درس الخميس الراجحي 21 – 7- 1440هـ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره العظيم: تفسير سورة فصلت.
قال الله تعالى:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}.
يقول تعالى: (لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَفَصَاحَتَهُ وَبَلَاغَتَهُ، وَإِحْكَامَهُ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِهِ كُفْرُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 198، 199] . وَكَذَلِكَ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، لَقَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: لَقَالُوا: هَلَّا أُنْزِلَ مُفَصَّلًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ أَيْ: كَيْفَ يَنْزِلُ كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ لَا يَفْهَمُهُ.
هَكَذَا رُوي هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَ بَعْضُهَا بِالْأَعْجَمِيِّ، وَبَعْضُهَا بِالْعَرَبِيِّ. هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ فِي قَوْلِهِ {أَعْجَمِيٌّ} وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهُوَ فِي [التَّعَنُّتِ وَ] الْعِنَادِ أَبْلَغُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَذَا الْقُرْآنُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ هُدًى لِقَلْبِهِ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالرَّيْبِ، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أَيْ: لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ: 82] .
{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي بعيد مِنْ قُلُوبِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ: كَأَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ يُنَادِيهِمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ.
قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 171] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَشْنَعِ أَسْمَائِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] جَالِسًا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي، إِذْ قَالَ: يَا لبَّيكاه. فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تُلَبِّي؟ هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا، أَوْ دَعَاكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: دَعَانِي دَاعٍ مِنْ وَرَاءِ الْبَحْرِ. فَقَالَ عُمَرُ: أُولَئِكَ يُنَادُونَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أَيْ: كُذِّبَ وَأُوذِيَ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35].
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] بتأخير الْحِسَابِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ: وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا، بَلْ كَانُوا شَاكِّينَ فِيمَا قَالُوا، غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ. هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد...
هذه الآيات الكريمات فيها بيان العناد، عناد الكفار وعتوهم، وأن عدم إيمانهم ليس عن شيءٍ يشكل عليهم، وإنما هو عن عناد وعتو، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، لم يأمنوا بالقرآن، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بالقرآن، وقالوا: لو كان القرآن أعجميًا، أو بعضه أعجمي وبعضه عربي لأمنا، وهذا من عتوهم وعنادهم، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا}، وانزل على عربي، لقالوا: كيف ينزل قرآن عجمي على عربي، أو لو كان بعضه عربيًا وبعضه أعجميًا، لقالوا: {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، لو فصلت آياته وجعلت آيات عربية، وهذا يدل على عتوهم وعنادهم، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، فلو جعل القرآن أعجمي لقالوا: كيف ينزل قرآن أعجمي على عربي، أو أنزل بعضه بالعربية وبعضه بالعجمية، وهذا من العتو والعناد.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى}، قل يا محمد هذا القرآن للمؤمنين هداية لقلوبهم، وشفاء لما في صدورهم من الشكوك، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ}، صمم، لا يسمعون سماع قبول، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، لا يهتدون إلى الإيمان به، والتصديق به، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}؛ لعدم قبولهم الحق، وكراهتهم له، وهذا فيه التحذير للكفار من الاستمرار على كفرهم وعنادهم، وهذا القرآن فصيحٌ، أنزله الله تعالى بلغة العرب التي هي خير اللغات وأفضلها، أنزل على هذا النبي الكريم العربي، اختاره الله تعالى لرسالته العظيمة، ولكن من سبقت عليه الشقاوة لا حيلة فيه، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، }قل{ يا محمد: {هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، سبحان الله، قرآن واحد، للمؤمنين هداية لقلوبهم، وشفاء لما في صدورهم من الشكوك، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، صمم في آذانهم، لا يسمعون سماع قبول، ولا يهتدون إلى الإيمان به، وهو عليهم عمى، ومثل الذي [10:39] إليه، مثل الذين ينادون من مكان بعيد؛ لبعده عن قلوبهم وقبولهم له، وتصديقهم له، فهم كالذي ينادى من مكان بعيد، لا يسمع، فهم لا يسمعون سماع قبول، وإن كانوا يسمعون الآيات، ولا يهتدون إلى الإيمان به، فهو صمم في آذانهم، وعمًا في قلوبهم، لا يهتدون إلى الإيمان به، نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: ثم قال تعالى: ({مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}.
يَقُولُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أَيْ: إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أَيْ: لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْبَشَرِ لِجِبْرِيلَ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ -حِينَ سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 44] ، وَقَالَ {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187].
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أَيِ: الْجَمِيعُ بِعِلْمِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الْأَنْعَامِ: 59] ، وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرَّعْدِ: 8]، وَقَالَ {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11].
وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعِي؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ} أَيْ: أَعْلَمْنَاكَ، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ يَشْهَدُ أَنَّ مَعَكَ شَرِيكًا،{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ، {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53].
الشيخ: وهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الله تعالى يجازي كلًا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، من عمل صالحًا فثواب عمله له، ومختص به، وانتفع هو لنفسه، {وَمَنْ أَسَاءَ}، من عمل سيئًا، فإساءته على نفسه، لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا، }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}، فهو سبحانه وتعالى قد اعذر إلى الخلق، أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فلا يعذب أحد بغير جرم، ولا يعذب أحدًا حتى تقوم عليه الحجة، حتى يفهم الحجة، ولهذا غير المكلف لا يؤاخذ، الذي ليس عاقل غير مكلف، والذي لم تبلغه الدعوة لا يعذبه الله، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، حتى تقوم عليه الحجة، قد اعذر إلى الخلق، قد حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرمًا سبحانه، كما قال الرب سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"، وقال تعالى: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾[غافر:17]، وقال: ﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾[الأنبياء:47]، وقال: }وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}، علم الساعة لا يعلمها إلا هو سبحانه، ﴿لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾[الأعراف:187]، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولكن لها أشراط وعلامات، إذا ظهرت أشراط الساعة الكبرى، فهي وشيكة وقريبة الوقوع، إذا ظهرت أشراط الساعة الكبار، ظهرت أشراطها الأخيرة كطلوع الشمس من مغربها، فالساعة قريبة وشيكة، كالحمل المتم، لا يدرى متى تضع حملها، لا يدري أهلها متى تفجأهم بوضع الحمل، فكذلك الساعة إذا تتابعت أشراط الساعة فإنها وشيكة وقريبة. ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾[الشورى:17].
}وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا}، فيه بيان علم الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، قال سبحانه: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:59]، قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الأنفال:75]، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3]، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾[الطلاق:12]،
}وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ}، أي ثمرة على كثرتها، لا يخرج من أكمامها إلا ويعلمها، ولا تحمل أثنى ولا تضع إلا بعلمه.
قال تعالى: }وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}، في يوم القيامة، يوبخ المشركون الذين عبدوا مع الله غيره، وينادون، قال لهم: أين شركائي؟ }قَالُوا آذَنَّاكَ}، يعني [19:50]، }مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}، لا أحد يشهد، }وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}، يعني ذهب ما كانوا يدعون من قبل، هذه الأصنام ذهبت وزالت، }وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}، ظنوا يعني تيقنوا، الظن يأتي بمعنى اليقين، }وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}، تيقنوا أنهم لا محيص ولا محيد لهم على الحساب وعلى الجزاء، }وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}.
الطالب: ثم قال تعالى: ({لَا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}.
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَمَلّ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَائِهِ رَبَّهُ بِالْخَيْرِ -وَهُوَ: الْمَالُ، وَصِحَّةُ الْجِسْمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ-وَإِنَّ مَسَّهُ الشَّرُّ -وَهُوَ الْبَلَاءُ أَوِ الْفَقْرُ- {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أَيْ: يَقَعُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَرِزْقٌ بَعْدَ مَا كَانَ فِي شِدَّةٍ لَيَقُولَنَّ: هَذَا لِي، إِنِّي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ رَبِّي، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أَيْ: يَكْفُرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُ خُوِّل نِعْمَةً يَفْخَرُ، وَيَبْطَرُ، وَيَكْفُرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَقِ: 6، 7].
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ ثَمّ مَعَادٌ فليُحسنَنّ إِلَيَّ رَبِّي، كَمَا أَحْسَنَ إِلَيَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ إِسَاءَتِهِ الْعَمَلَ وَعَدَمِ الْيَقِينِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} يَتَهَدَّدُ تَعَالَى مَنْ كَانَ هَذَا عَمَلُهُ وَاعْتِقَادُهُ بِالْعِقَابِ وَالنَّكَالِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أَيْ: أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَوَامِرَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذَّارِيَاتِ: 39].
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} أَيِ: الشِّدَّةُ، {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أَيْ: يُطِيلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَالْكَلَامُ الْعَرِيضُ: مَا طَالَ لَفْظُهُ وَقَلَّ مَعْنَاهُ، وَالْوَجِيزُ: عَكْسُهُ، وَهُوَ: مَا قَلَّ وَدَلَّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يُونُسَ: 12]، الآية).
الشيخ: هذه الآيات الكريمات فيها بيان حال الإنسان من حيث هو، وأنه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير، وسؤال الله الصحة والعافية والمال والولد، {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}، إذا مسه الشر فلا يزال يدعوا دعاءً طويلًا لما أصابه، {لَا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}، هذا حال الإنسان، وصف الإنسان من حيث هو، وقد أخرج عن هذا الوصف بالإيمان والعمل الصالح والتوبة النصوح، لكن هذا هو وصف الإنسان أنه لا يسأل ولا يمل من دعاء الخير وسؤال الخير، وإذا مسه الشر أصابه شدة وكرب وفقر وغير ذلك مما يكره، فيدعوا دعاءً عريضًا طويلًا، مستمرًا، شيءٌ واحد.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، هذه حال الإنسان الكافر، إذا أذاقه الله، وأعطاه اله الصحة والمال والغنى والعافية بعد ما كشف عنه ما أصابه من المرض والفقر والحاجة، قال: {هَذَا لِي}، أنا حقيق به، أنا مستحق له، يعني أنه أهل له، كما أخبر الله تعالى عن قارون، لما نصحه قومه، ﴿قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[القصص:76 - 77]، ماذا قال؟، ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾[القصص:78]، يعني أنا حقيق بهذا المال، وأنا أهل له وأنا مستحق له، ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾[القصص:78]، وكذلك حال الإنسان غذا أذاقه، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}، أنا حقيق به، أنا مستحق له، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، هذا الإنسان الكافر، الشك في القيامة كفر وضلال، فهذا حال الإنسان الكافر؛ لنه أنكر قيام الساعة وشك فيها، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا}، إذا أعطاه الله الصحة والمال والعافية بعد ما أصابه من الشدة والكرب، نسب ذلك لنفسه، وأنه حقيق به وجدير به، وأهل لذلك، ثم شك في البعث، قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، لو قدر على الفرض، لو كان هناك بعث على الفرض والتقدير، لكان الخير موصول لي، كان خير الآخرة موصول بخير الدنيا، كما أنه أعطاني الخير في الدنيا، فإنه يعطيني في الآخرة، هكذا يتمنى على الله الأماني.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي}، على فروض التقدير، {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، يعني سيعطيني من الإحسان والمال والخير كما أعطاني في الدنيا، فيكون الخير في الآخرة موصول بالخير في الدنيا، قال الله تعالى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}، {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا}، يعني سوف نجازيهم ونحاسبهم بأعمالهم، أخبر الله تعالى انه لابد من الحساب، ولا بد من الجزاء، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}، يعني الكفار لهم العذاب الغليظ والشديد، وهو النار التي يصلونها، وتغمرهم من جميع الجهات، ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾[الأعراف:41]، نعوذ بالله.
بخلاف المؤمن العاصي، فإن النار لا تغمره، بل تلهبه، ولا تصيب مواضع السجود، أما الكافر فإنه يصاب بعذاب غليظ، وتصلاه من جميع الوجوه،﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ﴾[الانفطار:15]، نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: ({قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}.
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أَيْ: كَيْفَ تُرَون حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}؟.
أَيْ: فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ، ومَسْلَك بَعِيدٍ مِنَ الْهُدَى.
ثُمَّ قَالَ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: سَنُظْهِرُ لَهُمْ دَلَالَاتِنَا وحُجَجنا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ {فِي الآفَاقِ}، مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: وَدَلَائِلُ فِي أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْر، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي حَلّت بِهِمْ، نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وحِزْبَه.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَا الْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهُ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُتَبَايِنَةِ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ تَحْتَ الْأَقْدَارِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وحِيَله، وَحَذَرِهِ أَنْ يَجُوزَهَا، وَلَا يَتَعَدَّاهَا، كَمَا أَنْشَدَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ "التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ"، عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ:
وَإذَا نَظَرْتَ تُريدُ مُعْتَبَرا ... فَانظُرْ إليْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ ...
أنتَ الَّذِي يُمْسِي وَيُصْبحُ فِي ... الدُّنْيَا وكُلّ أمُوره عبَرُ ...
أنتَ المصرّفُ كانَ فِي صِغَرٍ ... ثُمّ استَقَلَّ بِشَخْصِكَ الكِبَرُ ...
أنتَ الَّذِي تَنْعَاه خلْقَتُه ... يَنْعاه مِنْهُ الشَّعْرُ والبَشَرُ ...
أنتَ الَّذِي تُعْطَى وَتُسْلَب لَا ... يُنْجيه مِنْ أنْ يُسْلَبَ الحَذَرُ ...
أنْتَ الَّذِي لَا شَيءَ منْه لَهُ ... وَأحَقُّ منْه بِمَاله القَدَرُ ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ أَيْ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النِّسَاءِ: 166].
وَقَوْلُهُ: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} أَيْ: فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُونَ لَهُ، وَلَا يَحْذَرُونَ مِنْهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ هَدَرٌ لَا يَعْبَئُونَ بِهِ وَهُوَ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي لَمْ أَجْمَعْكُمْ لِأَمْرٍ أُحْدِثُهُ فِيكُمْ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَحْمَقُ، وَالْمُكَذِّبَ بِهِ هالك ثم نزل.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِهِ أَحْمَقُ" أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ لَهُ عَمَلَ مِثْلِهِ، وَلَا يَحْذَرُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ مِنْ هَوْلِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُصَدِّقٌ بِهِ مُوقِنٌ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَمَادَى فِي لَعِبِهِ وَغَفْلَتِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَذُنُوبِهِ، فَهُوَ أَحْمَقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَالْأَحْمَقُ فِي اللُّغَةِ: ضَعِيفُ الْعَقْلِ.
وَقَوْلُهُ: "وَالْمُكَذِّبُ بِهِ هَالِكٌ" هَذَا وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى -مُقَرِّرًا عَلَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَإِقَامَةُ السَّاعَةِ لَدَيْهِ يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} أَيِ: الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ طَيِّ عِلْمِهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كُلِّهَا بِحُكْمِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، والله أعلم. [آخر تفسير سورة فصلت].
الشيخ: يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}، أي أخبروني إن كان من عند الله وكفرتم به، فأنتم في ضلال وفي شقاق، لوا أحد أضل منكم، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}، يعني أخبروني، {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وهو من عند الله، وكفرتم له، ما تكون حالكم، حالكم في ضلال وفي شقاق بعيد، {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}
ثم قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، سنريهم الآيات في الآفاق، آفاق وأقطار السموات والأرض، الآفاق في السموات وفي الأرض، والليل والنهار والشمس والقمر وغيرها، فيها الآيات والدلائل والعبر على قدرة الله ووحدانيته، وأنه المعبود الحق، وأنه المستحق للعبادة، وأن غيره معبود بالباطل.
{وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، انظر لنفسك أيها الإنسان، هذا الإنسان هو أعجوبة العجائب، كل العجائب، هذا الإنسان الذي أعطاه الله العقل، وأعطاه الله القوى والإدراكات، وخلقه وجعل له أحوال، يحي ويموت ويأكل ويشرب ويبول ويتغوط ويغضب ويرضى، ويبيع ويشتري، وينام ويحيى، ويسترق، ويغضب ويرضي، ويحب ويبغض، أحوال عجيبة، ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات:21].
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، في حال الإنسان، في خلقته، في أكله وشربه ونومه، ويقظته، وصحته ومرضه، في تركيبه وخلقته، في أمعاءه الداخلية والخارجية، والدماء التي تجري في عروقه، وغير ذلك من الأحوال التي هي عجب، والله تعالى على كل شيء قدير.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، حتى يتضح لهم الحق وتقوم عليهم الحجة، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، بلى، يكفي أن الله على كل شيء شهيد، محيط.
{أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ}، يعني هؤلاء المشركين في مرية، في شك من لقاء الله، من البعث والجزاء والحساب، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}، محيط بخلقه، تحت قبضته وتصرفه، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، فهو سبحانه وتعالى بكل شيء محيط، فجدير بالإنسان ان يؤمن بربه، ويصدق بآياته وبرسله، ويستجيب وينقاد لأمر الله ودينه وشرعه، هذا هو طريق النجاة وطريق السعادة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء الأبرار المتقين، ويختم لنا بخير.
طالب آخر: [44:36].
الشيخ: نعم، هذه من علو المنزلة، ولا تزال تزداد وهي موجودة قبل وجود الاختراعات، موجودة، الليل والنهار والشمس والقمر والحيوانات والنبات والهواء، موجودة، ولكن الاختراعات هذه زيادة فيما توصل إليه الإنسان، ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق:5].
طالب آخر: علم التشريح كان قديمًا أحسن الله عملك؟
الشيخ: الظاهر أنه كان قديمًا، الظاهر كان له أصل.
طالب آخر: [45:06].
الشيخ: لكنه تطور.
الطالب: (
الشيخ:
