شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_5

00:00
00:00
تحميل
73

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

 قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

(ويحتج الربّ -سبحانه- عليهم بتوحيدهم ربوبيّته على توحيد ألوهيّته، كما قال الله - تعالى -: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل:59/60]، وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾؟، فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهيّة لا الربوبيّة، على أن منهم من أشرك في ربوبيته كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى، وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهيّة بإثباتهم الربوبيّة)

بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويحتج الربّ -سبحانه- عليهم بتوحيدهم ربوبيّته على توحيد ألوهيّته)، المعنى: أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، فلما أقروا بذلك احتج الله عليهم، وألزمهم بتوحيد الألوهية، كما في سورة النمل، كما قال الله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل:59]، ثم قال سبحانه: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل:60]، هذا توحيد ربوبية، هذا يقرون به، ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ﴾ يقرون بأنه هو الله، ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، يقرون بأنه الله، ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ ،المنبت هو الله، منبت النبات، وهو منزل المطر، ثم احتج عليهم فقال: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾، يعني: كيف تجعلون مع الله إلهًا؟ وأنتم تقرون بأنه الرب، وبأنه الخالق، وأنه منزل المطر، وبأنه منبت النبات ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾، يعدلون مع الله غيره، يشركون غيره به في المحبة والتعظيم.

قال المؤلف: (وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾) يعني: في نفس السورة، قال بعدها: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ الله﴾ [النمل:61]، هم يقرون بهذا، يقرون بأنه الذي جعل الأرض قرارًا، وهو الذي جعل خلالها أنهارًا، وهو الذي جعل لها رواسي، وهو الذي جعل بين البحرين حاجزًا، ثم احتج عليهم فقال: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾.

والآية الأخرى التي بعدها قال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ﴾ [النمل:62]، له كل هذا، هو الذي يجيب المضطر، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يجعلكم خلفاء الأرض، ثم قال: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾.

ثم قال: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل:63]، يقرون بأنه هو الذي يهديهم في ظلمات البر والبحر، وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته، احتج عليهم بذلك على توحيد الألوهية.

﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [النمل:64]، يقرون بهذا، الله هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو الذي يرزق من السماء والأرض، ثم قال: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾، يعني: تشركون معه إلهًا وأنتم تقرون بأنه هو الفاعل، الفاعل لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، كيف تقرون بأنه خلق السماوات والأرض؟ وبأنه كذا، وبأنه يهدي في ظلمات البر والبحر، وبأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، ثم تعبدون معه إلهًا غيره، الفاعل لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.

ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: (وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾)

قال المؤلف -رحمه الله-: (فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهيّة لا الربوبيّة)، يتوقفون يعني لا يثبتون توحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية لا يتوقفون به، بل يثبتونه ما عندهم إشكال، الإشكال عندهم في أي شيء؟ في توحيد الإلهية، فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهية لا الربوبية.

قال المؤلف -رحمه الله-: (على أن منهم من أشرك في ربوبيته كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى)، يعني قد يوجد الشرك في الربوبية لكن قليل، (على أن منهم من أشرك في ربوبيته)، لكن الغالب أنهم موحدون في الربوبية، لكن قد يوجد منهم من يشرك في توحيد الربوبية؛ كأن يقول: مطرنا بنوء كذا، أو بنجم كذا، كما في حديث خالد الجهني أنه قد صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء من الليل -يعني: مطر-، قال: «أتدرون ماذا قال ربكم الليلة»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»، فالذي يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، يعني: بنجم كذا وكذا أشرك في الربوبية، هذا يوجد مشركين، لكنه قليل.

كذلك كان بعض المشركين يعتقد أن روح الميت، أن الميت إذا مات تخرج روحه فتصير هامة فتطير، وأنها تنصر من دعاها، وتحمي من لاذ بحماها، فهذا نوع من شرك الربوبية، لكن هذا قليل، ومثل ما سيذكر المؤلف بعد ذلك شرك الاتحادية، وشرك التعظيم شرك فرعون، وشرك الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم، كل هذا شرك في الربوبية كما سيذكر المؤلف -رحمه الله-، لكن الغالب أن الشرك إنما هو في توحيد الألوهية، وأن الشرك في الربوبية قليل.

قال المؤلف -رحمه الله-: (وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهيّة بإثباتهم الربوبيّة)، يعني: هذا هو الغالب، الغالب أن الله تعالى يحتج على منكر الإلهية بإثباتهم الربوبية؛ لأن عامة المشركين هم هذا، عامة المشركين أثبتوا توحيد الربوبية فلهذا احتج عليهم، احتج على منكر الإلهية بأنه مثبت لتوحيد الربوبية، وإن كان يوجد منهم من ينكر توحيد الربوبية لكنه قليل، مثل قوله تعالى في أول الأوامر في القرآن الكريم الأمر بالتوحيد، وأول النواهي في القرآن الكريم النهي عن الشرك.

 في الثمن الأول من أول سورة البقرة قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:21]، هذا أول أمر في القرآن، أول أمر في القرآن هو هذا، أمر بالتوحيد، ثم قال بعد ذلك: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا﴾ [البقرة:22]، هذا نهي عن الشرك، أول نهي في القرآن النهي عن الشرك.

إن الله -تعالى- ذكر في أول سورة البقرة، الفاتحة هي أول القرآن ثم البقرة، ذكر الله في أولها الأصناف الثلاثة: المؤمنون ظاهرًا وباطنًا ذكرهم في أربع آيات، والكفار ظاهرًا وباطنًا ذكرهم في آيتين، والمنافقون الذين هم مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن في ثلاث عشرة آية، ثم جاء بعدها الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:21]، هذا أمر بتوحيد العبادة، ثم جاء الدليل، الدليل: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة:21/22].

 هذه كلها توحيد ربوبية، يقرون به، يقرون بأن الله هو الذي خلقهم، ويقرون بأن الله خلق من قبلهم، ويقرون بأن الله هو الذي جعل الأرض فراشًا، وهو الذي جعل السماء بناءً، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي أخرج به من الثمرات رزقًا للعباد، هذا يقرون به، يحتج عليهم بهذا، اعبدوا ربكم، الذي فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، الذي خلقكم، والذي كذا، والذي كذا هو المستحق للعبادة فاعبدوه، ثم قال بعدها: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا﴾ [البقرة:22]، يعني: أمثالًا ووزراء، وهذا هو الشرك.

ولهذا أول الأوامر في القرآن: الأمر بالتوحيد، وأول النواهي: هو النهي عن الشرك، وأوجب الواجبات، وأفرض الفرائض التوحيد، وأعظم المحرمات، وأغلظها، وأشدها هو الشرك، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: (وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهيّة بإثباتهم الربوبيّة)، نعم.

(والملك: هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيّته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون، فإن الملك هو الآمر الناهي، المعطي المانع، الضار النافع، المثيب المعاقب)

نعم الملك، والملك من أسماء الله تعالى، كما في سورة الناس: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ [الناس:2]، وكما في سورة الفاتحة: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] قراءة، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، وفي قراءة: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ [الناس:2]، قال سبحانه: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر:23]، وفي الفاتحة خص: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، قرأ حفص: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، وملك أبلغ من مالك، ملك أبلغ من مالك؛ لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملك.

فإذن ملك ومالك من أسماء الله، لكن مالك أبلغ؛ لأن كل ملك فهو مالك، وليس كل مالك ملك، كل ملك لا بد أن يملك شيئًا، الملك لا بد له من شيء، وهذا نادر أن يكون ملك ولا يملك شيئًا، وأما المالك قد يملك الشيء ولا يكون ملكًا، ما يلزم أن يكون ملكًا.

(والملك: هو الآمر الناهي)، والله تعالى هو الملك، من أسماءه الملك، والآمر الناهي: هو الذي فسره المؤلف قال: (والملك: هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيّته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون)، فالإيمان باسم الملك فيه إثبات الربوبية، وإثبات الألوهية، إذا آمنت بأن الله هو الملك معناه أنك وحدت الله في ربوبيته، ووحدت الله في أسماءه وصفاته؛ لأنه من أسماء الله، ووحدت الله في ألوهيته؛ لأن الله هو الآمر الناهي، لا يمكن أن يكون ملك إلا آمر ناهي، والله تعالى هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدى، لا يمكن أن يخلق خلقه ويتركهم سدى معطلين، لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون في الآخرة، أنكر الله على من ظن ذلك، قال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون:115]، يعني أن الله خلقكم للعبث لا تؤمرون ولا تنهون في الدنيا، ولا تثابون ولا تجازون في الآخرة لا يمكن، ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة:36].

