شعار الموقع

سورة غافر - 7

00:00
00:00
تحميل
64

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره على قوله سبحانه وتعالى: ({وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}.

وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: "ثُمَّ انْطُلِقَ بِي إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، رجالٌ كلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، مُصَفَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَآلُ فِرْعَوْنَ كَالْإِبِلِ الْمُسَوَّمَةِ يَخْبِطُونَ الْحِجَارَةَ وَالشَّجَرَ وَلَا يَعْقِلُونَ".

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أخْرَم، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ مُدْرِك الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ -يَعْنِي ابْنَ يَقْظَانَ- عَنْ قَيْسِ بْنِ مسلم، عن طارق، عن شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ رَحِمًا أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَمِلَ حَسَنَةً، أَثَابَهُ اللَّهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالصِّحَّةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ». قُلْنَا: فَمَا إِثَابَتُهُ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ: «عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ» وَقَرَأَ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}).

الشيخ: ماذا قال عليه؟

الطالب: قال: سنده ضعيف؛ لضعف عتبة بن يقظان.

الشيخ: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، هذا الحديث ضعيف؛ لأن الكافر إن جازى في الدنيا صحة في بدنه، ووفرة في ماله، أما في الآخرة فعذابه على حسب عمله، قد يضاعف عذاب الكافر إذا كان كفره أغلظ، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾[النحل:88]، أما أن يخفف عليهم من أجل الرحم في الدنيا لا، في الآخرة ما يخفف، إنما في الدنيا، في الدنيا يجازى بها صحة في بدنه، ووفرة في ماله، وفي الآخرة لا حسنة له، أما هذا الحديث فيه ضعف.

(وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أخْرَم، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ لَهُ إِسْنَادًا غَيْرَ هَذَا.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ الْبَلْخِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ. رَأَيْنَا طُيُورًا تَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ، تَأْخُذُ نَاحِيَةَ الْغَرْبِ بِيضًا، فَوْجًا فَوْجًا، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ رَجَعَ مِثْلُهَا سُودًا. قَالَ: وَفَطِنْتُمْ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الطَّيْرَ فِي حَوَاصِلِهَا أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ، تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَتَرْجِعُ إِلَى وُكُورِهَا وَقَدِ احْتَرَقَتْ ريَاشُها وَصَارَتْ سُودًا، فَيَنْبُتُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّيْلِ رِيشٌ أَبْيَضُ، وَيَتَنَاثَرُ السُّودُ، ثُمَّ تَغْدُو عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى وُكُورِهَا. فَذَلِكَ دَأْبُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قَالَ: وكانوا يَقُولُونَ إِنَّهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ).

الشيخ: ماذا قال عليه؟

الطالب: قال: أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وسنده ضعيف؛ لأنه مقطوع، وحماد بن محمد الفزاري ضعيف، ومتنه فيه غرابة.

الشيخ: ما يعول على هذا، هذا يحتاج إلى إسناد صحيح، كونه يكون في حواصل طير، وكونها تكون سود.

الطالب: يوجد تعليق أحسن الله إليك في حديث للإمام أحمد.

الشيخ: قبل هذا؟

الطالب: نعم أحسن الله إليكم، قال أحمد: حدثنا محمد بن إدريس يعني الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه»، ومعنى يعلق أي: يأكل، ثم ذكر أحسن الله عملك، وقال شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز الراجحي...

الشيخ: الحديث حديث النسمة، حديث أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة تجري في أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، أما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تأخذ شكل الطائر، نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجع يوم يبعثه، هذا فيه الكلام على الشهداء وغير الشهداء في الأرواح، في الطحاوية وفي غيرها، لكن الكلام عليهم في هذا الحديث، لكن هذا الكلام غير موجود الآن في هذا الحديث.

الطالب: الحديث الذي سبق، تكلمت عنه أمس أحسن الله إليك.

الشيخ: أمس مر الحديث هذا؟

الطالب: ما مر معنا، لكن الحديث الذي مر في أرواح المؤمنين.

الشيخ: هذا صحيح، الشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر؛ لأن الشهيد لما بذل جسده لله، ولما بذل روحه لله؛ لأن أغلى ما في الإنسان روحه التي بين جنبيه، إذا بذلها لله رخيصة في سبيل الله عوض الله روحه أجسادًا أخرى تتنعم بواسطتها، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجع الله جسده يوم يبعثه، فتنعم أرواح الشهداء أكمل من تنعم سائر المؤمنين، الحديث صحيح، الحديثان صحيحان، هذا مر في مواضع، منها في الطحاوية، وفي غيرها.

(فَذَلِكَ دَأْبُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قَالَ: وكانوا يَقُولُونَ إِنَّهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ).

آل فرعون، عددهم ستمائة ألف مقاتل، والله أعلم.

(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ).

هذا الحديث صحيح.

الطالب: في بعض النسخ: حيث يبعثك، هنا حتى يبعثك.

الشيخ: يقال هذا مقعدك...

الطالب: حتى يبعثك الله، يقول: عنده حيث يبعثك الله.

الشيخ: يراجع هذه اللفظة، قد يكون روايتان، رواية حتى، ورواية حيث، وتقع، استطرد رحمه الله، الآثار الضعيفة هذه لو اقتصر على الصحيح لكفى، رحمه الله.

({وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‌‌(47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ‌‌(50)}.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَحَاجِّ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَتَخَاصُمِهِمْ، وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} وَهُمُ: الْأَتْبَاعُ {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وَهُمُ: الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أَيْ: أَطَعْنَاكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمُونَا إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} أَيْ: قِسْطًا تَتَحَمَّلُونَهُ عَنَّا.

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أَيْ: لَا نَتَحَمَّلُ عَنْكُمْ شَيْئًا، كَفَى بِنَا مَا عِنْدَنَا، وَمَا حَمَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ. {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أَيْ: يَقْسِمُ بَيْنَنَا الْعَذَابَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنَّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 38]).

هذه محاجة الكفار فيما بينهم، والله تعالى ذكر هذه المحاجة في مواضع متعددة في القرآن، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ﴾[سبأ:31]، في مواضع متعددة، وهنا ذكر ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾[الأحزاب:67]، ومن ذلك في هذه الآية ذكر الله تعالى محاجة الضعفاء للكبراء، والقادة، والسادة، وأن الضعفاء يقولون للسادة: إنا أطعناكم في الدنيا، فهل أنتم تحملون عنا نصيبًا من العذاب؟ فامتنعوا، وقالوا: لا، لا نحمل، كفى بنا ما عندنا، وقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾[غافر:48]، رضوا، وهذا فيه بيان أن أهل النار رضوا بما هم فيه من العذاب وعلموا وأقروا أنهم مستحقون للعذاب، ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:10/11]، فالله تعالى يحكم حتى أهل الكفر يحمدونه على حكمه العدل سبحانه وتعالى، ولهذا قالوا: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾[غافر:47]، أي: جزء من العذاب، ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾[غافر:48]، اعترفوا بأن الله قد حكم بالحكم العدل، قالوا: حكم الله العدل، أنتم لكم نصيبكم، ونحن لنا نصيبنا.

({وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، لَا يَسْتَجِيبُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَمِعُ لِدُعَائِهِمْ، بَلْ قَدْ قال: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ:108] سَأَلُوا الْخَزَنَةَ -وَهُمْ كالسجانين لِأَهْلِ النَّارِ- أَنْ يَدْعُوا لَهُمُ اللَّهَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنَ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ: أَوَمَا قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ؟ {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} أَيْ: أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَنَحْنُ لَا نَدْعُو لَكُمْ وَلَا نَسْمَعُ مِنْكُمْ وَلَا نَوَدُّ خَلَاصَكُمْ، وَنَحْنُ مِنْكُمْ بَرَآءُ، ثُمَّ نُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ سَوَاءٌ دَعَوْتُمْ أَوْ لَمْ تَدْعُوا لَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أَيْ: إِلَّا مِنْ ذَهَابٍ، لَا يُتَقَبَّلُ وَلَا يستجاب).

هذا فيه سؤال الكفار للخزنة، خزنة النار هم الملائكة، الملائكة خزنة النار، وهم كالسجانين لهم، لما رأوا أن الله لا يستجيب لهم دعوا الخزنة، وقالوا لهم: ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب، فقالت لهم الملائكة: ما جئتكم رسلكم تنذركم، وتحذركم بأس الله ونقمته؟ ما جاءتكم رسلكم وأبلغتكم أن الله تعالى خلقكم لعبادته وتوحيده وطاعته؟ قالوا: بلى، قالوا: فادعوا أنتم، ودعاؤكم في ضلال وفي خسار وفي ضياع لا يقبل، أما نحن فلا ندعوا لكم ولا نستجيب لكم، بل نحن نتبرأ منكم، نسأل الله السلامة والعافية، عند ذلك أيسوا من رحمة الله، وأيسوا من كل خير.

({إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ‌‌(51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}.

قَدْ أَوْرَدَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سُؤَالًا فَقَالَ: قَدْ عُلِم أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَتَلَهُ قَوْمُهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَشَعْيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِمَّا مُهَاجِرًا كَإِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا إِلَى السَّمَاءِ كَعِيسَى، فَأَيْنَ النُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ خَرَجَ عَامًّا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ، قَالَ: وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّصْرِ الِانْتِصَارُ لَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ فِي غَيْبَتِهِمْ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَمَا فُعِلَ بِقَتَلَةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَشَعْيَاءَ، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَنْ أَهَانَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النُّمْرُوذَ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَامُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّومَ فَأَهَانُوهُمْ وَأَذَلُّوهُمْ، وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَقْتُلُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ وَجُنُودَهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ. وَهَذِهِ نُصْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ: أَنَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَيُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ مِمَّنْ آذَاهُمْ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنِّي لِأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحِرِبُ»).

الحرب يعني الغضبان، الليث الأسد، إني...

(«إِنِّي لِأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحِرِبُ»).

كذلك الأسد، إذا غضب ماذا يكون انتقامه؟ الأسد قوي، وهو ملك الحيوانات، فإذا غضب ينتقم، في الحديث: «إني لأثأر من أوليائي كما يثأر الليث الحرب» يعني الغضبان.

(وَلِهَذَا أَهْلَكَ تَعَالَى قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَقَوْمَ لُوطٍ، وَأَهْلَ مَدْيَنَ، وَأَشْبَاهَهُمْ وَأَضْرَابَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ وَخَالَفَ الْحَقَّ. وَأَنْجَى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعَذَّبَ الْكَافِرِينَ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدًا.

قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا قَطُّ إِلَى قَوْمٍ فَيَقْتُلُونَهُ، أَوْ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيُقْتَلُونَ، فَيَذْهَبُ ذَلِكَ الْقَرْنُ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ، فَيَطْلُبُ بِدِمَائِهِمْ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ يُقْتَلُونَ فِي الدنيا، وهم منصورون فيها.

وَهَكَذَا نَصَرَ اللَّهُ [سُبْحَانَهُ] نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ، وَكَذَّبَهُ وَعَادَاهُ، فَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينَهُ هُوَ الظَّاهِرَ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ. وَأَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ لَهُ فِيهَا أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، ثُمَّ مَنَحَهُ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَصْرَهُ عَلَيْهِمْ وَخَذَلَهُمْ لَهُ، وَقَتَلَ صَنَادِيدَهُمْ، وَأَسَرَ سَرَاتَهُمْ، فَاسْتَاقَهُمْ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَخْذِهِ الْفِدَاءَ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ فَتَحَ [عَلَيْهِ] مَكَّةَ، فَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِبَلَدِهِ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْمُحَرَّمُ الْحَرَامُ الْمُشَرَّفُ الْمُعَظَّمُ، فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَفَتَحَ لَهُ الْيَمَنَ، وَدَانَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِكَمَالِهَا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، إِلَيْهِ لِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ، فَأَقَامَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ خُلَفَاءَ بَعْدَهُ، فَبَلَّغُوا عَنْهُ دِينَ اللَّهِ، وَدَعَوْا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ. وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالرَّسَاتِيقَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْمَدَائِنَ وَالْقُرَى وَالْقُلُوبَ، حَتَّى انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. ثُمَّ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكُونُ النُّصْرَةُ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ وَأَجَلَّ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَشْهَادُ: الْمَلَائِكَةُ).

هذه الآيات فيها وعد من الله تعالى بنصر رسله، وأوليائه، وحزبه المؤمنين، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾[غافر:51]، وعد من الله -عَزَّ وَجَلَّ- بنصر رسله وأوليائه في الدنيا وفي يوم القيامة، ذكر ابن جرير رحمه الله هذا السؤال، كيف يوجه أن بعض الأنبياء قتل، وبعض الأنبياء لم يتبعه أحد، كيف يوجه نصرهم؟ أجاب جوابين: الجواب الأول: أن المراد نصر البعض، وهذا جائز في اللغة، نصر البعض يقال: إنه نصر للجميع، فإذا نصر أغلبهم فهذا نصر للجميع، والقول الثاني: أن النصر معناه أوسع، نصر الله لهم يكون بالتسليط على أعدائهم الذين قتلوهم وعادوهم، سلط عليهم في الدنيا من يقتلهم أو يعذبهم، وكذلك أيضًا نصر الله لهم في الآخرة، فهم منصورون في الآخرة، وهم منصورون في الدنيا إما بأن نصرهم الله في الدنيا فيظهرون على أعدائهم، أو أن الله يسلط على أعدائهم الذين قتلوهم، وسلطوا عليهم من يعذبهم ويقتلهم جزاء على كفرهم، وانتصارًا لعباده المؤمنين.

(وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ}.

وَقَرَأَ آخَرُونَ: "يَوْمُ" بِالرَّفْعِ، كَأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِهِ {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِين}، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {مَعْذِرَتُهُم} أَيْ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عُذْرٌ وَلَا فِدْيَةٌ، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيِ: الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وَهِيَ النَّارُ. قَالَهُ السُّدِّيُّ، بِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمَقِيلُ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أَيْ: سُوءُ الْعَاقِبَةِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ).

بين الله تعالى أنه ينصر رسله، وأوليائه في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وهو يوم القيامة، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، يعني لا تقبل معذرتهم، انتهى الأمر، لكن لو اعتذروا في الدنيا إلى ربهم وتابوا وأنابوا قُبل، لكن في الآخرة ما تقبل المعذرة، ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾[غافر:52]، يعني الطرد والبعد عن رحمة الله، ولهم سوء الدار، سوء المنقلب، الدار هي النار، هي دارهم، ولهم سوء الدار، نسأل الله السلامة والعافية.

(وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ.

{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} أَيْ: جَعَلْنَا لَهُمُ الْعَاقِبَةَ، وَأَوْرَثْنَاهُمْ بِلَادَ فِرْعَوْنَ وَأَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَأَرْضَهُ، بِمَا صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي الْكِتَابِ الَّذِي أُورِثُوهُ -وَهُوَ التَّوْرَاةُ- {هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} وَهِيَ: الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ السَّلِيمَةُ).

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾[غافر:53]، الهدى ما أنزله الله عليه في الألواح والتوراة فيها، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾[المائدة:44]، الهداية، التوراة كتاب عظيم أنزله الله على موسى بعد إهلاك فرعون، كما قال تعالى في سورة القصص: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[القصص:43]، هنا قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾[غافر:53]، وهو التوراة، هدى وذكرى لأولي الألباب، وهو التوراة، هداية، هداية للقلوب، من استمسك بها واتبعها، وذكرى موعظة لأولي الألباب أي: أصحاب العقول الذين أورثهم الله العقول النيرة التي يفرقون بها بين الحق والباطل، أما غير أولي الألباب وهي العقول الناقصة فإنهم لا يستفيدون.

(وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} أَيْ: وَعَدْنَاكَ أَنَّا سَنُعْلِي كَلِمَتَكَ، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.

وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} هَذَا تَهْيِيجٌ لِلْأُمَّةِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ} أَيْ: فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ وَأَوَائِلِ اللَّيْلِ، {وَالإبْكَارِ} وَهِيَ أَوَائِلُ النَّهَارِ وَأَوَاخِرُ اللَّيْلِ).

هذا أمر من الله تعالى بالصبر والتحمل، وإخباره بأن وعد الله حق، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾[غافر:55]، أمر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصبر فإن وعد الله حق، وقد وعد أنه سينصره، وقد تحقق وعده سبحانه وتعالى، واستغفر لذنبك، ما يحصل للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اللمم، ومما هو خلاف الأولى، أما الكبائر فهو معصوم منها عليه السلام، واستغفر لذنبك، وكل نبي له كذلك، قال عن موسى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾[الأعراف:151]، وقال عن داود: ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾[ص:24]، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾[غافر:55]، في المساء، العشي المساء آخر النهار، والإبكار هو أول النهار، هذا أمر بالصبر والتسبيح والتهليل والتعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ- شكرًا لله على نعمه وعلى نصره له ولأوليائه.

الطالب: [00:34:04]

الشيخ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[الفتح:2]، قد تكون قبلها، وقد تكون بعدها، الاستغفار مطلوب في كل وقت.

(وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيْ: يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أَيْ: مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ مِنْ إِخْمَالِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ: مِنْ حَالِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ، {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَوْ مِنْ شَرِّ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. هَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ).

قف على هذه الآية، {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، عيسى مرفوع، وهو حي في السماء، وسينزل، هذا هو الظاهر، ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾[مريم:33].

الطالب: بأن حفظه الله ورفعه إلى السماء.

الشيخ: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾[مريم:33]، يعني كله فيه سلامة، ووعد من الله بالسلامة في الدنيا عند ولادته وعند بعثه، وأن الله يحفظه، هذا من النصر، نصر أتباعه وأوليائه وبقاء دينه، كل هذا من النصر، هذا نصر لأوليائه، ومن النصر لأوليائه أيضًا الثواب العظيم الذي أثابهم الله وأجرهم وصبرهم وتحملهم حتى القتل، هذا من النصر، ومن نصر الله نصر حججه وبيانته وظهورها وبقائها، كل هذا من النصر، وكذلك أيضًا المؤمنون منصورون، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى»، فهم منصورون أحيانًا بالسيف والسنان، وأحيانًا يكونون منصورون بالحجة والبيان، الحجة والبيان، حجتهم ودينهم ظاهر، وبيانه للحق، فهم منصورون، وإن أصاب أجسادهم ما أصابها، فكل هذا من نصر الله لأوليائه، نصر الله بقاء دينهم وأتباعهم، وبقاء الحق وظهوره، يكون بإظهار دعوتهم، وبيان ظهور الحق الذي هم عليه، وثوابهم أيضًا، ثوابهم في الآخرة على صبرهم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد