بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالديه، ولوالدينا وللمسلمين.
المتن:
قال الشيخ محمد بن خليل هراس –رحمه الله تعالى- في (شرح العقيدة الواسطية): ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا يدلُّ عَلَى تَمَامِ مُلْكِهِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ، فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَقَدْ تضمَّن هَذَا النَّفْيُ.
الشيخ:
وهذا من تمام مُلك الله –عز وجل- أنه لا يشفع أحد إلا بإذنه؛ بخلاف المخلوق؛ فإنه يُشفع عنده حتى لو كان رئيسًا أو ملكًا؛ يُشفع عنده بغير إذنه. أما الله؛ فلا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]، ولأن الله -تعالى- هو المالك لها: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]. نعم.
المتن:
فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
الشيخ:
ولا تُسأل الشفاعة في الآخرة من غير الله، ما تسألها نبيًّا ولا غيره؛ تقول: يا رسول الله، اشفع لي، ولا يا فلان، اشفع لي. وإنما تقول: اللهم شفِّع فيَّ نبيَّك. لأن هذا من دعاء غير الله، فلا يُسأل أحد الشفاعة، فلا تقل: يا رسول الله، اشفع لي. ولكن الحي الحاضر القادر يُطلب منه، أما الميت والغائب فلا تُطلَب منه الشفاعة، نعم.
المتن:
وَقَدْ تضمَّن هَذَا النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا تَقَعُ بِإِذْنِهِ –سُبْحَانَهُ- لِمَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ.
وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الشَّفَاعَةِ الشركيَّة الَّتِي كَانَ يَعْتَقِدُهَا الْمُشْرِكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ سَعَةَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالْمَاضِيَةِ.
وَأَمَّا الْخَلْقُ فَإِنَّهُمْ ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾[البقرة:255]؛ قِيلَ: يَعْنِي مِنْ مَعْلُومِهِ. وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾[البقرة:255]–سُبْحَانَهُ- أَنْ يُعْلِمَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِنْتَاجِ وَالتَّجْرِبَةِ.
الشيخ:
هذا الكلام في شرح آية الكرسي، وأنها مشتملة على النفي والإثبات، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]، فالله -تعالى- وصف نفسه بصفات النفي والإثبات.
والنفي؛ الصفات السلبية إنما تكون كمالًا؛ لإثبات ضدها من الكمال، ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البقرة:255]؛ لكمال حياته وقيوميته، ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البقرة:255]؛ لكمال قوته وقُدرته، دخل في ذلك سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1] التي تعدل ثلث القرآن، وآية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن، ومنه قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾[البقرة:255]؛ وهذا يدل على سعة علمه. نعم.
المتن:
ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ مُلْكِهِ، وَوَاسِعِ سُلْطَانِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كرسيَّه قَدْ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ جَمِيعًا. وَالصَّحِيحُ فِي الْكُرْسِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ.
الشيخ:
كما صح ذلك عن ابن عباس –رضي الله عنهما-. قال بعض العلماء: الكرسي هو العرش. وهذا قول مرجوح، وأما ما روي عن ابن عباس أن الكرسي هو العلم؛ هذا باطل، لا يصح. نعم.
المتن:
وَأَنَّهُ فِي الْعَرْشِ كحلْقة مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ. وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
الشيخ:
الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، والسماوات بالنسبة للكرسي أيضًا كحلقة في فلاة، وهذه مخلوقات؛ مخلوقات عظيمة، والخالِق أعظم وأعظم –سبحانه وتعالى-. نعم.
المتن:
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكُرْسِيِّ بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يصحُّ ، وَيُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ فِي الْآيَةِ.
الشيخ:
(وَيُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ فِي الْآيَةِ)، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البقرة:255]؛ وسع علمه!، ولا يصح؛ لأن علم الله لا يحاط به، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾[طه:110]. نعم.
المتن:
ثُمَّ أَخْبَرَ –سُبْحَانَهُ- بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَكَمَالِ قُوَّتِهِ بقوله: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البقرة:255]؛ أَيِ: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا.
وَفَسَّرَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى- ﴿يَئُودُهُ﴾[البقرة:255] بـ(يُثْقِلُهُ ويُكْرِثُه).
الشيخ:
ويُكْرِثُه ويثقله؛ يعني لا يشق عليه –سبحانه وتعالى-؛ كل شيء هيِّن عليه. نعم.
المتن:
وَهُوَ مِنْ آدَهُ الْأَمْرُ: إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ.
الشيخ: يئوده، آد، يئود؛ هذا الاشتقاق، (آدَهُ الْأَمْرُ: إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ). وهذا منفي، ﴿وَلا يَئُودُهُ﴾[البقرة:255]؛ يعني لا يثقله، ولا يشق عليه –سبحانه وتعالى-. نعم.
المتن:
ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ –سُبْحَانَهُ- فِي خِتَامِ تِلْكَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ؛ وَهُمَا: ﴿الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة:255]، فالعلي هُوَ الَّذِي لَهُ العلوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ:
عُلُوِّ الذَات، وَكَوْنِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ.
وَعُلُوِّ القَدْر؛ إِذْ كَانَ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَعْلَاهَا وَغَايَتُهَا.
وَعُلُوِّ القَهْر؛ إِذْ كَانَ هُوَ الْقَاهِرَ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
وَأَمَّا الْعَظِيمُ؛ فَمَعْنَاهُ الْمَوْصُوفُ بِالْعَظَمَةِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَلَا أَجَلُّ، وَلَا أَكْبَرُ، وَلَهُ –سُبْحَانَهُ- التَّعْظِيمُ الْكَامِلُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَصْفِيَائِهِ.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-.
الشيخ:
العلو ثلاثة أنواع: علو الذات، وعلو القدْر، وعلو القهر؛ علو القدر والشأن، وعلو القدر والسلطان. وقد وافق أهل البدع على نوعين من العلو، وافقوا على علو القدْر والشأن، وعلو القهر والسلطان، وأنكروا علو الذات، قالوا: ليس له (00:07:28)، إما في كل مكان، سلكوا أحد مسلكين: إما في كل مكان. وهذا القول بالحلول. والعياذ بالله، أو نفي (00:07:38) بالنقيضين. وكلاهما كفر وضلال.
قال: والعلي علي قهرًا وسلطانًا، وقدْرًا وشأنًا. أما ذاته ففي كل مكان. –نعوذ بالله-.
الطالب: الكرسي والعرش؛ هل هما واحد؟
الشيخ: لا، الصواب أنهما شيئان، ورد عن ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين، قال: والكرسي موضع القدمين، والعرش لا يعرف قدره إلا الله. وكذا في الحديث الذي ورد أن نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة في فلاة. دليل على أنهما شيئان. نعم.
المتن:
وقوله -سبحانه-: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3]، وقوله -سبحانه-: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58].
الشيخ: ماذا؟ أعد. قال شيخ الإسلام.
المتن:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: وقوله -سبحانه-: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3]، وقوله -سبحانه-: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58].
قال الشيخ محمد –رحمه الله-: قوله: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾[الحديد:3]؛ الْجُمْلَةُ هُنَا جَاءَتْ مُعَرَّفَةَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَهِيَ تُفِيدُ اخْتِصَاصَهُ –سُبْحَانَهُ- بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَعَانِيهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ.
الشيخ:
الأسماء الأربعة متقابلة، الأول والآخر متقابلان لأوليته وأزليته، واسمان متقابلان لعلوه، وعدم حجب شيء من المخلوقات له؛ الظاهر والباطن، وقد فسَّر النبي هذه الأسماء الأربعة في القرآن الكريم، ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحديد:3].
وجاء في الحديث الصحيح تفسير هذه الأسماء الأربعة، تفسير الأول بأنه الذي «ليس قبله شيء»، والآخر الذي «ليس بعده شيء»، والظاهر الذي «ليس فوقه شيء»، والباطن الذي «ليس دونه شيء»؛ هذا تفسير النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح في دعاء الاستفتاح: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأغْنِني مِنَ الْفَقْرِ».
الله -تعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، في الحديث جاء: «كان الله ولم يكن شيء قبله»، وقد أنكر الفلاسفة أن يكون الرب -سبحانه- هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكفروا بذلك، فقالوا: إن العالَم مقارن للرب، وليس متقدِّمًا عليها، وقالوا: إن هذه المخلوقات لازمة للرب، لا ينفكُّ عنها. فلم يُثبتوا أن الله -تعالى- خلق المخلوقات بقدرته ومشيئته. قالوا: إنها لازمة للرب كلزوم الضياء للسراج.
وكذلك أيضًا أهل البدع وأهل الكلام أنكروا أن يكون الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيئًا، بل أنكروا أن يكون الله فوق المخلوقات.
والشيخ –رحمه الله- يقول: إن قول أهل البدع؛ إنكارهم أن يكون الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء مثل إنكار الفلاسفة أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. فالأمر خطير؛ لأن هذا قد يؤدي إلى الكفر؛ كما أن الله -تعالى- هو الذي سبق كل شيء فكذلك هو الله الذي فوق كل شيء، فمن أنكر أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء مثل من أنكر أن يكون الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء.
هذا إنكار أهل البدع لعلو الله –عز وجل- مثل إنكار الفلاسفة لأوليته. وهذا أمر خطير -نسأل الله السلامة والعافية- يؤدي إلى الكفر والضلال. نعم.
المتن:
فَلَا يُثْبَت لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَدِ اضْطَرَبَتْ عِبَارَاتُ المتكلِّمين.
الشيخ: أعد. قال: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾[الحديد:3].
المتن:
قال: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾[الحديد:3]؛ الْجُمْلَةُ هُنَا جَاءَتْ مُعَرَّفَةَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَهِيَ تُفِيدُ اخْتِصَاصَهُ –سُبْحَانَهُ- بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَعَانِيهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَلَا يُثْبَت لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَدِ اضْطَرَبَتْ عِبَارَاتُ المتكلِّمين فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَا دَاعِيَ لِهَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ بَعْدَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهَا عَنِ الْمَعْصُومِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ: «اللهمَّ ربَّ السماواتِ السَّبْعِ، وربَّ الأرضِ، ربَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأغْنِني مِنَ الْفَقْرِ».
فَهَذَا تَفْسِيرٌ واضحٌ جامعٌ يدلُّ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ –سُبْحَانَهُ-.
وَأَنَّهُ محيطٌ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَالْأَوَّلُ وَالْآخِرُ بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ الزَّمَانِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ الْمَكَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّ اسْمَهُ الظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْعَالِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَلَا شَيْءَ مِنْهَا فَوْقَهُ.
فَمَدَارُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْإِحَاطَةِ، فَأَحَاطَتْ أوَّليَّتُهُ وآخريَّتُهُ بِالْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ، وَأَحَاطَتْ ظاهريَّتُه وباطنيَّتُهُ بِكُلِّ ظاهرٍ وباطنٍ، فَاسْمُهُ الْأَوَّلُ دالٌّ عَلَى قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ، وَاسْمُهُ الْآخِرُ دالٌّ عَلَى بقائِهِ وأبديَّتِه، وَاسْمُهُ الظَّاهِرُ دالٌّ عَلَى علوِّه وَعَظَمَتِهِ، وَاسْمُهُ الْبَاطِنُ دالٌّ عَلَى قربِه ومعيَّتِه.
ثُمَّ خُتِمَت هذه الْآيَةُ بِمَا يُفِيدُ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمِنَ الْعَالَمِ العُلوي والسُّفلي، وَمِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْجَائِزَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، فَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذرَّة فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
فَالْآيَةُ كُلُّهَا فِي شَأْنِ إِحَاطَةِ الرَّبِّ –سُبْحَانَهُ- بِجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّ الْعَوَالِمَ كُلَّهَا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ؛ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ الْعَبْدِ، لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَتَى بَين هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ وَتَقْرِيرَهُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِمَجِيئِهَا بَيْنَ أَوْصَافٍ مُتَقَابِلَةٍ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ اسْتِبْعَادُ الِاتِّصَال بِهَا جَمِيعًا، فَإِنَّ الْأَوَّلِيَّةَ تُنَافِي الْآخِرِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ.
الشيخ:
بارك الله فيك، يعاد إن شاء الله في الدرس القادم الكلام على الأسماء الأربعة.
وفَّق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع، والعمل الصالح.