الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
قال الإمام ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في تفسيره عند تفسير سورة الزخرف: قال تعالى ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾.
(لَمَّا ذَكَرَ [تَعَالَى] حَالَ السُّعَدَاءِ، ثَنَّى بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أَيْ: سَاعَةً وَاحِدَةً {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أَيْ: بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوا وَعَصَوْا، فَجُوزُوا بِذَلِكَ جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وَهُوَ: خَازِنُ النَّارِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
أَيْ: لِيَقْبِضْ أَرْوَاحَنَا فَيُرِيحَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36]. وَقَالَ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الْأَعْلَى: 11 -13]، فَلَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَمُوتُوا أَجَابَهُمْ مَالِكٌ، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
أَيْ: لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ شِقْوَتِهِمْ وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَمُعَانَدَتُهُمْ لَهُ فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ: بَيَّنَّاهُ لَكُمْ وَوَضَّحْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أَيْ: وَلَكِنْ كَانَتْ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُهُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَنْقَادُ لِلْبَاطِلِ وَتُعَظِّمُهُ، وَتَصِدُّ عَنِ الْحَقِّ وَتَأْبَاهُ، وَتُبْغِضُ أَهْلَهُ، فَعُودُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْمَلَامَةِ، وَانْدَمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعُكُمُ النَّدَامَةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادُوا كَيْدَ شَرٍّ فَكِدْنَاهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّمْلِ:50]، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَحَيَّلُونَ فِي رَدِّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ بِحِيَلٍ وَمَكْرٍ يَسْلُكُونَهُ، فَكَادَهُمُ اللَّهُ، وَرَدَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أَيْ: سَرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ، {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ: نَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَيْضًا يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛
هذه الآيات الكريمات فيها بيان حال أهل الشقاوة نسأل الله السلامة والعافية، والقرآن كما وصفه مثاني يذكر فيها أهل السعادة ثم يذكر أهل الشقاوة، وسبقت الآيات في أهل السعادة قال ﴿يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
هذه الآيات في بيان حال السعداء، ثم ثنى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لبيان حال أهل الشقاء لتتبين صفات هؤلاء وصفات هؤلاء، وليكون المؤمن على خوفٍ ووجل، وليكون بين الخوف والرجاء، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ وقال تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ثم قال سبحانه ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ المجرمين الذين فعلوا الإجرام، وأعظم الإجرام هو الكفر بالله -عَزَّ وَجَلَّ- والكفر والشرك هذا أعظم جريمة، ثم يليه جرائم المعاصي من القتل والسرقة وشرب الخمر، والزنا، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، كل هذه جرائم وأعظمها الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ لأنهم اقترفوا جريمة الشرك فهم مخلدون أبد الآباد السلامة والعافية، والعذاب مستمرون عليه، ولهذا قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ لا يُفتر عنهم ساعة بل العذاب مستمر، ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ نسأل الله السلامة والعافية.
﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ آيسون من كل خير، وآيسون من رحمة الله، إن الله تعالى كتب الرحمة للمتقين، قال تعالى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ﴾ مالك: خازن النار ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ يعني يقبض أرواحنا حتى نستريح من هذا العذاب ﴿قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ ماكثون فيها أبد الآباد، قال الله تعالى ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ هذا سبب كفرهم وعنادهم أنهم ردوا الحق وكرهوا الحق ولم يقبلوه، والله تعالى أقام عليهم الحجة وأرسل أليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة، خلق الله لهم القلوب، والأسماع، والأبصار، وجعل لهم الاختيار، جعلهم مختارين ليسوا مجبرين، وأعطاهم القدرة على العمل والاختيار ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾.
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ يعملون الحيل في رد الحق وعدم قبوله، والله تعالى عاملهم وجازاهم بمثل عملهم ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم ما يسرون وما يعلنون، يعلم السر وأخفى، يعلم أحوالهم، ويعلم إسرارهم، ويعلم جهرهم، ويعلم ما تخفيه نفوسهم ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ فالله تعالى يعلم، والرسل والملائكة الكرم يكتبون لتقوم عليهم الحجة، ولتظهر الحُجة عليهم وإلا فالله تعالى يعلم كل شيء، ومع ذلك كتبت رسله بأمره سبحانه لتقوم عليهم الحجة ولتظهر الحجة، وإلا فالله عليمٌ بكل شيء، ومحيطٌ بكل شيء وكفى بالله شهيدا ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ نسأل الله السلامة والعافية.
ثم قال تعالى ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾.
(يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: لَوْ فُرِضَ هذا لعبدته عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِهِ، مُطِيعٌ لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ، لَيْسَ عِنْدِي اسْتِكْبَارٌ وَلَا إِبَاءٌ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَوْ فُرِضَ كَانَ هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُقُوعُ وَلَا الْجَوَازُ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَرِ: 4].
[وَ] قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيِ: الْآنِفِينَ. وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ حَكَاهُ فَقَالَ: وَيُقَالُ: {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْجَاحِدِينَ، مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ).
الطالب: في فتح الباري قال: ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ أي الجاحدين من عبد يعبد بكسر الماضي، وفتح المضارع أي جحد.
(وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الشَّوَاهِدِ مَا رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي قُسَيْط، عَنْ بَعَجة بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ دَخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا -وَهُوَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَيْضًا-فَوَلَدَتْ لَهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ زَوْجُهَا لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15]، وَقَالَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14]، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَبَدَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ بَعْثَ إِلَيْهَا: تُرَدُّ -قَالَ يُونُسُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عَبَدَ: اسْتَنْكَفَ).
مثل ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾.
(قَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يُصْرِمْ خَليله |
|
ويَعْبَدُ عَلَيه لَا مِحَالَة ظَالمًا |
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَلْتَئِمُ مَعَ الشَّرْطِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ هَذَا فَأَنَا مُمْتَنِعٌ مِنْهُ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَلْيُتَأَمَّلْ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: "إِنْ" لَيْسَتْ شَرْطًا، وَإِنَّمَا هِيَ نَافِيَةٌ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الشَّاهِدِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: إِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَنْبَغِي.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ وَحَّدَهُ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ: أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ وَكَذَّبَكُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْآنِفِينَ. وَهُمَا لُغَتَانِ، رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ).
رجل عابد، ورجل جاحد.
(وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلَكِنْ هُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ [فِي قَوْلِهِ] {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ، بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، لَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ "إِنْ" نَافِيَةٌ.
وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ، فَلَا وَلَدَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أَيْ: فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ).
يقول الله تعالى ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ الحاصل أن فيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أن (إن) شرطية، وهي على الفرض والتقدير ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ هذا شرط تقديري، والشرط التقديري لا يجب وقوعه، ولا يجوز وقوعه، ممتنع، مثل قوله تعالى ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ والرسول معصوم من الشرك، لكن هذا فيه بيان مقادير الأشياء ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ لو كان..، لو ....، لأني ملتزم لأمر الله، وعبدٌ لله مستجيبٌ لأمره، فلو كان له ولد فأنا أول العابدين.
- القول الثاني: أن ﴿الْعَابِدِينَ﴾ بمعنى الجاحدين، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ﴾ الآنفين، من عبد يعبد بمعنى جحد، وهذا قولٌ لا يستقيم إلا..، كيف يكون من الجاحدين، إلا إن كانت (إن) وهو القول الثالث:
- القول الثالث: تكون (إن) نافية، يعني ما كان للرحمن ولد، فلذلك أنا أول الجاحدين، لأنه ليس له ولد.
والقول الأول هو الأقرب، أنها شرط تقديري، وهذا له نظائر في القرآن الكريم ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ يعني لو، وهذا فرض وتقدير، فأنا أول العابدين، لكنه سبحانه ليس له ولد، وهذا شرطٌ تقديري، مثل قوله تعالى ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ شرط تقديري، مثل قوله تعالى ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ شرط تقديري لبيان أن هذا الشيء ممتنع، مستحيل، لكن على الفرض والتبيين وهذا ممتنع بمعنى مستحيل، لكن لبيان مقادير الأشياء، كما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معصوم من الشرك ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ هذا لبيان مقادير الأشياء.
أما قول البخاري: من عبد يعبد، لا يستقيم إلا إذا كانت (إن) نافية.
(وَقَوْلُهُ: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أَيْ: فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ {وَيَلْعَبُوا} فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ، وَمَآلُهُمْ، وَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ).
وهذه الآية فيها تهديد ووعيد، قوله تعالى ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا﴾ ذرهم يخوضوا ويلعبوا ويعملوا ما شاءوا فسوف يلقون جزائهم، ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ وهو يوم القيامة، سوف يلقون الجزاء، كقوله تعالى ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ اعملوا ما شئتم فسوف تلقون جزائكم.
(وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ، أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 3]).
معبود هو معبود وما في السماء وما في الأرض، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ﴾ يعني يعبده أرض السماء، ﴿وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾ يعني يعبده أهل الأرض، ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ يعني هو معبود أهل السماء، ومعبود أهل الأرض.
(وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ، أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 3] أَيْ: هُوَ الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْوَلَدِ، وَتَبَارَكَ: أَيِ اسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ؛ لِأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ نَقْضًا وَإِبْرَامًا، {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ).
هو معبود أهل السماء، ومعبود أهل الأرض ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ هو الحكيم في شرعه وقدره وخلقه وأمره ونهيه، العليم بكل شيء، تبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وعنده علم الساعة، تبارك: تنزه عن كل نقصٍ وعيب، وهو مالك السموات والأرض، ومن فيهما، وعنده علم الساعة لا يعلم قيامها إلا هو، وإليه يرجع الخلائق، ويجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
(ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ {الشَّفَاعَةَ} أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ).
﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ﴾ الشفاعة الشِركية، إلا من شهد بالحق هذه الشفاعة المثبتة، نوعان:
الشفاعة المنفية ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ﴾ الشفاعة لأهل الأصنام والأوثان، والمشركين ليس لهم شفاعة، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾، هذا استثناء منقطع، والتقرير، لكن من شهد بالحق تنفعه الشفاعة بإذن الله ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ أهل التوحيد الإخلاص.
(ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أَيْ: هُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ على شيء، فهم في
ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ وَسَخَافَةِ الْعَقْلِ؛ ولهذا قال: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}).
يعني أنهم مقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الرب الخالق المدبر، ومع ذلك يعبدون غيره، أين العقول ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ كيف تعترف بأن الله هو الرب الخالق المدبر المتصرف الذي بيده كل شيء ثم تعبد غيره؟!
هذا لازمٌ لهم، لكن لم يلتزموا بما لزم لهم، ولهذا إذا أقر بتوحيد الربوبية يلزم منه توحيد الألوهية، أما توحيد الألوهية من عبد الله يفيد من ذلك إقرارٌ بالربوبية ولا [35:36] ولهذا يقول الله ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ عن عبادته وحده وهم معترفون بربوبيته.
(وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: وَقَالَ: مُحَمَّدٌ: قِيلُهُ، أَيْ: شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَاهُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الْفُرْقَانِ: 30] وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ [مَعْنَى] قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ}، قَالَ: فَأَبَرَّ اللَّهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ حكى ابن جرير في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قِرَاءَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا النَّصْبُ، وَلَهَا تَوْجِيهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزُّخْرُفِ: 80] وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِعْلٌ، وَقَالَ: قيلَه. وَالثَّانِيَةُ: الْخَفْضُ، وقيلِهِ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} تَقْدِيرُهُ: وعِلم قِيلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أَيِ: الْمُشْرِكِينَ، {وَقُلْ سَلامٌ} أَيْ: لَا تُجَاوِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، هَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَلِهَذَا أَحَلَّ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَعْلَى دِينَهُ وَكَلِمَتَهُ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة الزخرف).
هذه الآيات قبل نزول الجهاد في مكة مأمورٌ بالصفح ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾ في المستقبل مآلهم ومصيرهم، ثم شرع الله الجهاد والقتال فنصر الله تعالى نبيه وحزبه في بدر.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
قال الإمام ابن خزيمة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في صحيحه: بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمُغَالَاةِ بِثَمَنِ الْهَدْيِ وَكَرَائِمِهِ إِنْ كَانَ شَهْمُ بْنُ الْجَارُودِ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِهِ وَهَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي قَالَ الْمُطَّلِبِيُّ فِي عَقِبِ خَبَرِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»، فَقَالَ فِي عَقِبِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عِنْدَ الْمَرْءِ كَانَ أَعْظَمَ لِثَوَابِ اللَّهِ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ.
الشيخ: نعم الترجمة (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمُغَالَاةِ بِثَمَنِ الْهَدْيِ وَكَرَائِمِهِ) يعني استحباب أن يشتري هديًا مرتفعًا ثمنه، كلما زاد الثمن زاد الأجر.
إذا كان الهدي مثلًا خروف خمسمائة، وخروف بألف يكون بألف أفضل، لأنه أكثر وأطيب لحمًا، هذا إن كان هذا الراوي شكك، شك في صحة الحديث، فقال: وَهَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي قَالَ الْمُطَّلِبِيُّ، يعني الشافعي، لأنه من بني عبد المطلب، قال: فِي عَقِبِ خَبَرِ أَبِي ذَرٍّ، هذا حديثُ صحيح، لَمَّا سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».
ماذا قال عن هذا الحديث؟
الطالب: صحيح، ذكره المصنف معلقًا ووصله البخاري.
الشيخ: ماذا قال المطلبي الشافعي تعليقًا عليه؟
فَقَالَ فِي عَقِبِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عِنْدَ الْمَرْءِ كَانَ أَعْظَمَ لِثَوَابِ اللَّهِ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ.
الطالب: في طبعة التأصيل قال: والعقل مضطر، قال في الأصل والفعل والمثبت من الأم للشافعي، وعبارة المصنف منقولةٌ بالمعنى.
الشيخ: والعقل مضطر، هنا في إشكال، قال كذا في الأصل.
الطالب: فَقَالَ فِي عَقِبِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عِنْدَ الْمَرْءِ كَانَ أَعْظَمَ لِثَوَابِ اللَّهِ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ.
الشيخ: نعم، استقام [45:52] ليس لها معنى، وهذا موجود في الأم، هذا تعليق الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ- على الحديث، يقول: وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ، الرزية هي النقص عند المرء، يعني أنت الآن عندك خروف بألف وخروف بألفين، ثم اشتريت الذي بألفين أيهم أعظم رزية؟ أيهم أعظم نقص من مالك؟
الألفين، كل ما عظمت الرزية والنقص وأخرجته لله كان أعظم ثوابًا عند الله، ولو كان عندك النقص أكثر ينقص مالك أكثر، رزية نقص فالألفين أكثر نقص من الألف، لكن إذا أخرجته لله كان أعظم ثوابًا عند الله، هذا تعليق الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ- على الحديث لَمَّا سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»، التي بألفين أغلى من التي بألف.
الطالب: عبارة الشافعي في الأم: وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذَا كَانَ نَفِيسًا كُلَّمَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
الشيخ: هذا أوضح وأوضح، زيادة للإيضاح.
الشيخ: إذا كان المؤلف يقول إن صح، إن كان شهم ابن الجارود ممن يجوز الاحتجاج بخبره.
الطالب: حَدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَارِثِ البَغْدَادِيُّ، حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ شَهْمِ بن الجَارُودِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أهدى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ نَجِيبَةً.
الشيخ: نجيبًا أم نجيبة؟
الطالب: نجيبة، عندي بالتاء المربوطة.
قال: النجيب من الإبل وهو القوي منها الخفيف السريع.
قَالَ: أهدى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ نَجِيبَةً لَهُ أُعْطِي بِهَا ثَلاَثَ مِئَةِ دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليه وسَلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَهْدَيْتُ نَجِيبَةً، وَإِنِّي أُعْطِيتُ بِهَا ثَلاَثَ مِئَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا، فَأَنْحَرُهَا، قَالَ: لاَ انْحَرْهَا إِيَّاهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الشَّيْخُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فِي اسْمِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَهْمُ بْنُ الجَارُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَهْمٌ.
الشيخ: تخريجه؟
الطالب: قال: إسناده ضعيف لجهالة شهم ابن الجارود، أخرجه أحمد وأبو داود.
الشيخ: وعلى هذا، لكن كيف يُعلق المؤلف على شهم مجهول مع أن الحديث أبي ذر واضح في هذا، حديث أبي ذر كافي لَمَّا سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».
وهذا قاله البخاري معلقًا حديث أبي ذر؟
الطالب: في الحاشية قال ذكره المصنف معلقًا وأخرجه البخاري، الظاهر أن البخاري أخرجه متصلًا.
الشيخ: لماذا يعلق المؤلف يقول: إن كان شهم ابن الجارود ممن يجوز الاحتجاج بخبره.
إذا كان يجوز الاحتجاج بخبره يكفينا حديث أبي ذر، واضح لَمَّا سُئِلَ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».
الدليل على أن كل ما كان مرتفع الثمن فهو أفضل، ولو لم يُحتج به شهم ابن الجارود، القصة أن عمر أهدى نجيبًا لَهُ أُعْطِي بِهَا ثَلاَثَ مِئَةِ دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليه وسَلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَهْدَيْتُ نَجِيبَةً، وَإِنِّي أُعْطِيتُ بِهَا ثَلاَثَ مِئَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا، فَأَنْحَرُهَا، قَالَ: لاَ انْحَرْهَا إِيَّاهَا.
هذا فيه أنه إذا صح أنه ينحرها ولا يشتري بها بدنًا.
قال أبو بكر هذا الشيخ اختلف أصحاب محمدٍ بن سلمة في اسمه، قال بعضهم: شهم ابن الجارود، وقال بعضهم: شهم.
الحاصل أن المغالاة في المهر بثمنه وكرائمه[51:24] مستحب حتى ولو الموجود احتجاجه بخبر شهم ابن الجارود اكتفاءه بحديث أبي ذر، حديث أبي ذر كافي قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».
فلماذا المؤلف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يعلق هذا بحديث شهم ابن الجارود وعندنا حديث أبي ذر؟
الطالب: حديث أبي ذر أخرجه مسلم أيضًا.
الشيخ: كافي، لماذا ابن خزيمة يُعلق بصحة الاحتجاج بشهم ابن الجارود مع أن حديث أبي ذر كافي، يُتأمل.
الطالب: [52:32].
الشيخ: لكنه قال في الترجمة إن كان ممن يجوز الاحتجاج به، لكن أيضًا الاحتجاج به مشكك وضعيف، لكن الثاني ضعيف، لكن يكفينا حديث أبي ذر.
الطالب: لعله خبر أبي ذر عام، قال: أي الرقاب؟
يقصد الهدي هنا في الترجمة.
طاب آخر: في العتق.
الشيخ: هذا في العتق، وكذلك أيضًا في الهدي، يقاس عليه.
هذا حديث ضعيف، ولذلك قال: إن كان، يعني مفهومها أنه لا يُستحب المغالاة إلا إذا صح، والحديث لا يصح الاحتجاج به، وعلى هذا لا يستحب المغالاة، لكن يوجد شواهد في الهدايا والأضاحي وأنها يستحب استثمارها والعلماء ينصون على هذا، وأن أفضلها أغلاها وأعلاها ثمنًا.
الطالب: [54:10].
الشيخ: ذلك الكلام في الفضيلة، لأن هذا أنفع للفقراء، أحيانًا لا يصح لكن الترجمة صحيحة، يستحب المغالاة بثمن الهدي والأضاحي كل ما كان أثمن وأغلى ثمنًا فهو أفضل، هو خصه بالهدي وكرائمة ومثله الأضاحي كذلك.
الهدي: ما يُذبح للحج في مكة.
والأضاحي: ما يُذبح في غيرها المدن والقرى وغيرها.
فالترجمة في المغلاة بثمن الهدي.
تعليق الشافعي -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقول: وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذَا كَانَ نَفِيسًا كُلَّمَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
يدل على القياس على الرقاب، وأن هذا عام، كل ما كان ثمنه أفضل فهو أعظم، سواء كان هديًا أو أضحيةً أو عبدًا.
كلام الشافعي جيد تفقه في النص، قال: وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّمَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
والزيادة هنا في نقص العبارة.
الطالب: في الأم قال: وَالْعَقْلُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذَا كَانَ نَفِيسًا كُلَّمَا عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ.
الشيخ: نعم، وهذا عام، يشمل الرقاب ويشمل الهدي ويشمل الأضحية، قد تكون الترجمة على حالها ولو لم يصح الحديث، حديث عمر ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
الطالب: بَابُ ذِكْرِ الْعُيُوبِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَنْعَامِ فَلَا تُجْزِئُ هَدْيًا وَلَا ضَحَايَا إِذَا كَانَ بِهَا بَعْضُ تِلْكَ الْعُيُوبِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَأَبُو دَاودَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، وَأَبُو الْوَلِيدِ قَالُوا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ حَدِّثْنِي مَا كَرِهَ، أَوْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَضَاحِيِّ، فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا بِيَدِهِ وَيَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلَعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تَنْقَى، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ نَقْصٌ فِي الأُذُنِ وَالْقَرْنِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ، وَلاَ تُحَرِّمْهُ عَلَى غَيْرِكَ.
الشيخ: تخريجه؟
الطالب: أخرجه مالك، وأحمد، والدارمي، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم.
الشيخ: إسناده صحيح؟
الطالب: قال: صحيح، نعم.
الشيخ: حديث البراء هذا مشهور (أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا) أما إذا كان ليس بين فلا بأس، عور خفيف، والعمياء أشد، إذا كان العوراء لا تُجزئ فالعمياء من باب أولى.
الطالب: الحولاء؟
الشيخ: إذا كان قليل لم يصل إلى ... ليس بينًا فلا بأس (وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا)، أما المرض الخفيف فهذا لا يؤثر.
(وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلَعُهَا) تظلع لكنها تلحق الغنم، أما إذا كان يؤخرها.. هذا بمعنى بين.
(وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تَنْقَى) يعني الهزيلة التي لا مخ فيها، عجفاء.
هذه الأربع لا تجزئ في الأضاحي، كلها اشترط فيها [البيان].
- (الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا) أما إذا كان عورٌ خفيف أو حولٌ خفيف فلا.
- (وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا) مرضٌ خفيف ليس بينًا لا يؤثر.
- (وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلَعُهَا) تظلع لكنها تلحق الغنم، هذا الخفيف لا يؤثر.
- (وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تَنْقَى) ليس فيها مخ، هزيلة.
قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ نَقْصٌ فِي الأُذُنِ وَالْقَرْنِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ، وَلاَ تُحَرِّمْهُ عَلَى غَيْرِكَ.
هذا من قول البراء، (قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ) يعني قال عُبيد بن فيروز للبراء (أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ نَقْصٌ فِي الأُذُنِ وَالْقَرْنِ) قال: الأشياء التي تكرهها أتركها ولا تحرمها على غيرك، معناها: كأن البراء يرى أنها لا يؤثر النقص.
جاء في حديثٍ آخر أن إذا كان النقص في الأذن والقرن النصف فأكثر فإنه يُعتبر عيب، لعله يأتي في التراجم الآتية.
الطالب: بَابُ الزَّجْرِ عَنْ ذَبْحِ الْعَضْبَاءِ فِي الْهَدْيِ وَالأَضَاحِي زَجْرَ اخْتِيَارِ، أَنَّ صَحِيحَ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَضْبَاءِ، لاَ أَنَّ الْعَضْبَاءَ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ، إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَعْلَمَ أَنَّ أَرْبَعًا لاَ تُجْزِئُ، دَلَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الأَرْبَعِ جَائِزٌ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُرَيَّ بْنَ كُلَيْبٍ، رَجُلاً مِنْهُمْ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ، قَالَ: قَتَادَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: الْعَضْبُ النِّصْفُ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: الْعَضْبُ الْقَرْنُ الدَّاخِلُ.
الشيخ: تخريج الحديث؟
الطالب: قال: إسناده ضعيف فإن جري بن كليب مقبولٌ حيث يُتابع ولم يتابع، أخرجه وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي.
الشيخ: قال: إسناده ضعيف لوجود جري بن كليب، وفي [1:02:20]، ثم في المختارة للضياء المقدسي، وفي الحديث الذي قبله ما يشعر بخلاف هذا الحديث، فتأمل.
الألباني يقول: في الحديث الذي قبله ما يشعر بخلاف هذا الحديث، لأن الذي قبله (قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ نَقْصٌ فِي الأُذُنِ وَالْقَرْنِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ).
نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ، قَالَ: قَتَادَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: الْعَضْبُ النِّصْفُ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ.
وكذلك الحديث الذي بعده فيه سعيد بن بشير، وفيه عن قتادة، وفيه شهر بن حوشب (قَالَ: الْعَضْبُ الْقَرْنُ الدَّاخِلُ).
كيف القرن الداخل؟ هل القرن يكون داخل في الرأس؟ ماذا قالوا في التعليق؟
الطالب: لا يوجد تعليق.
الشيخ: الترجمة؟
الطالب: بَابُ الزَّجْرِ عَنْ ذَبْحِ الْعَضْبَاءِ فِي الْهَدْيِ وَالأَضَاحِي زَجْرَ اخْتِيَارِ، أَنَّ صَحِيحَ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَضْبَاءِ، لاَ أَنَّ الْعَضْبَاءَ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ، إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَعْلَمَ أَنَّ أَرْبَعًا لاَ تُجْزِئُ، دَلَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الأَرْبَعِ جَائِزٌ.
الشيخ: (بَابُ الزَّجْرِ عَنْ ذَبْحِ الْعَضْبَاءِ) يعني مقطوعة النصف: نصف القرن أو نصف الأذن (زَجْرَ اخْتِيَارِ، أَنَّ صَحِيحَ الْقَرْنِ وَالأُذُنِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَضْبَاءِ) يعني الهدي أو الأضحية إذا كان كامل القرن أو كامل الأذن أفضل، أما إذا كان مقطوع فهذا يجوز، لكن غيره أفضل منه، ولذا قال (لاَ أَنَّ الْعَضْبَاءَ غَيْرُ مُجْزِيَةٍ) لماذا؟
استدل بقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَعْلَمَ أَنَّ أَرْبَعًا لاَ تُجْزِئُ، دَلَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الأَرْبَعِ جَائِزٌ.
- لا تجوز العوراء البين العور.
- والمريضة البين مرضها.
- والعرجاء.
- والكسيرة.
ما عداها يجوز، وحديث جُري ضعيف (نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ) لم يصح، والحديث الذي بعده قال (قَالَ: الْعَضْبُ الْقَرْنُ الدَّاخِلُ) وهذا أيضًا ضعيف.
تكلم عن حديث بُندار؟
الطالب: لم يتكلم عليه.
الشيخ: فيه سعيد بن بشير، وفيه عن قتادة، وفيه شهر بن حوشب (قَالَ: الْعَضْبُ الْقَرْنُ الدَّاخِلُ).
ليس مرفوعًا، وضعيف أيضًا، المعروف أن العضب هو ليس القرن الداخل، وإنما العضب ما ذهب النصف من أذنه أو قرنه، هذا العضب وليس هو القرن الداخل كما شهر بن حوشب.
والمؤلف قال: إن الزجر عن ذبح العضباء إنما هو زجر اختيار، يعني مكروه كراهة وغيره أفضل منه وليس ممنوعًا، ومن العلماء من ممنع أخذًا بهذا الحديث الضعيف (العضب هو النصف).
وفق الله الجميع لطاعته.
رزق الله الجميع العلم النافع.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.