شعار الموقع

العقيدة الطحاوية 12 من فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما - إلى وَلَا نَخُوضُ فِي اللهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللهِ

00:00
00:00
تحميل
107

تقدّم شرحُ بعضِه. ومرادُهُ هنا: الإشارة إلى أنه لا يتم الإيمان بربوبية الله، وأن الله رب الخلائق، ومالكهم، ومتصرف فيهم: إلا بأن تؤمن بأن قضاء الله وقدره، وما كتبه في اللوح المحفوظ: نافذ، ولا يستطيع أحد أن يغيره ولا أن يبدله، ولا أن يزيد منه، ولا أن ينقص منه، ولا أن يمحوه، وإلا فمن لم يؤمن بذلك. لم يؤمن بربوبية الله، ومن لم يؤمن بربوبية الله: لم يوحد الله؛ فيكون كافرا. 

| المتن|

قال المؤلف -رحمه الله-:

(كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [سورة الفرقان آية: 2].  

| الشرح |

قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [سورة الفرقان آية: 2]؛ كل من صيغ العموم ؛ فكل شيء في هذا الكون مخلوق لله، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أنه خلقه بتقدير وبإحكام؛ لأنَّه -سبحانه- هو الحكيم فيما يخلقه، وفيما يقدره وفيما يشرعه فَخَلْقُهُ، مبني على الحكمة وكذا: شرعه، وأمره، ونهيه، فمن صفاته: الحكمة، ومن أسمائه: الحكيم، خلافًا للجبرية نقاة الحكمة عن الله، القائلين: إن الرب يخبط خبط عشواء؛ فيجمع بين المختلفين، ويفرق بين المتماثلين -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-، بل الله حكيم؛ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا .

| المتن |

قال المؤلف -رحمه الله-:

(وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مقدورا [سورة الأحزاب آية: 38]).

| الشرح |

أي: أنَّ أَمْرَ الله الديني الشرعي، مُقَدَّرٌ تقديرًا؛ فهو مبني على الحكمة؛ فكما أنَّ الآيةَ الأولى أفادت أن خلق الله مبني على الحكمة؛ فكذلك الآيةُ الثانية أفادت أن أمر الله وشرعه ودينه مبني على الحكمة؛ فهو حكيم .

وتقدَّم معنا أنَّ الجبرية -قبحهم الله- من الجهمية وغيرهم، يقولون: الإرادةُ الإلهية تخبط خبط عشواء؛ من دون تقدير ومن دون حكمة، فتجمعُ بين المتفرقات والمختلفات، وتفرِّقُ بين المتماثلات، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآيات ردٌّ عليهم فقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [سورة الفرقان آية: 2]؛ هذا في المخلوقات، وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مقدورا [سورة الأحزاب آية: 38] هذا في الشرعيات في الأوامر والنواهي؛ أي فيما يأمره الله ويشرعه.

| المتن|

قال المؤلف -رحمه الله-:

(فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما).  

| الشرح |

الويل: شدة العذاب والهلاك، وقيل: وادٍ في جهنم([1])، فهذا الوعيد بـ«الويل» لمن صار لله في القدر خصيمًا، وخصيم: فعيل بمعنى مخاصم، فهذا المُخاصمُ لله في قضائه وقدره؛ الذي لا يؤمن بهما، ويعترض على الله، ويقول: لماذا فعل كذا؟، وكيف فعل كذا؟، لماذا أغنى هذا؟، ولماذا أفقر هذا؟، ولماذا أشقى هذا؟، ولماذا أسعد هذا؟، ولماذا هدى هذا؟، ولماذا أضل هذا؟، ولماذا خلق الله كذا؟؛ لماذا خلق الله الحيات والعقارب؟، ولماذا خلق الله السباع والهوام؟، ولماذا جعل الله الحر والبرد؟ فيعترض على الله في خلقه وشرعه ودينه؛ هذا خصيم لله؛ مخاصمٌ له، ويل له؛ ويل لمن كان لله في القدر خصيمًا، الذي هو سر الله في خلقه.

| المتن |

ثم قال المؤلف -رحمه الله-:

(وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما).  

| الشرح |

سَبْبُ وصْف قلبه بالسقم؛ الذي هو المرض؛ فلاعتراضه على الله، وشكّه في حكمته، وظنّه بربه ظن السوء كظن المنافقين والكفرة. قال سبحانه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الاحزاب آية: 10] وقال سبحانه فيه وفي أمثاله: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [سورة الفتح آية: 6].  

فالمنافقون ظنوا أن الله لا يتم هذا الدين ويقضي عليه، وأنه يخذل رسوله، ويقضى عليه وعلى صحابته، وهذا من ظنّ السّوء، وكذلك من اتهم ربه، وظن به ظنا سيئا، وأنه ليس حكيما في شرعه، أو ليس حكيما فيما يقدره ويخلقه؛ فهذا قد أحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا مريضًا.  

والمرض نوعان:

مرض شبهة، ومرض شهوة.

فمرضُ الشبهة: مرض الشكوك؛ كمرض النفاق؛ كما في قوله سبحانه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [سورة البقرة آية: 10].

ومرضُ الشهوة: شهواتُ المعاصي؛ كقوله سبحانه: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب آية: 32] وأسوأ الشبهة ما كانت الشبهة فيه في الصفات، فالشبهة إمَّا أن تكون في الصفات، أو تكون في القدر أو فيها، وهذا الذي أشار إليه الشيخ، داؤهُ ومرضه من جهة القدر، وأيضا: القلب قد يموت، كما قال سبحانه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا  [سورة الأنعام آية: 122]؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا  [سورة الأنعام آية: 122] بالكفر، فَأَحْيَيْنَاهُ [سورة الأنعام آية: 122] بالإيمان. ومن علامة مرض القلب أنْ لا يشعر بالمعاصي والمنكرات، فضلاً عن أنْ يُنْكِر المنُكر، ولا يؤلمه كونه مقيماً على الجهل، وأُعظَمهُ: الجهل بالله وبأسمائه وصفاته، وكونه جاهلا بحقائق الإيمان، وبما يجب عليه تجاه ربه، من القيام بوظائف العبودية؛ فلا يتعلم العلم الذي يدفع به عن قلبه معرَّة الجهل؛ وهذا دليل استحكام داء الجهل من قلبه، لكن من الناس مَنْ يشعر بمرضه، لكن لا يستطيع تحمل مرارة الدواء، مع معرفته أن دواءه في طلب العلم وسؤال العلماء ومزاحمة الطلبة بالرُّكب على مرارة الدواء، فيبقى قلبه مريضا -نسأل الله السلامة والعافية-.  

فالحاصل: أن خصماء الله في القدر، وأصحاب الشُّبه في هذا الباب، هم مرضى القلوب؛ كهؤلاء الذين يعترضون على الله، وينفون حكمته من الجبرية وغيرهم.  

| المتن |

ثم قال المؤلف -رحمه الله-:

(لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرًّا كتيما).

| الشرح |

التمس يعني: طلب بوهمه وبتوهمه وظنونه وشكوكه في الفحص والبحث عن الغيب؛ لأنَّ القدر سر الله؛ غيَّبَهُ عن المخلوقين، لا يعلمه إلا هو -سبحانه- فلا أيها العبد المأمور على ربك، فلا تقل: لم؟ وكيف؟ لأنك إنْ تعترض كنت تريد أن تبحث عن هذا السر، فإنك ببحثك هذا سرا كتيما، وكتيم؛ فعيل بمعنى مفعول يعني: مكتوما؛ فقدرُ الله سر لم يُطْلِعْ عليه أحدًا، فكيف تريد أن تلتمس بظنونك وشكوك وشبهاتك وقلبك المريض البحث عن هذا السر الكتيم؟!

| المتن |

إثم من تكلم في الغيب

(وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا):  

| الشرح |

(وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ): أي: في القدر؛ يعني: بظنونه وتوهمه، فأصبح كذابًا أثيمًا، هذه هي النتيجة؛ لأنه لما تعدى حدوده، وطغى وتجاوز الحد، وطلب معرفة الغيب، وسر الله في خلقه بوهمه وظنونه، عاد بما قال أفاكًا كذابًا أثيمًا، وقد يكون كافرًا بسبب تجاوزه الحد وطغيانه، كما سبق أن قال المؤلف: (هَذِهِ ذَرِيعَةُ الخُذْلَانِ وَسُلَّمُ الحِرْمَانِ وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ).

| المتن|

العرش والكرسي

الله سبحانه غني عن العالمين محيط بكل شيء

قَالَ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-:

(وَالعَرْشُ وَالكُرْسِيُّ حَقٌّ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ العَرْشِ وَمَا دُونَهُ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ):

| الشرح |

في هذا بيان أن الله غني عن العالمين، وأنه محيط بكل شيء فهو -سبحانه- متصف بالغنى، فلا يحتاج إلى أحد، لا إلى العرش، ولا إلى الكرسي، ولا إلى السماوات، ولا إلى الخلائق أجمعين؛ لأنه له وصف الغنى، فهو غني بالذات، كما قال -سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة العنكبوت آية: 6]، وقال تعالى: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة لقمان آية: 26]، وهو محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، قال سبحانه: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [سورة البروج آية: 20]، وقال سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [سورة النساء آية: 126]، وليس المراد من إحاطته بخلقه -سبحانه- أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وهذا معنى فاسد قد يفهمه البعض، كبعض الملاحدة الحلولية الذين يقولون: إن الله حالٌّ في المخلوقات، فيُفسِّرُون: معنى إحاطة الله بخلقه؛ أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخله، وهذا باطل كما مضى. 

والصحيح أن المراد بالإحاطة: عظمته، وسعة علمه وقدرته، وأن المخلوقات بالنسبة إلى عظمته حبة صغيرة؛ كالخردلة، كما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيها في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم»([2])، ومعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كانت عنده خردلة؛ إن شاء قبضها وأحاط قبضتَه بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالينْ مباين لها؛ عالٍ عليها؛ فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وَصْفُ واصفٍ؛ لو شاء سبحانه لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فهو لا يعجزه شيء، وهو محيط بكل شيء. 

والعرش والكرسي مخلوقان عظيمان من مخلوقات الله وفي الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره إلا الذي خلقه»([3]).

وأصل العرش في اللغة: السرير الذي للمَلِك كما قال تعالى عن بلقيس مَلِكَة سبأ: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وسُمِّيَ عرشًا؛ لارتفاعه عليه، -: والاشتقاق يشهد لذلك، كقول الله تعالى: مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [سورة الأنعام آية: 141]، وقال سبحانه: وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف آية: 137]، المعروشاتُ: الشجر المعروش الذي قام على ساق؛ وغيرُ المعروش: المنبطح على الأرض؛ فالعينُ والراء والشين؛ تدل على الارتفاع؛ قال الله تعالى عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [سورة النمل آية: 23]، وقال عن يوسف عليه الصلاة والسلام: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [سورة يوسف آية: 100].

والمراد بالعرش في النصوص: العرش الذي أضافه الله لنفسه في مثل قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [سورة هود آية: 7]، وقوله سبحانه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [سورة الحاقة آية: 17]، وهو سريرٌ عظيمٌ؛ ذو قوائم؛ تحمله الملائكة؛ وهو كالقبة على العالمَ، وهو سقف هذه المخلوقات.

وهذا العرش وصفه الله بالعظمة؛ كما في قوله سبحانه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة المؤمنون آية: 86]، ووصفه بأنه كريم، كما في قوله تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون آية: 116].

وكما تمدح -سبحانه- نَفْسَهُ بأنه ذو العرش، كما في قوله: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [سورة الإسراء آية: 42]، وقال سبحانه: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة غافر آية: 15].

كما أخبر -سبحانه- أن للعرش حملة؛ فقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة غافر آية: 7]، وقال: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [سورة الحاقة آية: 17]، فأخبر أن للعرش حملةً؛ اليومَ ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للمؤمنين.

كما أخبر -سبحانه- أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، فقال -سبحانه-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.

وأخبر النبيُّ ﷺ أن للعرش قوائم؛ ففي «الصحيحين» عنه ﷺ أنه قال: لا تُخَيِّرُوني من بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يومَ القِيامةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ. ([4]).

كما أخبر النبي ﷺ أن العرش فوق الفردوس، الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها، وفوقه عرش الرحمن، ففي الحديث: إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ. ([5]).

كما أخبر النبي ﷺ أن العرش مقبب على هذا العالم كما في حديث الأعرابي: أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ عَرْشَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ مِثْلَ القُبَّةِ.

كما أخبر النبي ﷺ أن التقدير بعد وجود العرش، وقبل خلق السماوات والأرض، ففي حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ. ([6]).

فتلخص من مجموع هذه النصوص في أوصاف العرش ما يأتي:

أولاً: أن الله مدح نفسه بأنه رب العرش وذو العرش، مما يدل على أهمية العرش وميزته على المخلوقات.

ثانياً: وُصِفَ العرشُ بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد.

ثالثاً: وُصِفَ العرشُ بأن له حَمَلَةً، وأن الملائكة تحفّ به؛ من حوله.

رابعاً: أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها، فهو فوق الفردوس؛ الذي هو وسط الجنة، وأعلى الجنة.

خامساً: أن للعرش قوائم.

سادساً: أن العرش مُقَبَّبٌ على العالمَ.

سابعاً: أن العرش سابقٌ وجوده على تقدير المقادير، وأن تقدير المقادير سابقٌ خلق السماوات والأرض؛ هذا هو الصواب، وذهب بعض أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس.

فيقولُ بعض أهل الكلام: إن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، يعني: أن العرش مُغَلِّفٌ لجميع العالم، فالعالم كله -السموات، والأرض كلها- في جوف العرش، هذا قاله بعض أهل الكلام كما سبق، لكن هذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في النصوص أن له قوائم، كما سبق في حديث «الصحيحين»([7]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية([8]) ([9]) -رحمه الله-: العرش مقبب، ولم يثبت أنه مستدير مطلقًا، بل ثبت أنه فوق الأفلاك، وأن له قوائم، وصح في علوه -أي: العرش- قوله ﷺ: إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا، وَفَوْقَهُ عُرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ. ([10]).

وعلى كل تقدير، فالعرش فوق المخلوقات؛ سواء أكان محيطًا بالأفلاك أو غير ذلك، وهو فوق الكرسي، والكرسي فوق الأفلاك كلها، ونسبة الأفلاك وما فيها إلى الكرسي، كحلقةٍ في فلاة، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة البقرة آية: 255].

إذًا: العرش أعظم المخلوقات، ثم يليه في العِظَم؛ الكرسي، وقد نقل بعضهم أن الكرسي هو عِلْمُ الله، لكن هذا قول ضعيف، ونسبتُه إلى ابن عباس لم تثبت([11])، فإن علم الله وسع كل شيء؛ كما قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [سورة غافر آية: 7]، والله يعلم نفْسه، ويعلم ما كان وما لم يكن، ولو فُسِّر الكرسي بالعلم في الآية؛ لقيل: وسع علمُه السماوات والأرض، وهذا المعنى لا يكون مناسبًا، لاسيما وقد قال تعالى: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [سورة البقرة آية: 255]؛ أي: لا يثقله، وهذا يناسب القدرة، لا العلم. وقال بعضهم: إن الكرسي هو العرش، لكن الأكثرون أنهما شيئان، إذًا فالأقوال ثلاثة.

والصواب: أن الكرسي مخلوق آخر غير العرش، والصحيح أيضاً أن الكرسي غير العرش؛ وهو موضع قدمْي الرحمن .

قال الإمام عثمان بن سعيد الدرامي([12]) ([13]) -رحمه الله-: هذا الذي عرفناه عن ابن عباس، صحيحًا مشهورًا، فالكرسي مخلوق عظيم، وهو موضع القدمين لله -سبحانه- كما روى ابن أبي شيبة والحاكم وقال: على شرط الشيخين، عن ابن عباس في قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ[سورة البقرة آية: 255] أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله»([14])، وذكر ابن جرير عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: مَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي ظَهْرِ سَلَاسِلَ مِنَ الأَرْضِ. ([15]).

والله استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، وجاء ذكر استواء الله -سبحانه- على عرشه في سبعة مواضع من القرآن:

الموضع الأول: في سورة «الأعراف»؛ قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [سورة الأعراف آية: 54].

الموضع الثاني: في سورة «يونس»؛ قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [سورة يونس آية: 3].

الموضع الثالث: في سورة «الرعد»، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة الرعد آية: 2].

الموضع الرابع: في سورة «طه»؛ قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه آية: 5].

الموضع الخامس: في سورة «الفرقان»؛ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن [سورة الفرقان آية: 59].

الموضع السادس: في سورة «آلم السجدة»؛ قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة السجدة آية: 4].

الموضع السابع: في سورة «الحديد»؛ قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة الحديد آية: 4].

والعلو صفة من صفات الله، والاستواء صفة من صفات الله، لكن ما الفرق بين الصفتين؟ يتبين الفَرْقُ واضحًا بين هاتين الصفتين من وجهين:

الوجه الأول: أن العلو من صفات الذات، فهو ملازم للرب؛ فالرب لا يكون إلا عاليًا، والاستواء من صفات الأفعال، وكان بعد خلق السماوات والأرض، كما أخبر الله بذلك في كتابه؛ فدلَّ على أنه -سبحانه- تارة كان مستويًا على العرش، وتارة لم يكن مستويًا عليه، فاستواؤه على العرش كان بعد خلق السماوات والأرض، فالاستواء -على هذا- عُلُوٌّ خاص؛ فكل مستوٍ على شيء عالٍ عليه، وليس كل عالٍ على شيء مستويًا عليه.

فالأصل: أن علوه سبحانه على المخلوقات؛ وصْفٌ لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته؛ كذلك، وأما الاستواء: فهو فِعْلٌ يفعله سبحانه؛ بمشيئته وقدرته، ولهذا قال: ثُمَّ اسْتَوَى.

الوجه الثاني: أن العلو من الصفات المعلومة بالسمع والعقل، أما الاستواء على العرش: فهو من الصفات المعلومة بالسمع لا بالعقل؛ فكل الناس يثبتون ويدركون أن الله في العلو؛ حتى البهائم، أما الاستواء على العرش: فهذا ما عُرف إلا من جهة الشرع.

والعلو من الصفات التي اشتد فيها النـزاع بين أهل السنة وبين المخالفين لهم من أهل البدع، فهي من الصفات العظيمة التي نفاها أهل الكلام والبدع. 

وسبق أن هناك ثلاث صفات مَنْ أثبتها؛ فهو من أهل السنة، ومن نفاها؛ فهو من أهل البدعة: الكلام، والرؤية، والعلو، فهذه الصفات هي العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، كالأشعرية والجهمية والمعتزلة الذين نفوا العلو، ونفوا الكلام؛ فالكلام عند الأشاعرة: معنى قائم بالنفس، لكنهم أثبتوا الرؤية ولمَّا كانوا من نُفاة العلو والفوقية، قالوا: يرى لا في مكان وبلا مقابلة؛ فأضحكوا منهم العُقلاء. 

والعلو في اللغة معناه الارتفاع، والمراد به شرعًا: وَصْفٌ ذاتيٌّ لله -سبحانه-، وهو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: علو الذات.

النوع الثاني: علو القدْر.

النوع الثالث: علو القهر والغلبة والسلطان.

وله -سبحانه- العلو المطلق بأنواعه الثلاثة، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في «الكافية الشافية»([16]): 

وَالفَوْقُ أَنْوَاعٌ ثَلاثٌ كُلُّها لـله ثَـابِــتَةٌ بِــلاَ نُكْرَانِ

تومذاهب الناس في العلو أربعة:

المذهب الأول: مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء، وهو: أن الله فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه([17]).

المذهب الثاني: مذهب معطلة الجهمية ونفاتهم، وهو: أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، ولا فوقه ولا تحته؛ فينفون عنه الوصفين المتقابلين الذيْن لا يخلو موجود عن أحدهما، وهذا يقوله أكثر المعتزلة ومن وافقهم من متأخري الأشاعرة([18])، وهذا الذي وصفوه، ليس سوى العدم -نعوذ بالله-.

المذهب الثالث: مذهب حلولية الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان كما يقوله النجارية([19]).

فعلى هذا يكون الجهمية لهم مذهبان: مذهب النفاة: وهم الذين ينفون الوصفين، والحلولية الذين يقولون: إنه -تعالى عن قولهم- حال في كل مكان([20]).

المذهب الرابع: مذهب طوائف من أهل الكلام والتصوف، القائلين بأنَّ الله فوق العرش، وهو في كل مكان، فهم يقولون: هو بذاته فوق العرش، وهو بذاته في كل مكان ([21]). 

أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على علو الله على خلقه بذاته:  

استدلوا بالنقل الصحيح، والعقل الصريح، والفطرة السليمة:

يقول العلماء: أدلة العلو تزيد على ثلاثة آلاف دليل، فالأدلة على عُلوِّ الله تعالى، أنواعٌ وهي كالقواعد في هذا الباب؛ يندرج تحتها أفراد كثيرة وهي:

(النقل الصحيح): حيث ورد في سبعة مواضع من كتاب الله، بلفظ (على)؛ وهي تدل على العلو والارتفاع، وهذا نص لا يقبل الاحتمال، ولا الاشتباه في المعنى.  

(أما التصريح بلفظ العلو): فقد تكرر في الكتاب وصْفُ الله بالعلي والأعلى، كقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة آية: 255]، وكقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى آية: 1]، وهذا يدل على ثبوت العلو لله بجميع أنواعه.

(أما التصريح بالفوقية): لله تعالى فتارةً يكون مقروناً بأداة: مِنْ، كقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [سورة النحل آية: 50]، وتارة غير مقرون، كقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [سورة الأنعام آية: 18]؛ فالمقرون بمن نَصٌّ في معناه؛ لا يقبل التأويل. وغير المقرون: ظاهرٌ في المراد، ولا يقبل تأويله ممن ادعاه؛ لأن الأصل الحقيقة، ودعوى المجاز لا تقبل بغير دليل، ولا دليل هنا.  

(أما التصريح بالصعود إليه): فكقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [سورة فاطر آية: 10]؛ والصعود إنما يكون إلى أعلى.   

(أما التصريح برفع بعض المخلوقات إليه): فكقوله في المسيح -عليه الصلاة والسلام-: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [سورة النساء آية: 158]، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران آية: 55]، وقوله في العمل الصالح: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر آية: 10]، وثبت في الأحاديث والآثار ارتفاع دعوات المضطرين والمظلومين إلى الله، وذلك كله صريح في علو الله وفوقيته.

(أما التصريح بتنـزيل الكتاب منه): فكقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة الزمر آية: 1]، وقوله: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت آية: 2]، وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [سورة الشعراء آية: 193]، وقوله: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [سورة الإسراء آية: 105]، وقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [سورة النحل آية: 102]، والنـزول إنما يكون ممن هو فوق، وممن هو عالٍ، وهذا يدل على علو الله وارتفاعه.

(أما التصريح بأنه في السماء): فكقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [ سورة الملك آية: 16 - 17]، وقول النبي ﷺ في دعائه: رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك ... الحديث ([22])، وفي قوله فِي السَّمَاءِ إذا فُسِّرتْ «السماءُ» بمعنى العلو؛ فهي للظرفية، وإذا فُسِّرتْ بالطباق المبنية؛ فهي بمعنى (على)، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه آية: 71]، وقوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الأنعام آية: 11]، لأن الله سبحانه لا يحصره ولا يحيط به شيء من خلقه.

(أما الإخبار عن رفعته وعظمته بأنه رفيع الدرجات):  فكقوله: تعالى في سورة «غافر»: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة غافر آية: 15]، فقوله: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ[سورة غافر آية: 15] فعيل بمعنى: مفعول، أي مرفوعة درجاته برفعته وارتفاعه وعلو شأنه، وليس رَفِيعُ هنا بمعنى رافع درجات المؤمنين، فيكون فعيل بمعنى فاعل، كما يقوله المعطلة؛ لأن السياق يأبى هذا القول؛ وذلك أن الله -سبحانه- وصف نفسه قبل هذا بالعلو في قوله: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [سورة غافر آية: 12]، ثم وصف نفسه بأنه رفيع الدرجات ذو العرش، فالأوصاف كلها راجعة إلى رفعته هو، وارتفاعه على الخلق، لا إلى رَفْعِهِ بعضَ خَلْقه، ونظير هذا: قولُ الله -تعالى- في سورة «المعارج»: مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [سورة المعارج آية: 3]؛ أي: المصاعد التي تصعد فيها الملائكة إليه -جل سلطانه-، وهي الدرجات الرفيعة، والقرآن يفسر بعضه بعضًا.  

(أما التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده): فكقوله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [سورة الأنبياء آية: 19]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ  [سورة الأعراف آية: 206]، وقوله: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ  [سورة فصلت آية: 38].

وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: لَما قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابه فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غلبَتْ غَضَبِي. ([23])، واختصاص هذه المخلوقات بأنها عنده؛ دليل على علو الله على خلقه، وإلا لم يكن لتخصيص هذه الأشياء بأنها عنده: فائدة؛ ولكان أشرف المخلوقات وأدناها في القرب منه والعندية؛ سواءً.

(أما الإخبار بأن من أسمائه «الظاهر»، وتفسير أعلم الخلق به له بنفي فوقية شيء عليه): فكقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [سورة الحديد آية: 3] مع قوله ﷺ في دعائه واستفتاحه: اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ... ([24]) فتفسير الصادق المصدوق ﷺ لـ«لظاهر» بنفي ضده؛ تقريرٌ لإثبات العلو؛ إذْ الظهورُ والعلوُّ: متلازمان؛ فكل ما علا الشيءَّ: ظَهَرَ وَبَانَ، كما أنه كلما سفل الشيء: خَفِيَ واستتر.

(أما إشارة النبي ﷺ بأصبعه إلى السماء): فذلك حين خطب الناس يوم عرفة، مخاطبًا ربه بقوله: اللَّهُمَّ اشْهَدْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ([25]) فذلك يدل على علو الله على خلقه، وإلا لم يكن لتخصيص السماء بالإشارة فائدة.  

(ما ثبت في القرآن والسنة المتواترة من رؤية أهل الجنة لربهم ): كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة آية: 22 - 23]، وقوله ﷺ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذا القَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ. ([26])، فالرؤية قطعية الثبوت بالأدلة المتواترة، والرؤية المعقولة عند جميع بني آدم تقتضي مقابلة الرائي للمرئى ومواجهته له.

(سؤال النبي ﷺ عن الله بأين): كقوله ﷺ للجارية: أَيْنَ اللهُ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، وهذا الحديث رواه الإمام في صحيح مسلم([27]).

والسؤال عن الله بأين، وإقرار الجارية على أن الله في السماء؛ يدل دلالة قطعية على إثبات علو الله على خلقه. والرسول ﷺ منـزه عن أن يسأل سؤالًا فاسدًا، ومنـزه -أيضًا- عن أن يقر الجاريةَ على جواب فاسد، ويلزم مِنْ قول مَنْ يقول: إن الرسول ﷺ خاطب الجارية بما تعرف -وإن كان على خلاف الحقيقة-: أن يكون النبي ﷺ لم يبين الحق في هذه المسألة، وأن يكون قد أقر الجارية على الخطأ، وحاشاه ﷺ من ذلك.

وعند الجهمي والمعتزلي، لو أنك رفعت إصبعك إلى السماء؛ لقطع أصبعك وقال: لا تشر إليه هكذا؛ لأنه في كل مكان، فقيل لهم: الرسول قال: أَيْنَ اللهُ و«أين» يُسأل عنها في المكان؛ قالوا: الرسول ﷺ سأل سؤالًا فاسدًا، وإنما كان قصده أن يخاطبها بقدر عقلها، ومقصوده أيضًا أن يقول لها: مَن الله؟ ولما قالت: في السماء، قال الرسول: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. ([28]) فقالوا: أقرها على جواب فاسد موافقة لعقلها!!  

هذه أربعة عشر نوعًا من الأدلة، وكل نوع منها تحته أفراد.

وقد اعترض المبتدعة على هذه الأدلة، وأجاب أهل السنة على اعتراضهم، وهناك أدلة عقلية لأهل السنة واعتراضات للنفاة وأجوبة لأهل العنة عليها، وهناك أيضًا أدلة من الفطرة لأهل العنة، واعتراضات من النفاة وجواب عليها لأهل السنة، وهناك أدلة أيضًا عقلية لأهل البدع النفاة، وأجوبة لأهل السنة عليها، وجواب عليهم.

وقد اعترض نفاة العلو على الأدلة التي استدل بها أهل السنة والجماعة على علو الله على خلقه، وتأولوها: بأن المراد بها: علو وفوقية القَدْر والعظمة والشأن، وعلو وفوقية القهر والغلبة والسلطان؛ لأن النفاة يثبتون هذين النوعين من العلو، وهو علو القهر وعلو القدر، والخلاف بينهم وبين أهل السنة في إثبات علو الذات؛ ولذلك قالوا: قوله سبحانه: فَوْقَ عِبَادِهِ [سورة الأنعام آية: 18]: يعني: خير من عباده وأفضل، ومعنى كونه فوق العرش: أنه خير من العرش وأفضل؛ قالوا: ونظير ذلك قول العرب: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، والذهب فوق الفضة، فهذا يدل على أن المرادَ بالفوقية: الخيريةُ.

فأجاب أهل الحق هذا الاعتراض بأجوبة([29]):

الجواب الأول: أن صرف الفوقية إلى فوقية الرتبة، أو إلى فوقية القهر، حَمْلٌ للفظ على مجازه؛ وهذا خلاف الأصل، إذ الأصل: الحقيقةُ، وحقيقةُ الفوقية: عُلُوُّ ذاتِ الشيء على غيره، والمجازُ على خلاف الأصل؛ لأنه خلاف الظاهر، فلا يُقبل إلا بدليل يخْرجُه عن حقيقته، كما في قوله تعالى حكايةً عن فرعون، أنه قال:  وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ  [سورة الأعراف آية: 127]، فهذه فوقيةُ قهرٍ وغلبة؛ لأنه قد عُلم أنهم جميعًا مستقرون على الأرض، ولا يلزم مثل ذلك في قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [سورة الأنعام آية: 18]؛ إذ قد عُلم بالضرورة أنه وعباده ليسوا مستوين في مكان واحد، حتى تكون فوقية قهر وغلبة.

الجواب الثاني: أن تفضيل الله -سبحانه- على أحد من خلقه لم يذكر في القرآن ابتداء، وإنما ورد ذلك في سياق الرد على من اتخذ ذلك الشيء ندًّا لله -تعالى-، وعبده معه، وأشركه في إلهيته، فبين الله -سبحانه- أنه خير من تلك الآلهة، وذلك الند كقوله -تعالى-: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النمل آية: 59]، وقوله سبحانه: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة يوسف آية: 39]، وقوله حكاية عن سحرة فرعون: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طه آية: 73]، وقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 17]، وذلك لأنه يَحْسُن في الاحتجاج على المنكر وإلزامه من الخطاب الداحض لحجته ما لا يحسن في سياق غيره، وهذا أمر واضح لا ينكره إلا غبي.

الجواب الثالث: أن تأويل الفوقية بالخيرية والأفضلية، تأويلٌ باطل تنفر منه العقول الصحيحة، وتشمئز منه القلوب السليمة، إذ ليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، والرب -سبحانه- لم يتمدح في كتابه ولا على لسان رسوله بأنه أفضل من العرش، وأن رتبته فوق رتبة العرش، وأنه خير من السماوات والعرش والكرسي، ولو تكلم أحد بمثل هذا الكلام في حق المخلوق؛ لكان مستهجنًا جدًّا، فلو قال شخص: الشمس أضوء من السراج، والسماء أكبر من الرغيف، أو أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود؛ لَعْدَّ ذلك من ساقط القول، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه؛ لما فيه من التنقص، كما قيل في المثل السائر:

ألَمْ تَرَ أنَّ السَّيْفَ يَنقصُ قدْرُهُ إذَا قِيلَ إنَّ السَّيْفَ أمْضَى مِنَ العَصَا

وإنما يصح أن يقال هذا المعنى، في حق المتقاربيْن في المنـزلة، وأحدهما أفضل من الآخر، وإذا كان يقبح كل القبح أن تقول: الجوهر فوق قشر البصل، ويضحك من ذلك العقلاء للتفاوت العظيم الذي بينهما، فالتفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم.

الجواب الرابع: أن الله أثبت لنفسه الفوقية المطلقة، وهي تشمل فوقية الذات وفوقية القدر وفوقية القهر، فمن أثبت البعض ونفى البعض، فقد جحد ما أثبته الله لنفسه، وتنقصه ولا يلزم من إثبات فوقية الله بذاته على السماء، وعلى العرش -وعلى كل شيء-، أن يكون هناك شيء يحويه أو يحصره، أو يكون محلًّا له، أو وعاءً أو ظرفًا، تعالى الله عن ذلك، بل هو -سبحانه - فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وهو غني عن العرش وعن كلُّ مخلوق، وكل شيء مفتقر إليه، وهو الحامل بقوته وقدرته للعرش ولحملة العرش، وهو القائل: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة فاطر آية: 41].

(أما أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على إثبات العلو من العقل فكما يلي):  

الدليل الأول: دليل العقل؛ بطريقة السبر والتقسيم، وطريقة السبر والتقسيم عند المناطقة وأهل الأصول؛ هو: أن يحصر المستدلُّ الأقسامَ التي يتصورها العقلُ، ثم يبطلها واحدًا بعد واحد، ويُبقِي ما قام عليه الدليل. وصياغة الدليل هكذا: أن يقال: إن الله لما خلق الخلق لا يخلو إمَّا أن يكون خَلَقَهُم داخلَ ذاته، أو خلقهم خارجَ ذاته، أو خلقهم لا داخلها ولا خارجها؛ هذه هي الأقسام التي يتصورها العقل.

أما الأول: وهو كونه خلقهم داخل ذاته؛ فباطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا؛ لأنه يلزم عليه: أن يكون الرب محلًّا للحوادث، والخسائس، والقاذورات، وهذا قول الحلولية، وهو كفرٌ، تعالى الله عن ذلك.  

وأما الثالث: وهو كونه خلقهم لا داخل ذاته ولا خارجه، فهو ممتنع عقلًا؛ لأنه يلزم عليه نفيه تعالى وعدم وجوده بالكلية؛ لأنه وَصْفٌ له بارتفاع النقيضين، وهو وصف له بالعدم، وهو قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهو كفر أيضًا.

 فتعيَّن الثاني؛ وهو: كونه خلقهم خارج ذاته الكريمة، فلزمتْ المباينةُ، ويلزم حينئذ أن يكون عاليًا على خلقه، مستويًا على عرشه؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مباينًا لهم من فوقهم، أو من تحتهم، أو أمامهم، أو خلفهم، أو عن إيمانهم، أو عن شمائلهم، وأليقُها بالله: صفةُ العلو؛ لأنها من صفات المدح والكمال.

 واعترض نفاةُ العلو المعطلةُ على هذا الدليل، فقالوا: نحن ننكر بداهته، لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهيًّا لما كان مَختَلفًا فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية.

والجواب عن هذا الاعتراض أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أعظم قبولًا، وإن رد العقل قولنا، فلقولكم أعظم ردًّا، فإن كان قولنا باطلًا في العقل، فقولكم أشد بطلانًا، وإن كان قولكم حقًّا مقبولًا في العقل، فقولنا أولى بأن يكون مقبولًا في العقل، فإن دعوى الضرورة مشتركة، فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا: هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؛ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منا ولا منكم- موافقون لنا على هذا.

فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولًا؛ ترجحنا عليكم، وإن كان مردودًا غير مقبول؛ بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلتْ عقلياتنا أيضًا، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم، والمراد بالسمع: الأدلة الشرعية، أي: الكتاب والسنة. وقولكم: إن أكثر العقلاء يقولون بقولنا، وينكرون بداهة دليلكم؛ يقال: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود، ليس هو فوق العالم، وأنه لا مباين له ولا حال في العالم، طائفةٌ من النُّظْار، وهم قلة، وأول مَنْ عُرف عنه ذلك في الإسلام: الجهم بن صفوان وأتباعُه.

الدليل الثاني من الأدلة العقلية لأهل السنة على علو الله على خلقه: يسمى دليل بطريق الملازمة والاستثنائية، وهو أن نقول: لو كان كذا؛ لكان كذا، لكنه لا يكون كذا؛ فيكون كذا، وصياغة الدليل هكذا: لو لم يتصف الرب بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم؛ لكان متصفًا بضدها؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق، وهو مستقَر إبليس وجنوده؛ فدلَّ على أنه متصف بالفوقية.

واعترض نفاة العلو على هذا الدليل العقلي، فقالوا: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.

وأجيب على هذا الاعتراض بجوابين:

الجواب الأول: لو لم يكن قابلًا للفوقية والعلو لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيًّا فقط؛ لزم إثبات علوه وفوقيته.

الجواب الثاني: لو لم يقبل الرب العلو والفوقية، لكان كل عال على غيره أسفل منه، وما يقبل العلو أكمل مما لا يقبله، والعلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصًا، ولا يوجب محذورًا، ولا يخالف كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، فنفي حقيقته؛ عينُ الباطل.  

أدلة السلف والأئمة وأهل السنة على إثبات العلو من الفطرة:

الدليل الفطري أن يقال: إن الخلق جميعًا بطباعهم وقلوبهم السليمة، يرفعون أيديهم عند الدعاء إلى السماء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى، وهذا أمر فطر الله عليه عباده، فهم من غير أن يتلقوه من الرسل، يجدون في قلوبهم طلبًا ضروريًّا لطلبه في العلو، فالجارية الأعجمية التي قال لها النبي ﷺ: أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. ([30])؛ إنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله عليها، وأقرها النبي ﷺ على ذلك، وشهد لها بالإيمان.  

واعترض نفاة العلو على هذا الدليل باعتراضين:

الاعتراض الأول: قالوا: إن رفع الإنسان يديه عند الدعاء؛ إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، لا لأن الله في العلو.

 وأجيب عنه بأجوبة([31]):

الجواب الأول: أن ادعاءكم أن السماء قبلة للدعاء، لم يَرِدْ بذلك كتاب ولا سنة، ولم يقله أحد من سلف الأمة، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على سلف الأمة وعلمائها.

ثانيا: أن قبلة الدعاء؛ هي قبلة الصلاة بدليل أن النبي ﷺ كان يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة([32])، فمن ادَّعى أن للدعاء قبلةً غير قبلة الصلاة؛ فهو مبتدع في الدين، ومخالف لجماعة المسلمين

ثالثها: أن القبلة هي ما يستقبلها العابد بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، أما الموضع الذي ترفع الأيدي إليه فلا يسمى قبلة؛ لا حقيقةً ولا مجازًا.

رابعها: لو كانت السماء قبلة للدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع.

خامسًا: أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأمر التوحيد في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوزٌ في الفطر، لا يقبل التحويل.

سادسها: أن المستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه ويرجو الرحمة أن تنـزل من عنده.

الاعتراض الثاني للنفاة: قالوا: إن دليلكم منقوض بوضع المصلي جبهته على الأرض، مع أن الله ليس في جهة الأرض، فكما أن المصلي يضع جبهته على الأرض، والله ليس في جهة الأرض، فكذلك يرفع يديه في الدعاء، والله ليس في العلو.

 وأجيب عنه بأن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه، بالذل له والخشوع، وليس قصده بأن يميل إليه لأنه تحته، فهذا لا يخطر في قلب ساجد، إلا ما حُكي عن بشر المريسي -قبحه الله- أنه سُمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.  

شبهة نفاة العلو:

نفاة العلو لهم شبه عقلية، وليس عندهم أدلة شرعية:

الشبهة الأولى: قالوا: إن إثبات العلو يلزم منه أن يكون الله في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محتاجًا إلى تلك الجهة، وكان محدودًا ومتحيزًا، والله منـزه عن الجهة، ومنـزه عن أن يحتاج إلى شيء، ومنـزه عن كونه محدودًا متحيزًا.

 وأجاب أهل الحق عن هذه الشبه بجوابين؛ جواب إجمالي، وجواب تفصيلي:

 الجواب الإجمالي:

أن يقال: تنـزيهكم الله عن الجهة، إن أردتم أنه منـزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره؛ إحاطةَ الظرف بالمظروف. فنعم؛ هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، فليس هو داخل المخلوقات، وإن أردتم بالجهة: ما وراء العالم؛ فلا ريب أن الله فوق العالم، مباين للمخلوقات.

الجواب التفصيلي:

أولًا: إن لفظ الجهة يراد به أمرٌ موجود، ويراد به أمرٌ معدوم، فإن أريد بالجهة جهةٌ وجودية، وأن الله داخل السماوات، أو داخل العرش، فهذا باطل؛ لأن الله لا يدخل في ذاته شيء من مخلوقاته، ولم يدخل في مخلوقاته شيء من ذاته، بل هو مباين للمخلوقات، منفصل عنها، وإن أردتم بالجهة: أمرًا عدميًّا، أو بكونه في السماء، أي: على السماء، وهو ما فوق العالم، فذاك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي حتى يقال: إنه محتاج إليه، أو غير محتاج إليه.  

ثانيًا: أن يقال: إنما يكون محتاجًا إلى الجهة لو كان في جهة مخلوقة؛ تحويه وتحصره وتحيط به، أما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم: لم يلزم ذلك، بل لا يلزم من كون المخلوق فوق مخلوق آخر؛ أن يكون محتاجًا إليه، فإن الله خلق هذا العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه محتاجًا إلى سافله؛ فالهواءُ فوق الأرض، وليس محتاجًا إليها؛ والسحاب فوقها، وليس محتاجًا إليها؛ والسماواتُ فوق السحاب والهواء والأرض؛ وليست محتاجة إلى ذلك، والعرش فوق السماوات والأرض؛ وليس محتاجًا إليها، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجًا إلى مخلوقاته، لكونه فوقها، عاليًا عليها؟!  

وثالثا: أن لفظ الجهة، والحيز، والحد، والجسم، والجوهر، والعرض؛ ألفاظٌ اصطلاحية؛ فيها إجمال وإبهام، قد يراد بها: معانٍ متعددة، ولم تَرِدْ هذه الألفاظُ في الكتاب والسنة؛ بنفيٍ ولا إثبات، ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيها، نفيٌ ولا إثبات، فالمعارضةُ بها ليست معارضةً بدلالة شرعية([33])، بل الأئمة الكبار أنكروا على المتكلمين، وجعلوهم من أهل الكلام الباطل المبتدع، ومعروف موقف الإمام الشافعي -رحمه الله- وحكمه على أهل الكلام؛ من أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب، والسنة وأقبل على الكلام.

وصح عن إمام الأئمة في زمانه محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: من لم يؤمن بأن الله فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مزبلة.

الشبهة الثانية لنفاة العلو: هذه الشبهة جاءت على لسان أبي عبدالله الرازي([34])؛ يقول أبو عبدالله الرازي: هذا الدليل مكون من مقدمتين ونتيجة؛ يقول: لو كان الله تعالى في جهةِ فوق؛ لكان سماء، ولو كان سماء؛ لكان مخلوقًا لنفسه؛ وذلك محال.

المقدمة الأولى: (لو كان الله تعالى في جهة فوق؛ لكان سماء) أثبت الرازي هذه المقدمة بدليلين أو بأمرين:  

الأمر الأول: أن الاشتقاق اللغوي للسماء من السمو، وكل شيء سَمَاكَ؛ فهو: سماء، فهذا هو الاشتقاق الأصلي اللغوي، وعُرف القرآن متقرر عليه([35]).

الثاني: لو كان الله فوق العرش؛ لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق، لم يرَ إلا نهاية ذات الله تعالى، فكانت نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله، إلى سكان العرش؛ كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى سكان الأرض، وذلك يقتضي -بالقطع- بأنه لو كان فوق العرش لكان ذاته كالسماء لسكان العرش، فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بجهة فوق لكان ذاته سماء، وإنما قلنا: أنه لو كان سماء لكان ذاته مخلوقاً؛ لقول تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى [سورة طه آية: 4]، وكذلك أيضاً قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة الأعراف آية: 54]، فلو كان سماء لكان مخلوقًا لنفسه، وذلك محال، فوجب أن لا يكون مختصاً بجهة فوق([36]). 

أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه الشبهة بقوله([37]): لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء؛ كان مفهومًا من قوله: إنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء، وكذلك الجارية لما قال لها: أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. ([38]) إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، وإذا قيل العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: العرش في السماء؛ فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر؛ موجود؛ مخلوق، وإن قدّر أن السماء المراد بها الأفلاك؛ كان المراد: أنه عليها، كما قال تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه آية: 71]، وكما قال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة آل عمران آية: 137]، وكما قال: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [سورة التوبة آية: 2]، ويقال: فلان في الجبل وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء منه.  

ثانيًا: من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به، فهو كاذب إنْ نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدًا يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحدًا نقله عن واحد، ولو سُئل سائر المسلمين: هل يفهمون من قوله –سبحانه- ومن قول رسوله ﷺ: إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يُجعل ظاهر اللفظ شيئًا محالًا لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين: أن الله في السماء، وهو على العرش: واحدٌ؛ إذ السماءُ إنما يراد به العلو، بمعنى: أن الله في العلو، لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش، كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خَلْق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يُتوهم بعد هذا أن خلقًا يحصره ويحويه؟!

ثالثًا: ما في الكتاب والسنة كقوله سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [سورة الملك آية: 16] ونحو ذلك؛ قد يفهم منه بعضهم أن السماء هي نفس المخلوق العالي؛ العرش فما دونه، فيقولون: قوله: «في السماء»؛ يعني على السماء، كما قال: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه آية: 71]؛ أي: على جذوع النخل، وكما قال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة آل عمران آية: 137]؛ أي: على وجه الأرض، ولا حاجة إلى هذا، بل السماء اسم جنس للعالي، لا يخص شيئًا، فقوله: في السماء، أي في العلو دون السفل، وهو العلي الأعلى، فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش، وليس هناك غيره .  

| المتن |

الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وكلم موسى تكليمًا

(وَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا):  

| الشرح |

في هذا ثبوت الخُلَّة لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، والدليل على إثبات صفة الخلة من الكتاب: قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [سورة النساء آية: 125]، وليست الخلة خاصة بإبراهيم كما قد يوهم البعضَ كلامُ المؤلف، فالصواب أنها ثابتة لنبينا ﷺ أيضاً، كما في الحديث: إِنَّ اللهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. ([39])، فالخلة ثابتة لإبراهيم ولمحمد -عليهما الصلاة والسلام-. والخلة بالنسبة للرب صفة تليق بجلاله وعظمته([40])، كسائر صفاته.

كما أن التكليم ثابت لموسى -عليه الصلاة والسلام-، ليس خاصًّا بموسى، بل شارك نبيُّنا ﷺ موسى في صفة التكليم؛ فإن الله كلَّم نبينا محمداً ﷺ ليلة المعراج من دون واسطة كما ثبت هذا في الإسراء. ومن الأدلة على ثبوت الخلّة لنبينا محمدٍ ﷺ حديث: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللهِ. ([41])، وفي الحديث السابق: إِنَّ اللهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. ([42])، فهذان الحديثان يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم، والمحبة لمحمد -عليهما الصلاة والسلام-، ويثبتان لنبينا ﷺ أعلى مراتب المحبة؛ وهي الُخلَّة، بل الخلة خاصة بالخليلين؛ محمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-.  

أما المحبة فهي عامة كحُبِّه -تعالى- للمتَّقين، كما في قوله -سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة آية: 4]، وكحبه للمحسنين، كما في قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران آية: 134].

والخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، ومن كمالها: أنها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة، وسميت خلة لتخللها شغاف القلب كما قيل:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الخَلياُ الخَلِيلاَ

والنسبة بين الخلة والمحبة: العمومُ والخصوص؛ فالخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوبًا لذاته لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لغيره هو مؤخَّر في الحب عن ذلك الغير، ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، فنبينا ﷺ له كمال التوحيد، وكمال الحب، وكذلك إبراهيم.

والمحبة والخلة بالنسبة للرب كسائر صفات الله الثابتة له كما يليق بجلال الله وعظمته، والجهمية أنكروا حقيقة المحبة، والخلة من الجانبين؛ من جانب الله ومن جانب العبد، وشبهتهم في ذلك أنهم قالوا: المحبة لا تكون إلا لمشاكلة ومناسبة بين الصحب والمحبوب، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث توجب المحبة؛ فلا مناسبة بين الخالق والمخلوق، وهذا باطل؛ فالرب مربي خلقه بنعمه، والعبد يعبد الله لذاته؛ وهذه مناسبة، فقولهم: لا مناسبة: قولٌ فاسد.

والجهمية يقولون: ليس معنى الخليل المحبَّ، بل معنى الخليل: الفقير المحتاج، ولا شك في فساد هذا التأويل؛ إذ لا يكون حينئذ لتخصيص إبراهيم بالخلة معنًى، فإن الفقر والاحتياج؛ وصف لازم لجميع الخلق؛ لزومًا ذاتيًّا؛ لا يمكن الانفكاك عنه، ولو كان معنى الخلة: الفقر؛ كان كل الناس فقراء إلى الله، وبذلك يكون وصف الخلة متناولًا لجميع الناس، حتى عبدة الأوثان الذين هم ألدُّ أعداء الرحمن؛ فقراء إلى الله!!

وكذلك مما أنكرت الجهمية حقيقة تكليم الله لبعض عباده من وراء حجاب؛ كما  ثبت لموسى -عليه الصلاة والسلام-، وكما ثبت لنبينا محمد ﷺ ليلة الإسراء، وزعموا أن تكليم الله لموسى، إنما هو تكليم خلقه في الشجر أو في الهواء، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.  

| المتن |

أصول الإيمان

أصول الإيمان عند أهل السنة

(وَنُؤْمِنُ بِالمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالكُتُبِ المُنَـزَّلَةِ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الحَقِّ المُبِينِ):

| الشرح |

هذه هي أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وبالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، والإيمان باليوم الآخر، وبالقدر؛ هذه أصول الدين، وأركان الإيمان، فهي داخلة في حقيقة الإيمان وماهيته، فمن لم يؤمن بهذه الأركان الستة؛ فليس بمؤمن، والأدلة على هذه الأصول من كتاب الله، كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة آية: 285]، فسمى الله من آمن بهذه الجملة: مؤمنًا، وقال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [سورة البقرة آية: 177]، فجعل الإيمان هو: الإيمان بهذه الجملة، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [سورة النساء آية: 136]؛ فجعل الكافرين: من كفر بهذه الجملة.

ومن السنة: حديثُ جبرائيل حينما سأل النبي ﷺ عن الإيمان فقال: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. ([43]).

أما الإيمان بالملائكة:  

فنؤمن بهم جملةً وتفصيلًا، فنؤمن بمن سمَّى اللهُ في كتابه منهم؛ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، ورضوان، ومالك: خازن النار، ونؤمن إجمالًا بأن لله ملائكةً سِواهم، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [سورة المدثر آية: 31]؛ لأنه لم يأت في عددهم نص، فنؤمن بهم جملة([44]).

وأما الأنبياء والمرسلون:

فنؤمن بهم جملة وتفصيلًا، فنؤمن بمن سمى الله في كتابه من رسله، وهم خمسة وعشرون رسولاً، ذُكروا في آية «النساء» في قوله سبحانه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [سورة النساء آية: 163]، وفي آية «الأنعام» في قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الأنعام آية: 83]، وَقَالَ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [سورة الأنعام آية: 84] إلى آخر الآيات.

ونؤمن بأن الله تعالى أرسل رسلًا سواهم وأنبياء، لا يعلم أسماءهم إلا الله. وورد في حديث أبي ذر أن عدد الأنبياء مائة ألف، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر([45])، لكن الحديث الوارد بذلك، لا يخلو من مقال، وعلى كل حال؛ فلا بد من أن نؤمن بهم جملة، قال الله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [سورة النساء آية: 164]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ [سورة غافر آية: 78].

وأما أولو العزم من الرسل، فأحسن الأقوال فيهم: أنهم المذكورون في آية «الأحزاب» في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب آية: 7]، وفي قوله سبحانه في سورة «الشورى»: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى آية: 13].

وأما الإيمان بمحمد ﷺ: فلا بد من الإيمان به تفصيلًا؛ زائدًا على الإيمان بتلك الرسل؛ من تصديقه، واتباع ما جاء به من الشرائع، إجمالًا وتفصيلًا([46]).

وأما الإيمان بالكتب المنـزلة على المرسلين:

فنؤمن بها جملة وتفصيلًا؛ فنؤمن تفصيلا بما سمى الله منها في كتابه، من التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، ونؤمن بأن لله تعالى -سوى ذلك- كتبًا أنـزلها على أنبيائه ورسله، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله؛ لأنه لم يأت في عددها نص، فنؤمن بها جملة، وأنها حق وهدى ونور وشفاء.

وأما الإيمان بالقرآن؛ فالإقرار به واتباع ما فيه وتحكيمه في كل شيء؛ في المنشط والمكره، واليسر والعسر، مع اعتقاد بأنه أفضل الكتب، وأنه ناسخ لها، ومهيمن عليها، وذلك أمر زائد على غيره من الكتب([47]).

كذلك أيضًا نؤمن باليوم الآخر:

وبما يكون قبل ذلك في البرزخ من سؤال منكر ونكير، ومن نعيم القبر وعذابه، وكذلك نؤمن ببعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها، والحشر والنشر، والوقوف بين يدي الله، وتطاير الصحف، ووزن الأعمال، والحوض والصراط، والجنة والنار، كل هذا نؤمن به، ويؤمن به أهل الحق([48]).

أما أعداء الله من الفلاسفة وغيرهم، فلهم تفصيلات في هذه الأصول الستة، وحقيقتهم: أنهم لم يؤمنوا بالله ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره، وسيأتي الكلامُ لاحِقًا على معتقدهم في ذلك وتفصيلاته.  

وأصول الإيمان هذه جاءت بها الرسلُ، والكتبُ المنـزلة، وأجمع عليها المسلمون، فمن أنكر شيئًا؛ منها فهو خارج عن ملة الإسلام؛ وليس في عداد المسلمين بإجماع المسلمين، أما الفلاسفة المتأخرون؛ أرسطو وأتباعه وابن سينا([49])؛ فملاحدةٌ زنادقةٌ، ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء، وتأثر بهم كثير من أهل الكلام، من المبتدعة وغيرهم، حتى إن ابن سينا يقدسه ويعظمه كثير من الناس، ويسمونه الفيلسوف الإسلامي، وهو كما قال -كما نقل عنه شيخ الإسلام([50])  ([51]) رحمه الله- في غزل الأحوال أنه قال: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي. والحاكم العبيدي رافضي خبيث، لا يؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه، ولا رسله، ولا اليوم الآخر، ولا القدر.  

والفلاسفة لم يجرءوا على إنكار أصول الدين والإيمان صراحة؛ لأنهم لو أنكروا أصول الإيمان؛ لعرف الناس كفرهم ولوضح ذلك للناس، لكنهم سلكوا سبيل التلبيس؛ لأنهم منافقون زنادقة يتسترون بالإسلام، فهم يثبتون هذه الأصول باللفظ فقط، لكنهم في الحقيقة لا يثبتونها؛ فهم لم يؤمنوا في الحقيقة بالله ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا باليوم الآخر.

أما إيمانهم بالله؛ وهو أصل الدين، فمذهبهم: أن الله -سبحانه- موجود وجودًا مطلقًا؛ يعني: أنه موجود في الذهن؛ لا ماهية له، ولا حقيقة؛ فلا يَعْلَمُ جزيئاتٍ بأعيانها؛ إذ لو عَلِمَ جزيئاتٍ، لَلَحِقَهُ الكللُ والتعبُ من تصوّر تلك المعلومات؛ ولكان كاملًا بنفسه، لا بغيره، بل يعلم الكليات؛ والكليات أمر ذهني، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وليس له عندهم صفة البتة؛ فلا يثبتون له السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، وليس العالم مخلوقًا لله بمشيئته وقدرته، بل العالم عندهم لازم لله أزلًا وأبدًا، لا يستطيع انفكاكًا عنه؛ صَدَرَ عنه صدوراً ضرورياً، بل هو مقارنٌ لله، ليس متقدمًا عليه، والله هو العلة المحرك لهذا العالم، وهو أول هذا العالم، والعالم ملازم لله أزلًا وأبدًا؛ فهو لازم له كلزوم النور للسراج. هذا مذهبهم في الإيمان بالله([52]). هذا رب الفلاسفة؛ رَبٌّ معدومٌ لا وجود له على التحقيق؛ لأن الموجود لا بد أن يتصف بصفة، ولا بد أن يكون له اسم، وهؤلاء يسلبون عنه جميع الأسماء والصفات؛ فتبيّن بهذا: أنه لا وجود له إلا في الذهن، وفي اللفظ.

وأما الملائكة، فإنهم لا يثبتونها على أنهم أشخاص محسوسة؛ تنـزل، وتذهب، وترى، وتجيء، وتخاطب الرسول، وتَصُفّ عند ربها، وتكتب أعمال العباد، ولها وظائف؛ كما جاء في الكتاب والسنة، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، بل يقولون: إنها هي العقول، وهي مجردَات ليست داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، وإذا تقرب بعضهم إلى أهل الإسلام قالوا: الملائكة هي القوى الخيّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة، هذا إذا تقربوا إلى أهل الإسلام، وإلا فإنهم يقررون أن الملائكة عبارة عن أشكال نورانية، يتصورها النبي، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام قالوا: هي أمور عقلية، فالأمور العقلية تبعث على الخير وعلى الإحسان وعلى الشجاعة وعلى الإيثار، والشياطين هي القوى الشريرة الرديئة، التي تبعث على الإيذاء، وعلى الظلم، وعلى الطغيان، وعلى العدوان([53]).

وأما الإيمان بالكتب فإنهم لا يثبتون الكلام لله ، ولا يثبتون أن الله تكلم بكلام أنـزله على أنبيائه ورسله، ولا يصفون الله بالكلام؛ فلا يكلِّم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر، زاكٍ، طاهرٍ متميّزٍ عن النوع الإنساني بخصائص؛ وهذا هو الرسول عندهم.

ولا يؤمنون بأن الله تعالى اصطفى أنبياءه ورسله، بل يقولون: إن الرسالة ليست هبة من الله وليست منحة، بل هي صنعة من الصناعات، وكسب يكسبه الإنسان، وسياسة من السياسات، ولها ثلاث خصائص من توافرت فيه فهو نبي، فالنبي رجل عبقري متميز عن غيره بهذه الخصائص:  

الخصيصة الأولى: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره.

الخصيصة الثانية: قوة النفس أو قوة التأثير، ليؤثر بها في سيول العلم بقلب صورة إلى صورة، فهو يشبه الساحر بحيث يقلب ما ارتسم في ذهنك من صورة إلى صورة وأنت لا.  

الخصيصة الثالثة: قوة التخيل، حتى يتخيل الملائكة -الذين هم العقول- في صورة شيء محسوس أمامه، كأن أمامه رجل يخاطبه، فيتخيل أن الملائكة أشخاص، وقد يقوى الوهم فيسمع أصواتًا تخاطبه.

فإذا وجدت هذه الخصائص، فهو نبي([54]).

وقالوا: إن النبوة لكل أحد يستطيع أن يدركها بالمراس والكسب والخبرة، وقالوا: إن النبوة ليست بالدرجة العالية، بل هناك ما هو أعلى منها؛ لأن النبوة سياسة العامة، والفلسفةُ أعلى منها؛ لأنها سياسة الخاصة، ولهذا فإن بعض الفلاسفة لا يرضون بالنبوة، ويقولون: هي مرتبة أدْونُ من الفلسفة، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب ابن هود وابن سبعين وغيرهما، هذا هو إيمانهم بالرسل.

وأما الإيمان باليوم الآخر، فهم من أشد الناس تكذيبًا وإنكارًا له في الأعيان وفي الخارج، فعندهم أن هذا العالم لا يخرب، ولا تنشق السماوات، ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم، ولا يبعثون إلى جنة أو نار، فكل هذا عندهم لا حقيقة له، بل هي أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج([55])؛ كما يفهم منها أتباع الرسل، بل هذه من تخييلات هذا العبقري وسياسته، فيسوس الناس ويخبرهم أن هناك بعثًا وجزاءً، وجنة ونارًا؛ حتى يتعايش الناس بسلام، وحتى لا يعتدي أحد على أحد، فهو يكذب، لكن يكذب لهم لا عليهم، قالوا: ولا بأس في ذلك.

هذا مذهب الفلاسفة في أصول الإيمان، وبهذا يتبين أنهم ملاحدة زنادقة، ينتسبون إلى الإسلام نفاقًا، فهم في الدرك الأسفل من النار إذا ماتوا على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.

| المتن |

أهل القبلة مسلمون مؤمنون

(وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ):

| الشرح |

نؤمن بأن أهل القبلة من أهل الإسلام، ولا نخرجهم منه، وأهل القبلة هم كل من يدعي الإسلام، ويستقبل القبلة في الصلاة وفي الذبح وفي الدعاء وإن كان من أهل البدع أو من أهل المعاصي؛ ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول ﷺ؛ فنسميهم مسلمين، ونسميهم مؤمنين، إلا من فعل ناقضًا من نواقض الإسلام فارتد، كمن أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، أو سب الله أو سب الرسول ﷺ، أو استهزأ بالله -كما سيأتي-، أما إذا لم يفعل شيئًا من ذلك؛ فنسميه مسلمًا مؤمنًا ولا نكفره، والدليل على هذا قول النبي ﷺ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فذلك المسلمُ الذي له ذمة الله، وذمة رسوله.... ([56]).

| المتن |

الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم

(وَلَا نَخُوضُ فِي اللهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللهِ):

| الشرح |

أي: لا نخوض في ذات الله، أو في كيفية ذاته؛ لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا هو، قال سبحانه: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه آية: 110]، فلا نخوض في كنه الصفات؛ فنقول: ما كيفية الاستواء؟ ما كيفية العلو؟ ما كيفية العلم؟ ما كيفية السمع؟ ما كيفية البصر؟

| الحواشي |

([1])    جاءت هذه التسمية في حديث ضعيف يروى عن أبي سعيد ، عن النبي ﷺ أنه قال: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره.

أخرجه الترمذي ( 3164 ) وأحمد (3 /75)، والحاكم (2/551، 583)، و (4/639)، وصححه، وأبو يعلى (3/138)، وَعَبْدُ بن حُميد في «المسند» (924)، وابن المبارك في «الزهد» (2/96)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (798)، وابن جرير في «التفسير» (1/378)، وابن حبان (7467)، عن دراج عن أبي الهيثم عنه به، وقال الترمذي: «حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث ابن لهيعة». وأورد هذا عن الترمذي الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/118)، ثم تعقبه قائلاً: «لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده. وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعاً؛ منكر، والله أعلم». يعني: أنه تابع ابنَ لهيعة عن دارج به، عمُرو بن الحارث كما في رواية الحاكم، وابن المبارك، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيره. وهذا إسناد ضعيف فدراج هو ابن سمعان أبو السمح القرشي ضعيف صاحب مناكير، قال أبو حاتم: في حديثه ضعف. وقال الدارقطنى: ضعيف، و قال في موضع آخر: متروك، وقال أحمد بن حنبل: أحاديث دراج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف. وانظر «ضعيف الجامع» (6148). وثمّة آثار أخرى أوردها السيوطي في «الدرر المنثور» (1/202)، (5/405)، عن الصحابة وغيرهم.

([2])    أخرجه عبدالله بن أحمد في «السنة» بهذا السياق (2/476)، والطبري في «تفسيره» (24- 25)، وابن أبي حاتم في التفسير، ونقله عنه بسنده الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/385)، وأبو الشيخ في «العظمة» (ح135) جميعًا من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : فذكره. 

وفي إسناده عنعنة أبي الجوزاء ، وهو ثقة ، لكنه يرسل كثيرا . ويشهد لمعنى هذا الأثر الآية القرآنية : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة الزمر آية: 67].

([3])    قال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه «تفسير الطبري» (5 /401): الصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره إلا الذي خلقه». قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. اهـ، والأثر في «العظمة» لأبي الشيخ (ح/7)، و«السنة» لعبدالله بن الإمام أحمد (590)، وانظره في «فتح الباري» (8/199)، وصححه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (ح/4) .

[4]))   أخرجه البخاري (4638) والسياق له، ورواه في مواضع أخرى من الصحيح، ومسلم مختصرًا (2374/ 162، 163) من حديث أبي سعيد، وأخرجه البخاري بنحوه (2411، 3408، 3414، 4813، 6517، 6518، 7428، 7472)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة.

[5]))  أخرجه البخاري (2790، 7423)  من حديث أبي هريرة ، ولفظه -كما في الموضع الأول- قال رسول الله ﷺ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ قال محمد بن فُليح عن أبيه: «وفوقه عرش الرحمن».

[5]))    أخرجه أبو داود (4726) فقال: حدثنا عبدالأعلى بن حماد، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، وأحمد ابن سعيد الرباطي، قالوا حدثنا وهب بن جرير، قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه. قال: حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحق يحدث عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده قال: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَضَاعَتِ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتْ الْأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ، إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ.   

قال ابن بشار في حديثه: إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته. وساق الحديث. وقال عبدالأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة، وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده. قال أبو داود: والحديث وبإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعةٌ منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحق كما قال أحمد أيضا وكان سماعُ عبدالأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني». اهـ

وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة» (2/ 365): حديث ابن إسحاق في «المسند» وغيره، وفي آخره: إن عرشه لعلى سماواته وأرضه هكذا مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب. وابن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالسماع في شيء من الطرق عنه، ولذلك قال الذهبي في «العلو» (ص 23): «هذا حديث غريب جدًا فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم.

وعلقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (1 /17): قال: وقال جبير بن مطعم، عن النبي ﷺ: إن الله على عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أراضيه مثل القبة.  

([6])   سبق تخريجه.

[7]))    أخرجه البخاري (2412) من حديث أبي سعيد ، وقد تقدم تخريجه.

[8]))    انظر: مجموع الفتاوى (5/150 ، 151) (6/556).

[9]))  انظر: «مجموع الفتاوى» (6/546).

[10]))   تقدم تخريجه قريبًا.

[11]))   أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 9)، وابن منده في «الرد على الجهمية» (ص21)، من طريق: جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال ابن منده، واللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» (679) في «الرد على الجهمية» (21): «ولم يتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير». وانظر «السلسلة الصحيحة» (109). وعلقه البخاري لكن من قول سعيد بن جبير ، وقال الحافظ في «فتح الباري» (8/ 199): وصله سفيان الثوري في تفسيره في رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح.

وأخرجه عبد بن حميد وبن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير فزاد فيه عن بن عباس.

وأخرجه العقيلي من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ، وهو عند الطبراني في كتاب السنة من هذا الوجه مرفوعا، وكذا رويناه في فوائد أبي الحسن علي بن عمر الحربي مرفوعا ، والموقوف أشبه.

وقال العقيلي إن رفعه خطأ ثم هذا التفسير غريب.

وقد روى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين.

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي موسى مثله.

وأخرجا عن السدي «أن الكرسي بين يدي العرش وليس ذلك مغايرا لما قبله والله أعلم». اهـ. كلام الحافظ ابن حجر، وانظر: «تغليق التعليق» (14/185- 186). 

قال ابن جرير الطبري في «تفسيره» تفسير الطبري (5 /401): أما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال: «هو علمه». اهـ

وتعقبه الشيخ محمود محمد شاكر في تحقيقه فقال: «العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله ﷺ، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى «الكرسي» هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا «العلم»، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر!! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد على شرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في «مجمع الزوائد» (6/323) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح»، كما بينته في التعليق على الأثر (5792). ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: «والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل»، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله.

وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو«العلم»، بقوله تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، فلم لم يجعل «الكرسي» هو «الرحمة»، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في [سورة الأعراف: 156]: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري، ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة.

وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى«الكرسي»، فإن أكثره لا يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى«الكرسي»، وذلك قوله تعالى في «سورة ص»: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (6/584): «وقد نقل عن بعضهم أن كرسيه علمُه، وهو قول ضعيف».

[12]))  قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/319): عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد: الامام، العلامة، الحافظ، الناقد، شيخ تلك الديار، أبو سعيد، التميمي، الدارمي، السجستاني، صاحب «المسند» الكبير والتصانيف. ولد قبل المئتين بيسير، وطوف الأقاليم في طلب الحدي. وسمع: أبا اليمان، ويحيى بن صالح الوُحَاظي، وسعيد بن أبي مريم ... وخلقاً كثيراً؛ بالحرمين، والشام، ومصر، والعراق، والجزيرة، وبلاد العجم. وصنف كتابا في «الرد على بشر المريسي»، وكتابا في «الرد على الجهمية»، رويناهما. وأخذ علم الحديث وعلله عن علي، ويحيى، وأحمد، وفاق أهل زمانه، وكان لهَجا بالسنة، بصيرا بالمناظرة.

حدث عنه: أبو عمرو: أحمد بن محمد الحيري، ومحمد بن إبراهيم الصرام، ومؤمل بن الحسين، ... وخلق كثير. قال الحاكم: سمعت محمد بن العباس الضبي، سمعت أبا الفضل يعقوب بن إسحاق القراب يقول: ما رأينا مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الادب عن ابن الأعرابي، والفقه عن أبي يعقوب البويطي، والحديث عن ابن معين وابن المديني، وتقدم في هذه العلوم -رحمه الله-.

قلت: كان عثمان الدارمي جذعا في أعين المبتدعة، وهو الذي قام على محمد بن كرام، وطرده عن هراة، فيما قيل. وقال محمد بن المنذر: شكر: سمعت أبا زرعة الرازي، وسألته عن عثمان بن سعيد، فقال: ذاك رُزِقَ حسن التصنيف. وقال أبو الفضل الجارودي: كان عثمان بن سعيد إماما يُقتدى به في حياته وبعد مماته.

قال محمد بن إبراهيم الصرام: سمعت عثمان بن سعيد يقول: لا نكيف هذه الصفات، ولا نكذب بها، ولا نفسرها. ومن كلام عثمان -رحمه الله- في كتاب «النقض» له: «اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته». اهـ مختصر.

[13]))   انظر: «الرد على بشر المريسي» (1/414).

([14])  أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب «العرش» (61)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (2645)، وعبدالرزاق في «التفسير» (3/251)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (9/251)، والصروي في «الأربعين» (ص 56- 57)، والدارمي في «الرد على المريسي» (1/399- 400) و (1/412) و (1/423)، وعبدالله بن أحمد في «السنة» (586، 1020، 1021)، وأبو الشيخ في «العظمة» (27، 28)، والدارقطني في «الصفات» (36)، والحاكم في «المستدرك» (2/310) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، وقال الذهبي في «العلو» (ص 76): «رواته ثقات»، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص: 75)، وقال الحافظ في «الفتح» (8/199): «وروى ابنُ المنذر بإسناد صحيح عن أبي موسى مثله»، وأخرجه عن أبي موسى أيضاً، ابن جرير في «التفسير» (3/9)، وأبو الشيخ في «العظمة» (56)، وابن أبي شيبة في «العرش» (60)، وابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 46)، وعبدالله بن أحمد في «السنة» (588)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (859- تحقيق الحاشدي). 

([15])   أخرجه ابن جرير في التفسير (5/399) تعليقًا، وأسنده ابن أبي شيبة في «العرش» ( 58)، ابن بطة الإبانة الكبرى (2544)، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/648/70) من طريق المختار بن غسان العبدي، عن  إسماعيل بن مسلم، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري مرفوعًا بلفظ: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة. وفيه المختار وهو مجهول. ورواه أبو الشيخ في «العظمة» (2/570)، وذكره في «العلو للعلي الغفار» (307) من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر ، نحوه مرفوعًا بلفظ: ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة قال الذهبي في العلو ص115:«والخبر منكر».اهـ.

وأسنده أبو الشيخ في «العظمة» (2/587/31)، وابن جرير في «التفسير» (3/10) كلاهما من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم يقول عن أبيه «إن رسول الله ﷺ قال ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال ابن زيد فقال أبو ذر عن النبي ﷺ ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الارض والكرسي موضع القدمين. وقال الشيخ الحاشدي في التعليق على «الأسماء والصفات» للبيهقي (2/301): «وهذا مرسل، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف جداً».   

وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (862)، وابن حبان - (361) مطولا، وذكره الذهبي في «العلو للعلي الغفار» (333)، عن يحيى بن يحيى الغساني، وقال: «إبراهيم ليس بشيء، وقد وُثِّق».

وأخرجه ابن ماجه (4218) عن القاسم بن محمد، مختصرًا وليس فيه محل الشاهد، وابن مردويه (1/681- تفسير ابن كثير) عن القاسم بن محمد لكن ذكر فيه محل الشاهد.

كلاهما (يحيى بن يحيى الغساني، والقاسم بن محمد) عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر مرفوعًا، وفيه ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة. وقد استوفى الشيخ الحاشديُّ الكلام على طرق هذا الحديث في «تعليقه على كتاب الأسماء والصفات» للبيهقي (2/299- 301)، ثم قال: «وبالجملة: فطرقُ هذا الحديث كلها واهية، لا تصلح للاعتضاد...».

[16]))   انظر: «الكافية الشافية» (1/51).  

[17]))   انظر: «درء تعارض العقل والنقل» المجلد السادس بأكمله والسابع حتى (ص/140)، و«مختصر الصواعق المرسلة» (3/1060-1100) ط. أضواء السلف.

([18])   انظر: «شرح الأصول الخمسة» (ص/219-221)، و«شرح جوهرة التوحيد» (ص/163-165)، و«مجموع الفتاوى» (5/122-123)، (5/272-273)، و«درء التعارض » (5/169).

([19])   هم أصحاب الحسين بن محمد النجار، ذهبوا إلى القول بخلق أفعال العباد، ووافقوا القدرية الغلاة في نفي العلم، وقالوا بحدوث الكلام له تعالى، وهم فرق منهم: البرغوثية، والزعفرانية. انظر: «مقالات الإسلاميين» (1/340-342)، و«الملل والنحل» (1/88-90).

([20])   انظر: «التوحيد» لابن خزيمة (2/892-893)، و«بيان تلبيس الجهمية» (1/556- الطبعة القديمة).

([21])   انظر: «مجموع الفتاوى» (8/318).

([22])   أخرجه أبو داود (3892)، والنسائي في «الكبرى» (10876)، والطبراني في «الأوسط» (8636 - تحقيق: طارق عوض الله)، والحاكم (1/494)، (4/243)، وابن عدي في «الكامل» (3/197)، واللالكائي في «السنة» (648)، وغيرهم. من طريق الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القُرَظي عن فَضَالة بن عُبَيْدٍ، عن أبي الدرداء قال سمعتُ رسولَ الله ﷺ: يقول: مَنْ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا، أَوْ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ، فَيَبْرَأَ.

وزيادة بن محمد قال عنه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/446): «منكر الحديث»، وكذا قال النسائي في كتاب «الضعفاء» (221). وقال الحافظ ابن حجر في «التقريب» (2113): «منكر الحديث». وقال الطبراني في «المعجم الأوسط» (8/280): «تفرد به الليث بن سعد». وقال الذهبي -بعد أن عزاه إلى أبي داود- في «العلو» (ص 29): «وزيادة ليّنُ الحديث». اهـ

ورواه أحمد في مسنده (6/20) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ عن عبيد بن عمير. وأبو بكر ضعيف كما في ترجمته في التهذيبين ، وفيه الأشياخ «مبهمون». فالحديث ضعيف.

وأخرجه النسائي في الكبرى (10874) من طريق مخلد قال حدثنا سفيان عن منصور عن طلق عن أبيه: «أنه كان به الأسر فانطلق إلى المدينة والشام يطلب من يداويه فلقي رجلا فقال ألا أعلمك كلمات سمعتهن من رسول الله ﷺ رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ، فَيَبْرَأَ. والحديث فيه مخلد بن يزيد، قال عنه الحافظ في «التقريب» (6540): «صدوق له أوهام». وطلْق هو ابن حبيب قال عنه الحافظ في «التقريب» (3040): «صدوق عابد رمى بالإرجاء»، وأبوه حبيب العنزي قال عنه في «التقريب» (1114): «مجهول»، وإن كانت جهالة الذي حدثه لا تفيد؛ لأنه يظن به الصحبة، والصحابة كلهم عدول، لكن الإسناد لا يقوم هكذا لما بيَّناه؛ فالحديث ضعيف أيضا من هذا الطريق والله أعلم.

([23]) أخرجه البخاري (3194) واللفظ له، ومسلم (2751).

[24])) أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة .

([25])   أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله، في صفة حج النبي ﷺ.

([26])   أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبدالله، .  

[27]))   أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي .

([28])   هو الحديث السابق.

[29]))   انظر: «مختصر الصواعق المرسلة» (3/1062-1065).

[30]))   سبق تخريجه  قبل قليل.

[31]))   انظر: «بيان تلبيس الجهمية -الطبعةُ القديمة» (2/431-502).

[32]) ) انظر على سبيل المثال البخاري (1012) بأطرافه، ومسلم (894).

[33]))   قال شيخ الإسلام: ( التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع ). انظر: «النبوات» (2/876 ).

وقال: (إن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث، هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب؛ لينظر المعاني الموافقة للرسول، والمعاني المخالفة لها.

والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف المعنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويردُّ إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريقُ أهل الضلال والبدع بالعكس، ويجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعًا لهم). . انظر: «تفسير سورة الإخلاص»، و«مجموع الفتاوى» (17 / 355)، وانظر : «الفرقان بين الحق والباطل»، و«مجموع الفتاوى » (13/ 145).

([34]) هو فخر الدين أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري الرازي المفسر صاحب تفسير «مفاتيح الغيب»، وهو قرشي النسب. أصله من طبرستان، ومولده في الري وإليها نسبته، ويقال له ابن خطيب الرّي ، رحل إلى خوارزم، وما وراء النهر، وخراسان، وتوفي في هراة. أقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها. وكان يحسن الفارسية.

من أشهر تصانيفه: «مفاتيح الغيب»، ثماني مجلدات في تفسير القرآن الكريم ، و«لوامع البينات في شرح أسماء الله تعالى والصفات»، و«معالم أصول الدين»، و«محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين»، و«المطالب العالية» في علم الكلام ، و«المحصول في علم الاصول». وله شعر بالعربية والفارسية، وكان واعظا بارعا باللغتين...

توفي سنة 606 هـ، تكلموا في اعتقاده ، انظر «الأعلام» للزركلي - (جـ 6 /ص 313)، و «طبقات النسابين» للشيخ بكر أبي زيد (1/22).

([35]) انظر: «أساس التقديس» للرازي (ص 31 - طبع مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى: 1414هـ).

([36])   انظر: «أساس التقديس» (ص31- 32).

[37]))   بيان تلبيس الجهمية (1/559).

[38]))   سبق تخريجه.

[39]))   أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن جنادة . في الباب عن عبدالله بن مسعود عند مسلم (2383)، وعن غيره من الصحابة لكن بأسانيد فيها مقال. انظر: «مجمع الزوائد» (9/45)، و«كنز العمال» (11/186، وما بعدها).

([40])   انظر: «منهاج السنة» (5/351-352)، و«زاد المعاد» (1/70)، و«مدارج السالكين» (3/30).

([41])   أخرجه مسلم (2382) من حديث ابن مسعود .

([42])   سبق تخريجه في الذي قبله. 

[43]))   أخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب .

([44])   انظر: «شرح الطحاوية» لابن أبي العز (2/405-423).

([45])   أخرجه ابن حبان (361)، والحاكم (4166)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/166- 168)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (23/273- 277)، وزاد السيوطي في «الدر المنثور» (2/746)، نسبته إلى عبد حُميد، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، وثم ساقه، ثم -قال: «أخرجه ابن حبان في «صحيحه»، وابن الجوزي في «الموضوعات»، وهما في طرفي نقيض، والصواب أنه ضعيف لا صحيح، ولا موضوع، كما بينته في مختصر الموضوعات». اهـ. وحديث أبي ذرٍ تقدم تخريجه قريباً، وفي هذا الباب أيضاً عن أبي أمامة، وأنس بن مالك، بأسانيد ضعيفة. انظر: «تفسير ابن كثير» (1/587).

[46]))   انظر: «شرح الطحاوية» لابن أبي العز (2/424).

([47])   انظر: «شرح الطحاوية» لابن أبي العز (2/423).

[48]))   للتوسع في مباحث أشراط الساعة راجع: «لوامع الأنوار» للسفاريني (2/70-151).

[49])) الحسين بن عبدالله بن الحسن بن علي أبو علي الرئيس المشهور بابن سينا، صاحب التصانيف الكثيرة، في الفلسفة والطب، ومن له الذكاء الخارق، والذهن الثاقب، أصله بلخيّ، ومولده بخارى، وكان أبوه من دعاة الإسماعيلية، فأشغله في الصغر، وحصَّل عدة علوم قبل أن يحتلم، وتنقل في مدائن خراسان والجبال وجرجان، ونال حشمة وجاهاً.

وفي «لسان الميزان» قال : ما أعلمه روى شيئاً من العلم ولو روى لما حلت الرواية عنه لأنه فلسفي النحلة ضال لا انتهى.

واسم جده الحسن بن علي بن سيناء، حكى عن نفسه قال: كان أبي من أهل بلخ فسكن بخارى وتولى التصرف فلما أكملت عشر سنين أتيت على القرآن وكثير من الأدب، وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين وكان يعد من الإسماعيلية، فكانوا ربما أجروا ذكر ذلك فلا تقبله نفسي ووجهني إلى من يعلمني الحساب، وترددت في الفقه إلى الشيخ إسماعيل الزاهد ثم قدم أبو عبد الله الناتلي الفيلسوف فبدأت عليه بكتاب ايساغوجي حتى قرأت عليه ظواهر المنطق، فأما ديانته فلم يكن عنده منها خبر، ثم أخذت أقرأ على نفسي حتى أحكمت المنطق وإقليدس والمجسطي، ثم سافر الشيخ وأخذت في الطبيعي والإلهي ورغبت في الطب وبرزت فيه في مديدة حتى بدأ الأطباء يقرأون علي وتعاهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات النفيسة من التجربة ما لا يوصف وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، ولازمت العلم سنة ونصفاً ما نمت ليلة واحدة بطولها، وكنت كلما تحيرت في مسألة ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المغلق منه، وكنت أرجع بالليل إلى داري فمهما غلبني النوم عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي إلى أن قال: سألني جارنا أبو الحسن العروضي أن أصنف له جامعاً في هذا العلم فصنفت له «المجموع» وسميته به وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة. وصنفت «الحاصل والمحصول» في عشرين مجلدة و«البر والإثم»، ثم مات الوالد وتقلدت شيئاً من الأعمال، وذكر من تصانيفه شيئاً كثيراً منها «لسان العرب» عشر مجلدات، وكتاب «المبدأ والمعاد» وغير ذلك ، وهي تنيف على مائة مجلد ، ثم ولي الوزارة مرتين لشمس الدولة بهمدان ، ثم حبس في ولاية ابنه تاج الملك بالقلعة ، ثم قصد علاء الدولة همدان وأخذها ، ثم أطلق ابن سيناء، ورحل إلى علاء الدولة فبالغ في إكرامه ، قال تلميذه أبو عبيد الجوزجاني: وكان سبب تصنيفه كتاب «لسان العرب» أنه كان في حضرة الأمير وقد امتلأ المجلس من أكابر العلماء فتكلم الشيخ فناظرهم وقطعهم إلى أن جاءت مسألة في اللغة فتكلم فيها فقال له الشيخ أبو منصور اللغوي: أنت حكيم ولو قرأت في اللغة ما نرضى من كلامك فيها فوجم وعكف بعد هذا على كتب اللغة مدة إلى أن صنف ثلاث رسائل وضمنها من الألفاظ الحوشية ما لا عهد به وعتقها وأرسلها مع رسول من الأمير إلى الشيخ أبي منصور بأنه وجدها في الفلاة ملقاة لما كان في الصيد فنظر فيها فوقف عليه بها أشياء وذلك بحضرة الشيخ فكان كلما وقف في كلمة قال له: هي مذكورة في الباب الفلاني من الكتاب الفلاني فلما فطن لذلك اعتذر إليه انتهى.

وذكره تاج الدين محمد بن عبدالكريم الشهرستاني في كتاب «الملل والنحل» لما سرد أسامي فلاسفة الإسلام فقال: وعلامة القوم أبو علي بن سيناء كان طريقته أدق ونظره في الحقائق أغوص وكل الصيد في جوف الفرا.

[سبب تكفير العلماء لابن سينا]

وقال ابن أبي الدم الحموي الفقيه الشافعي شارح الوسيط في كتابه «الملل والنحل»: لم يقم أحد من هؤلاء يعني فلاسفة الإسلام مقام أبي نصر الفارابي، وأبي علي بن سيناء، وكان أبو علي أقوم الرجلين وأعلمهم.

إلى أن قال: وقد اتفق العلماء على أن ابن سيناء كان يقول بقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني، ولا ينكر المعاد النفساني.

ونقل عنه أنه قال: إن الله لا يعلم الجزئيات بعلمٍ جزئي، بل بعلم كلي فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة ممن يعتبر قولهم أصولاً وفروعاً بكفره، وبكفر أبي نصر الفارابي من أجل اعتقاد هذه المسائل، وأنها خلاف اعتقاد المسلمين.

وقد أطلق الغزالي وغيره القول بتكفير ابن سيناء وقال ابن سيناء في الكلام على بعض الأدوية وهو كما قال صاحب شريعتنا ﷺ.

[توبة ابن سينا قبل وفاته وكيف توفي]

قال أبو عبيد الجوزجاني في آخر الجزء الذي جمعه في أخبار ابن سيناء: وكان يعتمد على قوة مزاجه، حتى صار أمره إلى أن أخذه القولنج، حتى حقن نفسه في يومٍ ثمان مرات، فظهر به سحج ثم صرع، فنقل إلى أصبهان واشتد ضعفه ، ثم اغتسل وتاب وتصدق ورد كثيراً من المظالم، ولازم التلاوة ، ومات بهمدان في يوم الجمعة في رمضان سنة ( 428 ) هـ ، وله ( 58 ) سنة ومن شعره:

نعوذُ بك اللهمَّ مِن شرِّ فتنةٍ تُطَوِّقُ مَن حَلَّتْ به عِيشةً ضَنكا
رَجعنا إليك الآنَ فاقبَلْ رجوعَنا وقلَّبْ قلوباً طالَ إعراضُها عَنكا
فإن أنت لم تبرئ عليل نفوسنا وتبغي عماياها إذاً فلمن يشكا

انظر: «اللسان الميزان» (1/326)، و«العبر في خبر من غبر» (1/196)

[50])) انظر: «مجموع الفتاوى» (35/186)، و«الفتاوى الكبرى» (1/56) (3/459)، و «درء التعارض» (1/157).

[51]))   انظر : «الرد على المنطقيين» (1/144).

([52])   انظر: «الملل والنحل» (2/181).

[53]))  انظر: «مجموع الفتاوى» (4/346)، (19/10)، و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا (3/7).

[54]))   انظر: «النبوات«» (1/196)، (2/837-839).

([55])   انظر: «درء التعارض» (1/8-11).

[56]))   أخرجه البخاري (391) من حديث أنس .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد