| المتن |
قال المؤلف رحمه الله -تعالى-:
| الشرح |
سبق أن المؤمنين يرون ربهم أيضًا في موقف القيامة قبل دخولهم الجنة، وهذا متفق عليه، واختلف في غير المؤمنين هل يرون ربهم أم لا يرونه؟ على أقوال ثلاثة سبقت.
والأحاديث ثابتة في رؤية المؤمنين لربهم في موقف يوم القيامة، وأنهم يرونه أربع مرات، كما ثبت في بعض الأحاديث: يرونه في المرة الأولى، ثم في المرة الثانية يتحول في غير الصورة التي يعرفونه، فيكبرون ويقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا، فيأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه، ثم في المرة الثالثة يتحول في الصورة التي يعرفونه؛ فيسجدون له، حينما يجعل بينه وبينهم علامة، وهي كشف الساق، فإذا وقفوا رأوه في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فيرونه أربع مرات قبل أن يدخوا الجنة.
وأما بعد دخولهم الجنة، فهناك أحاديث متواترة سبقت في هذا.
الخلاصة في مبحث الرؤية:
أن رؤية الله بالأبصار جائزة عقلًَا في الدنيا والآخرة؛ لأن كل موجود يجوز أنه يُرى.
ومن الأدلة على جوازها عقلًا: سؤال موسى ربه أن ينظر إليه؛ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف آية: 143]، فموسى لا يسأل إلا جائزًا في حق الله -تعالى-.
وأما شرعًا: فهي جائزة وواقعة في الآخرة وممتنعة في الدنيا، ومن أصلح الأدلة على ذلك ما ثبت في «صحيح مسلم» أنه ﷺ قال: تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ ([1])، وجاء بنحوه أيضاً من حديث عبادة بن الصامت([2])، ورواه ابن خزيمة أيضًا في كتاب التوحيد أن النبي ﷺ قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. ([3])، والأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم متواترة كما سبق ورد عن نحو ثلاثين صحابيًّا.
وقول المؤلف -رحمه الله-: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ):
يعني أن الله سبحانه يُرى، ولكن لا يحاط به رؤيةً؛ لكمال عظمته، ولكونه أعظم وأكبر من كل شيء، كما قال -سبحانه-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [سورة الأنعام آية: 103].
وإذا كانت بعض المخلوقات ترى ولا يحاط بها رؤية، فكيف بالخالق؟ فأنت ترى البستان، ولا تحيط به رؤيةً، وترى الجبل ولا تحيط به رؤيةً، وترى السماء ولا تحيط بها رؤيةً، وترى المدينة ولا تحيط بها رؤيةً، وهي كلها مخلوقات، فالخالق أولى ألا يحاط به رؤيةً، كما أنه يُعلَم، ولا يحاط به علمًا، كما قال : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه آية: 110]، وهذا المعنى سبق تقريره.
وقوله: (بلا كيفية): أي لا نكيف الصفات، فلا نقول: يُرى على كيفية كذا، وعلى كيفية كذا.
| المتن |
من أدلة رؤية المؤمنين لربهم
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
الآية صريحة في النظر في رؤية المؤمنين لربهم؛ لأن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، وعدَّاه بـ«إلى» الصريحة في نظر العين، وأخلى الكلام عن قرينة تدل على أن المراد بالنظر هنا خلاف حقيقته. وموضوعُهُ صريحٌ في أن المراد: النظر؛ النظر بالعين؛ التي في الوجه؛ إلى الرب .
| المتن |
النهي عن الخوض في الصفات
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
يعني: الصفات لا تُكيَّف، وعلمها يُردُّ إلى الله .
| المتن |
ما جاء في أحاديث الرسول ﷺ مفسر لما أراد الله
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
نعم! كل ما جاء من الأحاديث؛ فهو مفسَّر على ما أراده الله، وعلى ما أراده رسوله |؛ كما جاء عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: «آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، وعلى مراد رسول الله»([4]).
| المتن |
النهي عن الخوض في كيفية الرؤية
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
يعني: لا ندخل في الكيفية؛ بأن نتوهم بأهوائنا وظنوننا كما توهمت المعتزلةُ بأهوائهم وظنونهم؛ أنه يلزم من رؤية الله أن يكون جسمًا، أو أن يكون متحيزًا، أو أن يكون محدودًا، وقالوا: لو ثبتت رؤية الله بالأبصار للزم من ذلك أن يكون الله في جهة، وأن يكون محدودًا، وأن يكون جسمًا، وأن يكون متحيزًا، فلما توهموا ذلك نفوا الرؤية، وتأولوا بآرائهم؛ فقالوا: معنى الرؤية: العلم.
فالمقصود: ألا ندخل في الكيفية حتى لا نتوهم بأهوائنا وظنوننا كما توهمت المعتزلة، وغيرهم من أهل الضلال.
| المتن |
التسليم لله والرسول ورد المتشابه للعلماء
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
فالأمر كما قال الشيخ -رحمه الله-: فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله بنصوص الشرع -الكتاب والسنة-، فالواجب كمال التسليم لله ولرسوله ﷺ، ورد علم ما اشتبه إلى عالم، ولا يُعترضُ عليهما -الكتاب والسنة- بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة: كأن يقول مثلًا: العقل يشهد بضد ما دلَّ عليه النقل، أو: العقل أصلُ النقل؛ فإذا عارضه قدمنا العقلَ! وهذا من أبطل الباطل؛ فالواجب التسليم لله ولرسوله ﷺ، والتسليم لنصوص الوحيَيْن.
| المتن |
التسليم والانقياد والإذعان لنصوص الوحيين
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
أي: لا يثبت إسلام من لم يُسَلِّم بنصوص الوحيين، وينقَدْ إليهما، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه، كما قال الإمام محمد بن شهاب الزُهري فيما رواه البخاري عنه: «مِن الله الرسالة، ومِن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم»([5])، وهذا كلام جامع نافع، ولا نجاة للعبد إلا بتوحيد الله ، وتوحيد متابعة الرسول، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهذين التوحيدين: توحيد المرسِل، وهو الله ، وتوحيد متابعة الرسول، فنوحِّد المُرسِل -وهو الله- بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، ونوحِّد الرسول ﷺ بالتحاكم إليه، فلا نتحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غير حكمه، بل ننقاد لأمره -عليه الصلاة والسلام-، ونتلقى خبره بالقبول والتصديق؛ دون معارضةٍ بخيال باطل؛ نسميه معقولًا، أو نحمله شبهة أو شكًّا، أو نقدَّم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، أو نتوقف في تنفيذ أمره وتصديق خبره؛ لعرضِه على قول شيخ أو إمام أو مذهب أو طائفة؛ فإن أذنوا: نُفِّذ وقُبل خبره، وإلا فُوِّض؛ كما يفعل ذلك الذين لم يستسلموا لنصوص الوحيين، بل الواجب: التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، ولا يمكن أن يكون العقل الصريح مخالفًا نقلًا صحيحًا؛ لأنَّ ما جاءت به الشريعة: يوافقُ العقولَ الصحيحة، ولا يمكن أن يخالف نقلٌ صحيحٌ عقلًا صريحًا أبدًا، لكن إذا جاء من ينكر ذلك مع كون النقل صحيحًا؛ فذلك الذي يدعي أنه معقول؛ ليس عقلًا صريحًا ولا بُدَّ، بل هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر له ذلك، أما إذا كان النقل غير صحيح فإنه لا يصلح للمعارضة أصلاً، وبعض الناس يقول: إذا تعارض العقل والنقل؛ وجب تقديم النقل؛ لأن كلًّا من العقل والنقل مدلول، والجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوبِ قبول ما أخبر به الرسول ﷺ، فلو أبطلنا النقل أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل، لم يصلح أن يكون معارضًا للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضته شيء من الأشياء؛ فكان تقديم العقل موجبًا عدم تقديمه.
وأهل الكلام وأهل البدع من معتزلة وغيرهم، إنما أوتوا من تقديمهم العقل على النصوص. وتقديمُ العقل له آثار سيئة في نقصان التوحيد؛ فمن لم يسلِّم للرسول - عليه الصلاة والسلام- نقص توحيده، لأنه يقول برأيه وهواه.
وتقديم العقل على النصوص؛ من أسباب الفساد في العالم؛ وذلك أن الفساد في العالم دخل من ثلاث فِرَق:
- من الملوك الجائرة.
- ومن علماء وأحبار ورهبان السوء.
- ومن عُبَّاد السوء الذين يتعبدون على جهل وضلال.
فالملوك الجائرة: يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله.
وعلماء السوء: هم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم، وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرَّم الله ورسوله، أو تحريم ما أباحه الله ورسوله، هؤلاء يخرجون عن الشريعة، ويقدمون آراءهم ومقاصدهم الناقصة الفاسدة على نصوص الوحيين.
ورهبان السوء: وهم جهال المتصوفة الذين يعترضون على حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية.
فالملوك الجورة؛ الجائرون، يقولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدَّمنا السياسة، وعلماء السوء يقولون: إذا تعارض العقل والنقل؛ قدَّمنا العقل، ورُهبان السوء، وعباد السوء يقولون: إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع؛ قدمنا الذوق والكشف.
ولهذا قال عبد الله بن المبارك الإمام المعروف -رحمه الله-:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ | وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا ([6]) |
والعلماء يضربون مثلًا للنقل مع العقل؛ وذلك أن العقل مع النقل كالعامِّيِّ المقلِّد مع العالم المجتهد، فالعقل كأنه عامي مقلِّد، والنقل كالعالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العاميِّ يمكنه أن يصير عالمًا ويتعلم، ولا يمكن للعالم أن يكون نبيًّا أو رسولًا، فإذا عرف العامي المقلد عالمًا فجاء عامي آخر يريد أن يستفتي فدله هذا العامي على العالم ليستفتي، ثم اختلف المفتي والدال -العامي- الذي دله، فإن المستفتي يجب أن يأخذ بقول العالم المفتي دون الدال، فلو قال العاميُّ الدَّالُّ: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتي، فلزم القدح في الفرع دون الأصلِ، فيقول له المستفتى: أنت لما شهدت له بأنه مفتٍ، ودللت عليه، وشهدتَ له بوجوب تقديمه دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتي إياك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفتَ فيه المفتى الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ، هذا مع علمه بأن ذلك المفتي قد يخطئ، والعقل يعلم أن الرسول ﷺ معصوم في خبره عن الله -تعالى- لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له ،والانقياد لأمره.
| المتن |
النهي عن التكلم في أمور الدين بغير علم
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
«من رام...»: يعني: من أراد وقصد أن يعلم علمًا محظورًا عليه، ممنوعًا منه شرعًا، كأن يريد أن يعلم الكيفية؛ أي: كيفية الصفات، أو يريد أن يعلم حقائق الآخرة أو شيئاً مِمَّا مُنعَ منه؛ حجبه ذلك عن صافي المعرفة، وصحيح الاعتقاد، وصحة الإيمان، فصار في إيمانه خلل، وفي تحقيقه للتوحيد دخن؛ لأنه طلب شيئًا ممنوعًا منه.
وسبب اختلال كثير من الناس؛ هو الإعراض عن كلام الله وكلام رسولِ الله ﷺ، والاشتغال بكلام اليونان، والآراء المختلفة؛ ولهذا يُسمَّون: أهلَ الكلام، وإنما سُمّوا: أهلَ كلامٍ؛ لأنهم لم يشيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام لا يفيد، فهم يضربون من القياس لإيضاح ما عُلم من الحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله امتحنوا به في موضع آخر .
| المتن |
انتياب الحيرة من عدل عن الكتاب والسنة إلى غيرهما
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
يعني هذا الإنسان الذي يريد أن يعلم أو يصل إلى العلم الذي مُنع منه؛ يبقى في حيرة وشك، ويتذبذب ويضطرب بين الإيمان وبين الكفر، وبين التصديق أو التكذيب، وبين الإقرار وبين الإنكار، ويكون موسوسًا تائهًا حائرًا ضالًّا، بسبب عدم ثباته، وبسبب تجاوزه لحده؛ فإن الإنسان حده أن يعلم ما أمر الله بمعرفته من العلم النافع، كأن يعلم أسماء الرب وصفاته ومعانيها، ويعلم ما شرعه الله في كتابه، وفي سنة رسوله ﷺ من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، ويعلم ما يكون من الجزاء في يوم المعاد من أمور البرزخ وأمور الآخرة.
أما الحقائق والكيفية والكُنْهَ؛ فهذا لا ينبغي له أن يسعى في طلبها؛ لأنه إذا فعله فقد تجاوز حدَّه وبقي بين الشك واليقين، وبين الإقرار والتكذيب، وبين الإيمان والتكذيب؛ موسوسًا؛ تائهًا؛ حائرًا، -نسأل الله السلامة والعافية-.
| المتن |
الرد على من تأول رؤية الله
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية) يعني: برؤية الله يوم القيامة، وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم) يعني: أن من تأولَّ أو توهَّم الرؤيةَ بأنها تشبه رؤية المخلوقين، أو أن الله يشبه أحدًا من خلقه، أو يماثله أحد من خلقه، أو أن الله يُرى على صفة كذا؛ فهذا كله توهُّمٌ يظنه؛ لأنه بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف: كان مشبهًا، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل هذا التوهم: صار جاحدًا معطلًا، فلا يصح الإيمان بالرؤية لمن توهمها بوهم، أو ادعى أن لها فهمًا يخالف ظاهرها، أويخالف ما يفهمه العرب، فحرَّف الرؤية، وسمى تحريفه تأويلًا؛ كما فعلت المعتزلة؛ حيث تأولوا الرؤية بالعلم، وقالوا: إنه يلزم من إثبات رؤية الله في الآخرة أن يكون الله شبيهًا بالمخلوقين، فلذلك تأوّلناها!! فمثل هذا الإيمان لا يصح.
ومن أبى إلا تحريف أدلة الرؤية؛ فإنه يكونُ بهذا قد فتح بابًا للملاحدة الباطنية؛ حيث إنهم أولوا نصوصَ المعاد، والجنة والنار، والحساب؛ فقالوا: إن الجنة والنار، بل والمعاد: خيال، فلما قال لهم المعتزلة وأهل الكلام: نصوص المعاد والجنة والنار صحيحةٌ ثابتة بالأدلة القطعية. ومعناها واضح، قال لهم الباطنية: أنتم أولتم نصوص الرؤية، ونصوص الرؤية أيضاً ثابتة، ومعناها ثابت، فما الذي يبيح لكم أن تتأولوا نصوص الصفات، ويمنعنا من تأويل نصوص المعاد والجنة والنار؟! ففتحوا بذلك باب التأويل للملاحدة.
وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وقد حذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم.
صفات الله
| المتن |
كل صفة تضاف إلى الرب تفسيرها بترك التأويل
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
التأويل في قوله: (تأويل الرؤية) معناه: التفسير، والتأويل الثاني معناه: التحريف.
والمعنى: تفسير الرؤية، وتفسير كل معنى أو صفة تضاف إلى الرب؛ تفسيرها الصحيح: إنما يكون بترك التحريف، وجريان النصوص على ظاهرها، فالمعنى كما قال الإمام مالك -رحمه الله -تعالى- لما سُئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة([7]).
| المتن |
النفي والتشبيه من أمراض القلوب
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
أي: من لم يتوق النفي في الصفات، أو التشبيه؛ زل ولم يصب التنـزيه، فلا بد من توقي هذين الأمرين؛ نفي الصفات وتعطيلها كما فعلت الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فيما نفوا من الصفات، وكذلك يتوقى التشبيه كما فعلت المشبهة؛ فقالوا: إن صفات الخالق كصفات المخلوق، فلا بد أن تتوقى النفي في باب التنـزيه، وتتوقى التشبيه والتمثيل في باب الإثبات.
وهذا هو الذي فعله أهل السنة والجماعة؛ أثبتوا الصفات لله ، وتوقوا النفي في باب التنـزيه؛ فلم يعطلوا ولم ينفوا الصفات، وتوقوا التشبيه في باب الإثبات؛ فلم يقولوا: إنها مماثلة لصفات المخلوقين بل أثبتوا الصفات ونفوا الكيفية.
وهذان النوعان -مرض النفي ومرض التعطيل والتشبيه- مرضان عظيمان؛ المرض الأول: مرض شبهة، والمرض الثاني: مرض شهوة.
وكلاهما -الشهوة والشبهة- مذكوران في القرآن؛ فمن الأدلة على مرض الشهوة قول الله -تعالى-: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب آية: 32]، ومن الأدلة على مرض الشبهة قول الله -تعالى-: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [سورة البقرة آية: 10]، وقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة آية: 125]، ومرض الشبهة أشد من مرض الشهوة؛ لأن مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إلا أن يتداركه الله برحمته، والشبهة تكون في الصفات، وتكون في مسألة القدر، وأشد الشبهتين ما كان في أمر القدر.
| المتن |
تنـزيه الرب هو وصفه كما وصف نفسه نفيًا وإثباتًا
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
والمؤلف -رحمه الله- أتى بهذه الكلمات وهي من باب السجع، ولو لم يلتزم السجع لكان أحسن.
والمعنى: أن الله موصوف بما وصف به نفسه من النفي والإثبات؛ فهو موصوف بصفات الوحدانية، وهذا مأخوذ من قول الله -تعالى- في سورة «الإخلاص»: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص آية: 1]، ومنعوت بنعوت الفردانية، كما في قوله -تعالى- في السورة نفسها: اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [سورة الإخلاص آية: 2- 3]، فالله تعالى ليس في معناه أحد من البرية؛ يعني: لا يماثله أحد من خلقه، كما قال : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص آية: 4]، والوصف والنعت: متقاربان، فالوصف يُطلق على الذات، والنعت يطلق على الفعل، وهما إما مترادفان أو متقاربان.
وكذلك الوحدانية والفردانية: متقاربتان، فالوحدانية يُقصد بها الذات، والفردانية للصفات، فهو متوحد في ذاته، متفرد في صفاته، لا يشبه أحدًا من خلقه.
فقوله: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ البَرِيَّةِ) هو معنى قول الله -سبحانه-: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص آية: 4]، وهو أيضًا معنى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة الشورى آية: 11]، وكان من الأحسن أن يسوق هاتين الآيتين، بدلاً من قوله هذا.
| المتن |
الله تعالى لا يحويه شيء ولا يحيط به شيء
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
هذه العبارات التي أطلقها المؤلف -رحمه الله- فيها إجمال، وفيها احتمال وإيهام، ولهذا: فإن شُرَّاح «الطحاوية» الذين شرحوها قبل ابن أبي العز، فسروها على ما يتأوّلونه من الصفات. فهذه العبارات موهمة، وإن كان -رحمه الله- أراد بها معنًى حسنًا، وهو: نفي التشبيه، وأن الله -تعالى- لا يماثل أحدًا من خلقه، ولا يريد بها نفي العلو الإلهي.
ولكن بعضهم زعم بأن مراد الطحاوي: نفي العلو؛ بدليل قوله: (لا تحويه الجهات الست)؛ وهي: الفوقية، والتحتانية، والأمام، والخلف، واليمين، والشمال؛ فهذا واضح بأنَّ مراده: إنكار علو الله، وهذا ليس بصحيح كما سيأتي النقلُ عنه بذلك.
فهو-رحمه الله- قد أثبت الفوقية؛ فلا بد أن يُفسَّر كلامه المشتبه بكلامه الواضح، فهو لا يقصد -رحمه الله- نفي العلو، وإنما أراد تنـزيه الرب عن مشابهة المخلوقات، لكن الأولى في مثل هذا ألا يطلق الإنسان هذه العبارات، وأن يعتصم بالنصوص.
فالواجب الوقوف في باب أسماء الله وصفاته عند ما جاء في الكتاب والسنة نفيًا وإثباتًا والتقيّد بذلك، وأن يُنظر في هذا الباب: فما أثبته الله ورسوله؛ أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله؛ نفيناه، فالألفاظ التي ورد بها النص، يُعْتَصَمُ بها في الإثبات والنفي، فيثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تُطلق حتى يُنظر في مقصود قائلها، فإن كان أراد معنًى صحيحًا: قُبِلَ، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد، والحاجةُ: مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يُخَاطَبْ بها، مثل هذه الألفاظ الذي ذكرها المصنف، ومثلها أيضاً: ألفاظٌ مثل: المركب، والجسم، والحيز، والجوهر، والجهة، والعرض، والحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، ولا تحويه الجهات الست؛ كل هذه الألفاظ: ألفاظٌ مجملة؛ تحتمل حقًّا وباطلًا.
والناس لهم في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال:
- طائفة من الناس تنفيها وتقول: ليس مركبًا، ولا جسمًا، ولا حيزًا، ولا جوهرًا، ولا تحويه الجهات.
- وطائفة تثبتها، وتقول: هو جوهر؛ هو عَرَض.
- وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف الصالح؛ فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبيَّنَ أنَّ ما أُثبت بها ثابت، وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإيهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية؛ وهذه الألفاظ لم يرد بها نص من الكتاب ولا من السنة نفياً ولا إثباتاً، فمثلًا إذا قال: الله ليس مركبًا، نقول: ما مرادك بـ«مركب».
فالتركيب له معاني:
أحدها: التركيب من متباينيْن فأكثر؛ ويسمى: تركيب مزج؛ كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء، وهذا المعنى منفي عن الله.
والثاني: تركيب الجوار؛ كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم من ثبوت صفاته -تعالى- إثبات هذا النوع من التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة -ويسمونها الجواهر المفردة-؛ وهذا يكون الجسم فيه مركبًا من الجواهر المفردة، ولكن: هل يمكن التركيب من جزءين أو أكثر؟! كل هذا باطل، فلا يقال: إن صفات الله مركبة بهذا المعنى.
الرابع: التركيب من الهيولى؛ والصورة كالخاتم مثلًا؛ هيولاهُ: الفضة، وصورته: معروفة؛ وهذا التركيب ليس لازماً لثبوت صفات الله تعالى.
الخامس: التركيب من الذات والصفات؛ وهذا يسمونه تركيبًا؛ لأجل أن ينفوا به الصفات، وهم يقولون بصحة ذلك في حق الله؛ فيقولون: الله مركب يعني: له ذات وصفات.
ونحن نقول: هذا صحيح؛ الله له ذات وصفات؛ لكن بتسميةٍ غير تسميتكم؛ وهذا تركيب باطل، لا يُعرف في اللغة، ولا في استعمال الشرع، فلا نوافقكم على هذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية -الجسم- ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران؛ واما في الخارج: فمن المُحال أن تكون ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجردٌ عنها، فإذا قالوا: الله ليس بجسم، فنقول: ما مرادكم بالجسم؟ فالجسم يُطلق على ما تركب من جزءين، أو ما تركب من ثلاثة أجزاء فصاعدًا، ويقال أيضاً: الحق أن لفظ الجسم لفظ مجمل، لا يُثبت ولا يُنفى إلا بعد الاستفسار، فإن أردتم بنفي الجسم؛ نفي الصفات: فهذا باطل، وإن أردتم به: أن الله مستغنٍ عن غيره، عال على خلقه، بائن منهم؛ فهذا حق، لكن لا ينبغي التعبير بالجسمية؛ لأن هذه الألفاظ لم تأت في النصوص بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح.
وكذلك يعبرون بـ«الجوهر»؛ فيقولون: الله جوهر، أو: ليس بجوهر، فيقال: فما مرادكم بالجوهر؟ الجوهر يطلق على ما يقابل العَرَض، ويطلق عند أهل الكلام على العين التي لا تقبل الانقسام، وكل هذه معانٍ باطلة، فهي كغيرها من الألفاظ المجملة، ومثلها كذلك «التحيز، والحيز»، ويرادُ بالتحيز: الوجود في محل أو مكان، والحيز المكان والمحل، وبهذا الكلام اصطلحوا على تسمية استواء الله على العرش وعلوه على خلقه: تحيزًا. فنقول: الله مستوٍ على عرشه، وأما تسميته التحيز تحيّزاً بهذا الاصطلاح فهذا باطل.
ومن المعروف أن الموجود شيء ينسب إلى الوجود، فإن كان موجودًا هو أشرف الموجودات؛ فواجب أن ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف، وهي السماوات، ولشرف هذا الحيز قال الله -تعالى-: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سورة غافر آية: 57]، أما إذا أردتم بنفي التحيز والحيز أن الله مستغن عن خلقه بائن منهم، عالٍ عليهم؛ فهذا حق، لكن ينبغي التعبير بألفاظ النصوص.
وكذلك القول: بأن الله له حَدٌّ، أو ليس له حد؛ وهو قولٌ مجمل، ولا بد من الاستفصال عن هذا الإطلاق، نفياً وإثباتاً، فالشيخ الطحاوي -رحمه الله- أراد بلفظ الحد الرد على المشبهة؛ كداود الجواربي، وأمثالهم من القائلين بأن الله جسم، وأنه جثة، وله أعضاء، لكن أهل الكلام جروا الطحاوي وأدخلوا في عباراته معنًى باطلًا، فنقول: ما مرادكم بالحد؟ إن أردتم بالحد: العلم والقول؛ والمعنى: أن العباد يحدون الله، ويعلمون لله حدًّا؛ فهذا منتفٍ بلا منازعة، لأن العباد لا يعلمون لله حدًّا كما قال سهل بن عبد الله، وقد سئل عن ذات الله فقال([8]): «ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدرَكة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدينا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهرًا في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كُنْهِ ذاته ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمن بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية».
فإن أردتم بقولكم: إن لله له حد، وأن العباد قد يعلمون لله حدًّا: فهذا باطل، وإن أردتم بنفي الحد، وقلتم: إن الله ليس له حد -يعني: أن البشر لا يعلمون له حدًّا، ولا يحدون شيئًا من صفاته-: فهذا حق؛ فإن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدًّا، وأنهم لا يحدون شيئًا من صفاته.
قال أبو داود الطيالسي: «كان سفيان، وشعبة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وشُرَيْكُ، وأبو عَوانة؛ لا يحدون، ولا يشبهون، ولا يمثلون؛ يروون الحديث ولا يقولون: كيف، وإذا سئلوا، أَجابُوا بالأثر»([9]).
فمراد الشيخ الطحاوي -رحمه الله -تعالى- هنا أن الله سبحانه يتعالى عن الحدود، وأنه يتعالى عن أن يحيط أحد من خلْقه بحده؛ وهذا معنى قوله: (وتعالى عن الحدود) أي: أنَّ الله متميز عن خلقه، منفصل عنهم مباين لهم.
سئل عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: «بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش؛ بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد»([10]).
يعني: أنه متميز عن خلقه، منفصل عنهم، لم يدخل في ذاته شيء من ذواتهم، ولا في صفاته شيء من صفاتهم، ولا في خلقه شيء من ذاته، ومن نفى الحد بهذا المعنى وقال: ليس لله حد، يعني: أن الله منفصل عن مخلوقاته، بائن منهم؛ فقد جعل الله فوق المخلوقات؛ وهذا صحيح.
- وإذا قال: ليس لله حد وأراد بذلك: أن الله خَلْقُ من المخلوقات؛ فهذا باطل.
- وإذا قال: لله حد يعني: لله حد يعلمه هو؛ تعالى؛ فهذا صحيح.
- وإذا قال: ليس لله حد، يعني: أنَّ العباد لا يعلمون لله حدًّا؛ فهذا صحيح؛ فلا بد من التفسير، والتبيين؛ حتى يتضح المرادُ.
وكذلك قول الطحاوي: (يتعالى عن الحدود والغايات) فيه إجمال وإبهام، فإنَّ نفاةَ الحكمةِ والتعليل من الجبرية والمعتزلة وغيرهم، اصطلحوا على تسمية الحِكم والغايات التي يفعل من أجلها أغراضًا: يسمونها الغاية، فيقولون: إن الله منـزه عن الغايات التي يتكلم ويفعل لأجلها ولبَّسُوا على ضعفاء العقول: وقالوا لهم: اعلموا أن ربكم منـزه عن الأعراض، والأغراض، والأبعاض، والجهات، والتركيب، والتجسيم، والتشبيه، واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم، فإذا صرحوا بذلك يبقى السامع متحيرًا بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة، وبين إثباتهم، فنقول لهم -حينئذٍ-: أنتم قلتم: إن الله منـزه عن الغايات، فما مرادكم بالغايات؟ إن أردتم بالغايات أنه سبحانه لا يفعل ولا يتكلم لحكمة ومصلحة، ورحمة؛ فهذا باطل، فإن هؤلاء المتكلمين عندهم: أن الله لا يفعل شيئاً؛ لشيء، ولا يأمر بشيء؛ لحكمة، ولا جعل شيئاً من الأشياء سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة وقدرة ترجِّحُ مثلاً على مثل؛ بلا سبب ولا علّة([11])، ثم يقال لهم: وإن أردتم بنفي الغايات: أن الله لا يحتاج إلى أحد، ولا يفعل لحاجة، ولا يفعل لمؤثر يؤثر فيه، وموجِب يوجِب عليه؛ فهذا حق، لكن ينبغي الاعتصام بألفاظ النصوص؛ لأنها أسلم.
فقولُ الطحاوي: (يَتَعَالَى عَنِ الأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ وَالجَوَارِحِ):
فيه عبارات موهمة، وفيه من مصطلحات أهل الكلام الذين؛ يسمون إثبات الصفات لله، تجسيمًا، وتشبيهًا، وتمثيلًا، ويسمون العرش: حيزًا وجهة، ويسمون الصفات؛ أعراضًا، ويسمون الأفعال: حوادث، ويسمون الحِكم والغايات التي يفعل لأجلها: أغراضًا، ويسمون إثبات الوجه، واليدين: أبعاضًا؛ فيقولون: الله منـزه عن الأعراضن والأغراض، والأبعاض، والجهات، والتركيب، والتجسيم، والتشبيه؛ فيستدلون بهذه الألفاظ كالأركان، والأعضاء، والأدوات، والجوارح على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية: كاليد والوجه، وغيرهما.
ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأنها تحتمل معاني باطلة؛ لأن الركن جزء الماهية، فيقال: إذا سميتها أركانًا، فالله -تعالى- هو الأحد الصمد؛ لا يتجزأ ولا يتفرق: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص آية: 1- 2]، وقولكم: «الأعضاء»؛ فيه معنى التفريق والتَّعْضِية أي: التقطيع وجعْل الشيء قطعًا، وهذا المعنى منفي عن الله، ومن هذا المعنى قول الله -تعالى-: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [سورة الحجر آية: 91]، وكذلك: لفظُ الجوارح: فيها معنى الاكتساب والانفتاع، والأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة. فكل هذه المعاني منتفية عن الله -تعالى-، ولهذا: لم يرد ذكرها في صفات الله. والذي ينبغي في هذا المقام التعبير بالألفاظ الشرعية؛ لأن الألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلا يجوز العدول عنها نفيًا ولا إثباتًا، لئلا يثبت بها معنًى فاسد أو يُنفى معنًى صحيح.
كذلك قد يستدل بعضُ النفاة بقول الطحاوي المتقدم، على نفي بعض الصفات الثابتة بالنصوص، فيقال: إن أريد بنفي الصفات نفي الصفات الثابتة، كالوجه، واليدين وغيرهما: فهذا باطل؛ لأنها ثابتة، كما قال أبو حنيفة -رحمه الله- في «الفقه الأكبر»([12]): «له يد ووجه ونفس كما ذكر الله -تعالى- في القرآن، فله صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده: قدرتُه ونعمتُه؛ لأن فيها إبطال الصفة».
وهذا الذي قاله الإمام أبو حنيفة ثابت بالأدلة القطعية قال الله -تعالى-: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [سورة ص آية: 75]، وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [سورة الزمر آية: 67]، وقال -تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية: 88]، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [سورة الرحمن آية: 27]، وقال سبحانه: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [سورة المائدة آية: 116]، وقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام آية: 54] ، وقال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه آية: 41]، وقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران آية: 28]، وقال في حديث الشفاعة: لما يأتي الناس آدم فيقولون له: خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. ([13])، وقال ﷺ: حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. ([14])، فهذا كله ثابت.
وكذلك لفظ (الجهة) نفيهم لها قولٌ مجمل؛ فلا يجوز إطلاق نفيها، ولا إثباتها إلا مع البيان التفصيلي، كما سبق.
كذلك أيضًا: قول الطحاوي -رحمه الله-: (وَلَا تَحْوِيهِ الجِهَاتُ السِّتُ كَسَائِرِ المُبْتَدَعَاتِ):
مراده -رحمه الله- أن الله لا يشبه المخلوقات، لكن أهل الكلام قالوا: مراده نفي العلو؛ لأن العلو من الجهات الست، ولكن هذا ليس بصحيح؛ بل مراده أن الله ليس في جهةٍ مخلوقة، بدليل أنه أثبت العلو فيما بعد، وقال: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ).
لكن الطحاوي -رحمه الله- يُنْتَقَدُ؛ لكونه عبر بهذه العبارات التي تشتمل على حق وباطل، وكان الأولى ألَّا يعبر بها، ويكتفي بنصوص الكتاب والسنة([15])، ويعتصم بها.
ثم أيضًا في قول الطحاوي -رحمه الله-: (لَا تَحْوِيهِ الجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ المُبْتَدَعَاتِ) إشكالات:
الإشكال الأول: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه الخصوم، وألزموه بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية، ونفي جهة العلو، فيقولون: أنت متناقض حيث تقول: (لَا تَحْوِيهِ الجِهَاتُ السِّتُّ) فتنفي العلو، ثم تقول: (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) وتثبت العلو؛ فألزموه لذلك بالتناقض.
لكن نقول: إن الطحاوي مقصوده أن الله منـزه عن الجهات الست المخلوقة؛ فهو يقصد معنًى صحيحًا، لكن مع ذلك نقول: الأولى أن يعتصم الطحاوي وغيره بالألفاظ الشرعية حتى لا يتسلّط عليه الخصوم.
الإشكال الثاني: أن قول الطحاوي: (كَسَائِرِ المُبْتَدَعَاتِ)؛ أي: المخلوقات يفهم منه أنه ما من مخلوق إلا وهو محوي، وهذا فيه نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي؛ فممنوع؛ لأن العالَم ليس في عالَم آخر، وإلا لزم التسلسل؛ فإننا نرى العالم ليس محويًّا بعالم آخر، وإن أراد أمرًا عدميًّا؛ فليس كل مبتدع في العدم، بل المبتدعات منها ما هو داخل في غيره كالسموات والأرض مع الكرسي، ومنها ما هو منتهى المخلوقات؛ كالعرش، فسطح العالَم ليس في غيره من المخلوقات قطعًا للتسلسل. ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن قول الطحاوي: (كَسَائِرِ المُبْتَدَعَاتِ) بمعنى (البقية) لا بمعنى (الجميع)، ويؤيد هذا: أن أصل معنى «سائر» البقية، ومنه السُّؤْرُ؛ وهو ما يُبْقيه الشارب في الإناء، فيكون مقصوده: (غالب المخلوقات)، لا جميعها، إذ (السائر) على الغالب؛ أدلّ منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله -تعالى- غير محوي؛ كما يكون أكثر المخلوقات، بل هو غير محوي بشيء .
والخلاصة: أن الطحاوي -رحمه الله- أراد بهذه الألفاظ معاني صحيحة، وأن الله منـزه عند الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، فمراده: إثبات صفات الله ، وأن الله لا يشابه المخلوقين، وأن الله ليس فيه شيء من مخلوقاته؛ ليس مفتقراً إلى شيء منها.
| المتن |
الإسراء والمعراج
ثبوت الإسراء والمعراج للنبيِّ ﷺ بشخصه في اليقظة
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
هذا البحث في: إثبات الإسراء والمعراج للنبي ﷺ، والإسراء ثابت في كتاب الله قال -تعالى-: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [سورة الإسراء آية: 1]، ومن أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذب لله. والمعراج ثابت بالأحاديث الصحيحة التي تفيد العلم والقطع، فمن أنكره: تقام عليه الحجة ويبين له.
وأصل الإسراء لغة: السير ليلًا، يقال: أسرى يسري إسراءً، ويأتي لازمًا فيقال: سرى الرجلُ، ويأتي متعديًا فيقال: أُسْرِىَ به([16]).
وأما الإسراء شرعًا واصطلاحًا: فهو السفر برسول الله ﷺ من مكة إلى بيت المقدس ليلًا على البراق، والبراق دابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض طويل.
والعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: أنهما يشتركان في السير ليلًا؛ لكن المعنى اللغوي أوسع، ثم يأتي المعنى الاصطلاحي بقيود وشروط زائدة على المعنى اللغوي وهو: كونه سفرًا، وبرسول الله ﷺ وعلى البراق، ومن مكة إلى بيت المقدس.
أما المعراج لغة: فهو على وزن «مِفْعَال»، مشتق من العروج وهي آلة العروج التي يُعرج فيها ويُصعد، فيشمل السُّلم، ويشمل الدرجة([17]).
والمعراج شرعًا واصطلاحًا: هو العروج برسول الله ﷺ ليلًا من بيت المقدس إلى السماء، والآلة التي عرج عليها -عليه الصلاة والسلام- هي بمنـزلة السُّلم، ولا يُعلم كيفية هذه الآلة، وحكمه حكم غيره من المغيبات، نؤمن به، ولا نشتغل بكيفيته.
والعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في المعراج؛ أنهما يشتركان في أن كلًّا منهما صعود وعروج من أسفل إلى أعلى، وهذا قدر مشترك، ثم يأتي المعنى الاصطلاحي بقيود وشروط زائدة على المعنى اللغوي؛ وهو أن العروج بآلة خاصة، وغيبية، ومن مكان خاص، وإلى علو خاص؛ من بيت المقدس إلى السماء، فالمعنى اللغوي أوسع دائرة.
والعلماء لهم أقوال في الإسراء والمعراج: هل أسُري به -عليه الصلاة والسلام- وعرج به وهو نائم أم في اليقظة؟ وهل أسري به بروحه، أو بروحه وجسده؟ فللعلماء في ذلك أقوال أربعة:
القول الأول: أن الإسراء كان منامًا، وهذا أضعفها.
القول الثاني: أن الإسراء كان بروحه ﷺ دون جسده، وهذا نقله ابنُ إسحاق عن عائشة -رضي الله عنها-، ومعاوية، ونقل عن الحسن البصري نحوه.
القول الثالث: أن الإسراء كان مرارًا؛ مرة منامًا ومرة يقظةً، وبعضهم قال: مرة قبل الوحي، ومرة بعد الوحي، وبعضهم قال: الإسراء ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومرتان بعده، وهذا يقول به ضعفاء أهل الحديث -كما سيأتي- وهؤلاء كلما اشتبه عليهم لفظٌ زادوا مرةً؛ فيقولون: مرةً في المنام كالتوطئة والتمهيد لـِمَرَّةِ اليقظة؛ كما حصل في الوحي، فإن النبي ﷺ في الوحي أول ما ابتدأ به: الرؤيا الصالحة؛ ستة أشهرٍ، فكان لا يرى رؤيا إلا وقعت مثل فلق الصبح، فقالوا: كما أن الوحي كان في المنام ثم في اليقظة، فكذلك الإسراء والمعرج كان مرة منامًا كتوطئة؛ ثم كان يقظةً!!
القول الرابع: أن الإسراء كان بروحه وجسده؛ مرةً واحدة؛ بعد الوحي؛ يقظةً لا منامًا، وهذا أرجح الأقوال وأصحها، بل هذا هو الصواب. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء والمحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت على هذا القول ظاهرُ الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، وليس في العقل ما يحيل ذلك حتى يحتاج إلى تأويل([18]).
الفرق بين القول الأول -من قال: إن الإسراء كان منامًا- والثاني -من قال: إن الإسراء كان بروحه-:
أنَّ من قال: إن الإسراء كان منامًا قال: إن رسول الله ﷺ رأى في نومه أمثالًا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة؛ من قبيل الحلم؛ فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء، وذُهب به إلى مكة؛ وجسدُه باقٍ، وروحه باقية أيضًا؛ لم تصعد ولم تذهب، وإنما مَلَك الرؤيا ضرب له الأمثال. [وهذا معنى الإسراء كذبًا ؟؟؟؟؟ يراجع فيها الشيخ].
ومن قال: إن الإسراء كان بروحه يقول: إن الروح ذاتها أُسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه؛ قالوا: وهذا من خصائص النبي ﷺ إذ أن غيره لا تنال روحه الصعود الكامل إلى السماء، إلا بعد الموت.
والقدر المشترك الذي اتفق فيه القولان: هو: أن الجسد باقٍ، لكن من قال: إن الإسراء كان منامًا قال: الروح أيضًا باقية والملك هو الذي ضرب له الأمثال، ومن قال: الإسراء كان بروحه قال: الجسد باق والروح هي التي صعدتْ، وأُسْرِيَ بها ثم رجعت.
أدلة الفريقين:
استدل أهل القول الأول القائلون بأن الإسراء كان منامًا بدليل شرعي، ودليل عقلي الدليل:
أما الشرعي:
فاستدلوا بحديث الإسراء والمعراج الذي رواه شَرِيك بن أبي نَمِر فإنه نقل في بعض ألفاظ الحديث: في ختام القصة قَوْلَ الراوي: «واستيقظ وَهُوَ في مَسْجِدِ الحرام»([19])، يعني: النبي ﷺ. قالوا: هذا دليل على أن الإسراء كان منامًا.
والجواب: ما أجاب به نقاد الحديث عن هذه اللفظة بأنها غير ثابتة، ولاسيما أن الأحاديث لم ترد بذكرها، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر له أغلاط، وقد غلّطه الحفاظُ في ألفاظ حديث الإسراء، ولهذا قال الإمام مسلم -رحمه الله- بعدما روى حديث شريك: فقدّم وأخّر، وزاد، ونقص.
وأيضًا: من أدلتهم التي استدلوا بها: قول عائشة -رضي الله عنها-: «مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَكِنْ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ»([20]).
نقول: وهذا إن صح عن عائشة، فهو اجتهاد منها لا تُعَارَضُ به النصوص.
وأما الدليل العقلي: فقالوا: إن الأجسام الأرضية من طبيعتها الثقل، فلا يعقل أن تصعد إلى السماء، وليست مِنْ الروحانيات؛ كالملائكة؛ فالأجسام ثقيلة بخلاف الروح والملائكة، فإن من طبيعتهما الخفة.
والجواب: أن نقول: العقل لا يعارض النقل، فإذا صح النقل فلا يجوز لنا أن نعارضه، بل الواجب التسليم والخضوع لكلام الله وكلام رسوله، وأن نتلقاه بقبول وتسليم، ولا نعارضه بعقولنا.
وأيضًا نرد عليهم بدليل عقلي؛ من جنس استدلالهم؛ حتى نقارع الحجة بالحجة، فنقول: أنتم تقولون: الأجسام الأرضية من طبيعتها الثقل فلا يعقل أن تصعد إلى السماء، ونحن نقول لكم: الملائكة من طبيعتها العلو والخفة فلا يعقل أن تنـزل إلى الأرض، فلو جاز استبعاد صعود البشر؛ لجاز استبعاد نـزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة والوحي، وهذا كفر.
ويرد على هذا القول أيضًا: بقول الله سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [سورة الإسراء آية: 1]، والعبد يُطلق على مجموع الروح والجسد.
ويُردُّ أيضًا على من قال: إن الإسراء كان منامًا أو كان بالروح: أنه لو كان الإسراء منامًا، وكان جسد النبي ﷺ وروحه باقيين في مكة: لما بادرت كفارُ قريش إلى تكذيب النبي ﷺ، ولما ارتدت جماعةٌ ممن كان قد أسلم كما ثبت ذلك؛ فإنهم أنكروا أن يسافر إلى بيت المقدس مسافة شهر، في ليلة واحدة، ثم يصعد إلى السموات -وبين كل سماء إلى سماء مسافة خمسمائة عام- ويرجع في ليلة واحدة؟! فارتدوا، فلو كان منامًا: لما أنكروه، ولما كان هناك كبير شيء أو شأنٍ في النوم والله -تعالى- قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [سورة الإسراء آية: 1]، والتسبيح إنما يكون في الأمور العظام.
وهذا يدل على أن الإسراء كان بروحه وجسده. وبهذا يبطل قول الذين قالوا: إن الإسراء كان بروحه -عليه الصلاة والسلام-.
أما أهل القول الثالث: الذين قالوا:
- كان الإسراء مرة منامًا ومرة يقظة.
- أو مرتين مرة قبل الوحي ومرة بعده.
- أو مرة قبل الوحي ومرتين بعده.
فقد أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله حين ختم القصة: «واستيقظ وهو في مسجد الحرام»([21])، وبين سائر راويات الحديث التي لم تذكر هذه الألفاظ، فقالوا: إن الإسراء كان مرارًا مرة منامًا كما يفيده حديث شريك، ومرة يقظة كما تفيد سائر الروايات، وبعضهم قال: مرة قبل الوحي ومرة بعده، وبعضهم قال: ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده؛ جمعًا بين الأدلة في زعمهم، فكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق بين الأدلة -في نظرهم- وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث.
والجواب عن شبهتهم: أجاب عنها العلامة ابن القيم -رحمه الله- في «زاد المعاد»([22]) قال: إنه ثبت في حديث الإسراء والمعراج أن الله فرض على نبينا محمد ﷺ الصلاة في أول الأمر خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم جعل النبي ﷺ يتردد بين ربه وبين موسى في السماء السادسة وفي كل مرة يأمره موسى -عليه الصلاة والسلام- بأن يسأل ربه التخفيف لأمته، فيحط الله -تبارك وتعالى- عنه خمسًا؛ وعشرًا حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم قال: ناداني مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي. ([23])، فلو كان الإسراء والمعراج منامًا للزم من ذلك أن يعيد الله فرضية الصلاة مرة ثانية خمسين، ثم يحطها إلى خمس؛ وهذا فاسد. وبهذا يبطل هذا القول.
أما أهل القول الرابع: الذين قالوا: إن الإسراء كان مرةً واحدة؛ بجسده وروحه؛ يقظة لا منامًا؛ في ليلة واحدة؛ قبل البعثة وبعدها وقبل الهجرة، فهذا القول هو الصواب وهو ما تؤيده النصوص من الكتاب والسنة.
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول: قول الله -تعالى- سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [سورة الإسراء آية: 1]، ووجه الدلالة: أن العبد إذا أُطلق فهو عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح؛ إذا أُطلق، وهذا يدل على أن الإسراء بروحه وجسده، ولهذا قال الطحاوي -رحمه الله-: (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي اليَقَظَةِ) والشخص اسم للروح والجسد، فالطحاوي -رحمه الله- يثبت أن الإسراء بروحه وجسده كما عليه المحققون.
الدليل الثاني: ما ثبت في «الصحيحين» -رحم الله صاحبيهما- بروايات متعددة أنه أُسري برسول الله ﷺ وعُرج بشخصه إلى السماء،، وأنه اجتمع بالأنبياء وصلى بهم إمامًا، وأنه التقى بعدد من الأنبياء في كل سماء، وأن الله فرض عليه الصلاة خمسين، ثم خففها إلى خمس بتردده بين ربه وبين موسى، وأنه رأى جبريل عند سدرة المنتهى على صورته التي خُلق عليها، وكل هذه الروايات ظاهرها أنه أُسري بروحه وجسده -عليه الصلاة والسلام-. وبهذا يتبين أن الصواب أنه أُسري بروحه وجسده -عليه الصلاة والسلام-، وأنه لا بد للمسلم أن يؤمن بالإسراء والمعراج، ومن أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذب لله، وللقرآن ومن أنكر المعراج فلا بد من إقامة الحجة عليه.
الفوائد المستنبطة من حديث الإسراء والمعراج:
أولًا: الفوائد الأصولية:
1- جواز النسخ قبل التمكن من الفعل؛ حيث فُرضت الصلاة خمسين أولًا، ثم نسخت بأن خُففتْ إلى خمس، وهذا كان في السماء قبل تمكن العباد من الفعل.
2- جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، حيث أعلم النبي ﷺ الأمةَ بفرضية الصلاة إجمالًا بدون تفصيل لأركانها وشروطها وهيئاتها وأوقاتها، ثم لما جاء وقت الصلاة، نـزل جبريلُ فأخبر النبيَّ ﷺ بذلك، وحدد له الأوقات.
ثانيًا: الفوائد العامة:
1- إثبات العلو لله ؛ من وجوه: حيث إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- عُرج به إلى ربه ، ثم جاوز السبع الطباق، ثم لما كان يتردد بين ربه وبين موسى في كل مرة؛ يعلو به جبرائيلُ إلى الجبار -تبارك وتعالى-: ففيه الردُّ على من أنكر العلو، من الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم.
2- إثبات الكلام لله ؛ حيث فرض الله -سبحانه- عليه الصلاة بدون واسطة؛ وفيه الردُّ على من أنكر الكلام.
3- فضيلة نبينا محمد ﷺ وعظم منـزلته عند الله ؛ حيث جاوز الأنبياء كلهم، وجاوز السبع الطباق، وصلى بالأنبياء إمامًا، وبعضهم استنبط أن رسول الله رآه بعين رأسه لكن هذا ضعيف كما سبق.
4- مشاركة نبينا محمد ﷺ لموسى -عليه الصلاة والسلام- في التكليم، وأن التكليم ليس خاصًّا بموسى، كما أن الخُلَّة ليست خاصة بإبراهيم، بل يشاركه فيها نبينا أيضًا، فكما أن إبراهيم خليل الله؛ فمحمد خليل الله، وكما أن موسى كليم الله؛ فمحمد كليم الله؛ كلمه اللهُ بدون واسطة؛ ليلة المعراج.
5- شفقة موسى ورحمته بهذه الأمة؛ حيث أمر نبينا محمد ﷺ أن يسأل ربه التخفيف لأمته في شأن الصلاة.
6- عظم مخلوقات الله -تعالى- وسعتها، وهذا يدل على عظمة الخالق.
7- معجزة الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الإسراء والمعراج؛ حيث كانا في ليلة واحدة.
8- استشارة أهل الفضل والصلاح؛ حيث التفت النبي ﷺ إلى جبريل كأنه يستشيره.
مسألة: ما الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس على المعراج؟
الجواب: الحكمة -والله أعلم- إظهار صدق دعوى النبي ﷺ المعراجَ، حيث سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فَنَعَتَهُ لهم وأخبرهم عن عِيرهم التي مرَّ عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة؛ لما حصل ذلك؛ إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء، فلو أخبرهم عنه ما استطاعوا أن يحكموا بصدقه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته.
- وقيل: الحكمة أن يجمع ﷺ في تلك الليلة بين رؤية القبلتين.
- أو: لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله، وحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشراف الفضائل.
- أو: لأنه محل الحشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية فكان المعراج منه أليق بذلك.
- أو: ليحصل التفاعل بحصول أنواع التقديس له حسًّا ومعنًى.
- أو: ليجتمع بالأنبياء جملة.
وذهب بعض العلماء إلى أن الحكمة هي تحصيل العروج مستويًا بغير تعويج([24])؛ لأن كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له «مصعد الملائكة» يقابل بيت المقدس، لكن هذا فيه نظر لورود أن في كل سماء بيتًا معمورًا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة([25])، فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصعد إلى البيت المعمور بغير تعويج، وهذا ذكره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([26]).
| المتن |
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
قوله: (المِعْرَاجُ حَقٌّ): يعني: ثابت، وكذلك قوله: (أُسْرِيَ بِشَخْصِهِ) حق ثابت لا بد من الإيمان به.
| المتن |
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله:
| الشرح |
لا شك أن الله أكرمه في ذلك العروج، وفي صلاته بالأنبياء ورفعته فوقهم، وأكرمه الله بتكليمه له، وفرضه الصلاة عليه.
وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [سورة النجم آية: 11]، قال تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [سورة النجم آية: 17]، فلم يزغ بصرهُ، ولم يكذب فؤادُه عليه الصلاة والسلام، بل كل ما رآه فهو حق.
وقوله: (فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى): صلاة الله على عبده أحسن ما قيل فيها كما رواه البخاري عن أبي العالية -رضي الله عنه ورحمه- أنه قال: «صَلَاةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ ثَنَاؤُهُ فِي المَلَأِ الأَعْلَى»([27]).
| الحواشي |
([1]) صحيح مسلم (169).
([2]) أخرجه أحمد (5/324)، وعبدالله بن أحمد في «السنة» (1007)، والنسائي في «السنن الكبرى» (7764)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1157)، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (8/264)، و(8/265)، وأخرجه أيضاً البزار في «المسند» (7/129)، والشاشي في «المسند» (1226)، واللالكائي في «السنة» (848)، وابن أبي عاصم في «السنة» (428)، والآجري في «الشريعة» (3/1310- 1311 - بتحقيق: الدميجي)، من حديث عبادة بن الصامت، وأعلّه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/348) -بعد ما عزاه للبزار- بعنعنة بقية بن الوليد؛ وهو مدلس، لكن زال ما يخشى من تدليسه؛ حديث صرَّح بالتحديث عند كُلٍّ من: الإمام أحمد، واللالكائي، وابن أبي عاصم، وابن الإمام أحمد، والنسائي.
([3]) أخرجه من حديث أبي أمامة الباهلي كلٌّ من: ابن ماجه (4077)، والحاكم في «المستدرك» (4/580)، وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم». وأخرجه أيضاً: ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1249)، وفي «السنة» (391)، و(429)، وابن الإمام أحمد في «السنة» (1008)، وابن خزيمة في «التوحيد» (2/459 - 460)، وقِوام السنة في «الحجة» (2/464 - 465).
والحديث صححه الألباني في «ظلال الجنة» (1/187)، والحاكم -كما تقدم، والله أعلم.
([4]) أورده شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (6/354) وقال عقبه: «أما ما قاله الشافعى؛ فإنه حق على كل مسلم أن يعتقده، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه، فإنه سالكٌ سبيل السلامة في الدنيا والآخرة».
([5]) البخاري (13/503- فتح الباري).
([6]) انظر: «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (6/24)، و«إعلام الموقعين» (1/10).
([7]) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/325- 326)، والدارمي في «الرد على الجهمية» (ص66)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/304- 306)، و«الاستذكار» لابن عبدالبر (8/151). وقال الذهبي في «العلو» (ص 139): «هذا ثابت عن مالك»، وجوَّد إسناده الحافظ في «الفتح» (13/407) من رواية ابن وهب عن مالك. وانظر في هذا الأثر رواية ودراية رسالة الشيخ عبدالرزاق العباد «أثر مالك في الاستواء» فهي نفيسة جدًا.
([8]) انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز الحنفي (ص 218).
([9]) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (3/2).
([10]) انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» (1/262، 263).
([11]) انظر: «شفاء العليل» لابن القيم (ص 185 -ط: الأولى -الخانجي سنة 1323هـ، نشر: مكتبة الرياض الحديثة).
([12]) انظر: «الفقه الأكبر مع شرحه» للملا علي القاري (ص 66، 67).
([13]) أخرجه البخاري (4476) واللفظ له, ومسلم (193) من حديث أنس .
([14]) أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري ، وقد تقدم.
([15]) قال شيخ الإسلام: «التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنـزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحِكم والمعاني مالا تنقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع». انظر: «النبوات» (2/876).
وقال شيخ الإسلام: «الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين، مثل لفظ «الجسم» و«الجوهر» و«المتحيز» و«الجهة» ونحو ذلك، فلا تُطلق نفيًا ولا إثباتًا، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحًا موافقًا لما أخبر به الرسول ﷺ، صُوِّب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يُعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبيّن المراد بها، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، وأما إن أريد بها معنى باطل، نُفي ذلك المعنى، وإن جُمع بين حق وباطل، أثبت الحق وأبطل الباطل» انظر: «منهاج السنة» (2/554)، و(2/611). وانظر: «الدرء» (1/223، 229، 242)، و«الفتاوى» (5/229)، و(6/36)، و(16/426)، و (17/304).
([16]) انظر: «لسان العرب» (14/381، 382).
([17]) انظر: «النهاية في غريب الأثر» للجزري (3/432).
([18]) انظر: «بدائع الفوائد» (4/1379)، و«زاد المعاد» (3/35- 36).
([19]) الحديث بطوله أخرجه البخاري (7517)، وهو في مسلم (162) مختصراً جداً، وقد قال الإمام مسلم عن رواية شريك هذه: «وقدَّم فيه شيئاً وأخرَّ، وزاد ونقص». وقال الإمام ابن كثير في «تفسيره» (3/4 -دار الفكر): «فإن شريك بن عبدالله بن أبي نَمِر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه-». فشريك له في هذا الحديث تفردات وأوهام، وقد ذكر ابن حجر مجموع ما خالفت فيه روايته غيره من المشهورين وهي عشرة. انظر: «فتح الباري» (13/485) و (7/197، 198).
([20]) رواه ابن إسحاق في «السيرة النبوية» (5/275) قال: «حدثني بعضُ آل أبي بكر عن عائشة» ثم ذكره، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الطبري في «التفسير» (17/350)، وفي «تهذيب الآثار» مسند ابن عباس (733)، وفي سند الخبر راوٍ مُبهم.
([21]) سبق تخريجها قبل قليل، وهي رواية شريك بن أبي نمر.
([22]) زاد المعاد (3/42).
([23]) أخرجه البخاري (3887) من حديث مالك بن صعصعة .
([24]) انظر: «روح المعاني» للآلوسي (15/12).
([25]) أخرجه ابن أبي حاتم، كما في «تفسير ابن كثير» (7/428)، والطبراني في «الكبير» (11/417)، وعبدالرزاق (8874)، والبيهقي في «الشعب» (4015) قال ابن كثير -عما رواه ابن أبي حاتم-: «هذا حديث غريب جدًا، تفرد به روح بن جناح هذا وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعيد الدمشقي، وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ منهم الجوزجاني، والعقيلي، والحاكم، وغيرهم.
([26]) انظر: «فتح الباري» (7/196- 197).
([27]) أورده البخاري (8/532 -فتح) معلقا بصيغة الجزم عن أبي العالية ، وعزاه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (8/533) لابن أبي حاتم رحمه الله، وساق سنده عنه، وأخرجه أيضاً إسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي (95).