فالله -تعالى- من أسماءه الملك، والملك هو الآمر الناهي، والآمر الناهي لا يترك خلقه عبثًا مهملين، لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يثابون، ولا يعاقبون في الآخرة، بل يأمرهم سبحانه بتوحيده، وأداء حقه، والقيام بأمره، وينهاهم عن الشرك به، ومعصيته، ثم يجازيهم في الآخرة، يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، هذا هو الملك، ولا يمكن أن يكون ملك هكذا بالاسم.

 هذا الاسم يحمل هذا المعنى، الملك هو الآمر الناهي، أما الملك الذي له مجرد الاسم مثل؛ بعض ملوك بني العباس، أو الملوك المتأخرين الذين سيطر عليهم بعض الطوائف، وصار ليس له إلا الاسم، ويدعى له في الخطب، ويكتب اسمه في النقود، وليس له أمر ولا نهي، ولا تأثير، هذا لا قيمة له، الملك لا بد أن يكون آمر، ناهي، له أمر يطاع، وله نهي ينتهى عنه، ويعاقب، ويحاسب، ويجازي، هذا كله مأخوذ من اسم الملك، والله تعالى من أسماءه الملك، (هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيّته ويتركهم سدى)، فسر سدى بمعنى: (معطلين لا يؤمرون ولا ينهون)، يعني: في الدنيا، (ولا يثابون ولا يعاقبون) في الآخرة، قال: (فإن الملك هو الآمر الناهي، المعطي المانع، الضار النافع، المثيب المعاقب).

كل هذه أوصافه -سبحانه وتعالى-: (الآمر الناهي، المعطي المانع، الضار النافع، المثيب المعاقب)، هذه من الأسماء المزدوجة: التي لا يفصل أحدها عن الآخر، (المعطي المانع)، ما تقول: الله المانع وتسكت، لا بد أن تقرنها بالمعطي، هي أسماء مزدوجة، ولا تقول: من أسمائه الضار وتسكت، (الضار النافع)، المعطي المانع، الضار النافع، القابض الباسط، الخافض الرافع، ما تقول من أسماءه الخافض وتسكت، كما قال ابن القيم:

وهي الأسماء مزدوجة في فصلها خطر على الإنسان

يعني: لا تفصل الأسماء المزدوجة، الضار النافع سواء، المعطي المانع، الآمر الناهي، القابض الباسط، الخافض الرافع، وبذلك يكون مستحق للعبادة، الملك هو المستحق للعبادة، الله تعالى له الملك التام، وهذا ليس من الأسماء المشتركة كما سبق، أسماء الله قسمان: قسم مشترك، وقسم خاص به، هذا من الأسماء المشتركة: الملك،  ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ [يوسف:50]، لكن الله تعالى له الملك التام، والمخلوق له الملك الناقص، وهو الذي سبحانه يعطي الملك من يشاء من عباده، وينزعه ممن يشاء؛ لحكمة بالغة، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:26].

فالملك التام: هو ملك الله عز وجل، ولهذا يوم القيامة، يقول الله تعالى بعد فناء الخلائق: «لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه سبحانه وتعالى: لله الواحد القهار».

قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]: يوم الجزاء والحساب، ومالك الدنيا والآخرة، لكن في يوم الدين تنتهي الأمانات، ليس هناك لأحد ملك، ولا تصرف، أما في الدنيا يوجد، يوجد ملوك، ويوجد رؤساء، ويوجد أغنياء، وفقراء، وأسياد، وعبيد، لكن في يوم القيامة ما يوجد إلا الله، لا مالك إلا الله، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة:4]، ما يوجد مالك إلا الله، ولهذا خص بالجزاء، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]: يوم الجزاء والحساب، وإلا فهو مالك الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، نعم.

(ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ والملك والإله، فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لَمّا خلقهم هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟، قيل: نعم، فجاء: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، فأثبت الخلق والأمر ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾ ، فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربا موجدًا، وملكا مكلفا، فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر، قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ أي: مألوههم ومحبوبهم، الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلّف العابد إلا له، فجاءت الإلهيّة خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها).

هذا كلام عظيم نقله المؤلف -رحمه الله- من مدارج السالكين لابن القيم، والكلام السابق نقله من بدائع الفوائد، المؤلف رحمه الله لما بين أن الملك هو الآمر الناهي، قال: (ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ والملك والإله)، فقال سبحانه: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس:1/3]، استعاذة بالرب والملك والإله.

الرب اسم الله، والملك اسم الله، والإله اسم الله، ولذلك فالرب إذا عُرِّف بـ(أل) لا يطلق إلا على الله، وكذلك الإله إذا عُرِّف بـ(أل) لا يطلق إلا على الله، فيكون من أسماء الله، ويعبد له، يقال: عبد الإله، عبد الرب، أما إذا حذف (أل) يكون مشترك، رب الدار، رب الإبل، قال عبد المطلب: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، فإذا جاءت (أل) صار خاص بالله، الرب هو الله، وكذلك الإله، كلمة إله اسم جنس، كالدابة والفرس، الإله اسم جنس، أصل الإله اسم من أسماء الأجياد؛ كالدابة والفرس، يطلق على كل معبود بحق أو باطل، والإله، كلمة إله اسم جنس كالدابة والفرس، يطلق على كل معبود بحق أو باطل، ثم خصص على الإله الحق، فلا يطلق إلا على الله، فإذا قيل: الإله خاص بالله، وأما إذا نُكِّر الإله فهو اسم جنس، اسم جنس شامل لكل معبود، ومثله الرب عند المحققين إذا عُرِّف بـ(أل) لا يطلق إلا على الله، فإذا نكر رب صار اسم جنس لكل مالك، مثل رب الدار ورب الدابة وغيرهم.

قال المؤلف -رحمه الله-: (ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة) في سورة الفلق: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق:1/5].

وفي سورة الناس جاءت الاستعاذة بالأسماء الحسنى الثلاثة: الرب، والملك، والإله، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس:3]، وهذه الربوبية والألوهية اجتمعا الآن، رب وإله، إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى.

الرب والإله، الربوبية والألوهية إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ مثل: الإيمان والإسلام، مثل: البر والتقوى، مثل: الفقير والمسكين، هذه إذا أطلق واحد منها دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، فالإسلام إذا أطلق يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، والإيمان إذا أطلق يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا -كما في حديث جبريل- صار الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان في الأعمال الباطنة، فإن جبريل لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم، جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الخمس: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ومنه البر والتقوى، البر إذا أطلق يشمل أداء الفرائض، وترك المحارم، والتقوى كذلك، وإذا اجتمعا فسر البر بأداء الواجبات والتقوى بترك المحرمات، وكذلك الرب إذا أطلق يشمل الربوبية والألوهية، وكذلك الإله، وإذا اجتمعا فسر الرب بتوحيد الربوبية، والإله بتوحيد الألوهية، كما في هذه السورة اجتمعا، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس:1]، يعني: مربيهم وخالقهم وقائم بمصالحهم، إله الناس يعني: معبودهم، اجتمع الإله والمعبود، والرب هو الخالق المدبر، وإذا أطلق الرب دخل فيه مع الإله، وكذلك الإله.

قال المؤلف رحمه الله: (ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ والملك والإله، فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم)، الرب: هو المربي، الخالق، المربي، القائم بتربيتهم، ومصالحهم، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس:1]، هنا في إثبات أنه الخالق وفاطرهم، فبقي أن يقال: لما خلقهم، هل كلفهم؟ وأمرهم، ونهاهم، قيل: نعم، فجاء ﴿ملك الناس﴾، فملك هو الآمر والناهي، المكلف، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، خالقهم، وفاطرهم، ومربيهم بنعمه، والقائم بتربيتهم، ثم قال: ﴿ملك الناس﴾ يعني لما خلقهم أمرهم ونهاهم وكلفهم؛ لأن الملك هو الآمر الناهي، المكلف، ولهذا قال: (فبقي أن يقال: لَمّا خلقهم هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟، قيل: نعم، فجاء: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، فأثبت الخلق والأمر ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾

حتى في أي شيء؟ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾: رب الناس وخالقهم وفاطرهم، ﴿مَلِكِ النَّاسِ ﴾: هذا الأمر.

أثبت الخلق في قوله: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وأثبت الأمر في قوله: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾.

وأثبت العبادة في قوله: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس:3]، ولذا قال: (فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربا موجدًا، وملكًا مكلفًا، فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾) إذا كان ربًا موجدًا: هذا كلامه ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وملكًا مُكلفًا: يقول: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾.

(فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟) الغاية من خلقهم وأمرهم ما هو؟ التوجه إليه، التوجه إلى الله في المحبة والتعظيم والرغبة إليه.

(فهل يُحب ويُرغب ويكون التوجه إلى غاية الخلق والأمر؟ قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾)

﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ معناه مألوههم، ومحبوبهم الذي لا يتوجه العبد المخلق المُكلف العابد إلى له، هذا معنى ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾، إله بمعنى مألوه، فعِّال بمعنى مفعول، إله بمعنى مألوه، ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ يعني مألوههم ومحبوبهم الذي لا يتوجه العبد المخلوق المُكلف العابد إلى له.

قال المؤلف: (فجاءت الإلهيّة خاتمةً وغايةً): خاتمة لأي شيء؟ للأسماء الثلاثة:

  1. ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾
  2. ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾
  3.  ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾.

الخاتمة: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾، (جاءت الإلهية خاتمة وغاية وما قبلها كالتوطئة لها)، قبلها كالتوطئة تمهيد.

﴿ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ خالقهم وفاطرهم، ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ آمرهم وناهيهم، جاءت الغاية معبودهم، هو معبودهم وإلههم.

  • ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ خالقهم وفاطرهم وموجدهم ورازقهم.
  • ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ الذي يأمرهم وينهاهم.
  • ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ هو مُستقبل عباده الذي يعبدونه ويألهونه.

(وهاتان السورتان أعظم عوذة في القرآن وجاءت الاستعاذة بهما وقت الحاجة إلى ذلك وهو حين وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، وأقام على ذلك أربعين يومًا، كما في الصحيح، وكانت عقد السّحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوّذتين إحدى عشرة آية، فانحلّت بكلّ آيةٍ عقدةٍ.

وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله، وهو المعبود وحده، لاجتماع صفات الكمال فيه، ومُناجاة العبد لهذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العُليا، المرغوب إليه؛ في أن يُعيذ عبده الذي يُناجيه بكلامه من الشيطان الحائِل بينه وبين مناجاة ربّه.

ثم استحب التعليق باسم الإله في جميع المواطن).

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وهاتان السورتان أعظم عوذة في القرآن) يعني أعظم رُقية يرقي بها أو يُتعوَّذ بها هاتان السورتان.

سبق أن المؤلف -رحمه الله- بيَّن أن الاستعاذة جاءت في سورة الناس وفي سورة الفلق وسورة الأعراف الأسماء الحسنى الثلاثة: "الرب والملك والإله".

فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ كان هذا في صفات الخالق، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾   يعني خالقهم وفاطرهم.

ثم لمَّا ثبت عند المُخاطبين أن الله خلقهم وفطرهم تشوفت في النفوس إلى أن هذا الخالق، هذا الذي خلقهم وفطرهم هل كلفهم وأمرهم ونهاهم؟

وقال الله: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ والملك هو الآمر والناهي، كما قال الله -تعالى-: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف:54].

فلمَّا قيل ذلك تشوفت النفوس إلى أن هذا الرب الموجِد الملك المُكلف، هل يُحب ويُرغب إليه وحده دون غيره ويكون التوجه إليه هو غاية الخلق والأمر؟

فقيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ أي مألوههم ومحبوبهم الذي لا يتوجه العبد المخلوق المُكلف العابد إلا له.

(فجاءت الإلهية -كما قال المؤلف رحمه الله- خاتمة وغاية وما قبلها كالتوطئة لها)

﴿بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ﴾ توطئة، هذه توطئة، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ يعني خالقهم وفاطرهم، ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾: مُكلفهم والآمر لهم والناهي لهم، ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾: معبودهم ومألوههم ومحبوبهم.

قال المؤلف -رحمه الله-: (وهاتان السورتان أعظم عوذة في القرآن) عوذة هنا رُقية، يتعوذ بها المسلم.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعوِّذ الحسن والحُسين ابني فاطمة من عين الجنس والجان، فلمَّا نزلت هاتان السورتان أخذ بهما وترك ما سواهما.

 قال المؤلف -رحمه الله-: (أعظم ما يُتعوذ به وأعظم ما يُرقى به هاتان السورتان) وكذلك الفاتحة، الفاتحة رُقيةٌ عظيمة، وتدل على ما ثبت في الصحيحين قصة الصحابة الذين رقى أحدهم سيد قومٍ من العرب حين لُدِغ، لدغته العقرب والتمسوا له الأطباب ولم يستفد شيء وجعل يرقيه بفاتحة الكتاب، جعل يشد العضو ويقرأ فاتحة الكتاب؛ فصار السُم يسير ويخرج، وهو لا يقرأ إلا الفاتحة، يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]؛ جعل السُم يسير فقام الرجل كأن لم يكن به قلبة.

 وكان هذا الرجل من الصحابة لا يُعرف أنه قارئ، فقال له أصحابه: يا فلان، لا نعلم أنك قارئ، ما نعلم أنك تعرف القراءة، قال: والله ما رقيته إلا بأم الكتاب.

 الفاتحة لا بد من حفظها، ركن في الصلاة، قال: والله ما رقيته إلا بأم الكتاب.

إذن القرآن كلهُ يُرقى به، يُرقى بآية الكرسي، يُرقى بفاتحة الكتاب، يُرقى بآخر الآيتين من آخر سورة البقرة، يُرقى بالمعوذتين، يُرقى أيضًا بالتعوذات الشرعية التي جاءت في السُنة، لما جاء في الحديث: «أُعيذُك بكلمات الله التامة من شرِ مَا خلق»، «بسم الله أرقيك من كلِ شيءٍ يُؤذيك ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسد الله يشفيك».

وكذلك مع ما ثبت في سُنن أبي داوود في رقية المريض: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائِك على هذا الوجع» هذا نوع من الرُقية.

ترقي، تقول: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم»، «بسم الله أرقيك من كل شيءٍ يُؤذيك ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسد الله يشفيك»، وهكذا، «أُعيذُك بكلمات الله التامة من شرِ مَا خلق»، «أُعيذُك بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامة ومن كل عين لامة»، كل هذه رقية شرعية، يرقي بكتاب الله وبسنة رسول الله.

ما ورد يرقي في الآيات القرآنية يرقيه بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية، بل يجوز أيضًا أن يرقيه بالتعويذات ولو لم ترد، إذا لم يكن فيها محظور.

الرقية يُشترط فيها شروط لصحتها:

الشرط الأول: أن تموت بكتاب الله أو بسنة رسول الله -صلى اله عليه وسلم- أو بتعوذات لا محظور فيها ولو لم ترد.

الثاني: أن تكون بسانٍ عربي، فإن كان بغير لسان العربي أو بتمتمة فلا يجوز؛ خشية أن تكون التعويذات بأسماء الجن أو أسماء الشياطين، لا بد أن تكون باللسان العربي، باللغة العربية.

الشرط الثالث: أن يُعتقد أنها سبب والسبب بيد الله.

فإن وُجِد هذه الشرط صحت الرقية، تكون الرقية بكتاب الله أو بسنة رسول الله أو بتعوذاتٍ لا محظور فيها ولو لم يرد ولكن الوارد أفضل.

الشرط الثاني: أن تكون لسان عربي باللغة العربية.

 الشرط الثالث: أن يُعتقد أن سبب الشفاء بيد الله.

فإذا وُجِدت هذه الشروط، هذه شروط الرقية الشرعية ولكن الأفضل أن تكون رية بكتاب الله أو بتعوذات التي وردت في السنة كما سبق الأمثلة ومثل ما جاء في الحديث: «إذا  أصاب الإنسان شيء يؤلمه يبل إصبعه ويضعه في التراب ويضعه على المكان الذي يألمُ منه ويقل بسم الله، شُربة أرضنا بريقة بعضنا؛ يُشرب يستقيم له».

