شعار الموقع

سورة غافر - 6

00:00
00:00
تحميل
42

الأحد 19 – 6- 1440هـ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه في تفسيره العظيم عند تفسير سورة غافر.

قال الله تعالى:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

({وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}).

قال رحمه الله تعالى: (يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِقَوْمِهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}. لَا كَمَا كَذَبَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} .

ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الَّتِي آثَرُوهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَصَدَّتْهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِرَسُولِ اللَّهِ مُوسَى [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أَيْ: قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ تَذْهَبُ [وَتَزُولُ] وَتَضْمَحِلُّ، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أَيِ: الدَّارُ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا، وَلَا انْتِقَالَ مِنْهَا وَلَا ظَعْنَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، بَلْ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا جَحِيمٌ، وَلِهَذَا قَالَ {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أَيْ: وَاحِدَةً مِثْلَهَا {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ: لَا يَتَقَدَّرُ بِجَزَاءٍ بَلْ يُثِيبُهُ اللَّهُ، ثَوَابًا كَثِيرًا لَا انْقِضَاءَ لَهُ وَلَا نفاد).

الشيخ: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وعلى آله وصحبه ومن ولاه.

أما بعد...

هذه الآيات الكريمات فيها حكاية الله تعالى عن المؤمن من آل فرعون أنه نصح قومه، {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، يعني اتبعوني أدلكم على طريق الرشاد وهو الطريق الذي يرشدكم غلى الحق، لا كما يقول فرعون في زعمه أنه قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[غافر:29]، فإن فرعون كاذب في قوله، المؤمن يقول لهم أنا الذي أهديكم غلى سبيل الرشاد، أدعوكم إلى الله، أدعوكم الإيمان بالله وبرسوله موسى عليه السلام، هذا هو سبيل الرشاد، ليس سبيل الرشاد ما يدعيه فرعون، حينما كذب في قوله: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

 {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، ثم زهدهم في الدنيا التي آثروها على الأخرة، وصدتهم عن الإيمان بالله وبرسوله موسى، قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ}، يتمتع بها الناس ثم تنقضي، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}، هي دار المقر والاستقرار والثبات، والاستمرار إما في الجنة وإما في النار.

ثم بين مصير أهل الجنة ومصير أهل النار الذين يعملون السيئات، وأعظم السيئات هي الكفر، وأهل الجنة يعملون الصالحات وأعظم الصالحات التوحيد، {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا}؛ لأن الله تعالى لا يظلم أحدًا، من عمل سيئة يجازى بسيئة واحدة، وقد يغفرها الله ويتوب على صاحبها إذا كان مؤمنًا، ومن عمل صالحًا فالله تعالى يضاعفه له أجره وثوابه الحسنة بعشر أمثالها غلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فلابد من الإيمان حتى يكون العمل صالحًا، لا يكون العمل صالحًا إلا مع التوحيد والإيمان، فلابد من تحقيق الأصلين التوحيد والإيمان والعمل الصالح وهو الموافق للشرع، ولهذا قال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}، الذكور والإناث على حد سواء، كلهم خلقوا للجنة والنار، كلهم كلفوا، فمن كان مؤمنًا موحدًا لله عز وجل من الذكور والإناث واتبع الشرع عمل صالحًا، فهو من أهل الجنة، يدخلها ويستقر فيها، نسأل الله الكريم من فضله.

طالب آخر: دائمًا يذكر الله سبحانه وتعالى في العمل الصالح الذكر والأنثى، بخلاف السيئة يذكرها مجملة، هل في ذلك حكمة مبينة لكم فيها؟

الشيخ: نعم، العمل الصالح الذكر والأنثى، وكذلك السيئة، من عملها من ذكر أو أنثى يجازى، معروفة الأحكام، النصوص كثيرة دلت على أن الأحكام للذكور والإناث على حد سواء، فيه نصوص أخرى يذكر فيها الذكور والإناث، عند التأمل.

طالب آخر: ذكر في سورة التوبة فقط، لكن في سورة النساء كذلك، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}.

الشيخ: للترغيب والترهيب، والنصوص ضم بعضها إلى بعض، المعلوم من النصوص أن الأحكام تلزم الذكور الإناث، وأن الثواب للذكور والإناث، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾[الزلزلة:7]، من من صيغ العموم.

طالب آخر: لم يقل من عمل سيئة من ذكر أو أنثى، لم يقل من ذكر .... [09:00].

الشيخ: نعم معروف، ومن عمل سيئة يعود غلى ما سبق أيضًا، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}، يعود إليها جميعًا، يعني من من صيغ العموم تشمل الذكور والإناث.

طالب آخر: قال القرطبي في التفسير: (لا يقال مؤمن آل فرعون، بل يقال: مؤمن آل موسى، ولكن ينسب إلى فرعون نسبًا، ولكن هو مؤمن من أمة موسى)، هل هذا صحيح؟

الشيخ: هو يقال : (مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، يعني إنه من قوم فرعون، يعني إنه من قومه.

طالب آخر: [09:38] (صوت غير مسموع).

الشيخ: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾[غافر:28]، يعني بيان أنه منهم، من القبط وليس من بني إسرائيل.

الطالب: ثم قال تعالى: ({وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}.

يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُ: مَا بَالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَصْدِيقُ رَسُولِهِ الَّذِي بَعَثَهُ {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: جَهْلٌ بِلَا دَلِيلٍ {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} أَيْ: هُوَ فِي عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَغْفِرُ ذَنْبَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} يَقُولُ: حَقًّا.

قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا جَرَمَ} حَقًّا.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {لَا جَرَمَ} لَا كَذِبَ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا جَرَمَ} يَقُولُ: بَلَى، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ}

قَالَ مُجَاهِدٌ: الْوَثَنُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْوَثَنَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُجِيبُ دَاعِيَهُ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.

وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ: 5، 6] ، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14].

وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أَيْ: خَالِدِينَ فِيهَا بِإِسْرَافِهِمْ، وَهُوَ شِرْكُهُمْ بِاللَّهِ.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} أَيْ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَنَصَحْتُكُمْ وَوَضَّحْتُ لَكُمْ، وَتَتَذَكَّرُونَهُ، وَتَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُكُمُ النَّدَمُ، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} أَيْ: وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُقَاطِعُكُمْ وَأُبَاعِدُكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أَيْ: هُوَ بَصِيرٌ بِهِمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ، وَيُضِلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِضْلَالَ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالْقَدَرُ النَّافِذُ.

وَقَوْلُهُ [تَعَالَى]: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وَهُوَ: الْغَرَقُ فِي الْيَمِّ، ثُمَّ النَّقْلَةُ مِنْهُ إِلَى الْجَحِيمِ. فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اجْتَمَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ فِي النَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أَيْ: أَشَدَّهُ أَلَمًا وَأَعْظَمَهُ نَكَالًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ فِي الْقُبُورِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}. وَلَكِنَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:

حَدَّثَنَا هَاشِمٌ -هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النَّضْرِ-حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ -هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ-حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -يَعْنِي أَبَاهُ-عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَخْدُمُهَا فَلَا تَصْنَعُ عَائِشَةُ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ إِلَّا قَالَتْ لَهَا الْيَهُودِيَّةُ: وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ. قَالَتْ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "لَا وَعَمَّ ذَلِكَ؟ " قَالَتْ: هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ، لَا نَصْنَعُ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ إِلَّا قَالَتْ: وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ. قَالَ: "كَذَبَتْ يَهُودُ. وَهُمْ عَلَى اللَّهِ أَكْذَبُ، لَا عَذَابَ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ". ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ مُشْتَمِلًا بِثَوْبِهِ، مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "الْقَبْرُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المظلم أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا. أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

وَرَوَى أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -قَالَ: سَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ يَهُودِيَّةٌ فَأَعْطَتْهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتِ لَهُ، فَقَالَ: "لَا". قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: "وَإِنَّهُ أُوحِيَ إلي أنكم تفتنون في قبوركم". وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِهِمَا.

فَيُقَالُ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً، وَفِيهَا الدَّلِيلُ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى عَرْضِ الْأَرْوَاحِ إِلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى اتِّصَالِ تَأَلُّمِهَا بِأَجْسَادِهَا فِي الْقُبُورِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالرُّوحِ، فَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لِلْجَسَدِ وَتَأَلُّمُهُ بِسَبَبِهِ، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا السُّنَّةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْضِيَّةِ الْآتِي ذِكْرُهَا.

وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَذَّبَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ بِذَنْبٍ).

الشيخ: هذه الآيات الكريمات فيها تتمة كلام المؤمن ونصيحته لقومه، وأنه قال لهم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)}، يعني متعجبًا وناصحًا، {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}، أدعوكم إلى ما يجنيكم الله به من العذاب وهو التوحيد والإيمان بالله وبرسوله، وبنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}، إلى ما ينجيكم من عذاب الله، وأنتم تدعوني إلى الشرك والكفر، {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، تدعونني للشرك بدون علم مع الجهل، {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}، أدعوكم إلى الله عز وجل، توحيده وإيمانه، فهو العزيز القوي، منيع الجناب الغفار لمن تاب إليه وأناب إليه.

{تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ}، يعني حقًا {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ}، ما تعدونني إليه من عبادة الأصنام والأوثان والشرك هذه لا تنفع ولا تضر ولا تجيب داعيها، لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾[الأحقاف:5].

{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ}، المرجع والمصير إلى الله، سوف يرجع الناس إليه ويجازيهم بأعمالهم، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، وهم الكفار الذين تجاوزوا الحد، [22:48] بالله ورسوله، فأشركوا بالله عز وجل، فكان هذا سرفًا وتجاوزًا للحد، ، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.

ثم بين لهم العاقبة في المستقبل، قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}، في المستقبل تجدون أثر نصيحتي عليه، وأنني ناصحٌ لكم، وأن النجاة إنما هي في التوحيد والإيمان، وأن لكنما هم في الشرك ورد الحق وعدم الإيمان بالله وبرسوله، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}، أتوكل إلى الله واعتمد إليه، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، بصيرٌ بعباده، بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وسوف يجازيهم.

قال الله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}، نجاه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فكان مع موسى عليه السلام ونجاه الله من الغرق، وفي الآخرة كذلك مع المؤمنين،  {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}، حل بهم سوء العذاب، فسره بقول: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، هذه أرواحهم تعرض على النار، ولذا قال بعد ذلك: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}، فدل على أن العرض السابق قبل يوم القيامة، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، قبل يوم القيامة، وإنما هذا يكون في القبر، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}، يوم القيامة، {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}، فهذا عرضٌ للأرواح، هذا عرضٌ للأرواح يعرض عليهم، في يوم القيامة تبعث الأجساد وتكون الرواح فيها، ويعذبون في النار، ويكون عذابهم أشد، وهذه الآية وإن كانت مكية فيها إثبات عذاب القبر للكفار، ثم بعد ذلك جاءت السنة، بعد ذلك الأحاديث وبينت أن العذاب قد يكون لبعض العصاة، لعصاة المؤمنين، كما يكون للكفار، كما في حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرأ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"، ثم أخذ جريدة رطبة، وشقها نصفين، وغرس في كل قبر واحدة، وقال: "لعله يخفف عنهما إن لم ييبسا"، هذه الآية من أدلة عذاب القبر، قد جاءت أيضًا كذلك أدلة في القرآن ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[الأنفال:50]، هذا أيضًا الآية فيها دليل على عذاب القبر، كما أن أيضًا جاءت الأدلة بالنعيم، قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾[فصلت:30]، إلى آخر الآيات.

والسنة فيها الأحاديث كثيرة الصريحة في عذاب القبر ونعيمه، كحديث البراء بن عازب في قبض روح المؤمن، وصعود روحه، وتمثل عمله رجلًا صالحًا، وتنعمه ويمد له في قبره مد البصر، وفي قبض الملائكة روح الكافر وأنها تنزع نزعًا شديدًا وأنها لا تفتح لها أبواب السماء وأنه يمثل له عمله برجل قبيح الوجه، وأن الملائكة تضربه ضربةً شديدة وأنه يصيح صيحة، ويضيق عليه في قبره حتى [27:10]، كل هذا جاء في الحديث.

طالب آخر: هذا الرجل ذكر في أول القصة أنه يكتم إيمانه، هل معنى أنه كان يكتم إيمانه ثم صرح؟

الشيخ: نعم، كما ذكر الحافظ أنه كان يكتمه أولًا، ثم لم يصبر وأظهر إيمانه، لكن مسكوت عنه ماذا فعل فرعون، هل أخذه وعذبه؟ أو لم يأخذه، ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)  يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ﴾، آل فرعون، ﴿فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾[غافر:29]، هذا صريح، ذكر الحافظ عن تفسيرها أنه لم يصبر، وأنه كان يكتم إيمانه أولًا، ثم لم يصبر، جاءته الغيرة، حملته الغيرة على أنه صرح بإيمانه وأظهر الإيمان، لكن مسكوت، الأئمة ما ذكروا ماذا فعل به فرعون، لكن الله ذكر أنه نجاه في الدنيا وفي الآخرة، وسلم.

طالب آخر: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾[غافر:45].

الشيخ: نعم، هذا وقاه الله في الدنيا فكان مع موسى فسلم من الغرق، وكذلك معهم في الآخرة، لكن هل أصابه شيء قبل ذلك، الله أعلم.

طالب آخر: ذكر ابن كثير رحمة الله عليه: (وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِهِمَا)، قال المؤلف: (عَلَى شَرْطِهِمَا) فيه نظر، فإن سفيان الذي في الإسناد هو ابن حسين الواسطي، كما ذكره ابن حجر في أطراف المسند، وهو ضعيف في روايته عن الزهري، لكنه متابعٌ، فالحديث صحيح بالمتابعات).

الشيخ: هذا الحديث في قصة اليهودية، وله شواهد أيضًا.

طالب آخر: اليهودية الأولى خادمة، واليهودية الثانية [29:32]، فهنا يقول: الإسراع في الشرك، يقول [29:37]، قال الشرك، هل هو الإسراع في الشرك أو في جميع الذنوب والمعاصي وغيرها.

الشيخ: لا، المراد هنا به الشرك، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، حكم عليهم أنهم من أهل النار.

طالب آخر: [29:49].

الشيخ: الأرواح والأجساد معًا في عذاب القبر، لكن الأحكام تتألم في البرزخ الروح أكثر.

الدور ثلاثة:

  • دار الدنيا.
  • ودار البرزخ.
  • ودار القرار.

في الدنيا الآن الأحكام على الجسد اكثر من الروح، يتألم الجسد في الدار الدنيا ويتنعم اكثر من الروح.

وفي البرزخ بعد الموت العكس، تتألم الروح أو تتنعم أكثر من الجسد، وأقرب مثال لهذا، النوم، حينما ينام الإنسان وأحيانًا يحس بأنه يتألم وأن حصل له ألم، وقد يصيح، فإذا استيقظ ما أحس بشيء من ذلك، هذه الروح، تألم الروح، تتألم، وقد يتنعم، فإذا استيقظ زال عنه.

وأما الدار الثانية دار القرار بعد البعث، تبعث الأجساد وتكون فيها الأرواح، ويكون العذاب والنعيم للروح والجسد على حد سواء، كل يأخذ منها، هذه أكمل الدور، متساويان.

في الدنيا الحكام على الجسد أكثر من الروح.

في الآخر القبر، الحكام على الأرواح أكثر من الجسد.

وفي الدار الآخرة بعد البعث، تكون الأحكام للروح والجسد على حد سواء، النعيم والعذاب للروح والجيد على حد سواء.

والمعتزلة أنكروا العذاب للجسد، قالوا: العذاب يكون للروح، والصواب أنه يكون للروح والجسد، فالجسد يناله من قدر له، والجسد يبلى والروح باقية في نعيم وفي عذاب.

ثم قال تعالى: (قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهِيَ تَقُولُ: أَشَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ؟ فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ ").

الشيخ: جاءه الوحي بعد ذلك.

(وَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ وَحَرْمَلَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ).

الشيخ: في اللفظ الآخر، قالت عائشة: "فما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا استعاذ بالله من عذاب القبر".

(وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى عَذَابِ الْأَرْوَاحِ فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْأَجْسَادِ فِي قُبُورِهَا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِخُصُوصِيَّتِهِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ، وَاللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِيَّةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ).

الشيخ: يحمل على أنه كان أولًا أنكر ذلك، ثم جاء بعد مدة، بعدما أوحي إليه فصدقها في هذا.

(وَفِي الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ، فَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا).

الشيخ: عذاب القبر قضيتان، القضية الأولى أنه انكر عذاب القبر، وقال أنه خاص باليهود، ثم جاء الوحي بعد ذلك، ثم جاءت اليهودية مرة ثانية، فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم.

(وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْأَجْسَادِ فِي قُبُورِهَا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِخُصُوصِيَّتِهِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ، وَاللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِيَّةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ. وَفِي الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ، فَلَعَلَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا).

الشيخ: حتى قال بعض العلماء أنها متواترة، فكل من انكر عذاب القبر يكفر.

(وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} صَبَاحًا وَمَسَاءً، مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا).

الشيخ: نسأل الله العافية.

(يُقَالُ لَهُمْ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ، هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ، تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً وصَغَارا لَهُمْ).

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ فِيهَا الْيَوْمَ يُغدَى بِهِمْ وَيُرَاحُ إلى أن تقوم الساعة.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ، عَنْ هُذَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَإِنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي الْعَرْشِ، وَإِنَّ أَرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ عَرْضُهَا.

وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أبي قيس عن الهُزَيل ابن شُرَحْبِيلَ، مِنْ كَلَامِهِ فِي أَرْوَاحِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ).

الشيخ: ماذا قال عليه الحديث، في إسناده هزيل؟

طالب آخر: قال: ( الصواب أنه من كلام هُزيل، ليس فيه عن ابن مسعود، كما سيأتي في الرواية التالية، وفي الرواية التالية قال: وأخرجه ابن أبي شيبة، والطبري في تفسيره من طريق سفيان الثوري، عن أبي قيس وهو عبد الرحمن بن ثروان به، وكذلك أخرجه هناد في الزهد، منم طريق مسعر، عن أبي قيس به).

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد