شعار الموقع

سورة الشورى - 3

00:00
00:00
تحميل
53

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: ({‌شَرَعَ ‌لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‌‌(13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}.

يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {‌شَرَعَ ‌لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، فَذَكَرَ أَوَّلَ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَآخِرَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ: إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ كَمَا اشْتَمَلَتْ آيَةُ "الْأَحْزَابِ" عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ:7]. وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ هُوَ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وفي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» أَيِ: الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ:48]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيْ: وَصَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِالِائْتِلَافِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.

وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أَيْ: شَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ التَّوْحِيدِ.

ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أَيْ: هُوَ الَّذِي يُقدّر الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الرُّشْدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ: إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا البغيُ والعنادُ وَالْمُشَاقَّةُ.

ثُمَّ قَالَ [اللَّهُ] تَعَالَى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِإِنْظَارِ الْعِبَادِ بِإِقَامَةِ حِسَابِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا سَرِيعًا.

وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يَعْنِي: الْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرهان، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَكٍّ مُرِيبٍ، وَشِقَاقٍ بَعِيدٍ).

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

هذه الآية الكريمة فيها بيان أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثهم الله بالتوحيد، وأن دينهم واحد، وهو توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، الأمر بعبادة الله، وتوحيده، وإخلاص الدين له، وأداء حقه، والقيام بأمره سبحانه، أما الشرائع فإنها تختلف، وكل نبي له شريعة، أوامر، ونواهي، وأحكام، وحلال وحرام، أما الدين فهو واحد، ولذلك قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[الشورى:13]، شرع لكم خطاب لهذه الأمة، شرع لكم بالكتاب الذي أنزله على نبيكم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بالشريعة التي جاء بها، شرع لكم من الدين، الدين الذي عليه الأنبياء السابقون، وهو توحيد الله، وإخلاص الدين له، ولهذا قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾[الشورى:13]، أي: شرع لنا من الدين سبحانه وتعالى دين الأنبياء، وهو الذي وصى به نوحًا، وهو الذي أوحاه إلى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو الذي وصى به إبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء هم أولوا العزم الخمسة، نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليه السلام، لهم من الصبر والتحمل ما ليس لغيرهم، وأمر نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يتأسى بهم في قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾[الأحقاف:35].

ذكرهم الله تعالى في آيتين، هذه الآية في سورة الشورى، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[الشورى:13]، أي: يا محمد، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، خمسة، وفي سورة الأحزاب كذلك ذكر الله هؤلاء الخمسة، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[الأحزاب:7]، فهؤلاء أولوا العزم الخمسة ذكروا في آيتين، وهذا الدين، وهو دينهم واحد، وهذا الدين الذي شرعه لهم قال الله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، شرع لكم من الدين والعبادة والتوحيد، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾[الشورى:13]، الدين الذي وصينا به نوحًا، والدين الذي أوحينا به إليك يا محمد، والدين الذي وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، ما هو؟ ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، أقيموا هذا الدين، استقيموا على التوحيد، نهاهم عن الفرقة والاختلاف، وأمرهم بالجماعة والائتلاف.

﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾[الشورى:13]، عظم على المشركين ما تدعوهم إليه، عظم على المشركين دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للتوحيد، عظم عليهم، وشق عليهم، وكبر عليهم؛ لأنهم ألفوا عبادة الأصنام والأوثان التي عليها آباؤهم، وشق عليهم أن يتركوا ما عليه الآباء والأسلاف، ولهذا شق ذلك على أبي طالب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع علمه أن دين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو خير الأديان، ولكنه كبر عليه أن يخالف ما عليه الآباء والأسلاف، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا

لو الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا

لولا الملامة، سبقت الشقاوة، لو الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا، ولذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حرص على هدايته عند موته عندما حضرته الوفاة؛ لأنه كان يزود عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحميه ويدافع عنه، الله تعالى صد عنه أذى المشركين بحمايته ودفعه، حرص على هدايته، ولكن الله لم يقدر له الهداية؛ لأن الله تعالى له الحكمة البالغة، كان عنده قرناء السوء، عبد الله بن أمية، وأبو جهل، قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، فقال له قرناء السوء: أترغب عن ملة أبيك عبد المطلب، فأعاد عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأعادوا عليه، كلما قال: «قل يا عم: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله»، قالوا: أترغب عن ملة أبيك عبد المطلب، كأنهم يقولون له: عيب عليك تترك ملة أبيك وجدك، هؤلاء قرناء السوء، أترغب عن ملة أبيك عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾[التوبة:113]، وأنزل الله تعالى على نبيه تسلية له، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[البقرة:272]، الهداية بيد الله.

﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13]، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشورى:13]، الله تعالى يجتبي للهداية من يشاء من عباده ممن سبقت لهم السعادة، وله الحكمة البالغة، وهو العليم بأحوال عباده، وبمن غرس له غراس الكرامة، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشورى:13]، ويضل من يشاء بعدله، هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى»، الدين واحد، الإخوة العلات هم الإخوة من الأب، الإخوة من الأب، دينهم واحد وهو التوحيد، والأمهات شتى تمثل الشرائع، كما قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48]، الشرائع تختلف، لكن الدين واحد، كلهم مأمورون بتوحيد الله، وإخلاص الدين لله وطاعته، وكل أمة مأمورة بطاعة نبيها، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، ولكن الشرائع تختلف، فالدين في زمان نوح، أو في زمان آدم هو توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة؛ لأنه نبي إلى بنيه، والتوحيد في زمن نوح توحيد الله واتباع نوح فيما جاء به من الشريعة.

والدين في زمن هود توحيد الله واتباع هود فيما جاء به من الشريعة، والدين في زمن صالح توحيد الله واتباع صالح فيما جاء به من الشريعة، والدين في زمن إبراهيم هو توحيد الله واتباع إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والدين في زمن موسى هو توحيد الله واتباع موسى فيما جاء به من الشريعة، والدين في زمن عيسى هو توحيد الله واتباع عيسى فيما جاء به من الشريعة، حتى بعث الله نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الشريعة الخاتمة، فالدين هو توحيد الله واتباع محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، والشريعة الخاتمة هي الناسخة لجميع الشرائع، نسخ الله جميع الشرائع، وليس لأحد أن يخرج عن شريعة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، سدت الطرق الموصلة إلى الله إلا من طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هو خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وشريعته عامة للعالمين، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[الفرقان:1]، ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾[النساء:79]، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾[الأنعام:19]، والإخوة العلات هم الإخوة من الأب، دينهم واحد، هذا يمثل التوحيد، والأمهات شتى، الأمهات متعددة تمثل الشرائع، الإخوة لعلات.

أما الإخوة من الأم يسمون إخوة الأخياف، الأم واحدة، والآباء متعددون، وإخوة الأشقاء من الأب والأم يسمون إخوة الأعيان، وهم الإخوة الأشقاء، فهم على أقسام، أشقاء يسمون إخوة أعيان، وإخوة الأخياف الأم واحدة والآباء متعددون، والأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى، الأم واحدة والأمهات متعددة، فمثلًا من الشرائع التي تختلف وإن كان الدين واحد، في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام الأخ يتزوج أخته التي جاءت من بطن غير البطن التي معه؛ لأن حواء خلقها الله من آدم، وكانت تلد في كل بطن ذكر وأنثى في كل مرة، فهذا الذكر الذي معه الأنثى تحرم عليه التي في بطن واحدة، ويجوز أن تتزوج أمه التي في بطن سابق وبطن لاحق، حتى يتكاثر الناس، فلما تكاثر الناس حرم الله نكاح الأخت، في زمن يعقوب جمع بين الأختين، في شريعتنا ممنوع، ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾[النساء:23]، في شريعة التوراة القاتل يجب القصاص، وليس هناك عفو، في شريعة الإنجيل عيسى يجب التسامح والعفو، ولهذا قال في شريعة عيسى: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، تسامح.

في شريعتنا، شريعة نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي هي أكبر الشرائع، أولياء القتيل مخيرون بين واحد من هذه الأمور، القتل عمدًا وعدوانًا، إما القصاص، وإما العفو والدية، وإما العفو مجانًا، إما القصاص، إذا أجمعوا على القصاص يكون القصاص، وإذا عفا بعضهم سقط القصاص، فلهم من يعفو بالدية، ولهم أن يعفو مجانًا والحمد لله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة:178].

({فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‌‌(15)}.

اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ، كُلٌّ مِنْهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، [لَهَا] حُكْمٌ بِرَأْسِهِ).

كل كلمة لها حكم برأسها، عشر كلمات، كل جملة مستقلة لها حكم مستقل.

(قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهَا أَيْضًا عَشَرَةُ فُصُولٍ كَهَذِهِ.

قَوْلُهُ {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أَيْ: فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ الْمُتَّبَعَةِ كَأُولِي الْعَزْمِ وَغَيْرِهِمْ، فادعُ النَّاسَ إِلَيْهِ).

هذه الجملة الأولى، فلذلك فادع، الذي أوحينا إليك من الدين الذي أوحاه الله إلى أصحاب الشرائع الكبار كموسى وعيسى وإبراهيم ومحمد ونوح وهود وصالح وهود، أصحاب هذه الشرائع، فلذلك فادع بالذين أوحينا إليك، فادع إلى هذا الدين الذي هو دينك ودين الأنبياء جميعًا.

(وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أَيْ: وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ).

هذه الجملة الثانية، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} استقم يا محمد على التوحيد والعبادة التي أمرك الله بها، أنت ومن معك، فاستقم كما أمرت ومن تاب.

(وَقَوْلُهُ: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ، وَكَذَّبُوهُ وَافْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ).

هذه الجملة الثالثة، ولا تتبع أهواءهم، لا تتبع أهواء المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثان، وما اختلقوه وزعموه من أنها تشفع لهم وأنها مستحقة للعبادة، استقم على توحيد الله ولا تتبع أهواء المشركين، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18/19].

(وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أَيْ: صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ على الْأَنْبِيَاءِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).

هذه الجملة الرابعة، {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، قل يا محمد: آمنت بما أنزل الله من كتاب، من سبقها النفي، تفيد العموم، أي: كتاب، {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، والكتب أنزل الله تعالى على الأنبياء كتب لا يعلم أسمائها وعددها إلا الله، لكن سمى الله منها التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وصحف موسى، هذه نؤمن بها بأعيانها، وأما عدا ذلك فإنه نؤمن به إجمالًا، {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، قل يا محمد: آمنت بما أنزل الله من كتاب، لا أفرق بين أحد من رسله وأنبيائه، كل كتاب أنزله الله على نبي من الأنبياء فأنا أؤمن به، هذا أمر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأتباعه أن يؤمنوا بذلك، هذا الواجب، الإيمان بالكتب المنزلة هو أصل من أصول الإيمان، وهو أن يؤمن المؤمن ويصدق بالكتب المنزلة على الأنبياء، والإيمان إجمالي فيما لم يسم من الكتب، وتفصيلي فيما سمي من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وصحف موسى.

(وَقَوْلُهُ: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أَيْ: فِي الْحُكْمِ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ).

هذه الجملة الخامسة، {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، في الحكم، أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعدل بينهم في الحكم كما أمر الله في كتابه، وكما أوحاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

(وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أَيْ: هُوَ الْمَعْبُودُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا، فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي الْعَالَمِينَ طَوْعًا وَإجبارًا).

الطالب: طوعًا واختيارًا.

الطالب: لكن المعنى واحد أحسن الله إليك، طوعًا واختيارًا.

الشيخ: قوله: {الله ربنا وربكم}.

(وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أَيْ: هُوَ الْمَعْبُودُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا، فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي الْعَالَمِينَ طَوْعًا وَإجبارًا).

نعم، حتى يشمل الصنفين، هذه الجملة السادسة، الله ربنا وربكم، هو معبودنا سبحانه وتعالى، فنحن نعبده اختيارًا، وأنتم وإن لم تعبدوه فإن الله تعالى يعبده من في السماء والأرض طوعًا وإجبارًا، المؤمنين الذين يعبدون باختيارهم وإجبارًا يعني تسخيرًا، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾[الحج:18]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾[النحل:48]، هذا إجبار؛ لأنه مسخر، ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾[النحل:49]، فالمعبودات، والجمادات وغيرها كلها مسخرة، تسجد لله مسخرة تسخيرًا، ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾[النحل:48]، ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[الرعد:15]، كرهًا تقابل الإجبار هنا، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾[النحل:48]، يعني مسخرون.

نحن نعبد الله باختيارنا، وأنتم وإن لم تعبدوا الله فإن الله يعبده من في السماوات والأرض طوعًا وتسخيرًا، منهم من هو طوعًا كالمؤمنين الذين يعبدون الله باختيارهم، ومنهم المسخر كالجمادات، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء:44]، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾[النحل:48]، مسخرون، ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[النحل:49/50].

(وَقَوْلُهُ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ: نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ:41]).

هذه الجملة السابعة، قول: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، يعني لنا أعمالنا نحن الموحدون، نعبد الله، ونؤدي ما أوجب الله علينا، وننتهي عما حرم الله علينا، وأنتم لكم أعمالكم، لكم أعمالكم التي ضللتم بها عن سواء السبيل من الشرك والمعاصي كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)﴾[الكافرون:1/6]، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.

(وَقَوْلُهُ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ. وَهَذَا مُتَّجَهٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةَ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ).

هذه الجملة الثامنة، الله يجمع بيننا وبينكم، لا حجة بيننا وبينكم، وقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة بيننا وبينكم؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما بعثه الله في مكة، وكان المؤمنون ضعفاء مأمورون بالصفح وعدم القتال والإعراض، ليس عندهم قوة ولا قدرة، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾[الزخرف:89]، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾[النساء:63]، ﴿َأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام:106]، ثم بعد ذلك لما هاجر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة، وكان له قوة نزلت آية القتال، أنزل الله تعالى أولًا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[الحج:39]، هذا إذن، ثم في المرحلة الثانية، هذا رخصة الآن، ثم المرحلة الثانية: أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل، ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:191]، ثم المرحلة الثالثة: أمر بالجهاد بدأ وهجومًا، ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾[التوبة:5]، ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[التوبة:36]، فالجهاد له مراحل، المرحلة الأولى في مكة مأمورون بالصفح والإعراض، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾[الزخرف:89]، ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام:106]، ثم المرحلة الثانية: مرحلة الإذن، الرخصة، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾[الحج:39]، ثم المرحلة الثالثة: أمر بقتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل، ثم المرحلة الرابعة: الأمر بالجهاد بدأ وهجومًا ودفاعًا.

(وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سَبَأٍ:26]).

وهذه الجملة التاسعة، الله يجمع بيننا، الله تعالى يجمع بيننا يوم القيامة، ويحاسبنا، ويجازينا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر كما قال سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة:7/8].

(وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب).

هذه الجملة العاشرة، {وإليه المصير} أي: إلى الله المرجع والمآب والحساب، وفي الآية الأخرى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[البقرة:245]، الرجوع إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الرجوع إلى الله، والمصير إلى الله، فهو سبحانه هو الذي يحاسب الخلائق، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وهو سبحانه يجزي بالعدل والقسط، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء:40]، وهم لا يظلمون، ﴿فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾[الأنبياء:47]، في الحديث القدسي، حديث أبي ذر الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، يقول الله تعالى: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا».

({وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‌‌(16) اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)}.

يَقُولُ تَعَالَى -مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ-: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أَيْ: يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ: بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أَيْ: مِنْهُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالُوا لَهُمْ: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ).

هذه الآية فيها الوعيد الشديد عن الذين يصدون الناس عن دين الله ويفتنونهم، فإن لهم عذاب زيادة عن عذاب الكفار، كما قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾[النحل:88]، ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾[الشورى:16]، يجادلون المؤمنين الذين هداهم الله للإيمان ووفقهم للاستجابة لله ولرسول يجادلونهم؛ ليصدونهم عن دينهم، ويفتنونهم عن دينهم؛ ليرجعوا إلى الكفر، قال قتادة: حتى تعود إلى الجاهلية، وقيل: إن هذا في اليهود الذين يجادلون المؤمنين ويقولون: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن أولى بالله منكم، كذبهم الله، هؤلاء حجتهم داحضة باطلة، وعليهم غضب من الله، ولهم عذاب أليم، بين الله تعالى في الآيات الأخرى أن لهم عذاب زيادة على عذاب الكفار، فلهم عذاب على الكفر، وعذاب على كونهم يفتنون المؤمنين على الكفر، ويصدونهم عن الإيمان، فلهم عذاب مضاعف، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[الشورى:16]، حجتهم باطلة، واشتد غضب الله عليهم، بين الله في الآيات الأخرى أنه عذاب مضاعف، ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾[النحل:88]، نسأل الله السلامة والعافية، قف عند قوله: {الله لطيف بعباده}.

نعم، ﴿لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[الشورى:15]، كيف؟ لا حجة بيننا وبينكم، سبق.

(وَقَوْلُهُ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ ‌لَا ‌خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ. وَهَذَا مُتَّجَهٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةَ السَّيْفِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ).

يعني لا خصومة بيننا ولا جدال، هذا قبل القتال، قبل أن يؤمر بالقتال، كان هذا في مكة، كانوا مأمورين بالصفح والإعراض، فاصفح عنهم وقل سلام، لا تجادل ولا تخاصم؛ لأن الجدال يؤدي إلى القتال، وهم مأمورون بعدم القتال.

الطالب: [00:36:47]

الشيخ: آية الكرسي عشر جمل، وهذه عشر جمل، المغيرة فهم أنها عشر جمل، هذه عشر جمل، وهذه عشر جمل، يقول: لا نظير له في القرآن، آية واحدة عشر جمل، كل جملة مستقلة، آية الكرسي كذلك، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة:255]، عشر جمل مستقلة، المقصود أن كل آية جملة مستقلة بغض النظر عن الصفات أو غير الصفات، المقصود أن كل آية عشر جمل مستقلة.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد