بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى: ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)})
قال رحمه الله: (يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لَا كَمَا تَعْبُدُونَهُ (1) مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَفَرِّقِينَ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أَيْ: أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ عَلَى مِنْوَالِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} أَيْ: لِسَالِفِ الذُّنُوبِ، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} أَيْ: دَمَارٌ لَهُمْ وَهَلَاكٌ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشَّمْسِ: 9، 10]، وَكَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14، 15]، وَقَوْلِهِ {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النَّازِعَاتِ: 18] وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ هَاهُنَا: طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ. وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَكَاةً لِأَنَّهَا تُطَهِّرُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَتَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ وَبَرَكَتِهِ وَكَثْرَةِ نَفْعِهِ، وَتَوْفِيقًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَيْ: لَا يَدِينون بِالزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ.
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الزَّكَاةِ الصَّدَقَةَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141]، فَأَمَّا الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ فَإِنَّمَا بَيَّن أَمْرُهَا بِالْمَدِينَةِ، وَيَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ، فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، شَيْئًا فَشَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لَا مَقْطُوعٌ وَلَا مَجْبُوبٌ (3)، كَقَوْلِهِ: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الْكَهْفِ: 3]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108].
وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ هَذَا التَّفْسِيرَ، فَإِنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} [الْحُجُرَاتِ: 17]، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطُّورِ: 27]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".)
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: قال الله تعالى: ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)})
في هذه الآيات الكريمات يقرُّ الله سبحانه وتعالى التوحيد، وأنه سبحانه وتعالى خلق عباده لعبادته وتوحيده وطاعته، وأرسل رسله لتبين للناس ما أمر الله به من العبادة والتوحيد وإخلاص الدين له، فنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره الله أن يقول: ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}) أنا بشرٌ مثلكم ولكن الله تعالى امتن عليَّ بالرسالة فأوحى إلي ({أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}) يعني معبودكم معبودٌ واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فاستقيموا إليه، أخلصوا إليه العبادة وأدوا ما أمركم به على وفق ما شرع، فالعبادة هي إخلاص الدين لله مع متابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لابد من الأمرين، لابد من الإخلاص لله والمتابعة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال: ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}) يعني معبودكم معبودٌ واحد إنما أنا بشرٌ مثلكم ولكن الله اختصني بالرسالة، وفيه أن الأنبياء بشر، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، وفيه الرد على من غالى بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال إنه مخلوقٌ من نور وأنه ليس من البشر، هذا غلو، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر واحدٌ من بني آدم، مخلوق من ذكرٍ وأنثى كغيره، ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}) اختصه الله بالرسالة والنبوة كما اختص قبله الأنبياء السابقين، ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}) أن العبادة لله وحده، فالمعبود وحده هو الله سبحانه وتعالى، وغيره معبودٌ بالباطل كما قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[الحج:62] قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110] ({قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}) قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾[النحل:51]، ({فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}) فاستقيموا إليه وأخلصوا له العبادة على وفق ما أمركم الله به وعلى وفق ما أنزل وعلى وفق ما شرع على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستغفروه من ذنوبكم، ({وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}) من شدة العذاب ({الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}) أي لا يزكون أنفسهم ولا يخلصونها من الأدران من الأخلاق الرديئة التي أعظمها الشرك بالله عَزَّ وَجَلَّ، والزكاة وإن كان أصلها مأمورٌ به، لكن الزكاة كما ذكر الحافظ رحمه الله ما شُرعت إلا في السنة الثانية من الهجرة، كما أن أصل الصلاة في مكة كانت الصلاة قبل طلوع الشمس في أول النهار وآخر النهار ثم بعد ذلك فرض الله سبحانه وتعالى الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج، ({فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}) ({وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}) من شدة العذاب، الذين لا يزكون أنفسهم بتخليصها من الأخلاق الرديئة التي أعظمها الشرك والذي قال: ({وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}) جاحدون لا يؤمنون بالبعث، فهم بذلك لطخوا أنفسهم بالأخلاق الرديئة التي أعظمها الشرك، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ({الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}) جاحدون منكرون للبعث وللحساب وللجزاء وللقاء الله عَزَّ وَجَلَّ، ولذلك لم يؤمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يوحدوا الله ولم يخلصوا له العبادة.
({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}) الذين آمنوا وحدوا الله وأخلصوا له العبادة وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح وأداء الواجبات وترك المحرمات لهم أجرٌ وثوابٌ عظيم، ذكر الأجر لعظمه، وكونه أجرًا عظيمً، ({غَيْرُ مَمْنُونٍ}) غير مقطوع بل هو مستمر، والمنة لله تعالى على عباده، أما السدي (غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ) فهو كما ذكر الحافظ رده عليه المفسرون بأن المنة لله عَزَّ وَجَلَّ، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الحجرات:17] فمنة الله تعالى على عباده وفضله وإحسانه وثوابه وفضله لا تزال من أول ما خلقهم ولا تزال مستمرة، لا يزال الله تعالى يحدث لهم نعيم بدل نعيم في الجنة إلى ما لا نهاية، نسأل الله من كرمه وفضله.
الطالب: ({قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُقَدِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} أَيْ: نُظَرَاءَ وَأَمْثَالًا تَعْبُدُونَهَا (1) مَعَهُ {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ: الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ.
وَهَذَا الْمَكَانُ فِيهِ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الْأَعْرَافِ: 54] ، فَفَصَّلَ هَاهُنَا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِمَّا اخْتَصَّ بِالسَّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُبْدَأَ بِالْأَسَاسِ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِالسَّقْفِ، كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 29]،.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} [النَّازِعَاتِ: 27-عَزَّ وَجَلَّ] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْى الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ (2)، فالدَّحْيُ هُوَ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، فَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِالنَّصِّ، وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ صَحِيحِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَقَالَ الْمِنْهَالُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 27]، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23]، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ وَقَالَ: {أَمِ السَّمَاءُ (3) بَنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {دَحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 27 -30]، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ [خَلْقِ] (4) الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {طَائِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ؟ وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 96]، {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 56]، {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 58]، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى.
قَالَ -يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68]، فلا أنساب بينهم عند ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ: "لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ"، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْرَفُ (1) أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ [الْحِجْرِ: 2].
وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ، ودَحْيُها: أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجَمَادَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {دَحَاهَا} وَقَوْلُهُ {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَخُلِقت الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 96]، سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَة (2)، عَنِ الْمِنْهَالِ -هُوَ ابْنُ عَمْرٍو-بِالْحَدِيثِ (3).
فَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} يَعْنِي: يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ وَالْبَذْرِ وَالْغِرَاسِ، {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}، وَهُوَ: مَا يَحْتَاجُ (4) أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ، يَعْنِي: يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهُمَا مَعَ الْيَوْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ أَرْبَعَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ: الْعَصَبُ بِالْيَمَنِ، وَالسَّابِرِيُّ بِسَابُورَ وَالطَّيَالِسَةُ بِالرَّيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} أَيْ: عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.)
الشيخ: (عَلَى وَفْقِ مُرَادِه) أي مراد الله عَزَّ وَجَلَّ.
الطالب: (عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.)
يعني يقصد به صاحب الحاجة.
الطالب: عندي (عَلَى وَفْقِ مُرَادِه) ويوجد طبعة بدون (عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ).
الشيخ: هذا الأقرب (عَلَى وَفْقِ مُرَادِه) مراد الله، على كل حال اختلاف النُسخ هذا يرجع إلى الطبعات والنسخ المخطوطة، (عَلَى وَفْقِ مُرَادِه) يعني على وفق مراد الله، من له حاجةٌ إلى رزق فإن الله يقدره فإن الله تعالى يعطيه ما قدر له، أما على وفق مراد من له حاجة بدون هاء!.
الطالب: لكن الآية تدل على ذلك، على أنها على وفق مراد من له حاجة.
الشيخ: لا.
الطالب: قال: ({سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ})
الشيخ: هذا الذين يسألون، غير، ({سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}) هذه مسألة أخرى، الذين يسألون عن خلق السماوات والأرض، الآية ترد عليهم، مراده أولى، الضمير يعود إلى الله، أن يكون على مراد الله، هذا أقرب، وعلى كل حال تراجع إذا كانت مخطوطة أو نسخ أخرى.
الطالب: (عَلَى وَفْقِ مُرَادِ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ.)
الشيخ: الجملة الثانية تفسر الأولى على وفق مراد الله، من له حاجةٌ فإن الله يعطيه ما يحتاج إليه، كل جملة مستقلة واضح معناها.
الطالب: (وَهَذَا الْقَوْلُ يُشْبِهُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إِبْرَاهِيمَ: 34]، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}، وَهُوَ: بُخَارُ الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض، فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَيِ: اسْتَجِيبَا لِأَمْرِي، وَانْفَعِلَا لِفِعْلِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (1) {فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلسَّمَوَاتِ: أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي. وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ. فَقَالَتَا: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ.
{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَيْ: بَلْ نَسْتَجِيبُ لَكَ مُطِيعِينَ بِمَا فِينَا، مِمَّا تُرِيدُ خَلْقَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا مُطِيعِينَ (2) لَكَ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالَ: وَقِيلَ: تَنْزِيلًا لَهُنَّ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ بِكَلَامِهِمَا.
وَقِيلَ (3) إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنَ الْأَرْضِ بِذَلِكَ هُوَ مَكَانُ الْكَعْبَةِ، وَمِنَ السَّمَاءِ مَا يُسَامِتُهُ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ أَبَيَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ لَعَذَّبَهُمَا عَذَابًا يَجِدَانِ أَلَمَهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أَيْ: فَفَرَغَ مِنْ تَسْوِيَتِهِنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، أَيْ: آخَرَيْنِ، وَهُمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ وَيَوْمُ الْجُمْعَةِ.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أَيْ: وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وَهُنَّ الْكَوَاكِبُ الْمُنِيرَةُ الْمُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، {وَحِفْظًا} أَيْ: حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَيِ: الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، الْعَلِيمُ بِجَمِيعِ حَرَكَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَكَنَاتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (4) الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -قَالَ هَنَّادٌ: قَرَأْتُ سَائِرَ الْحَدِيثِ-أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} لِمَنْ سَأَلَ، قَالَ: "وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْآجَالَ، حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الْآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ". ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ". قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أتممت! قالوا:
ثُمَّ اسْتَرَاحَ. فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ.فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 38] (1).
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ.)
الشيخ: نعم، «قبَّح الله اليهود»، اليهود قالوا إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم تعب واستراح في يوم السبت، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، الله تعالى على كل شيءٍ قدير، قادر على أن يخلقهم بكلمة كن، لكن له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى في خلقهم في ستة أيام، اليهود قولٌ بهت من يجرؤ أن يقول هذا ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾[المائدة:64] ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾[آل عمران:181] أعوذ بالله، من يستطيع أن يقول هذا، لولا أن الله أخبرنا أنهم قالوا ذلك لما صدق إنسان أن أحدًا يقول هكذا عن الله، قالوا إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم تعب واستراح يوم السبت فأنزل الله ({وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}) يعني من تعبٍ وإعياء، الله على كل شيءٍ قدير، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82] قادر على أن يخلقها في كلمة كن، لكن له الحكمة البالغة.
الطالب: (فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ"
فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا، عَنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهِ (2). وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ عَلَّله الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فَقَالَ: رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) عَنِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.)
الشيخ: يعني هذا الحديث: أن يوم السبت يوجد خلق هذا جاء في هذا الحديث والصواب أنه برواية عن كعب الأحبار، كعب الأحبار ممن أسلم من بني إسرائيل وليس مرفوعًا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يخالف الآية، الآية نص أن الله خلق الكون في ستة أيام وأن السبت ليس فيه خلق، وهذا الحديث فيه أن السبت فيه خلق فهذا من الغرائب، غرائب الصحيح الذي نص أهل العلم على أنه من روايات أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا جاء الغلط فيه.
الطالب: لكن اليهود عندهم أيضًا ألا خلق يوم السبت، فمن أين أخذها كعب الأحبار؟
الشيخ: يمكن عن بعضهم، قد يكون اخذها من بعضهم، قد يكون خلاف بينهم، هناك بعضهم يرى ذلك والله أعلم، لكن هو مشهور عنهم أن يوم السبت لا يوجد خلق لكن هذا الحديث أخذ عن كعب الأحبار وقد يكون قد أخذه عن بعضهم وقد يكون هذا ليس إجماع منهم بل قول لبعضهم.
هذه الآيات الكريمات فيها تفصيل لخلق السماوات والأرض في قوله تعالى: ({وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}) وهذه الآيات فيها أن الله تعالى خلق، يعني يُجمع بين الآيات في هذه الآيات وفي آيات النازعات وآيات ق، أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خلق الأرض اولًا لأنها هي الأساس، ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ذلك في يومين، فخلق الأرض في يومين وخلق السماء في يومين ودحو الأرض في يومين، فالجميع ستة أيام، ولهذا قال في آية النازعات: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾[النازعات:27-30] هذه بعد خلق السماء، فخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء في يومين ثم دحى الأرض في يومين ولهذا قال سبحانه في الآية: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[فصلت:9] ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾[فصلت:10] يعني يومين مع يومين تكون أربعة، يومان للخلق ويومًا للدحي، ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ هذا المراد بالدحي، يعني يومين مع يومين تكون أربعة أيام، ﴿سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ وخلق السماء في يومين، روى ابن عباس قال أجاب عن الذي استشكل قال إنه يوجد آيات تُشكل عليه يوجد آيات أن الكفار يكتمون ولا يتكلمون، وفي آيات أنهم يتكلمون وينكرون لأن مواقف القيامة متعددة، مشاهدها متعددة، ففي مشهد ينكرون ولا يتكلمون، وفي مشهد لا ينطقون ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾[المرسلات:35] وفي مشهد آخر يتكلمون وينكرون: ﴿قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[الأنعام:23] ولهذا قال لا يختلف عليك الأمر، مشاهد القيامة متعددة، ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}) يعني هو سبحانه وتعالى في كل وقت الله عزيز حكيم في كل وقت لا يزال سبحانه وتعالى غفورٌ رحيم، فوصف الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والرحمة وصفٌ يليق بجلاله وعظمته، وليس كما فهم بعضهم أنه كان فيما مضى، بل في الماضي وفي المستقبل وفي كل وقت، فهو غفورٌ رحيم، وهو شديد العقاب، وهو عزيزٌ حكيم، فمواقف يوم القيامة متعددة كما ذكر ابن عباس، فلهذا في بعض الآيات ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾[المرسلات:36-35]، وفي مشهد آخر ينكرون ﴿قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ قوله: ({فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}) يعني وقت النفخ في الصور، ثم بعد ذلك النفخة الثانية بعد البعث يبعثون ويحاسبون ويتكلم من يتكلم وينكر بعض الكفار يجحدون في مشهد من مشاهد يوم القيامة، وفي مشهد آخر لا يتكلمون، وفي مشهد يتكلمون وينكرون، مشاهد يوم القيامة يوم طويل، مشاهد متعددة فيها ﴿هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ وفي آيةٍ أخرى أنهم تكلموا ﴿قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ قال تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾[الأنعام:24] ففي وقتٍ يُختم على أفواههم لا ينطقون ولا يتكلمون، وفي وقتٍ يتكلمون وينكرون.
وكذلك الآيات في خلق السماوات والأرض، هذه الآية فيها تفصيل أن خلق السماوات وخلق الأرض في أربعة أيام، يومان خلق الأرض ويومان لدحي الأرض ({وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}) ويومان لخلق السماء، فتكون في خلق السماوات والأرض في ستة أيام، خلق الله الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم دحى الأرض، ذكرها الحافظ هنا، كلامه يقول أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ودحاها في يوم الثلاثاء والأربعاء، وظاهر الآية في النازعات أن دحى الأرض كان بعد خلق السماء قال: ({وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}) يعني بعد خلق السماء.
الطالب: سياق الآية ثم ألا تفيد التعقيب؟
الشيخ: بلى تفيد التراخي، لكن أحيانًا قد لا يراد بها الترتيب، لكن ({وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}) واضح بعد ذلك، أي بعد خلق السماء ({أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}) قال: ({وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}) فصار دحي الأرض ({أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ}) بعد ذلك بدأ خلق السماء، فهذا هو الظاهر أن خلق الأرض أولًا ثم خلق السماء ثم دحو الأرض بعد ذلك، يكون في ستة أيام.
الطالب: خلق الملائكة قبل خلق السماوات أم بعد؟
الشيخ: الله أعلم.