بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)})
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: (يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِالصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى قَوْمِكَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ وَقَعَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ، أُبِيدُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ. ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أَيْ: فَنُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ مُسَلِّيًا لَهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} كَمَا قَالَ فِي "سُورَةِ النِّسَاءِ" سَوَاءٌ، أَيْ: مِنْهُمْ مَنْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خَبَرَهُمْ وَقِصَصَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ كَيْفَ كَذَّبُوهُمْ ثُمَّ كَانَتْ لِلرُّسُلِ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ ذكر بِأَضْعَافِ أَضْعَافٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (1) ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَاتِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ (2) لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وَهُوَ عَذَابُهُ وَنَكَالُهُ الْمُحِيطُ بِالْمُكَذِّبِينَ {قُضِيَ بِالْحَقِّ} فَيَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، وَيَهْلَكُ الْكَافِرُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ})
الشيخ: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه أجمعين.
هذه الآيات فيها تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تكذيب قومه له، وأن الرسل من قبله كُذبوا فله أسوة بهم ({فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}) والصبر لابد منه في أداء الواجبات وفي ترك المحرمات، وعلى أقدار الله المؤلمة، ولا إيمان بلا صبر، ومنزلة الصبر من الإيمان كمزلة الرأس من الجسد، كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي على أنه «لا إيمان على من لا صبر له»، ولهذا قال الله تعالى: ({فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}) اصبر على أذاهم فإن العاقبة الحميدة لك كما كانت للرسل من قبلك، ({فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}) تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما وعدك الله به من نصر وإظهار الحق، فالرسل منصورون بالدنيا وفي الآخرة، بل ومنصورون في الدنيا بالحجة والبرهان، وأيضًا كذلك منصورون بهلاك أممهم، وقد تبتلى الرسل في الدنيا ولكن العاقبة الحميدة والنصر لهم في الآخرة.
({فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} إما أن نرينك بعض الذي نعدهم كما حصل في بدر فإن الله تعالى قتل صناديدهم وأقرَّ عين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن فتحت له مكة، أو ترى ذلك بعد الوفاة ({أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)}) ثم نحاسبهم ونجازيهم، والعاقبة الحميدة للرسل وأتباعهم.
({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}) هذه أيضًا فيها تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أرسل الرسل من قبله منهم من ذكر بالقرآن وما حصل لهم مع أممهم كنوح وهود وصالح وشعيب ولوط، ومنهم من لم يذكر، والعاقبة الحميدة للرسل وأتباعهم، حتى إن الرسل يصابون بشدة عظيمة ولكن النصر بعد ذلك، كما قال سبحانه في آخر سورة يوسف: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾[يوسف:110] اشتد البلاء عليهم، ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ يعني كذبوا من قبل أنفسهم، ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ جاء النصر والفرج ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ ولهذا قال: ({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ}) يعني الرسول لا يأتي بخارق إلا إذا أذن الله فتكون دليلًا على صدقه كما حصل لصالح عندما طلب قومه البينة عن الخالق فأعطاهم الناقة، فهذا بإذن إذا أذن الله بذلك، أما الرسول فلا يأتي بشيء من عند نفسه، ({فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}) ووعد الله بالعذاب ({قُضِيَ بِالْحَقِّ}) أهلك الله المكذبين ونجى الرسل وأتباعهم، ولهذا قال تعالى: ({وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}).
الطالب: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81( }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ، بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72]، فَالْإِبِلُ تُرْكَبُ وَتُؤْكَلُ وَتُحْلَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ فِي الْأَسْفَارِ وَالرِّحَالِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ. وَالْبَقَرُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَتُحْرَثُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ. وَالْغَنَمُ تُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَالْجَمِيعُ تُجَزُّ أَصْوَافُهَا وَأَشْعَارُهَا وَأَوْبَارُهَا، فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَثَاثُ وَالثِّيَابُ وَالْأَمْتِعَةُ كَمَا فَصَّل وبَيَّنَ فِي أَمَاكِنَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي "سُورَةِ الْأَنْعَامِ" (3)، وَ "سُورَةِ النَّحْلِ" (4)، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}.
وَقَوْلُهُ: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ: حُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ، إِلَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُكَابِرُوا.)
الشيخ: هذا أيضًا امتنان من الله تعالى يذكر سبحانه نعمه على عباده كما عدد ذلك في سورة الأنعام التي تسمى سورة النعم، عدد الله فيها النعم، ومنها ما ذكر هذه ({اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }) فالأنعام من الإبل والبقر والغنم جعل الله فيها منافع للعباد، منها ما يُركب كالإبل فإنها تُركب وتُؤكل ويُشرب لبنها، والبقر يُشرب لبنها وتستعمل في الحرث، والغنم تُؤكل وتشرب لبنها، كل هذا من نعم الله على عباده التي امتن بها عليهم ({لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}) منافع متعددة من ذلك الحرث الذي يحصل عليها بالبقر ودياس الزرع والإبل هي المراكب التي يسيرون عليها ويحملون عليها الأثقال إلى البلاد النائية ({وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}) كل ما يتمناه الإنسان ويريده من الأسفار من حمل الأثقال من الاستعمال في الحرث والزرع وغير ذلك، كل ما يريده الإنسان ويطلبه يحصل له بواسطة هذه الأنعام، فهذا من نعم الله تعالى عليه، ({وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}) على الإبل وعلى الفلك، وكذلك أيضًا ما امتن الله به في هذا الزمن من المراكب الجديدة التي أشار الله إليها في سورة النحل قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:8] من مراكب والطائرات والسيارات والقطارات وغيرها من المراكب وما يشتعل وما جدَّ من الأسلحة المتنوعة التي تستعمل في الحروب وفي غيرها، هذا كله من فضل الله وتعليمه للإنسان ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:151] ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق:5] ({وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}) على الإبل وعلى الفلك وهي السفن في البحار تحملون، وأيضًا كذلك حملهم الله تعالى في هذا الزمن في البر وفي البحر وفي الجو، فهذا من نعمه سبحانه وتعالى.
({وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}) في الآفاق وفي أنفسكم، فهل يستطيع أن يُنكر آيات الله، في آفاق السماوات والأرض وفي الأنفس، لو نظر الإنسان في نفسه لكان أعجوبة العجائب، هذا الإنسان كيف خلقه الله من أطوار متعددة وما اشتمل عليه هذا الإنسان من العقل، وما اشتمل عليه من الأحوال المتنوعة، فهو ينام ويستيقظ ويأكل ويشرب ويبول ويتغوط ويبيع ويشتري ويغضب ويرضى، أعجوبة العجائب، وهذا يدل على قدرة الله العظيمة، ({وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}) لا تستطيعون إنكارها.
الطالب: ({أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، مع شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثّروه فِي الْأَرْضِ، وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ (1) بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهَالَتِهِمْ، فَأَتَاهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ مَا لَا قِبَل لَهُمْ بِهِ.
{وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ.
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أَيْ: عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أَيْ: وَحَّدُوا اللَّهَ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَال الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 90]، قَالَ اللَّهُ [تَبَارَكَ وَ] (2) تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 91] أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى دُعَاءَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَالَ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ:صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]. وَ [هَكَذَا] (3) هَاهُنَا قَالَ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أَيْ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ (4) مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (5) أَيْ: فَإِذَا غَرْغَرَ وَبَلَغَتِ الرُّوحُ الْحَنْجَرَةَ، وَعَايَنَ الْمَلِكَ، فَلَا تَوْبَةَ حِينَئِذٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ "سورة غافر (6)، ولله الحمد والمنة.)
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلَّم.
الشيخ: هذه الآيات من آخر السورة سورة غافر سورة المؤمن، بين الله تعالى أن الكفار عندهم حجج وعندهم علوم يقابلون بها الرسل، وأنهم يفرحون عندهم علوم، ولهذا فإن المؤمن عليه أن يتسلح بسلاح العلم حتى يقابل هؤلاء الشياطين، كما قال الإمام أحمد رحمه الله في ترك الشبهات، قال: الكفار عندهم علوم يفرحون بها ({فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}) إذًا عندهم علوم، وهذا واقع ومشاهد حتى في هذا الزمن، تجد بعض الناس عنده علوم في الهندسة في الطب في اللغة في البلاغة، وقد يكون عندهم علم في الفقه أيضًا، يكون فقيه لكن ليس لديه علم بالتوحيد، تجده يقع في الشرك وهو بلبل في النحو وفي البلاغة وفي الهندسة وفي الطب وفي الكيمياء وما أشبه ذلك من العلوم الأخرى، فقد تكون عندهم علوم لكنها لا تنفعهم، ولهذا قال تعالى: ({فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}) حل بهم ما كانوا يستهزئون، يستهزئون بالعذاب فأصابهم، ({فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}) فلم يكن ينفعهم إيمانهم لما راوا بأسنا ({فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}) هذه الآيات فيها دليل على أنه إذا نزل العذاب وانعقدت أسبابه ووجد العذاب فلا تنفع التوبة لأنه حينئذٍ يُكشف للإنسان عن مستقبله ويعاين الملائكة وتكون له مشاهدة فلا توبة كما في الحديث: ("إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ") ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، التوبة مقبولة، تقبل التوبة من المريض، لكن إذا سيقت الروح ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، لأن الله يقول ("إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ") قال سبحانه: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾[النساء:18] فإذا انعقدت الأسباب فمن شروط التوبة أن تكون قبل نزول العذاب إذا نزل العذاب فلا توبة، ({فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}) أمنوا لكن لا ينفع، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ({فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ}) وفي الحديث: «سنة الله في عباده» ({وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}) وكما قال سبحانه عن فرعون لما نزل به العذاب أمن ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ﴾[يونس:90] فرعون الذي يقول أنا ربكم الأعلى يقول آمنت، آمنت بأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وهو الله، (قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يُونُسَ: 90]) فرعون الذي يقول للناس في حياته أنا ربكم الأعلى يقول الآن أنا من المسلمين، لكن ما ينفع انتهى الأمر، ولهذا قال سبحانه: ({آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}) [00:19:38] الله أمة واحدة، لما انعقدت أسباب العذاب آمنوا وهم قوم [00:19:44] ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾[يونس:98] وذلك أن يونس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أرسله الله إلى هذه الأمة فردوا دعوته فغضب عليهم وذهب وركب البحر فلما ركب السفينة صارت السفينة ممتلئة فقالوا لابد أن نخفف منها، من يتبرع بنفسه ليسقط لا يوجد أحد، لا يوجد إلا القرعة، فأقرعوا فوقعت على يونس، وكرروها ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾[الصافات:142] ومكث فيها يسبح الله فأنجاه الله بعد ذلك ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾[الصافات:146] ثم أرسلها إلى قومه فآمنوا في الحال، قال الله تعالى [00:20:45] وتابوا وأنابوا وتضرعوا، فلما رجع إليهم أمنوا دعاهم، قال الله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾[الصافات:148-147]