هذا أيضًا من الرقية الشرعية، ولكن أعظم رقية -أعظم عوذة كما قال المؤلف -رحمه الله- هاتان السورتين.

أعظم عوذة يُتعوذ بهما هاتان السورتان: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلق﴾.

قال المؤلف -رحمه الله-: (وجاءت الاستعاذة بهما وقت الحاجة إلى ذلك)

يعني أنهم أُنزِلتا وقت الحاجة، أُنزلتا -سورة الفلق وسورة الناس- وقت الحاجة إلى ذلك.

 (وهو حين وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وخُيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، وأقام على ذلك أربعين يومًا، كما في الصحيح، وكانت عقد السّحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوّذتين إحدى عشرة آية، فانحلّت بكلّ آيةٍ عقدةٍ)

أما سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا ثابت في الصحيحين، وأما كونه أقام على ذلك أربعين يومًا فهذا جاء في رواية عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي واية عن هاشم عند أحمد: ستة أشهر.

قال المُحقق: يُمكن الجمع بينهما بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يومًا من استحكامه، ورواية أقام على ذلك أربعين يومًا: روى البُخاري ومسلم، ورواية العقد وأنها إحدى عشرة عُقدة جاءت الرواية ضعيفة، ذكر الفتح 34:55 وسنده ضعيف: أن عدد العُد إحدى عشرة عُقدة، هذا أخذه البيهقي في دلائل النبوة، وكذلك أيضًا جاء عنه بسندٍ آخر عند أبي سعد لكنه مُنقطع.

على هذا تكون رواية إحدى عشرة عقدة سندها ضعيف فلا تصح، وكونه أقام على ذلك أربعين يومًا أيضًا هذا جاء هذا في الصحيح.

وسحر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا ثابت في الصحيحين في رواية عائشة -رضي الله عنها- عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها: "أن النبي سُحِر وكان يُخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله"

والأقرب أن المدة غير طويلة؛ لأنه انفردت عائشة بالرواية -رواية سحر النبي صلى الله عليه سلم- وانفرد بالرواية عنها عروة وانفرد بالرواية عن عروة هشام.

ولو كانت المدة طويلة كما في رواية صهيب ستة أشهر؛ لنُقِل ذلك ورواه غير عائشة، فالأقرب -والله أعلم- أن المدة غير طويلة؛ لأنه مُشتهر، حتى إن خفي على بعض كثير من الصحابة، لكن عائشة روت هذا تدل على مدة قليلة، في رواية أن المدة أربعين يومًا وإن كان قد يُقال أنها شاذة والأقرب أنها مدة يسيرة تقع في رواية أبي غمرة عند أبي إسماعيل أنه أقام أربعين ليلة، وفي رواية صهيب عن هشام ستة أشهر، والأقرب والله أعلم أنها أقل من هذا، انها مدة  قليلة؛ لأنها لو كانت مدة أربعين يوم أو ستة أشهر لنُقِل واشتهر ونقله عدد من الصحابة، قل الزمان ولم يشتهر فانفردت عائشة بالرواية عنه، فهو مدة يسيرة، والله أعلم بمقدارها.

وسحر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت في الصحيحين في حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقد أنكر كثيرٌ من المتكلمين سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنكر كثير من المتكلمين من أهل الكلام، أنكروا سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا:  إن عصمته تُنافي ذلك، كيف يُسحر النبي وهو معصوم؟ كون عفته تُنافي ذلك وتبليغه الرسالة يُنافي ذلك، هو معصم فكيف يُسحر؟

الله -تعالى- قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:67] فعفته تُنافي وقوع السحر عليه، وكذلك تبليغه الرسالة كيف يكون مسحور ويُبلغ الرسالة؟! المسحر لا يُبلغ الرسالة، وكيف أخبر الله عنه أنه معصوم، كيف يكون معصوم ومع ذلك يُسحر وهو معصوم؟! فعصمته تُنافي سحره، تُنافي أن يكون مسحورًا، كما أن تبليغه الرسالة يُنافي ذلك.

وقالوا أيضًا من شُبهتهم: إن القول بسحر النبي صلى الله عليه وسلم يوافق قول المشركين: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان:8].

فقد أنكر الله عليهم، المشركون قالوا: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ساحر، قالوا: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ قالو: محمد مسحور، وقد أنكر الله عليهم ذلك ورد عليهم وقال الله -تعالى-: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء:101] هذا أخبر الله عن فرعون أنه رمى موسى بالسحر وهو باطل، وكذلك المشركين رموا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا، وقد أنكر الله عليهم ورد عليهم ذلك، فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سُحِر لوافق هذا قول المشركين،  وكيف يُنكر الله عليهم ويرد عليهم هذه الشبهة طعنهم للنبي أنه مسحور وتقولون: أن النبي سُحِر؟! هذا يدل على أنه غير مسحور وأن رواية السحر غير صحيحة وغير ثابتة.

لا يُمكن أن يكون مسحور؛ لأنه معصوم، عصمه، قال الله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ولأن السحر يُنافي تبليغ الرسالة والنبوة، كيف يُبلغ الرسالة وهو مسحور، ولأن القول بسحره يُوافق قول المشركين: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ وقد أنكر الله عليهم ورد عليهم ذلك، وكيف يُجاب عن هذه الشُبهة؟

يُجاب على هذه الشُبهة من وجوه:

  • الوجه الأول: أن سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت في الصحيحين من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: النبي سُحِر وصار يُخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، والصحيحان تلقتهما الأمة بالقبول، فهما يُفيدان العلم، الصحيحان ما ثبت بسند صحيح مما لا يُنتقد يُفيد العلم واليقين، وهذا يدل على ثبوته.
  • ثانيًا: أن سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو في أمور الدنيا خاصة، قالت عائشة: "يُخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله" وليست في أمور الدين، فهو معصوم من أن يؤثر السحر على قلبه ومعصوم أن يؤثر على تبليغه الرسالة؛ ولهذا يُقال أيضًا أن السحر الذي أصابه من جنس الأمراض، مرض من جنس الأمراض: ابتلاء وامتحان، فهو من جنس الأمراض هو في أمور الدنيا خاصة، كما قالت عائشة: "يُخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله" فيكون مثل الأمراض التي يُبتلى بها الأنبياء، ثم إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدِد عليه وإن كن في دينه رقة خُفِف عنه، فإذن السحر الذي حصل في أمور الدنيا خاصة وهو مرض من الأمراض وليس له تأثيرٌ على عقله ولا على تبلغيه الرسالة، وأنه فيما يتعلق بأمور الدنيا بكونه يُخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، والله -تعالى- أثبت العصمة له، قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، قال -تعالى-: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[الحاقة:44-46].

  • رابعًا: النبي -صلى الله عليه وسلم- معصومٌ في عقله، فلا يُمكن أن يؤثر السحر على عقله، وقد أكذب الله المشركين في قولهم في النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾[الدخان:14]، وفي قوله: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾[الدخان:13] فالأنبياء معصومون بأن يؤثر شيئًا على عقولهم أو تبليغهم الرسالة.
  • الأمر الخامس: أن السحر أنواع، يُقال السحر أنواع: نوع يُصيب العقل بالخبل ونوع  يُصيب القلب ونوع يُكون في أمور الدنيا خاصة، وهذا نوع خاص في أمور الدنيا.
  • السادس: أن المشركين قالوا أنه ساحر على وجه السخرية والاستهزاء، هم يعلمون أن الأنبياء من أعقل الناس وأصحهم عقولًا ولكن قالوا من باب السخرية والاستهزاء، وبهذا يتبين أن إنكار كثير من المتكلمين في سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا وجه له وأن السحر الذي أصابه من جنس الأمراض، مرض من الأمراض، نوعٌ خاص لم يؤثر على عقله ولا على تبليغه الرسالة وإنما هو ابتلاءٌ وامتحان؛ ليرفع الله درجته، رفعةً لدرجات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وليكونوا قدوةً لأُممهم في صبرهم وتحملهم.

وأما حديث العُقد هذا كما سبق جاء بسندٍ ضعيف، أن العقد إحدى عشرة عقدة وأن الله أنزل المعوذتين وأنهما إحدى عشرة آية وكلما قرأ آية انحلت عقدة، هذه الرواية سندها ضعيف.

قال المؤلف -رحمه الله-: (وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله، وهو المعبود وحده، لاجتماع صفات الكمال فيه.

ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا، المرغوب إليه؛ في أن يُعيذ عبده الذي يُناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربّه)

من الردود يُقال لهم: إن الذي أصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان هو نوع مرض ثم هو مدة يسيرة ثم شفي، والذي يُصيبه مدة يسيرة ثم يُشفى لا يُقال بعد الشفاء عنه مسحور، بل هو سليم مُعافى، مدة يسيرة وتطيب ثم زال عنه فلا يُقال أنه مسحور؛ لأنه مدة يسيرة من جنس الأمراض ثم شُفي، فلا يُقال عنه أنه مسحور بل هو سليم معافى.

قال المؤلف -رحمه الله-: (وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله، وهو المعبود وحده، لاجتماع صفات الكمال فيه، ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا، المرغوب إليه؛ في أن يُعيذ عبده الذي يُناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبينه) هذا من كلام ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، يقول: (وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله)، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ(3) إِلَهِ النَّاسِ﴾ والإله قال: (هو المعبود وحده لاجتماع صفات الكمال فيه) صفات الكمال في الإله، في اسم الإله؛ لأن الله أصله الإله، كما سبق حُذِفت الهمزة فلتقى اللامان وفُخِمتا فصار الله، فالله هو الإله والمألوه، فعال بمعنى مفعول، والإله المألوه الذي تألهه القلوب محبةً وخوفًا ورجاءً وتوكلًا ورغبةً ورهبة، تألهه القلوب؛ لاجتماع صفات الكمال فيه، صفات الكمال كلها مجتمعةٌ فيه، فالعبد يُناجي هذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا.

الإله ومعناه المشتمل على صفات الكمال ونعوت الجلال، الإله هو المُتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، هذا خاصٌ باسمه الإله، باسم الله، الله هو الذي تألهه القلوب محبةً وخوفًا؛ لاجتماع صفات الكمال فيه.

فالله ذو الأسماء الحسنى والصفات العلُيا ولما كان له -سبحانه-الأسماء الحسنى والصفات العُلى اجتمع فيه صفات الكمال فلهذا شُرِع للعبد مُناجاة هذا الله الكامل -سبحانه وتعالى- الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ لأن اسم الله معناه ذو الألوهية والعبودية على خلقهِ أجمعين.

الإله هو المُشتمل على صفات الكمال ونعوت الجلال ولهذا يُرفق بالأسماء الحُسنى تأتي بعد أوصافٌ له: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23].

﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[الحشر:22]

﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر:24].

فالأسماء كلها تأتي صفات له، فالله هو الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا وخوفًا وذلك لاجتماع صفات الكمال فيه لأن له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العُليا؛ فلذلك كان العبد يُناجي هذا الرب ويرغب إليه في أ يُعيذه، شًرِع للعبد أن يُناجي ربه، (يُناجي إلهه الكامل المرغوب إليه في أن يُعيذه، في أن يُعيذ عبده الذي يُناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه بين مناجاة ربه).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الله هذا الإله الكامل، الله المشتمل على صفات الكمال يُناجي الإنسان ربه في أوائل القرآن كله، يعني شُرِع للإنسان إذا قرأ القرآن أن يستعيذ، يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت تُناجي ربك -سبحانه وتعالى- باسم الإله، باسم الله، وترغب إليه في أن يُعيذك من الشيطان الذي يحول بينك وبين مناجاة ربك، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]، ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون:98]، وكما في سورة فُصلت: في عالم شياطين الإنس وشياطين الجن: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[فصلت:34]، ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [فصلت:36]، ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾، وفي آية الأعراف: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف:200]، وفي آية المؤمنون: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾.

 وفي أوائل كل سورة يستعيذ الإنسان بسم الله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ وهذا هو السر في التعلُق الاستعاذة في القرآن باسم الله؛ لأنه هو المعبود وحده؛ لاجتمع صفات الكمال فيه فشرع الله لعبده أن يُناجي إلهه الكامل الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُليا ويرغب إليه في أن يُعيذه حينما يُناجيه بكلامه من الشيطان الذي يحول بينه وبين مُناجاة ربه.

(ثم استحب التعليق باسم الإله في جميع المواطن الذي يقال فيها: "أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم"؛ لأن اسم الله هو الغاية للأسماء، ولهذا كان كلٌ اسم بعده لا يتعرف إلاّ به، فنقول: الله هو السّلام، المؤمن، المهيمن، فالجلالة تعرّف غيرها، وغيرُها لا يعرِفُها)

هذا كلام ابن القيم في مدارج السالكين: (ثم استحب التعلق باسم الإله في جميع المواطن الذي يقال فيها: "أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم")

يعني تعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسم الإله، يعني إذا أراد أن يقرأ القرآن استعاذ بالله، (ثم استحب التعليق باسم الإله في جميع المواطن الذي يقال فيها: "أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم")

من المواطن مثلًا:

 عند دخول الخلاء: بسم الله، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، أعوذ بالله من الخُبث والخبائث.

عند دخول المسجد: بسم الله، أعوذ بالله العظيم وبوجههِ الكريم وبسلطانه القدير، عند الخروج: بسم الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القدير.

عند الغضب: لما غضب رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمرَّ وجهه وانتفخَت أوداجُه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إني لا أعلَمُ كلمةً لو قالها لذهب عنها ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد».

إذن فالأول التعلق بالاستعاذة في أوائل القرآن ثم استحب التعلق بسم الإله في جميع المواطن التي يُقال فيها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، منها عند دخول الخلاء، ومنها عند دخول المسجد، ومنها عند الخروج من المسجد، ومنها عند الغضب، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم،  ومنها إذا وقع الإنسان في معصية.

كما قال -تعالى-: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ فكان التعلق بالاستعاذة في أوائل القرآن عند قراءة القرآن ثم انسحب التعلق باسم الإله في جميع المواقف التي شُرِع فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، مثل: عند دخول المسجد وعند الخروج منه وعند دخول الخلاء وعند الغضب وعند الوقوع في المعاصي التي تكون بسبب نزغ الشيطان.

قال المؤلف -رحمه الله-: (لأن اسم الله هو الغاية للأسماء) اسم الله هو الغاية، لماذا؟

لأنه جامع لصفات الكمال ونعوت الجلال، اسم الله هو الغاية للأسماء، لماذا؟ لكونه يجمع صفات الكمال ونعوت الجلال.

 قال المؤلف: (ولهذا كان كل اسم بعده لا يُتعرف إلاّ به)

كل اسم بعده لا يتعرف إلا بعده، كل اسم بعده لا يتعرف إلا بعده كما في آخر سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ﴾ [الحشر:22]جاء اسم الله الذي بعده لا يتعرف إلا به، ما هو؟ من هو الله؟ ﴿الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر:22].

﴿هُوَ اللَّهُ﴾ من هو؟ ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر:23]، يتعرف.

﴿هُوَ اللَّه الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الحشر:24]، فكل اسمٍ بعده لا يتعرفُ إلا به.

(فتقول: الله هو السّلام، المؤمن، المهيمن، فالجلالة تُعرِّف غيرها) الجلالة اسم الجلالة، الجلالة اسم الله.

(تُعرِّف غيرها) تُعرِّف الذي بعدها/ الخالق، الرازق، المدبر، المحيي.

(وغيرها لا يُعرِّفُها) لو جاءت أسماءٌ أخرى لو لم تنفرد الأسماء فلا يُمكن أن تُعرف لفظ الجلالة، ولكن الجلالة هي التي تُعرِّف غيرها.

لفظ الجلالة اسم الله تُعرِّف غيرها وأما غيرها لا يُعرِّفها، فإذا قلت عن شيء أنه كريم وأنه جواد وأنه محسن، من هو؟ لا يُمكن أن يكون هذا الجواد الكريم مثلًا يُعرِّف الله ولكن الله هو الذي يُعرِّف هذه الأسماء.

فإذا قلت الله هو جوادٌ كريمٌ غفورٌ رحيمٌ، أما أن تأتي بأوصاف وتقول هي التي تُعرف الله فلا، فالجلالة تُعرِّف غيرها، وغيرها لا يُعرفها، ولذلك جاءت الأسماء كلها بعد لفظ الجلالة كما في آخر سورة الحج.

وهذا في بيان عِظم هذا الاسم، اسم الله، هذا اسمٌ عظيم وأنه أعرف المعارف، أعرف المعارف اسم الله وأنه جامع لصفات الكمال ونعوت الجلال، مُشتمل على صفات الألوهية، فالإله كما عن ابن عباس قال: "ذو الألوهية والعبودية على خلقهِ أجمعين، والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيمًا وإجلالًا وخوفًا ورجاءً وتوكلًا وتعلقًا وليس هذا جلال لفظ الجلالة، هذا المعنى لا يُجلل لفظ الجلالة.

(والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدريّة.

وربوبيّته سبحانه للعالم الربوبيّة الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم، لأنها تقتضي ربوبيّته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال)

نعم، (والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر) ومنهم من لم يُثبت، لكن الذين أثبتوا خالقً آخر (لم يقولوا: إنه مكافئٌ له) مثل الجوس الذين أثبتوا خالقين لهذا العالم، فإنهم قالوا: إن العالم له ربان:

  • الرب الأول:  النور خالق الخير.
  • الرب الثاني: الظُلمة خالق الشر.

لكن لم يقولا إنهما متكافئان بل يقولوا: إن النور خيرٌ من الظُلمة وهو الإله المحمود وهو الإله القديم، وأما الظُلمة فهي الشريرة وتنازعوا في قدمها وحدوثها.

فلم يقولوا بتساويهما، ما قالوا، الذين قالوا أن العالم له خالقان، وإن قالوا أن له خالقان لم يقولوا بالتساوي، لم يقولوا أنه مكافئٌ له؛ ولهذا قال: (منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له، وهم المشركون)

وكذلك النصارى: الذين يقولون بالتثليث، يقول النصارى بالتثليث ويقولون أن الآلهة ثلاثة: الله وعيسى ومريم -تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا-، قال الله -تعالى-: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة:73] لكن مع كونهم يقولون بالتثليث، لا يقولوا بتساوي هذه الثلاثة، وقولون: الأب والابن وروح القدس، ويقولون: بسم الأبِ والابن وروح القدس إلهٌ واحد، فهم متناقضون ومختلفون وأحيانًا يقولون: ثلاثةٌ بالأقاليم واحد بالأشخاص، يعني ثلاثة  ممتزجة ومع ذلك لا يُقولون بتساويها بل يقولون: إن الأب هو الإله الأكبر وهو خالق السماوات والأرض، فلم يقولوا بتساويها.

وإن قالوا بالتعدد والإشراك بالربوبية إلا أنهم لم يقولوا بالتساوي وكذلك القدرية: الذين يقولون: إن العباد يخلق فعل نفسه، العباد خالقون لأفعالهم خيرًا أو شرًا،  (59:06) خالقهم مع الله،  لكنهم لم يقولوا إن الناس متساويين مع الله، إنما قالوا شُبهة (59:09)  لهم، قالوا: العبد يخلق فعل نفسه وإلا فالله هو الخالق، فلم يقولوا بالتساوي، هذا معنى قول المؤلف: (وإن لم يقولوا إنه مكافئٌ له)، (والذين أشركوا به في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه إله مكافئٌ له): مثل السنوية والمجوس والمنوية، المجوس والمنوية منسوب إلى ماني بن فاتك الحكيم، المنوية والسنوية من المجوس، ثم السنوية يقولون (59:45) مدبرين لهذا العالم، وكذلك المنوية وكذلك (59:46)  وكذلك القدرية، هؤلاء أشركوا في الربوبية لكنه لم يقولوا إن هذه الآلهة متعددة أو هؤلاء الأرباب متساوون، بل يُفضلون بعضها على بعض، لم يقولوا إن للعالم  ربان أو خالقان متساويان في الصفات والأفعال.

وكذلك الفلاسفة الدهرية الذين يقولون أن النجوم لها تصرف في العالم السُفلي، لم يقولوا إنها مكافئة وإنما يكون لها نوعٌ من التصرف.

وبالجملة كما قال المؤلف -رحمه الله-:  والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة وإن أثبتوا معه خالقًا آخر إلا أنهم لم يقولوا  بأنها مكافئة للخالق، ولذا قال المؤلف: (وهم المشركون ومن ضاهاهم) يعني من ماثلهم (من القدريّة).

القدرية الذي يقول إن العبد يخلق فعل نفسه ولهذا سُموا مجوس هذه الأمة، القدرية هم المُعتزلة، يقولون: إن العبد هو الذي يخلق الخير والشر، يخلق الطاعات والمعاصي، شُبهة حاصلة لهم حتى يكونا العبد مستحقًا للثواب ومستحقًا للعقاب.

قالوا: لو قلنا أن الله خلق الطاعات والمعاصي؛ للزِم بذلك أن يخلق المعاصي ويُعذب عليها فيكون ظالمًا، ففرًا من ذلك قالوا: ن العبد هو اذلي يخلق المعصية والذي يخلق الطاعة، ولهذا يُستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أجره على الطاعة، والمعصية يجب على الله أن يُنفذ فيه وعيده وليس له أن يعفو عنه، وهذا يسمونه إنفاذ الوعيد أصلٌ من أصول المعتزلة.

المعتزلة لها أصول خمسة استبدلوها بأصول الدين عند أهل السنة.

 أصول الدين عند أهل السنة خمسة: الإيمان بالله ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

المعتزلة جاءوا بدل هذه أصولٍ أخرى، قالوا: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنفاذ الوعيد: فسروا تحتها القول بأنه يجب على الله أن يُعذب العاصي وليس له أن يعفو عنه، سُمي هذا إنفاذ الوعيد.

والتوحيد: فسروا تحته نفس الصفات، وقالوا: بخلق القرآن أن الله لا يُرى في الآخرة.

والعدل: فسروا تحتها التفسير بالقدر، وقالوا: بأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.

والمنزلة بين المنزلتين: قالوا: العاصي مُرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فيكون في منزلة من المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر.

وإنفاذ الوعيد: وجوب تعذيب العاصي.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخروج على الولاة -ولاة الأمور- بالمعاصي.

 قال المؤلف -رحمة الله-: (وربوبيّته سبحانه للعالم الربوبيّة الكاملة المطلقة الشاملة تُبطل أقوالهم).

تُبطل أقوال من؟

  • تُبطل أقوال الذين أشركوا بالله في الربوبية.
  •  تُبطل أقوال السنوية من المجوس والمنوية.
  •  وتُبطل أقوال المثلث من النصارى.
  •  وتُبطل أقوال الفلاسفة الدهرية الذين يجعلون للعالم العلوي التصرف في العالم السُفلي.
  •  وتُبطل أقوال القدرية الذين يقولون أن العبد يخلق فعل نفسه.

وجه ذلك: أن ربوبية الله شاملة، كاملة، ربوبية الله للعالم كاملةٌ مطلقةٌ شاملة تُبطل هذه الأقوال، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أخبر الله أن ربوبيته عامة لجميع العوالم، كل ما سوى الله هو عالم، فتقتضي ربوبية الله لجميع ما فيه في هذا العالم من الذوات والصفات والحركات والأفعال.

الذوات: ذات الإنسان، ذوات الحيوانات، ذوات السماوات، ذوات الأراضين، ذوات النبات، ذوات الجن، ربوبية الله شاملة لهم.

والصفات: صفات الإنسان وصفات الحيوانات والحرارة والبرودة والرطوبة والملوحة واليبوسة، صفاتك -الإنسان- أفعالك وصفاتك ربوبية الله تشملها، فهو ربٌ للصفات وربٌ للحركات، الحكات والسكنات.

الحركات: حركات الآدميين، حركات الإنس، حركات الجن، وحركات الجمادات كلها داخلة في ربوبية الله.

وكذلك الأفعال: أفعال الإنس وأفعال الجن وأفعال الحيوانات كلها ربوبية الله تشملها.

فربوبية الله -سبحانه- للعالم: الربوبية الكاملة المطلقة الشاملة تُبطل أقوال من أشرك في ربوبية الله وجعل لهذا الكون مُدبرًا وهم المجوسية، السنوية من المجوس والمنوية والمثلثة من النصارى  والفلاسفة الدهرية وكذلك أيضًا القدرية.

وجه ذلك: أن ربوبية الله تقتضي ربوبيتها لجميع ما في هذا العالم من الذوات ومن الصفات ومن الحركات ومن الأفعال.

(وربوبيّته سبحانه للعالم الربوبيّة الكاملة المطلقة الشاملة تُبطِل أقوالهم؛ لأنها تقتضي ربوبيّته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.

وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربًا لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيّته، إذ كيف يتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه)

حقيقة قول القدرية المجوسية، القدرية سواء سبق أو سيأتي طائفتان:

الطائفة الأولى: الغُلاة، الغُلاة الذين أنكروا العلم والكتاب.

القدرية سموا قدرية؛ لإنكارهم القدر، والقدر مبني على أصولٍ أربعة:

الأصل الأول: الإيمان بعلم الله الشامل.

الأصل الثاني: الإيمان بكتابات الله، في اللوح المحفوظ.

الأصل الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وإرادته.

الأصل الرابع: الإيمان بخلقه لك.

هذه مراتب الإيمان بالقدر أربعة، من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر:

  • المرتبة الأولى: العلم.
  • المرتبة الثانية: الكتابة.
  •  المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة.
  • المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد.

علمٌ كتابة مولانا مشيئته

خلقهُ وهو إيجادٌ وتقديرُ

 

هذه المرتب الأربعة من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر، وأهل السنة آمنوا بها، فعلم الله الرماد بعلم الله الإيمان بعلم الله الأزلي وأن الله علِم ما كان في الماضي والأزل، الأزل الذي لا بداية لأولهِ.

الله هو الأول في ذاته وصفاته، هو الأول الذي ليس لأوليته بداية، وهو الآخر الذي ليس لآخريته بداية، الله يعلم ما كان في الأزل والماضي، ويعلم ما يكون في الحاضر، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

لا بد من الإيمان بهذا العلم، إذن العلم علم الله يتناول هذه الأمور، لا بد من الإيمان بعلم الله الأزلي السابق، والإيمان بأن الله يعلم الحاضر -ما يكون في الحاضر-، والإيمان بأن الله يعلم ما يكون في المستقبل ، والإيمان بأن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

الدليل هذا الرابع، كيف يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون؟

الكفار حينما يوقفون بين يدي الله ماذا يقولون؟ يقولون: ربنا أخرجنا منها فإنَّا لا نعود، ربنا ردنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحًا كما أخبر الله عنهم، قال الله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام:28]، هذا من علمه -سبحانه- فيما لم يكن لو كان كيف يكون، لو ردوا ماذا يحصل منهم؟ هم ما يُمكن يردون، لكن لو ردوا يعلم الله ماذا يكون منهم، يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾[فاطر:37]، قال الله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.

وقال الله أيضًا عنهم -عن المشركين-: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:23].

الله ما أسمعهم الآن لكن يعلم ماذا يحصل لو أسمعهم، لو أسمعهم ماذا يكون؟ ﴿لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.

وقال الله عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: قال الله -تعالى-: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة:46]،

﴿لَوْ خَرَجُوا﴾ ماذا يحصل؟ هم ما خرجوا: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة:47]، هذه مسالك، هذه تترتب على خروجهم ولهذا أثبطهم الله وقعدوا، عَلِم الله ماذا يكون لو كان، لو خرجوا حصل المراد، ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾.

إذن لا بد من الإيمان بعلم الله الأزلي الشامل، والغيمان بعلم الله في الحاضر والإيمان بعلم الله في المستقبل والإيمان بعلم الله في ما لم يكن لو كان كيف يكون.

المرتبة الثانية: الكتابة.

الإيمان بكتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ، الإيمان بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، كتب الذوات والصفات والأفعال والحركات والسكنات والسعادة والشقاوة والفقر والغناء والعز والذل حتى العجز، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من اليمان بالعلم -بعلم الله- ولا بد من العلم بكتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ.

قال الله تعالى من الأدلة على هاتين المرتبتين في العلم والكتابة: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾ [الحج:70] وهو اللوح المحفوظ، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ هذا إثبات العلم،  ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾ إثبات الكتابة.

وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59] هذا في المرتبتين، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾  وهو اللوح المحفوظ.

قال -سبحانه وتعالى-: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ [الحديد:22] وهو اللوح المحفوظ.

وقال -سبحانه-: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس:12] وهو اللوح المحفوظ.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «وكتب في الذكرِ كل شيء» رواه البخاري في الصحيح، الذكر هو اللوح المحفوظ.

وقال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء:105].

وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: «كتب الله ما قدِر الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء».

وقال -عليه الصلاة والسلام-: «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ربي وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء»، وفي لفظٍ: «فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة».

هذه أدلة تُثبت المرتبتين: العلم والكتابة.

والمرتبة الثالثة: الإرادة والمشيئة.

الإرادة نوعين: إرادة كونية قدرية وإرادة دينية شرعية.

والمراد إرادة كونية بأن ورد في الشيئة، كل شيءٍ وقع في هذا الوجود فالله أراد وجوده، شاء وجوده، لا يُمكن يقع، شاء وجوده يعني أراده كونًا وقدرًا، لا يُمكن أن يقع في خلاف ما لا يُريد، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان:30]، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام:125] هذه الإرادة الكونية.

كل شيء وقع في هذا الكون وقع بإرادة الله ومشيئته الكونية والقدرية، 01:13:49 بعده الخير والشر والطاعات والمعاصي  والكفر والإيمان، كل شيء وقع أراد الله وجوده وإيجاده، أراد الله أن يوجد، لو كان شيءٌ يقع وهو لا يريد لازم أن يكون (01:14:10) فلا يقع في ملك الله إلا ما يُريد.

المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد.

الإيمان بأن الله خلق كل شيء في هذا الوجود، الخير والشر، الطاعات والمعاصي، والإيمان والكفر.

قال -تعالى-: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر:62]، قال -سبحانه-: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2]،وقال -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات:96]، خالق العباد وخالق أعمالهم.

هذه مراتب الإيمان بالقدر: أربعة: العلم والكتابة والإرادة -المرادف المشيئة- والخلق.

من لم يُؤمن بهذه المراتب الأربع لم يؤمن بالقدر، آمن بهذه المراتب الأربعة أهل السنة والجماعة، أهل الحق وفقهم الله فآمنوا بهذه المراتب الأربعة.

آمنوا بعلم الله الأزلي والحاضر والمستقبل وما لم يكن لو كان كيف يكون، وآمنوا بكتابة الله الأشياء في اللوح المحفوظ، وآمنوا بإرادة الله ومشيئته بكل شيء وقع في هذا الوجود، وآمنوا بخلق الله لجميع الأشياء.

القدرية طائفتان:

الطائفة الأولى: أنكرا المرتبتين الأوليين وهما العلم والكتاب، أنكروا العلم والكتاب، أنكروا علم الله بالأشياء قبل كونها، قالوا: إن الله لا يعلم بالشيء حتى يقع، فإذا وقع علمه.

نسبوا الله إلى الجهل، وكذلك أنكروا كتاب الله في  اللوح المحفوظ، وهؤلاء القدرية الأولى ظهروا في أواخر عصر الصحابة وكانوا يطلبون العلم في البصرة، فأنكر قولهم أهل العلم وسألوا الصحابة، ومن ذلك ما رواه حُميد الطويل ويحي بن يعمر وكانا يطلبان العلم في البصرة فتكلم القدرية بهذا فأنكرا كلامهما، قال حميد الطويل: "لمَّا وقع الكلام في القدر أنكرناه وقلنا: لو وُفِق لنا أحدٌ من صحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسألناه، فخرج يحي بن يعمر وحُميد الطويل حاجين معتمرين، وقالا: لما وُفِق أحدٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسألناه عما يقوله هؤلاء.

 قال: فوُفِق لنا عبد الله بن عمر داخل المسجد، المسجد الحرام،  فاكتنفته أنا وصحابي وظننت أنه سيكل الحديث إلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن -كنيته عبد الله بن عمر، يعني يا أبا عبد الرحمن- أنه ظهر قبلنا -أي في البصرة- أُناسٌ يتقفرون العلم -يعني يطلبونه- ويزعمون أن الأمر أُنف -يعني- مستأنف وجديد لم يقبل أعماله-.

 فقال عبد الله: إذا رأيت هؤلاء فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم بُرآء مني، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أُحدٍ ذهبًا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره".

فإذن ابن عمر حكم عليه بالكفر الذي لا تقبل أعماله هو كافر

. فإذا ابن عمر كفر القدرية, الذي لا تقبل أعماله هو الكافر, قال الله -تعالى-: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾، ثم روى الحديث وهو أول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، أول حديث هو هذا، ثم روى عن عمر -رضي الله عنه- جبرائيل الطويل في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام ثم عن الإسلام ثم على الإحسان ثم عن السعة ثم عن أماراتها، ولما سأله عن الإيمان قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره».

ولهذا فإن العلماء حكموا بكفر القدرية الأولى، وقال العلماء الأئمة كالشافعي وغيره: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خسروا, وإن أنكروه كفروا.

 إن أقروا بالعلم، كيف تُنكرون أشياء عموم القدرة، هؤلاء القدرية الأولى يُنكرون العلم والكتاب وقد انقرضوا وهم كفار، ولهذا قال العلماء: إن القدرية والذين يُنكرون العلم والكتاب خارجون من اثنتين وسبعين فرقة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة».

هذه الفرق مُستحقة للوعيد، من فرق المُبتدعة لكنهم خارجون من المذهب لكفرهم مثل: الجهمية ومثل الرافضة، هؤلاء خارجون عن الاثنتين والسبعين فرقة، هذه الطائفة الأولى.

الطائفة الثانية من القدرية: المقتصدون أو عامة القدرية يؤمنون بالعلم وبالكتاب ولكنهم يُنكرون عموم المشيئة وعموم الخلق، يُنكرون عموم المرتبتين  01:19:02 يؤمنون بالمرتبة الأولى وهي العلم، من لم يؤمن بالعلم وهم القدرية الأولى نسبوا الله إلى الجهل، قالوا: ما يعلم بالشيء حتى يقع وهذا كفر وضلال، كفرهم العلماء.

الطائفة الثانية: أثبتوا علم الله، آمنوا بالعلم، وآمنوا بكتابة الله في اللوح المحفوظ وآمنوا أيضًا بالإرادة والمشيئة وآمنوا بالخلق والإيجاد إلا أنهم أنكروا عموم المشيئة وعموم الخلق؛ لشبهةٍ 01:19:31، قالوا: إن الله أراد كل شيء في هذا الوجود إلا أفعال العباد ما أرادها من طاعات ومعاصي، وقالوا أيضًا وأنكروا عموم الخلق، قالوا: إن الله خلق كل شيء في هذا الوجود إلا أفعال العباد -الطاعات والعاصي ما خلقها- من الذي خلقها؟ العباد أنفسهم، العباد هم الذين أرادوا الطاعات وخلقوها وهم الذين أرادوا المعاصي وخلقوها بأنفسهم، في شبهة على 01:20:01

ما هي الشبهة؟ قالوا: لو قلنا إن الله أراد المعاصي يُعذب عليها فرضها على العباد، والله مُنزهٌ عن الظلم.

هذه الشُبهة التي حصلت لهم لم يُكفرهم العلماء وقالوا: إنهم مبتدعة، وسموهم مجوس هذه الامة، لماذا سموهم مجوس هذه الأمة؟ لأنهم قالوا بتعدد الحالة، يعني هؤلاء يقولون: لو قلنا إن الله خلق أفعال العباد وعذب عليها فصار ظالمًا، لكن يُقال لهم: إذا قلتم إن الله ما أراد إيقاع العباد لزمكم شر مما فررتم منه.

لزمكم أن يقع في ملك الله ما لا يُريد، أنتم يلزمكم أن يكون العبد يُريد ماذا؟ يُريد المعصية والله يُريد الطاعة، فتقع إرادة العبد ولا تقع إرادة الله، هذا أعوم وهو يلزمكم أيضًا محظور آخر وهو أنه يقع في ملك الله ما لا يُريد، وهذا محظور آخر، ولهذا فإن القدرية 01:21:04 حتى من الكفرة.

اسمع هذه القصة: ركب مجوسيٌ وقدري في سفينة، فقال القدري إلى المجوسي يدعوه إلا الإسلام: اسلم، فقال المجوسي حتى يُريد الله، فقال القدري: الله يُريد ولكن الشيطان هو الذي لا يُريد، فقال المجوسي: هذا الشيطان قوي غلبة إرادته إرادة الله! فما دام الله يُريد والشيطان لا يُريد وهو الآن على الكفر؛ إذن وقعت إرادة الشيطان.

هذا الشيطان قو غلبة إرادته إرادة الله، وفي لفظ أنه قال: أنا مع أقوهما، القوي معهم أنا معه، فخُصم القدري، فهم محجوجين.

ويُقال لهم الآن: هذا محظور، يقع في ملك الله ما لا يُريدـ تغلب مشيئة العبد مشيئة الله -تعالى الله عن ذلك-.

أما القول بأن الله خلق المعاصي هذا خلقها لحكمها ولأسرار خلق المعصية والذي يُنسب إلى الله هو الخلق والخلق مبني على الحكمة، ولا يُنسب الشر إلى الله ولكن انسبوا المعاصي إلى الله، لماذا؟ لأن عندما تُنسب إلى لا تُسمى شر بالنسبة إلى الله لكن تُسمى شر بالنسبة إلى العبد؛ لأنه الذي باشرها وعملها فضرتهُ وعُذِب بها.

ولكن الذي يُنسب إلى الله هو الخلق والخلق مبني على الحكمة، وهذا هو معنى القول: "والشر ليس إليك" الشر الذي لا حكمة في إيجاده لا يُنسب إلى الله، وهذا مبني على الحكمة.

من الحكم في خلق الله المعاصي الكفر: ظهور قدرة الله -سبحانه وتعالى- على إيجاد المتقابلات، وهذا الكفر في مقابل الإيمان، والليل في مقابل النهار والشر في مقابل الخير وهكذا.

ومنها -أيضًا من الحكم- ما يترتب على خلق المعاصي والكفر من الطاعات المتنوعة المتعددة، لولا خلق الله للمعاصي والكفر لفاتت عبودياتٌ عظيمة محبوبة لله، أين عبودية الجهاد في سبيل الله لو كانت كلهم مؤمنون أين الجهاد في سبيل الله ما في جهاد، أين عبودية الولاء والبراء، أين عبودية الدعوة إلى الله، أين عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين عبودية الصبر، كل هذه عبوديات محبوبة لله.

فالله -تعالى- أراد وجود المعاصي والكفر لا لذاتها بل لما يترتب عليها، لما يترتب عليها من الحكم والأسرار والعبوديات المتنوعة التي يُحبها الله ويرضاها.

فهي مرادةٌ لذاتها ولا لغيرها؟ لغيرها ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:60] المريض إذا جاء للطبيب ثم صرف له دواءً مرًا علقم، فالمريض يُقدم عليه أو لا يُقدِم عليه؟ يُقدم عليه، يشرب هذا الدواء العلقم المر، لماذا؟ لأنه يعلم أن فيه شفائه فهو مرادٌ لذاته ولا لغيره؟ مرادٌ لغيره، يتجشم شرب هذا الدواء المر العلقم؛ لأنه يعلم أن فيه عافيته وصحته فهو مرادٌ لا لذاته بل لغيره، والله -تعالى- أراد وجود هذه المعاصي وخلقها لما يترتب عليه هذه من الحكم لا لذاتها، لما يترتب عليها من الحكم والعبوديات المتنوعة، والذي يُضاف إلى الله هو الخلق والخلق مبني على الحكمة فلا يكون شرًا بل يكن خيرًا، ولكن لا تكون شرًا بالنسبةِ للعبد الذي باشرها وفعلها وكتبها فضرته.

فهي شرٌ بالنسبة للعبد ولكنها خير بالنسبة لخلقها والحكمة في خلقها وإيجادها.

أرأيت المطر الذي يُحيي به الله البلاد والعباد، هذا خير نافع أليس كذلك؟ خير عام يُنبت الله به الزروع وتحيا به البلاد وتحيا به العباد وتمتلئ الآبار وترعى الدواب النبات ويحصل فيه خير عظيم، لكن قد يحصل فيه شر لبعض الناس، قد تتهدم بعض المنازل، أليس كذلك؟ قد مثلًا يغرق بعض الناس في الوادي ويموت، لكن هذه نسبية، يعني شرور وأضرار نسبية مغمورة في جنب الخير الكثير لهذا المطر.

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد