الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره العظيم عند تفسير سورة الجاثية قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)}.
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ: مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ: فِي زَمَانِهِمْ.
{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ} أَيْ: حُجَجًا وَبَرَاهِينَ وَأَدِلَّةً قَاطِعَاتٍ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَغْيًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا، {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ: سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ. وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا} أَيِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ هَاهُنَا: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أَيْ: وَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}).
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
هذه الآيات الكريمات فيها بيان امتنان الله تعالى على بني إسرائيل، وأن الله جعل فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وأعطاهم الملك والنبوة، فعليهم أن يشكروا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن يقوموا بعبادته، فإن الأنبياء كلهم بني إسرائيل تتابعوا حتى ختمهم الله بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم بعث بعده النبي الخاتم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له أفضل الخلق، وكانت شريعته خاتمة لجميع الشرائع، وأمته أفضل الأمم، وبنو إسرائيل، وبنو إسماعيل أبناء العم، العرب من بني إسماعيل، والنصارى من بني إسرائيل، فهم أولاد العم؛ لأن إسرائيل هو يعقوب، ويعقوب أبوه إسحاق، وإسحاق هو ابن إبراهيم، وإسماعيل كذلك هو ابن إبراهيم، هما أخوان إسماعيل وإسحاق، فأبنائهما أبناء العم، فالله تعالى جل النبوة والكتاب في بني إسرائيل، وتتابع الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي.
والأنبياء يخلف بعضهم بعضًا، يجددون للناس دينهم، أنزل الله تعالى التوراة على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، كليم الله، ثم تتابع من بعده يحكمون بالتوراة، كلها، داود، وسليمان، ويحيى، وزكريا، حتى بعث الله عيسى ابن مريم وأنزل عليه الإنجيل، والإنجيل متمم للتوراة، مخفف لبعض الأحكام، كما أخبر الله عن عيسى، ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾[آل عمران:50]، ثم ختمهم بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هو امتن على بني إسرائيل؛ لأن الله جعل فيهم النبوة والكتاب، والكتب، والملك، ورزقهم من الطيبات، منَّ عليهم وتفضل عليهم لما كانوا مع موسى في التيه بالمن والسلوى والغمام، ثم بعد ذلك اختلفوا لا عن جهل، ولكن بعد العلم؛ بسبب البغي، فعاقبهم الله تعالى، وهذا تحليل للأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، يحذروا من الاختلاف والفرقة ومخالفة الحق بعد العلم، فإن هذا من أسباب الهلاك، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾[الجاثية:16]، الحكم هو الملك، ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[الجاثية:16]، هم أفضل الناس في زمانهم، ثم لما جاءت هذه الأمة كانت أفضل.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾[الجاثية:17]، هذه المصيبة، ما اختلفوا إلا بعد العلم، لا عن جهل، ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[الجاثية:17]، ثم قال الله تعالى لنبيه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:18/19]، المخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، والمراد الأمة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معصوم، تحذير هذه الأمة أن يتبعوا الأهواء التي تصدهم عن حكم الله وعن دين الله، ثم قال عن القرآن: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[الجاثية:20]، القرآن بصائر، من عمل به صار عنده بصيرة وهداية لقلبه ورحمة.
({أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)}.
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، كَمَا قَالَ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْرِ: ٢٠] وَقَالَ هَاهُنَا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أَيْ: عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} أَيْ: نُسَاوِيهِمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ! {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوي بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَفِي هَذِهِ الدَّارِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُؤمَّل بْنُ إهابَ، حَدَّثَنَا بُكَير بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِي).
الشيخ: معروف بكير.
الطالب: أحسن الله إليك، قال في الحاشية: في الحاشية بكير، والمثبت مكبر، وهو من المجروحين.
الشيخ: المثبت مكبر؟
الطالب: نعم.
الشيخ: يعني الأصل مكبر، ماذا في النسخة هذه؟ بكير أيضًا معروف، ماذا قال عندك؟
الطالب: قال في أول الفصل: مؤمل بوزن محمد.
الشيخ: نعم، مؤمل على وزن محمد، هذا التقريب؟
الطالب: نعم التقريب.
الشيخ: مكبر قال.
الطالب: هنا قال: حدثنا مكبِّر.
الشيخ: مكبِّر ولا مكبَّر عندك؟ هل ضبطه؟
الطالب: هنا بكسر الباء وتشديدها.
الشيخ: الشكل لا يعتمد لا بد من الحروف.
(حَدَّثَنَا الوَضِين بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَد الْبَاجِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَنَى دِينَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِنَّ لَقِيَ اللَّهَ [وَهُوَ] مِنَ الْفَاسِقِينَ).
الشيخ: كيف صبر عليهن ولم يعمل؟ من لم يعمل هو الذي لا يصبر، والذي يصبر هو الذي يعمل.
الطالب: في الحاشية قال: كذا، ولعل في النص سقط.
الشيخ: هذا فمن لم يصبر عليهن، الذي ما يصبر هو الذي من الفاسقين، أما الذي يصبر ويعمل يكون من الصالحين.
(قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا أَبَا ذَرٍّ؟ قَالَ: يُسْلِمُ حَلَالَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَحَرَامَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَأَمْرَ اللَّهِ لِلَّهِ، وَنَهْيَ اللَّهِ لله، لا يؤتمن عليهن إلا الله).
يعني يعتقد أن الحلال حلال، ويمتثل لأمر الله في الحلال والحرام، يحل الحلال ويحرم الحرام.
والأمر الرابع: وأمر الله لله، هذا ساقط عندك.
(قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا أَنَّهُ لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا يَنَالُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ»).
الشيخ: ماذا قال عليه؟
الطالب: قال: ضعيف جدًا، أخرجه ابن حبان في المجروحين بهذا الإسناد، وقال: مكبِّر بن عثمان منكر الحديث جدًا، ووافقه الذهبي في الميزان وفيه أيضًا الوضين بن عطاء، وثقه أحمد وأبو داود، وقال ابن سعد: ضعيف، وقال أبو حاتم: يعرف وينكر، يعني تعرف منه وتنكر.
الشيخ: يعرف وينكر ماذا قال عنه؟ الأقرب عدم تحسينه إذا كان ضعيف.
(هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ "السِّيرَةُ" أَنَّهُمْ وَجَدُوا حَجَرًا بِمَكَّةَ فِي أسِّ الْكَعْبَةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجُونَ الْحَسَنَاتِ؟ أَجَلْ كَمَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ).
الشيخ: لعله أجل فلا يجتنى من الشوك العنب.
(وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وَقَالَ {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالْعَدْلِ، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}).
هذه أيضًا كان بعض السلف يرددها، ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾[الجاثية:21]، اجترحوها يعني عملوها وكسبوها ﴿أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[الجاثية:21]، لا يمكن أن يكون هؤلاء كهؤلاء، الذين يعملون السيئات والمعاصي والكفر مثل الذين يعملون الطاعات والإيمان والتوحيد، لا يمكن أن يكون سواء، ظنوا أن الله يجعلهم سواء في الحياة وفي الممات، ساء ما يحكمون، ساء هذا الحكم، فالله تعالى لا يساوي بينهم، الذين اجترحوا السيئات لهم العاقبة السيئة، والذين عملوا السيئات لهم العاقبة الحميدة، والجزاء من جنس العمل.
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾[الجاثية:22]، بالعدل ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾[الجاثية:22]، خلق الله السماوات والأرض بالعدل، السماوات والأرض قامت بالعدل، وليجزي الله كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وهم لا يظلمون، فالله تعالى نفى عن نفسه الظلم، قال: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾[غافر:17]، ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾[الجاثية:22].
الطالب: قال ابن إسحاق رحمه الله في السيرة: وزعم ليث ابن أبي سليم أنهم وجدوا حجرًا في الكعبة قبل مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأربعين سنة، إن كان ما ذكر حقًا مكتوبًا فيه: من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًا يحصد ندامة، تعملون السيئات، وتجزون الحسنات، أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.
الشيخ: نعم، هذا استقام، لا يجتنى من الشوك العنب، فكذلك السيئات جزاؤها السوء، والحسنات جزاؤها الإحسان.
خلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت من خير وشر وهم لا يظلمون، فالله تعالى يجزيهم بأعمالهم.
(ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ: إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رَآهُ قَبِيحًا تَرَكَهُ: وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ).
المعتزلة يجعلون العقل مشرع، وغالوا فيه، الحسن ما رآه العقل حسنًا، والقبيح ما رآه قبيح، وقالت الأشاعرة: التحسين والتقبيح من جهة الشرع فقط، الشرع هو الذي يحسن ويقبح، والعقل ما يعرف شيء، درويش، ما يفهم شيء، عكس المعتزلة، المعتزلة قالوا: العمدة على العقل حتى غالوا في العقل وقال بعض المعتزلة في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، قالوا: الرسول العقل، غالوا في العقل، وقالوا: العقل هو الذي يحسن ويقبح، ما رآه العقل حسنًا فهو حسن، وما رآه العقل قبيح فهو قبيح، قابلتهم الأشاعرة فقالوا: الذي يحسن ويقبح الشرع، وأما العقل فليس له نصيب، ولا يعرف شيء العقل، وأهل السنة قالوا: التحسين والتقبيح يكون بالشرع والعقل، ولكن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن العقل قد لا يدرك الشيء على استقلاله، وإنما يدرك الأمور مجملة، والتفاصيل لا يعرفها، والغايات كذلك، إنما تكون بالشرع، أما العقل لا يغالى فيه، له تحسين وتقبيح، ولكن ليس له استقلال، وكذلك الشرع، فقول المعتزلة غلط، وقول الأشاعرة غلط، ويرد عليهم بهذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾[الجاثية:23]، يعمل بهواه، يعمل بالعقل، هذا عمل بالهوى.
(وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ:
أحدها: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَلَا يَنْعَكِسُ.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أَيْ: فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} كَقَوْلِهِ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَعْرَافِ: ١٨٦]).
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾[الجاثية:23]، من يتخذ إلهه هواه يعني يعمل بهواه، وأضله الله على علم، على علم أنه مستحق لذلك، أو أضله الله على علم أي: إنما أضله من بعد العلم، بعد ما جاءه العلم ولم يقبله أضله الله، والثاني مستلزم للأول، مستلزم أي: إذا أضله الله بعد بلوغ العلم أي: لعلم الله له أنه ليس أهلًا لغرس كرامة الله، وختم على قلبه وسمعه نسأل الله العافية، والختام أمر معنوي يمنعه من قبول الحق، وسماع الحق، وجعل على بصره غشاوة، كذلك أمر يمنعه من رؤية الحق، والعمل بالحق، نسأل الله السلامة والعافية، أفلا تذكرون: أفلا تعتبرون أن الأمر بيد الله، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو المتصرف في عباده وفق حكمته، ويجازي كلًا بعمله، ويوفق من أراد الحق، والعمل به، ويخذل من أراد الباطل ولم يقبل الحق، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾[الجاثية:23].
({وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦)}.
الأحسن يستعيذ إذا كانت قراءة، أما إذا كان استشهاد يستشهد بالآية في أثناء الكلام أو في الخطبة أو في تفسير الآية فلا يحتاج، النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يستشهد بالآيات ولا يستعيذ، لكن إذا كانت قراءة آيات يستشهد، يستعيذ، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[النحل:98]، أما آية يستشهد بها أو يقرأها أو يستدل بها ما يحتاج أن يتعوذ.
الطالب: [00:30:17]
الشيخ: يقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليست أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من القرآن، ولكنه مأمور بها.