الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
قال الإمام الحافظ ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسيره: تفسير سورة فصلت.
قال الله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
(يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ: دَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَيْهِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيْ: وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ بِمَا يَقُولُهُ، فَنَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ لَازِمٌ ومُتَعَدٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ، بَلْ يَأْتَمِرُ بِالْخَيْرِ وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَيَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ، وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرُوبَة الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا غَسَّانُ قَاضِي هَرَاةَ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ أَنَّهُ قَالَ: "سِهَامُ الْمُؤَذِّنِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَسِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي دَمِهِ").
الشيخ: تكلم عن الحديث؟
الطالب: قال: إسناده ضعيف فيه مطر بن طهمان ضعفه أبو حاتم، وقال: يحيى وأحمد ضعيفٌ في عطاءٍ خاصة، وقال ابن سعدٍ فيه ضعف، وإبراهيم بن طهمان فيه كلام، والحسن لم يسمع من سعد ولا من ابن مسعود ولا سمع من عمر ولا سمع من عائشة، فهذا خبرٌ معلول والمتن منكر.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرُوبَة الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا غَسَّانُ قَاضِي هَرَاةَ وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ أَنَّهُ قَالَ: "سِهَامُ الْمُؤَذِّنِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَسِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي دَمِهِ").
يعني هذا الحديث فيه علل مطر ورواية الحسن لم يسمع، فيه ثلاث علل، وكذلك المثل يقولون بين الأذان والإقامة، الوصل يعني يكون في الآذان، الآذان هو الدعوة إلى الله، بين الأذان يتشحطوا في دمه بين الأذان والإقامة، بين الأذان والإقامة هذا محل استجابة الدعاء، لكن فضل المؤذنين إنما هو في الأذان.
(قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد".
قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أَلَّا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ" ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بِالسُّيُوفِ. قَالَ: "كَلَّا يَا عُمَرُ، إِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتْرُكُونَ الْأَذَانَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَتِلْكَ لُحُومٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ، لُحُومُ الْمُؤَذِّنِينَ".
قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.
وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَمِلَ صَالِحًا} قَالَ: يَعْنِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ).
يعني الصح أن يكون من العمل الصالح، يعني مثال يعني أنها من العمل الصالح.
تكلم عن أثر ابن مسعود وأثر عمر، تكلم عليه؟
الطالب: متابعة للحديث السابق، كله من رواية الحسن.
(ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثَ "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ" قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ". ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ" وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْهُ وَحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا أَرَاهُ إِلَّا وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ).
تكلم عن الحديث بين الأذان والإقامة؟
الطالب: صحيحٌ، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وإسناده ضعيفٌ لضعف زيد العمي، وهو زيد بن الحواري، وتابعه بُريد بن أبي مريم وهو ثقة، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، فهو صحيح.
الشيخ: السند في زيد العمي ضعيف لكنه صحيحٌ بشواهد، الدعاء بين الأذان والإقامة، يعني من أوقات الاستجابة الدعاء بين الأذان والإقامة، الدعاء في السجود كذلك، والدعاء آخر ساعةٍ يوم الجمعة بعد العصر، هذه من أوقات الاستجابة.
الطالب: بين آذانين صلاة، لا يرد الدعاء بينهم.
الشيخ: نعم.
(وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُؤَذِّنِينَ وَفِي غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانُ إِنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، حِينَ أُرِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ، فَقَصَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَالصَّحِيحُ إِذًا أَنَّهَا عَامَّةٌ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فَقَالَ: هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ، هَذَا خِيَرَة اللَّهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، أَجَابَ اللَّهُ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ، وقال: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا خَلِيفَةُ اللَّهِ).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
هذه الآيات الكريمة وهي ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ آيةٌ عظيمة، فالمقصود بها الدعاة، وأهل الإيمان، وأهل العلم، وأهل البصيرة الذين وفقهم الله للعلم والعمل، فاهتدوا في أنفسهم وعملوا الصالحات ودعوا الناس إلى الهدى وإلى الخير، فهي فيمن وفقه الله للعلم والعمل.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ يعني عمل صالحًا فهو مهتدٍ في نفسه ويدعوا الناس إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-وإلى دينه، وإلى شرعه، وإلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لا أحد أحسن من هذه الحال، ويدخل في ذلك الأنبياء والرسل، ويدخل في ذلك المؤمنون والمؤذنون، فالآية عامة كما قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وعادة السلف يُفسرون الآية ببعض ما تدل عليه، بعض السلف يذكرون بعض ما تدل عليه الآية، مثل قولهم يفسروا الأمانة:
- فقال بعضهم: هي الغسل من الجنابة.
- وقال بعضهم: هي آداء الودائع.
فالآية عامة، تشمل ذلك كله، لكن هذا من تفسير الشيء ببعضه، كما يُقال للأعجمي الذي لا يعرف الخبز يؤتى برغيف ويُقال هذا خُبز، يعني هذا مثال، وليس المراد الخبز كله، ولكن هذا مثال للخبز.
كذلك السلف يفسرون الأمانة هي الغسل من الجنابة، بعضهم يقول الأمانة آداء الصلاة في وقتها، آداء الودائع، وهذه أمثلة، وكذلك قولهم في المؤذنين مثال من الدعاة إلى الله، فيدخل فيها المؤذنون، ويدخل فيها الدعاة إلى الله على بصيرة، ويدخل فيها أولها الرسل والأنبياء -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- هم أحسن الناس دعوة إلى الله، عملوا صالحًا ودعوا الناس إلى الله، دعوا الناس إلى أممهم، واقتدى بهم وتأسى بهم من وفقه الله لاستجابة دعوتهم.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ دعا إلى الله، إلى دينه وإلى شرعه، وإلى عبادته وإخلاص الدين لله، وعمل صالحًا في نفسه مهتدي، وعملوا الصالحات يعني وحد الله وأخلص له العبادة، وأدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ممن استسلم لله وانقاد لشرعه ودينه، لا أحد أحسن من هذه الحال، هم الأنبياء والرسل وأتباعهم ويدخل في ذلك المؤذنين كما ذكر الحافظ، السورة نزلت في المدينة والآية مكية، ولكن الآية تشملهم لأنهم دعاةٌ إلى الله، المؤذن يُعلم كلمة التوحيد، يعلم التكبير والشهادتين، ويدعوا إلى الصلاة (حي على الصلاة حي على الفلاح) ويعلن كلمة التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله) ويشهد لله بالوحدانية، وللنبي بالرسالة (أشهد أن محمدًا رسول الله) يعلن التكبير، فهو من الدُعاة إلى الله، فإذا كان صالح، يعني هي تشمل المؤذنين الصلحاء، فالمؤذن الصالح الذي يدعوا إلى الله وهو صالحٌ في نفسه ويؤذن داخلٌ في هذه الآية، لأنه من الدعاة إلى الله، هو صالحٌ في نفسه ممن عمل صالحًا وممن قال إنني من المسلمين، فهي تشمله وتشمل غيره.
(وَقَوْلُهُ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وَهُوَ الصَّدِيقُ، أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ: إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ، كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ".
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" عِنْدَ قَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَافِ: 199، 200]، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 96 -98]).
هذه الآيات الكريمة فيها الإرشاد والتوجيه من ربنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في معاملة شياطين الإنس وشياطين الجن، معاملة العدو من الإنس ومعاملة العدو من الجن، قال في معاملة العدو من الإنس ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ لا تستوي الحسنة ولا السيئة فرقٌ بينهما، السيئة سيئة سوء، والحسنة فيها إحسانٌ في عبادة الله، وإحسانٌ إلى خلق الله، والإساءة إساءة عمل وإساء العبادة لله.
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ يعني إذا أساء إليك أحد فلا تُقابله بالسيئة وإنما قابله بالحسنة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فإذا قابلته بالحسنة فإن هذه الحسنة تقوده إلى مصادقتك، والإحسان إليك وتنقلب عداوته صداقه بدل أن يكون عدو يكون صديق لك، إذا شتمك إنسان ثم دعوت له أو أهديت له انقاد لك.
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ النتيجة ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ هذا الذي بينك وبينه عداوة إذا دفعت السيئة بالحسنة قادته هذه الحسنة فصار صديقًا حميمًا يُشفق عليك وصار من أصدقائك.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ يعني لا يستطيع هذا إلا من وفق الصبر وحبس النفس أكثر الناس يرد الصاع صاعين، إذا سب سب سبتين، وإذا شتم شتم مرتين، يزيد الشر ويؤدي هذا إلى الخصام والنزاع وقد يؤدي إلى القتال، ويؤدي إلى الهدر والعداوات، كله بسبب رد السيئة بالسيئة، لكن إذا دفع السيئة بالحسنة انتهى الأمر طفأت النار، قادته هذه الحسنة إلى الإحسان إليك وصار وليًا حميمًا لك، وصار من أصدقائك وسلمت من شره، وسلمت نفسك من الحقد والغل والحسد، وسلمت من أذاه، ورضيت ربك، وأحسنت إلى عباد الله ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ ما يستطيعها كل أحد، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ من له نصيب من السعادة في الدنيا والآخرة هو الذي يستطيع هذا، ولكن أكثر الناس لا يستطيع يرد السب سبتين، وإذا سب سب مرتين، وإذا ضرب ضرب مرتين، وهكذا يحصل الشر والشقاق والنزاع والخلاف والعداوات والشرور والفتن.
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ هذا في معاملة العدو من الإنس.
معاملة العدو من الجن ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ العدو من الجن لا ينفع فيه الإحسان لا يوجد حيلة، العدو من الإنس إذا أحسنت إليه قادته الحسنة إليك ونفع فيه وزالت العداوة، ولكن العدو من الجن لا يوجد حيلة، لا يقبل، لا يوجد إلا الاستعاذة بالله وتلجأ إلى الله أن يكفيك شره ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والاحتماء والاستجارة بالله -عَزَّ وَجَلَّ- من هذا العدو اللدود فأنت تستعين بالله أن يقيك شره الذي يُفسد عليك دينك ودنياك، فهذه هي المعاملة، المعاملة مع عدو الإنس بالإحسان، والمعاملة مع عدو الجن بالاستعاذة بالله، ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