط أهل مصر بعد عزيز مصر، وأتاه الله النبوة والملك، مثل سليمان كذلك وادود جمع الله لهم بين النبوة والملك، ولكن يوسف هنا [19:00] الله أنه رسول، وأما داود وسليمان فهما من أنبياء بني إسرائيل الذين كلفوا بالعمل بالتوراة، وموسى إنما جاء بعد يوسف بدهر.
({فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} أَيْ: يَئِسْتُمْ فَقُلْتُمْ طَامِعِينَ: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}).
يعني كذبوا بالبينات والحجج التي جاء بها يوسف، فلما توفي يئسوا، وقالوا: لن يأتي بعد أحدٍ رسول يدعونا إلى الله، وذلك لكفرهم وضلالهم.
(وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: كحالكم هذا يكون حال من يضله الله، لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه).
يعني شبه حالهم بحال المسرفين، أنهم أسرفوا فكذبوا، فكذلك كل مسرف، وكل مرتاب تكون حاله كحالهم، يكذبون بالحجج والبراهين، ولا يقبلون هدى الله الذي أرسل به الرسل.
الطالب: يكون هذا أن موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بعد يوسف مباشرة؟
الشيخ: لا، بينهم دهور مدة.
الطالب: ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا﴾ لن يأتي رسول إلا موسى بعده مباشرة.
الشيخ: نعم، لكن بعد مدة، موسى أول أنبياء بني إسرائيل، بعده بدهر.
(ثُمَّ قَالَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيِ: الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُجَادِلُونَ الْحُجَجَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ).
السلطان هو الحجة والدليل، ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ يردون الحجج والبراهين التي جاءت بها الأنبياء بغير دليل وبغير سلطان الحجة والبيان، ليس عندهم دليل بالتكذيب والتمويه بالباطل، كذلك ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ يعني يردون الحجج، والآيات، والبراهين التي جاءت بها الأنبياء بغير دليل، بل بالباطل.
(وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا يُبغضُون مَنْ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ).
والمقت أشد البغض، وفيه إثبات المقت لله -عَزَّ وَجَلَّ- كما أيضًا في أول السورة، وفي هذا ذكر المقت، والمقت أشد البغض.
(فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} أَيْ: عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ {جَبَّارٍ}.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ -وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ-أَنَّهُمَا قَالَا لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ جَبَّارًا حَتَّى يَقْتُلَ نَفْسَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَقَتَادَةُ: آيَةُ الْجَبَابِرَةِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ).
هذه علامتهم، أما كون أنه أشترط أن يقتل نفسه ليس بظاهر، لكن الجبار هو الذي يظلم الناس ويقتل بغير حق، ولا يؤدي الحقوق ويظلم الناس، ويسلبهم حقوقهم.
الطالب: كأنهم أخذوا قولهم من حتى يقتل نفسين قصة موسى عندما قال له....
الشيخ: لا يلزم أن يكون... جبار بظلمك وتعديك وقتلك حتى ولو نفس واحدة يعتبر جبار.
الطالب: الأحزاب؟
الشيخ: الأحزاب: الأمم الكافرة بيَّنها قال ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ الأحزاب: قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، أمم تحزبت، واجتمعت على الكفر.
({وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37)}
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، وَعُتُوِّهُ، وَتَمَرُّدِهِ، وَافْتِرَائِهِ فِي تَكْذِيبِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَمَرَ وَزِيرَهُ هَامَانَ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ صَرْحًا، وَهُوَ: الْقَصْرُ الْعَالِي الْمُنِيفُ الشَّاهِقُ. وَكَانَ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْآجُرِّ الْمَضْرُوبِ مِنَ الطِّينِ الْمَشْوِيِّ، كَمَا قال: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [الْقَصَصِ: 38]، وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْبِنَاءَ بِالْآجُرِّ، وَأَنْ يَجْعَلُوهُ فِي قُبُورِهِمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو صَالِحٍ: أَبْوَابَ السموات. وقيل: طرق السَّمَوَاتِ {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا} ، وَهَذَا مِنْ كُفْرِهِ وَتَمَرُّدِهِ، أَنَّهُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أَيْ: بِصَنِيعِهِ هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ بِهِ الرَّعِيَّةَ أَنَّهُ يَعْمَلُ شَيْئًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]، وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي إِلَّا فِي خَسَارٍ).
يقول تعالى ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ في هذه الآيات بيان أن فرعون فهم من موسى أن الله في العلو، فيه إثبات أن الله في العلو، ولهذا أمر فرعون وزيره هامان أن يبني له صرحًا، قصرًا منيفًا قال ﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ﴾ يكذب موسى فيما أدعاه أن الله في العلو.
في الآيات الأخرى ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ ففرعون فهم من موسى أن الله في العلو، فأراد أن يكذبه فأمر وزيره هامان أن يبني له قصرًا مُنيفًا ليوهم القبط أن موسى كاذب، وأنه ليس هناك إله، ولهذا قال ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ أريكم تشاهدون أن موسى كذاب ولا يوجد إله، قال الله ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ زين الله له سوء عمله ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، ﴿وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ فلا فائدة فيه، ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾.
فموسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أثبت العلو، وكذلك الرسل، نبينا محمد أثبت العلو لله -عَزَّ وَجَلَّ- وفرعون والجهمية أنكروا علوا الله، ولهذا قال العلماء: من أثبت العلو لله فهو موسويٌ محمدي (نسبة إلى موسى ومحمد) ومن أنكر العلو فهو فرعونيٌ جهمي، فرعون أنكر علو الله، وكذلك الجهمية، بعض المبطلين، بعض المفسدين والضلال عكسوا، قالوا: إن فرعون أثبت العلو حينما قال لوزيره ﴿يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ وهذا يدل على أن الله.... يدل على عدم ثبوت العلو لله، عكسوا، هذا من جهلهم وضلالهم، فرعون طلب من وزيره هامان أن يبني له صرحًا ليكذب موسى فيما أدعاه أن الله في العلو، وليس المراد من بعض الضلال أن فرعون يثبت العلو، فرعون يبطل العلو، وإثبات العلو لله هذا تناقص في الله عند الجهمية، معناه أن الله متحيز وأنه جسم، وأنه في جهةٍ واحدة، بل هو في جميع الجهات، قالوا: فمن أثبت العلو فهو مجسم، هكذا الجهمية، مجسم متنقص لله.
ولهذا الجهمية إذا رأوا أحد يرفع إصبعه إلى السماء قطعوه، انتبه لا ترفع إصبعك إذا كان عند أحدكم من الجهمية يقطع إصبعك ولا يبالي، لكن إذا كان معك أحد يدافع عنك، أما إذا رفعت إصبعك قطع إصبعك، لأنك متنقص لله، يقول أنت نقصت الرب جعلت الرب في جهةٍ واحدة متحيز، تنقص لله جسم متحيز هو في جميع الجهات أكمل من أن يكون في جهةٍ واحدة، هكذا تزعم الجهمية.