شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_11

00:00
00:00
تحميل
58

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد...

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى-: ((واعلم أن الخضوع والتألُّه الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه كما قررنا، لا سيِّما إذا كان المجعول له ذلك عبدًا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب ومملوكًا له، كما قال تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾[الروم:28]؛ أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه، فيكيف تجلعون لي من عبدي شركاء فيما أنا منفردٌ به، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي، فمن زعم ذلك فما قدرني حقّ قدري، ولا عظَّمني حق تعظيمي)).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد...

قال المؤلف -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: (واعلم أن الخضوع والتألُّه الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه كما قررنا، لا سيِّما إذا كان المجعول له ذلك عبدًا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب ومملوكًا له).

المعنى: أنَّ الخضوع والتأله، التألُّه: التعبُّد الذي يجعله العبد لتلك الوسائط التي تكون بينه وبين الله قبيحٌ في نفسه، ولكنَّه يزدادُ قبحًا إذا كان ذلك المجعول له ذلك عبدًا لله الملك العظيم.

مثال ذلك: ما يفعله عُبَّاد القبور حينما يجعلون حينما يجعلون أصحاب القبور وسائط بينهم وبين الله؛ يدعونهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويطوفون بقبورهم، هذا يُعتبر خضوع وتأله وتعبد، حينما يقول: (يا سيدي رسول الله أغثني، يا سيدي رسول الله فرِّج كربتي) هذا دعا غير الله، هذا التعبُّد والخضوع، خضوعٌ وتعبُّد؛ جعل الرسول واسطة، وهو يعلم أنّ الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- لا يملكه وإنما الذي يملك هو الله، لكنَّه جعله واسطة بينه وبين الله، فيدعوه من دون الله.

فهذا الخضوع والتأله قبيح، كيف تجعل عبد مخلوق ضعيف تجعله واسطة بينك وبين الله، تدعوه من دونه، أو يذبح له، أو ينذُر له، أو يطوف بقبره؟! بل نعلم أنا أذبح له، وأنذر له، وأطوف بقبره أعلم أنه ليس بيده شيء، لكن له وجاهة عند الله، يشفع لي عند الله، ينقل حوائجي إلى الله، يقربني إلى الله، كما أخبر الله عن نفسه أنه قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ﴾[الزمر:3] يعني قائلين، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3] وقال سبحانه: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾[يونس:18]

فحينما يخضع الإنسان ويتأله ويتعبد لهذا العبد الذي جعله واسطة بينه وبين الله، يزعُم أنه يقرِّبه إلى الله، يدعوه من دون الله؛ (يا سيدي يا رسول الله، يا سيدي يا رسول الله فرِّج كربتي، يا سيدي البدوي، يا دسوقي، يا بن علوان، يا عيدروس، يا عبد القادر الجيلاني)، كما يُفعل الآن في كثيرٍ من البلدان تجد القبور يُطافُ بها، وتُدعَى من دون الله، ويُذبح لهم في كل مكان، إذا خرجت من المملكة ستجد القبور تُدعَى من دون الله في كل مكان؛ في السودان، في الشام، في ليبيا، في الباكستان، في كل مكان، قبور يُطاف بها وتُدعى؛

  • في مصر: قبر السيد البدوي، قبر الحسين، قبر ابن علوان.
  • في اليمن: قبر العيدروس، قبر الكاظم، قبر الحسين وهكذا.

فهذه القبور هؤلاء الذين خضعوا لهم وتألهوا لهم يجعلونهم واسطة بينهم وبين الله في زعمهم، ينقلون حوائجهم إلى الله، ويُقربهم إلى الله، هذا الخضوع والتألُّه يقول المؤلف: (قبيحٌ في نفسه) قبيح! وجهُ القُبْحِ أنَّهُ صرف حق الله وهو التأله والتعبُّد إلى مخلوقٍ ضعيف، لا يملك لنفسه فضلًا عن غيره نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، هذا قبيح، كيف الله تعالى خلقك، وأوجدك من العدم، وربَّاك لنعمه، وخلقك لعبادته ثم تصرِف العبادة لغيره؟!

(لا سيما إذا كان المجعول له ذلك عبدًا للملك العظيم الرحيم، القريب المجيب، ومملوكًا له) فيزداد ذلك قُبحًا، تجعل هذا الذي دعوته من دون الله، هذا الذي ذبحت له، هذا الذي نذرت له، هذا مملوك، مملوك لمن؟ مملوك لله، عبد لله، فكيف تجعل العبد الذي هو عبدٌ لله تصرِف له حق الله؟! العبادة محض حق الله كيف تصرفها لغيره، ولا سيما إذا كان هذا الغير هو مملوكٌ لله، عبد مملوك لله؟! كما قال تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾[الروم:28]

 فسّر المؤلف الآية فقال: (إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفردٌ به، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي) إذا كان أحدكم يأنف يعني يستنكر ولا يرضى أن يكون مملوكه شريكًا له في رزقه، إذا كان عندك عبد مملوك هل ترضى أن يكون شريكًا لك في مالك؟ ما ترضى، فإذا كنت لا ترضى أن يكون شريكًا لك في مالك فيكف ترضى أن تجعل مخلوق شريكًا لله في العبادة، الذي هو منفردٌ بها، ومُختصٌ بها، ولا تصلحُ العبادة إلا له؟!

يقول المؤلف: (أي إذا كان أحدكم يأنف) يعني لا يرضى أو يستنكر، إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه فيكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفردٌ به، وهو الإلهية) فتصرفون الإلهية لغيري وهي العبادة.

(وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلحُ لسواي، فمن زعم ذلك فما قدرني حقَّ قدري، ولا عظّمني حقَّ تعظيمي) من زعم أنّ أحدًا يستحق العبادة غير الله ما قدر الله حق قدره، ولا عظَّمه حق تعظيمه، (فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق تعظيمي) لماذا؟ لشركه وضلاله، إذ صرف العبادة التي هي محض حق الله لغيره.

والعبادة ما هي؟

العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي الأوامر والنواهي، العبادة هي الأوامر والنواهي، تفعل الأوامر وتترك النواهي تعظيمًا لله وإجلالًا، وخوفًا ورجاءً ومحبة، وخضوعًا وذُلًا، سواءً كان الأمر:

  • أمرُ إيجاب: كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾[البقرة:43].
  • أو أمر استحباب: كقوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»، أَمَرنا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالسواك لكن أمرنا أمرَ استحباب، ومعنى «لَأَمَرْتُهُمْ» يعني لأمرتهم أمر إيجاب.

وكذلك النهي تتركه، خوفًا من االله وتعظيمًا إجلالًا، سواءً كان:

  • نهي تحريم: كقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾[الإسراء:32]، ﴿وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ﴾[الأنعام:151]، ﴿لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[الأنعام:151].
  • أو نهيَ تنزيه: كنهي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الحديث بعد صلاة العشاء، كذلك نهى عن النوم قبلها والحديث بعدها نهي التنزيه.

هذه هي العبادة، العبادة: الأوامر والنواهي التي وردت في الكتاب السنة، تفعل الأوامر وتترك النواهي على وجه الخضوع والذل، والمحبة والخوف والرجاء من الله، فهذا الخضوع والتأله الذي يجعله العبد لغير الله قبيح، ووجه القبج أنه صرف حقَّ الله لغيره.

وإذا كان الذي يصرف لله العبادة مملوكًا لله ازداد قبح فهو أشد وأعظم، والآية واضحة في هذا: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾[الروم:28] إذا كان الإنسان يأنف أن يكون عبده شريكه، فكيف يجعل بمخلوقٍ شريكًا لله في العبادة؟!

 ((وبالجملة فما قدرَ الله حقَّ قدره من عَبَدَ معه من ظَنَّ أنَّه يُوصِلُ إليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾[الحج:73] إلى أن ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحج:74]، وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[الزمر:67]، فما قدر القوي العزيز حقَّ قدره من أشرك معه الضعيف الذليل)).

(وبالجملة) يعني الخلاصة فيما سبق في حال المشركين الذين لم يقدروا لله حق قدره، قال: (وبالجملة فما قدرَ الله حقَّ قدره من عَبَدَ معه من ظَنَّ أنَّه يُوصِلُ إليه) يعني يوصل إليه أحوال عباده كما سبق أن هذا ظنٌ كُفريّ، من ظن أنّ الرب لا يسمع أو لا يستجيب إلا بواسطةٍ تُطلِع عليه، فقد أساء الظن بالله.

(وبالجملة فما قدرَ الله حقَّ قدره) الذي ما عظَّمه حق تعظيمه، (من عبد معه من ظنَّ أنه يوصل إليه) يعني يوصل إليه أحوال عباده، يُخبره بأحوال عباده، عَبدَ شخصًا يظنُ أنه هو الذي يوصِّل إلى الله أحوال عباده، يُخبره عن أحوال عباده أو يُخبره عن حاجتهم، أو يُطلعه على أحوال الناس؛ لأنه في هذه الحالة نفى علم الله، ونفى كمال إدراكه، ونسبَ الله إلى الجهل، فهذا ظن كُفري.

والظن كما سبق:

  •  قد يكون كُفر.
  • وقد يكون معصية.

الظن نوعان:

  • ظنٌّ كفري.
  • وظن معصية.

كما يأتي في أحوال القدرية، والفرق بينها وبين الاعتقاد:

  • أن الاعتقاد يعتقد مثلًا أن لله ثالثًا وهذا اعتقادٌ جازم.
  • وأما الظن فإنه يظن هذا بربه ولكنه لا يجزم بوقوعه، لا يجزم بوقوع هذا الظن.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وبالجملة فما قدرَ الله حقَّ قدره من عَبَدَ معه من ظَنَّ أنَّه يُوصِلُ إليه) يوصل إليه أحوال عباده، يُخبره عن أحوال العباد، يكون واسطة بين الله وبين خلقه، فهذا ما عبد الله، لماذا؟ لأنه مشرك، عَبَدَ مع الله آلهةً أخرى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73] هذا تنبيه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾[الحج:73] ثم قال: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73] كل هذا تهيئة حتى يستعد المسلم لسماع هذا المثل، مَثَلْ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾[الحج:73] أولًا: جاء التنبيه، ﴿يَا أَيُّهَا﴾[الحج:73] للتنبيه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾[الحج:73] ثم قال: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾[الحج:73] فصارت النفوس في الشبه وهو المثل، ثم قال: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73] تأكيد.

ثلاث تنبيهات:

التنبيه الأول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾[الحج:73].

 التنبيه الثاني: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾[الحج:73] شوقنا أن مثل هذا المثل ما هو؟

 ثم قال: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73]، ما هو؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾[الحج:73].

هذا المثل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾[الحج:73]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[الحج:73] تصرفون له الدعاء والعبادة، والذبح والنذر ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾[الحج:73] ولو اجتمعوا كلهم على أن يخلقوا ذباب ما استطاعوا، ذباب من أصغر الحشرات.

﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾[البقرة:26]؛ لأن العبرة بالمثل، بصرف النظر عن الذباب أو البعوض، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾[الحج:73] لا يستطيع الخلق أن يخلقوا ذباب ولو اجتمعوا كلهم من أولهم إلى آخرهم أن يخلقوا ذباب ما استطاعوا.

﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾[الحج:73] إذا سلب الذباب شيء ما تستطيع تخلِّف منه هذا الشيء الذي سلبه وأخذه، ثم قال: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحج:73] العابد والمعبود كلهم ضعفاء، ضَعُفَ العابد والمعبود، فالمعبود ضعيف لا يملِك لنفسه نفعًا، والعابد أيضًا كذلك، ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحج:73].

ثم قال المؤلف: (ما قدروا الله حق قدره) يعني ما عظَّموه حق تعظيمه حيث عبدوا معه غيره، وصرفوا العبادة لغيره، وظنُّوا به ظنَّ السوء حيث ظن أن هذه الواسطة تُقرِّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، وتنقل حوائجهم، هذا تنقُّصٌ لله وسوء ظنٍّ بالله، فالمشرك أساء الظن بالله، وتنقَّص الرب حيث عَبَدَ معه آلهةً أخرى، وصرف العبادة لغيره، وأعطى محض حقه للمخلوق الضعيف الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا؛ فهذا مثل، الأمثال عظيمة، ينتقل الإنسان من المثل المعنوي إلى المثل الحسي، ومن المثل الحسي إلى المثل المعنوي، إلى الأمر المعنوي.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا﴾[الحج:73]، فما دام أنهم لا يستطيعون ولا يملكون فكيف تُصرَف لهم العبادة؟ فقد بيَّن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن العابد لا يَعبدُ شيئًا إلا لما يوِّصلُه إليه من النفع، العابد إنما يعبدُ معبودًا لما يرجوه من النفع.

والنفع محصورٌ في واحدٍ من أربعة أُمور:

  • إما أن يكون مالكًا لما يريد عابدهُ منه.
  • فإن لم يكن مالك، أو يكون شريك للمالك.
  • أو يكون معين ومساعد للمالك.
  • أو يكون شفيعًا عنده.

 فالذي يعبد شخص لماذا يعبده؟ لما يرجوه من النفع، والنفع ما يتجاوز واحدًا من أربعة:

  • إما أن يكون مالك لما يريده منه، تريد منه هذا الشيء يملكه هو.
  • أو إذا لم يكن مالك فهو شريكًا له للمالك.
  • أو إن لم يكن شريكًا صار معينًا ومساعدًا.
  • أو إن لم يكن معينًا ومساعدًا صار شفيعًا عنده.

وقد نفى الله تعالى هذه الأمور الأربعة نفيًّا مرتبًّا منتقلًا من الأعلى إلى الأدنى، مُبيِّنًا سبحانه أن كل من عُبد من دون الله فإنه لا يملك شيئًا من هذه الأربعة، في قوله سبحانه في سورة سبأ:  

  • ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾[سبأ:22] هذا النفي له.
  • ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾[سبأ:22] ليس لهم شريك.
  • ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾[سبأ:22] هذه الإعانة والمساعدة.
  • ﴿وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى﴾[سبأ:23] هذا الأمر الرابع.

إذن كيف يُعبد؟! ليس مالكًا، ولا شريكًا للمالك، ولا معينًا ومساعدًا، ولا شفيعًا عنده، فكيف يُعبد من دون الله؟! أين العقول؟  تعبدُ التراب وتنسى ربَّ الأرباب، وهذا البيت الذي بلي التراب (17:15) كيف تصرف له العبادة؟ أين العقول؟ حتى عقولهم، مشركين ألغوا عقولهم -نسأل الله السلامة والعافية-.

وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[الزمر:67]، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ يعني ما عظموه حق تعظيمه حيث عبدوا معه غيره، وهذه عظمته سبحانه.

﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فيه إثبات القبض لله -عَزَّ وَجَلَّ-.

﴿وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ إثبات اليمين لله -عَزَّ وَجَلَّ-، إثبات اليد، اليمين.

ما عظموا الله حقّ تعظيمه، ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾[الزمر:67] بل إنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما ثبت في الحديث: «يَضَعُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ» خمسة أصابع، «ثُمَّ يَهِزُّهُنَّ بِيَدِه فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ».

«يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ» أي عظمة الرب.

«وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى وَالشَّجَرِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ».

جاء في الحديث أن الله تعالى يدحو الأرض كما تزال الكرة، وفي الحديث: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ» خردلة: الحبة الصغيرة، معلومٌ أن الإنسان إذا كان في يده حبة خردلة أنه مستولٍ عليها؛

  • إن شاء قبضها.
  • وإن شاء ألقاها.
  • وإن شاء تصرف فيها.

لا تساوي شيء، حبة صغيرة، حبة، أصغر الحبات إذا كانت بيدك ماذا تعمل فيها؟ مسيطر عليها من جميع الجهات، فالسماوات السبع على عِظَمها، والأراضين السبع على عِظمها في كف الرحمن كخردلة في يد أحدنا، ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[الزمر:67]؛

سُبْحَانَهُ تنزيهًا لله.

وَتَعَالَى ارتفعت عظمته.

أما يُشْرِكُونَ به سبحانه مِن جعل الآلهة شريكًا لله -عَزَّ وَجَلَّ-.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (فما قدّر القويّ العزيز حقّ قدره من أشرك معه الضّعيف الذّليل) ما عظّم الله حق تعظيمه، (ما قدر الله القوي العزيز) القوي العزيز اسم الله ووصفه؛

  • القوي: اسم الله.
  • العزيز: اسمٌ ثاني.
  • وكل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة.

يعني أسماء الله مشتقة ليست جامدة؛

  • القوي اسم الله مشتمل على صفة القوة.
  • والعزيز مشتمل على صفة العزة.
  • والرحيم مشتمل على صفة الرحمة.
  • والعليم مشتمل على صفة العلم.
  • والخبير مشتمل على صفة الخبرة.
  • الله مشتمل على صفة الألوهية.
  • الحكيم مشتمل على صفة الحكمة.

وهكذا كل اسم مشتمل على صفة.

(فما قدر القوي العزيز من أشرك معه الضعيف الذليل) من هو الضعيف الذليل؟ وصفٌ لمن هذا؟ لكل مخلوق، كل مخلوق هذا وصفٌ له، كل مخلوق ضعيفٌ ذليل، فمن أشرك مع الله أي مخلوق فقد أشرك مع الله الضعيف الذليل، من عبدَ الحجر، أو الشجر، أو الآدميين، أو الجن، أو البقر، أو النار، أو الملائكة، أو غيرها فإنه يصدُق عليه أنه أشرك مع الله الضعيف الذليل، هذا وصف كل مخلوق.

(ما قدر القوي العزيز) وصف الله القوي العزيز، وصف المخلوق الضعيف الذليل، (ما قدر الله القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل) بل تنقَّصه وأساء الظنَّ به سبحانه حيث عبد معه وأشرك معه الضعيف الذليل.

 ((واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبِدَع وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين: أحدهما ظنهم بالله ظنَّ السوء، والثاني: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره)).

المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا يُبين أن أصل الضلال راجع... أصل الضلال أهل البدع، طوائف الضلال وأهل البدع يرجع إلى أصلين.

(واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبِدَع وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين):

 الشيء الأول: ظنهم بالله ظن السوء، ظنوا بالله ظن السوء، فلهذا ضلُّوا، وسيذكر لهذا أمثلة.

 والثاني: أنهم لم يقدروا للرب حق قدره؛ يعني لم يعظموه حق تعظيمه.

 يرى المؤلف أنَّ جميع طوائف الضلال أصل ضلالهم يرجع إلى هذين الأمرين؛ إما إليهما جميعًا أو إلى أحدهما؛

  • إما لأنه ظن بالله ظن السوء.
  • وإما لأنه لم يقدر الرب حق قدره؛ يعني لم يعظمه حق تعظيمه.

هذا الذي يراه المؤلف هنا، وقد يكون هناك أيضًا أصولٌ أخرى يرجع إليها ضلالهم، يكون الشبهة قد يكون هناك مثلًا الشبهة التي عرضت للإنسان فيِضل، قد تكون الشبهة التي تعلَّق بها، وقد يكون أيضًا الجهل من أسباب الضلال والانحراف،  من أسباب الضلال: الجهل أو الشبهة، هذه كلها من أسباب الضلال قد يكون من أسباب ضلال طوائف الضلال والبِدَع:

ظنهم بالله ظن السوء.

  • وقد يكون أنهم لم يعظموا الرب حق تعظيمه.
  • وقد يكون من أسباب الضلال: الشبهة التي تعرِض للإنسان، كثير من أهل البِدَع حصلت لهم شبه ضلُّوا بسببها.
  • وقد يكون سبب ذلك الجهل.
  • وقد يكون من أسباب ذلك التقليد الأعمى.

وقد يكون هناك أسباب أخرى، لكن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قال: إن أسباب الضلال ترجع لهذين الشيئين -يعني في نظره الذي يظهر له- وقد يظهر لغيره أسباب أخرى كما سبق.

الأمر الأول: ظنهم بالله ظن السوء، مثلما سبق من كونهم يظنون أن الله يحتاج إلى من يرسل إليه أحوال عباده، هذا من ظنهم بالله ظن السوء، فلهذا وقع في الشرك فعبد معه غيره؛ لأنه يظن أنه ينقل حوائجه إلى الله، أو يُتبعه في الأرض.

والثاني: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره ولم يعظموه حق تعظيمه، وسيمثل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة لهذا، أمثلة للضلال والبدع التي ترجع إلى هذين الأصلين. نعم.

((فلم يقدره حقّ قدره من ظنَّ أنه لم يرسل رسولًا ولا أنزل كتابًا، بل ترك الخلق سدًى وخلقهم عبثًا)).

هذا أمثلة لأسباب الضلال والانحراف: وهو الظن بالله ظن السوء وعدم تعظيمه حق تعظيمه.

المثال الأول: من ظن أن الله لم يرسل رسولًا فهذا ظن بالله ظن السوء، وهذا ظنٌّ كفري، (من ظن أن الله لم يرسل رسولًا ولا أنزل كتابًا، بل ترك الخلق سدىً وخلقهم عبثًا) هذا ظن كفر، قال الله تعالى:

  • ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾[القيامة:36].
  • ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾[المؤمنون:115].

هذا كله إبطال لهذا الظن السيء، من ظنَّ أن الله يترك الخلق هكذا؛ لا يرسل إليهم رسول، ولا ينزل إليهم كتاب، ولا يُبيِّن لهم أسباب نجاتهم وأسباب سعادتهم، ولا يبيِّن لهم ما يحبه ويرضاه، ولا يبيِّن لهم ما يكره ويأباه، من ظن بالله هذا الظن فقد ظن باله ظن السوء، ظنَّ أن الله لم يرسل رسولًا، ولم ينزل كتابًا، بل ترك الخلق سدىً وخلقهم عبثًا، يعني أنكر الرسالة، أنكر الرسل وأنكر الكتب، قال: ما فيه كتب ولا رسل ولا حاجة، الخلق خُلِقوا عبث هكذا، هذا ظنٌّ كفري مخرج من الملة من أقبح الظن، هذا ظن المشركين، ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾[ص:27].

والرسول والنبي قيل إنهما شيءٌ واحد؛ فالرسول هو النبي والنبي هو الرسول ولا فرق بينهما، واستدل هؤلاء:

بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه﴾[الحج:52]، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾، هذا يكون القول الأول.

القول الثاني: أن الرسول غير النبي استنادًا لهذه الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾؛ لأن الله عطف النبي على الرسول فدلَّ على أنهما شيئان.

والمشهور عند العلماء أن هناك فرق بين النبي والرسول، وجمهور العلماء على أن:

  • الرسول بشر أُوحي إليه بالشرع وأُمر بتبليغه.
  • وأما النبي فإنه بشر أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه.

فقالوا هذا هو الفرق بين الرسول والنبي:

  • الرسول هو الذي يوحي إليه بالشرع ويُؤمر بتبليغه.
  • والنبي يوحي إليه بالشرع ولا يُؤمر بتبليغه، يُنَبَّأُ في نفسه وأهل بيته.

وقال آخرون من العلم: إن هذا التعريف مرجوح وإن كان قول الجمهور؛ لأن كيف النبي يوحي إليه بالشرع ولا يؤمر بتبليغه، إذن ما هي مهمته؟

فالقول الثاني:

  • أن الرسول هو الذي يُرسل إلى أمةٍ كافرة، إلى قومٍ كفار فيؤمن به بعضهم ويرد دعوتهم بعضهم، مثل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، هؤلاء رسل أُرسلوا إلى أمم عظيمة، أُرسلوا إلى قومٍ كفار فاستجاب بعضهم وردُّوا دعوته بعضهم.
  • وأما النبي فإنه يبعث إلى قومٍ مؤمنين، النبي يُرسل إلى قومٍ مؤمنين ولا يرسل إلى قومٍ ويُكلَّف بالعمل بالشريعة السابقة، مثل: أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى كلهم كُلِّفوا بالعمل بالتوراة، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾[المائدة:44]، مثل: داود، وسليمان، ويحيى، وزكريا، كلهم جاءوا أنبياء بني إسرائيل بعد موسى حتى بعث الله عيسى، هؤلاء أنبياء، ويستثنى من ذلك: آدم وشيث؛ فإن آدم بعث إلى بنيه وشيث كذلك.
  •  والرسل معصومون من الشرك ومن الكبائر، ومن الخطأ فيما يُبلِّغون عن الله.

والذي عليه جماهير أهل العلم والمحققون أن الرسل معصومون في أمورٍ ثلاثة:

الأمر الأول: أنهم معصومون من الشرك.

الأمر الثاني: أنهم معصومون من الكبائر، والكبيرة: هو كل ذنب تُوُعِّدَ عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو نفي إيمان، أو وجب فيه حد (28:31).

الأمر الثالث: أنهم معصومون عن الخطأ فيما يبلِّغون عن الله، لا يمكن أن يخطئوا في هذا، أما الصغائر فقد تقع منهم ولكنهم لا يُقرُّون عليها ويوفقون للتوبة والإنابة.

  • مثل قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2)﴾[عبس:1، 2].
  • ومثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾[التحريم:1].
  • ومثل قوله تعالى: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾[الأحزاب:37].
  • وقال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾[غافر:55].
  • ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾[ص:24].
  • قال موسى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾[القصص:16].

فإذن هذا المثال الأول، ولذلك مثَّل المؤلف للظن بالله ظن السوء: (من ظنَّ أن الله لم يرسل رسولًا ولم ينزل كتابًا، بل ترك الخلق سدىً وخلقهم عبثًا) هذا الظن كفرٌ بالله تعالى.

((ولا قدره حقّ قدره من نفى عموم قدرته وتعلُّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم، وأخرجهما عن خلقه وقدرته))

فهذا الظن معصية، هذا الظن بدعة، أقل من الكفر، هذا ظن القدرية النفاة وهم القدرية المجوسية القائلين: بأن أفعال العباد ليست مخلوقة لله وليست داخلةً تحت قدرته، ولكن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعاتٍ ومعاصي، لا تدخل تحت قدرة الله ولا تتعلق قدرة الله بأفعال العباد، فنفوا عموم قدرة الله ومشيئته.

وهذا قول عامة القدرية ومقتصدوهم، فهم مبتدعة، هذا الظن ظن معصية؛ لأن الصواب أن القدرية النُفاة المجوسية ليسوا كفارًا وإنما هم مبتدعة؛ لأنهم آمنوا بمراتب القدر الأربعة، مراتب القدر أربعة:

  • العلم.
  • والكتابة.
  • والمشيئة.
  • والخلق والإيجاد.

فآمنوا بمراتب القدر لكنهم نفوا عموم المرتبة الثالثة -عموم المشيئة-، وعموم المرتبة الرابعة، فقالوا: إن الله شاء كل شيء إلا أفعال العباد ما شاءها، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، لشبهةٍ عرضت لهم وهي أنهم قالوا: لو قلنا إن الله خلق أفعال العباد وقدَّرها وشاءها ثم عذَّبهم عليها لكان ظالمًا، ففرارًا من ذلك قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يُقدِّرها، بل هم الذين خلقوها وشاءوها باختيارهم، فإذا عذبهم عذَّبهم على أفعالهم.

كما أنهم قالوا إن الطاعات أيضًا خلقوها، فإذا أثابهم أثابهم على أعمالهم التي فعلوها، ولهذا قالوا -هذا مذهب المعتزلة والقدرية- هم قدريةٌ في الأفعال معتزلة في الصفات، قالوا: إنه يجب على الله أن يثيب المطيع؛ لأنه يستحق الأجرة على الله كما يستحق الأجير أجرته، فهم مشبِّهة شبهوا الله بالمخلوقين، كما أنه يجب على الله أن يُعذِّب العاصي، وليس له أن يعفو عنه، ولا أن يرحمه، ولا أن يخرجه من النار، فهو مخلدٌ في النار إذا مات على الكبيرة.

هذا مذهبهم في شبهةٍ عرضت لهم، ما هذ الشبهة؟ قالوا: لو قلنا إن الله خلق أفعال العباد وعذَّب عليها لكان ظالمًا، لكن يقال لهم: إذا قلتم إن الله لم يقدر أفعال العباد يجب على ذلك أمور عظيمة، محاذير، يجب على ذلك أنه يقع في ملك الله ما لا يريد؛ فيكون العبد يريد المعصية والله يريد الطاعة، ولا تقع إرادة الله فتقع إرادة العبد.

ويلزم من ذلك أيضًا: أن مشيئة العبد تغلب مشيئة الله؛ فالله يريد من العبد الطاعة، والعبد يريد المعصية، فتقع مشيئة العبد ولا تقع مشيئة الله، أما القول: بأن الله تعالى خلق العباد وخلق قدرتهم وأفعالهم وإرادتهم التي بها يقدرون ولكن لهم اختيار، أهل السنَّة والجماعة أن لهم قدرة ولهم اختيار، فالله تعالى خلق العباد وخلق قدرتهم وإرادتهم التي بها يختارون ويريدون فأفعالهم منسوبةٌ إليه؛

  • فالذي يُنسَب إلى الله الخلق والإيجاد وهو مبني على الحكمة.
  • والذي يُنسب إلى العبد (32:54).

فلهذه الشبهة صاروا مبتدعة، أما غلاتهم وهم القدرية الأولى -النفاة الأولى-: الذين أنكروا العلم والكتاب، أنكروا المرتبة الأولى والمرتبة الثانية، هؤلاء الكفار وهم القدرية الأولى الذين أنكروا علم الله وكتابه، وهي المرتبة الأولى، مراتب القدر أربعة من لا يؤمن بها لا يؤمن بالقدر:

العلم: علم الله الشامل لكل شيء، كتابته للأشياء في اللوح المحفوظ، إرادته ومشيئته، خلقه وإيجاده:

عِلمٌ كتابةُ مولانا مشيئَتُهُ
 

 

وخَلْقُهُ وهو إيجادٌ وتكوينُ  
 

 

فالقدرية النفاة طائفتان:

الطائفة الأولى: الغلاة الذين أنكروا العلم والكتاب وهؤلاء ظهروا في أواخر عهد الصحابة في البصرة؛ فيحيى بن يعمر وحُمَيد الطويل كانا يطلبان العلم في البصرة في الحلقات، فظهرت القدرية وأنكروا علم الله، سبق علم الله بالأشياء، فأفزعهم ذلك ففزعوا إلى الصحابة في أواخر عهد الصحابة وقالوا: لو وفِّق لنا أحد من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- سألناه عما يقول هؤلاء، فخرج حميد الطويل ويحيى بن يعمر حَاجَّيْنِ أو معتمرين وقالوا: لو وفِّق لنا أحدٌ من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لسألناه عما يقول هؤلاء، قال: فَوُفِّقَ لنا عبد الله بن عمر داخلًا المسجد الحرام، قال: فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أنه سيكل الحديث إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلَنَا أناسٌ يتقفرون العلم -يعني يطلبون العلم- ويزعمون أن الأمر أُنُف -يعني مستأنف وجديد- لم يثبت به الله -يعني لم يقدره الله.

فقال ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم بُرآءٌ مني، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهبًا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره"، ثم ساق الحديث وهو أول الحديث في صحيح بن مسلم، حديث عمر بن الخطاب في مجيء جبرائيل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وسؤالاته النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، ثم عن الساعة، ثم عن أماراتها، ولما سأل عن الإيمان قال: « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».

هؤلاء ما آمنوا بالقدر خيره وشره، أنكروا علمه، قالوا: إن الله تعالى لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وأول من تفوه بذلك معبد الجهني بالبصرة وغيلان الدمشقي أول من أنكر علم الله بالقدر، علم الله بالأشياء قبل الكونية، ويقال: إنه سبقهم في ذلك (35:26)؛ فهؤلاء كفرهم الصحابة، وهم الذين قال فيهم الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- وغيره: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقرُّوا به خُصموا وأن أنكروه كفروا"؛

  • إن أقروا بالعلم خُصموا، قال: إذا كان الله يعلم فكيف يعلم ولا يقدِر؟!
  • وإذا أنكروه كفروا لأنهم نسبوا الله إلى الجهل.

فهؤلاء الطائفة الأولى انقرضوا، في زمن عهد الصحابة انقرضوا، فجاءت الطائفة الثانية: وهم المقتصدون، أولئك يسمون الغلاة وهؤلاء المقتصدون، فأولئك كفار فظنهم بالله ظن كفرٍ، وهؤلاء ظنهم ظن معصية وأظن كبيرة، وهؤلاء المقتصدون لا يُكفَّرون؛ لأنهم لهم شبهة، فرقٌ بين المتأول الذي شبهة وبين الجاحد.

فتكون القدرية طائفتان: الغلاة والمقتصدون:

  • الغلاة أنكروا المرتبتين الأوليين: العلم والكتاب.
  • والمقتصدون أثبتوا المرتبتين الأوليين وأنكروا عموم المرتبتين الأُخريين.

لأن هذه مراتب القدر لا بد من الإيمان بها كلها وإلا فلا يصح الإيمان؛ أن تؤمن بعلم الله وأن الله تعالى علم الأشياء في الأزل قبل كونها، علم ما كان في الماضي، وما يكون في الحال، وما يكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، أربعة أشياء(35:56).

العلم علم الله ما كان في الماضي في الأزل إلى ما لا نهاية، علم الله لم يسبقه جهل وليس له بداية؛ فالله تعالى هو الأول بذاته وصفاته، هو الأول الذي لا بداية لأوليته، كما أنه الآخر الذي لا نهاية لآخريته بأسمائه وصفاته، هو الأول لم يسبقه شيء، فلا بد من:

  • إثبات علم الله في الأزل في الماضي.
  • والثاني: إثبات في الحال.
  • والثالث: إثبات علم الله في المستقبل.
  • الرابع: إثبات علم الله لما لم يكن لو كان كيف يكون.

مثال ذلك في علم الله لما لم يكن لو كان كيف يكون:

  • قول الله تعالى عن الكفار لما سألوا الرجعة إلى الدار الدنيا قال الله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾[الأنعام:28]، هم الآن لا يُردُّون، لا يمكن أن يردوا، لكن لو رُدُّوا ماذا يحصل؟ يعلم الله، ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾.
  • قال سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنفال:23]، هذا إخبار بعلمه لما لم يكن لو كان كيف يكون، ﴿لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾، هو ما أسمعهم الآن، لكن ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
  • وقال الله تعالى عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ﴾[التوبة:46، 47]، ماذا يحصل؟ هم ما خرجوا، هذا من علم الله لما لم يكن لو كان، ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾.

أربع مفاسد تحصل من خروجهم ولهذا ثبطهم الله وقال: ﴿اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، هذا في بيان حكمة الله، وهو تعالى حكيم، ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)﴾، إذًا لابد من الإيمان بعلم الله.

ثانيًا: الإيمان بكتابة الله، بالأشياء، باللوح المحفوظ، وأن كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، ما الذي يُكتب؟ الذوات، والصفات، والأفعال، والحركات، والسكون، والسعادة، والشقاوة، والفقر، والغنى، والحياة، والموت، والعز، والذل، بل العجز والكيس، كل شيء مكتوب حتى العجز والكيس، والرطب واليابس.

  • قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:59].
  • قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾[الحج:70]، إثبات العلم والكتاب.
  • وقال سبحانه: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12]، وهو اللوح المحفوظ.
  • وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[الأنبياء:105].
  • وقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-: «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ».
  • وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ».
  • وفي الحديث الصحيح أيضًا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وفي لفظٍ: «فَجَرَى تِلْكَ السَّاعَةَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، إذن هذه هي المرتبة الثانية.

المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة، وهو أن كل شيءٍ يقع في هذا الوجود لا بد أن تسبقه مشيئة الله وإرادته، لا يقع في ملك الله شيءٌ لا يريده كونًا وقدرًا، ثم الذي يقع كونًا وقدرًا نوعان:

  • نوعٌ يحبه الله شرعًا كالطاعات.
  • ونوعٌ يكرهه الله شرعًا كالمعاصي والكفر.

المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد، وهو أن الإيمان بأن الله كل شيء في هذا الوجود فالله خلقه وأوجده.

الطائفة الأولى -القدرية الأولى-: الذين كفَّرهم الصحابة أنكروا العلم والكتاب، قالوا: إن الله لا يعلم بالشيء حتى يقع، ولم يُكتب في اللوح المحفوظ، فهؤلاء نسبوا الله إلى الجهل فكفَّرهم الصحابة، ولهذا قال العلماء: إن القدرية الأولى خارجون من الاثنتين والسبعين فرقة لكفرهم وضلالهم، وكذلك الرافضة وكذلك الجهمية.

أما الطائفة الثانية: فهم المقتصدون وهم المجوسية، سموا المجوسية يقال لهم: المجوسية؛ لأنهم شابهوا المجوس في القول بتعدُّد الخالق، فالمجوس قالوا بإثبات خالقين:

  • خالق للخير.
  • وخالق للشر.
  • خالق الخير هو النور.
  • خالق الشر هو الظلمة.

وكذلك المانوية نسبة إلى ماني بن فاتك الحكيم، فالقدرية قالوا: إن كل شخصٍ يخلق فعل نفسه خيرًا أو شرًا، ومنهم من يقول: إنه يخلق الخير، ومنهم من يقول: إن الله يخلق الخير والعبد يخلق الشر، ومنهم من قال: إن الله يخلق الخير ولا يخلق الشر؛ فهم شابهوا المجوس في القول بتعدُّد الخالق، فهناك قالوا: بإثبات خالقيِن وهنا قالوا بإثبات خالقيَن، هذا مذهب القدرية.

فتكون القدرية طائفتان:

الطائفة الأولى: الغلاة الذين أنكروا العلم والكتاب، هؤلاء ظنهم ظنٌ كفري.

والطائفة الثانية: القدرية المجوسية القائلون بأن أفعال العباد من طاعات ومعاصي لا تدخل تحت قدرة الله ولا تتعلق قدرة الله بأفعال العباد، هذا قول عامة القدرية ومقتصدوهم، وهذا ظنهم ظنُّ بدعة وكبيرة.

فيكون الظن نوعان:

  • ظنٌّ كفري.
  • وظنٌّ بدعيٍّ.

 ((ولا قدر الله حقّ قدره أضداد هؤلاء الذين قالوا: إنه يعاقب عبده على ما لم يفعله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه)).

وهذا قول الجبرية من الجهمية والأشعرية يقولون: إن الله يعاقب عبده على ما لم يفعله، بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه؛ لأنهم يقولون إن العبد مجبورٌ على أفعاله، يقولون: إن الطاعات والمعاصي خلقها الله لكن أجبر العباد عليها، العباد ليس لهم أفعال، عكس القدرية النفاة.

فتكون هذه الطائفة الثالثة من القدرية: القدرية المجبرة، سموها القدرية المجبرة، أولئك القدرية النفاة، فهؤلاء قدرية مجبرة، إذا قسمت القدرية إلى قسمين:

  • نفاة.
  • وغلاة.

نفاة ومثبتة، يكون النفاة قسمان:

الطائفة الأولى: الغلاة الذين أنكروا العلم والكتاب.

والثانية: المقتصدون.

وهؤلاء يسمون قدرية؛ لأنهم غالوا في القدرة، يسموا القدرية المجبرة، يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله، القدرية النفاة يقولون إن أفعال العباد ما خلقها الله.. خلقها العباد بأنفسهم، وهؤلاء بالعكس يقولون: الله تعالى خلق كل شيء والعباد ليس قدرة ولا اختيار؛

  • أولئك غلو قالوا: العباد لهم قدرة واختيار، بل هم الذي خلقوا أفعالهم وأوجدوها استقلالًا من دون الله.
  • وهؤلاء قالوا: العبد مجبور على أفعاله، ليس له حركة، ليس له اختيار، بل أفعاله كلها اضطرارية بمنزلة حركة المرتعش والنائم، وهبوب الأشجار والرياح.

فيقولوا: إن الأفعال أفعال الله، فالله هو المصلي وهو الصائم، والعباد عبارة عن وعاء، وعاء تمر عليهم الأفعال، قالوا: مثل الله في ذلك مثل الكوب الذي يُصَب فيه الماء، فالعباد كأنهم كوب يصب فيه الماء، والله هو صببنا فيه، تجري عليهم الأفعال مضطرين، مضطرون، يُساقون إلى القدر، فالأفعال أفعال الله هو المصلي والصائم، وهذا من أبطل الباطل.

وأما أهل السنَّة والجماعة فيقولون: إن العبد له قدرة وله اختيار، وهو الذي فعل بقدرته واختياره، وإن كان الله خلقه وخلق قدرته وإرادته.

فتكون الطوائف ثلاثة في أفعال العباد، في أفعال العباد مذاهب ثلاثة:

  • مذهب القدرية النفاة.
  • مذهب الجبرية، القدرية مجبرة.
  • مذهب أهل السنة والجماعة.

مذهب القدرية النفاة: يقولون: أفعال العباد كلها اختيارية مخلوقة لهم من دون الله استقلالًا، هم مختارون، بل خلقوا أفعالهم لو يكن لله في ذلك شيءٌ منها، بل هم الذين خلقوا أفعالهم مختارين، بل خلقوها وأوجدوها.

والطائفة الثانية: القدرية المجبرة قالوا: أفعالهم كلها اضطرارية، لا فرق بين حركة المرتعش، وحركة النائم، وحركة العبد؛ لأنه مجبور.

وأهل السنَّة والجماعة قالوا: أفعال العباد نوعان:

نوعٌ اضطراري لا يؤاخذ عليه مثل: حركات المرتعش، وحركة النائم، هذا لا المرتعش لا ما له اختيار، كذا ترتعش يده، حركاته، حركات النائم له.

والنوع الثاني: حركاتٌ اختيارية وهي أفعال العباد حينما يقوم، يصلي، ويأكل، ويشرب، ويذهب، هذا ما هو مختار كُلِّف، الآن يعرف... يعلم من نفسه أنه يستطيع يجلس ويقوم، تحضر الدورة وتستطيع تذهب ما أحد يمنعك، تذهب إلى المدرسة، تذهب إلى الجامعة، تذهب إلى الكلية، تذهب إلى السوق، ما حد يمنعك، تستطيع تجلس وتستطيع تذهب، هذا هو الذي تدركه العقول، أما النوع الثاني فحركات المرتعش والنائم هذه اضطرارية.

فهذه هي المذاهب الثلاثة:

القدرية النفاة قالوا: أفعال العباد كلها اختيارية بل هي مخلوقة لله استقلالًا.

الجبرية قالوا: أفعال العباد كلها اضطرارية، فهو مجبورٌ عليها والأفعال هي أفعال الله وهو وعاء لها تمر عليه، وأفعاله كلها اضطرارية؛ كحركة المرتعش والنائم.

وأهل السنَّة قالوا أفعال العباد نوعان:

  • اضطرارية هذه ليس له اختيار فيها كحركة المرتعش والنائم.
  • واختيارية وهي أفعاله عندما يأكل ويشرب ويذهب، ويبيع ويشتري، ويقوم ويتكلم ويخاطب، هذه فهو يفعلها باختياره فهي من الله خلقًا وإيجادًا ومن العبد تسببًا وكسبًا ومباشرة.

هذه الطائفة الثانية يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولا قدر الله حقّ قدره أضداد) أضداد يعني القدرية النفاة، أضداد؛

  • القدرية النفاة قالوا: العبد يخلق فعل نفسه.
  • وهؤلاء قالوا: والعبد مجبورٌ على أفعاله.

(الذين قالوا: إنه) يعني الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (يعاقب عبده على ما لم يفعله) يعاقبه إذا فعل المعصية قالوا: يعاقب عليها إنما ليست فعله، إذا زنا أو سرق قالوا: هو مجبور، كيف يعاقبه على ما لم يفعله؟ (بل يعاقبه على فعله هو) يعني فعل الرب سبحانه تعالى، هذا قول مَن؟ هذا قول الجبرية من الجهمية والأشعرية.

  • فالجهمية والأشعرية جبرية.
  • والمعتزلة قدرية، قدرية نفاة.

وكلٌّ منهم يسمى قدرية، لكن:

  • هؤلاء يُسمون قدرية نفاة؛ لأنهم نفوا القدر، نفوا أفعال العباد ولم يقولوا إن الله خلقها.
  • وهؤلاء يسمون قدرية المجبرة؛ لأنهم أثبتوا القدر وغلوا فيه فقالوا: العبد مجبورٌ على أفعاله، والله تعالى هو خلق الأفعال وأجبر العباد عليها.

فهؤلاء يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولا قدر الله حقّ قدره أضداد هؤلاء الذين قالوا: إنه يعاقب عبده على ما لم يفعله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه).

((وإذا استحال في العقول أن يُجبِر السّيد عبده على فعل ثمّ يعاقبه عليه، فكيف يصدر هذا من أعدل العادلين؟ وقول هؤلاء شرٌّ من أشباه المجوس القدريّة الأذلين)).

نعم، يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وإذا استحال في العقول أن يجبر السّيد عبده على فعل ثمّ يعاقبه عليه، فكيف يصدر هذا من أعدل العادلين؟) يعني فيه ردٌّ لقول الجبرية، الجبرية يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله وأن الأفعال أفعال الله، وأن العاصي يعاقب على فعل الله، فالله هو الذي يجبره على المعصية ثم يعاقبه عليها.

يقول: (هل في العقول أن السيد يجبر عبده على فعل ثم يعاقب عليه) أليس هذا قبيحًا مستحيل؟ مستحيل، واحد عنده عبد ثم يجبره على فعل ثم يعاقبه عليه، هل هذا يمكن يصدر من عاقل؟ ما يمكن، إذا كان مستحيل بالنسبة للمخلوق، فكيف هذا يقال في وصف الرب سبحانه؟ كيف يقول هؤلاء الجبرية: إن الله تعالى يُعذِّب العباد على ما فعله فيهم؟ فيستحيل في العقول السليمة أن السيد يجبر عبده على فعلٍ ثم يعاقبه عليه، فكيف هذا يصدر من أعدل العادلين وهو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيجبر العباد على أفعالٍ يعاقبهم عليها؟ هذا مستحيل.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وقول هؤلاء شرٌّ من أشباه المجوس القدريّة الأذلين):

(قول هؤلاء) الضمير يعود إلى مَن -الإشارة-؟ إلى الجبرية، الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبورٌ على أفعاله وأن الله يعذبه على فعله.

(شرٌ من أشباه المجوس القدرية الأذلين) من هم؟ القدرية النفاة، الطائفة الأولى الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم.

ما وجه كون قول هؤلاء شرٌ من قول هؤلاء؟ المعنى أن قول الجبرية المثبتة شرٌ من قول القدرية النفاة وهم المجوسية الذين شابهوا المجوس في القول بتعدُّد الخالق، ما وجه كون قول هؤلاء شرٌ من قول هؤلاء؟ كلاهما طائفتان الآن:

  • القدرية النفاة يسمون المجوسية.
  • والقدرية المجبرة هؤلاء يسمون القدرية الجبرية.

أيهم أشد فساد؟ قول القدرية الجبرية شرٌّ من قول القدرية النفاة، وأولئك وإن كانوا شابهوا المجوس في القول بتعدُّد الخالق لكنهم في الجملة يُعظِّمون الشرائع والأوامر والنواهي والإنسان مأمور ومكلف، لكن القدرية الجبرية يلزم على قولهم أن الشرائع عبث والرسل عبث، يقولون: صحيح أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكن الإنسان مجبور، فالكافر مجبور على الكفر، والعاصي مجبور على المعصية، إذن ما الفائدة من الشرائع؟ يقولون: الرسل عبث والشرائع عبث.

بخلاف القدرية المجوس فإنهم يعظمون الشرائع، يعظمون الشريعة، والأوامر والنواهي، لكنهم بدعتهم تقول بأن العبد يخلق فعل نفسه بالشبه الذي حصلت لهم، حصلت لهم هذه الشبه لكنهم يعظمون الشرائع والأوامر، ويقولون بالحدود وإقامة الحدود، أما هؤلاء فإنهم يقولون: أن العبد مجبور فلا فائدة من الشريعة ولا فائدة من الحدود، ولذلك صار قول الجبرية شرٌّ من قول القدرية النفاة.

فتكون القدرية طائفتان:

  • القدرية النفاة.
  • والقدرية الجبرية.

فالقدرية الجبرية شرٌّ من القدرية النفاة، أما القدرية الأولى النفاة الأولى اللي أنكروا علم والكتابة هؤلاء كفار.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وقول هؤلاء -يعني الجبرية- شرٌّ من أشباه المجوس القدريّة الأذلين) المعنى أن قول الجبرية المرجئة شرٌّ من قول القدرية النفاة وهم المجوسية الذين شابهوا المجوس في القول بتعدد الخالق؛ لأن القدرية النفاة عظَّموا الشرائع والأوامر والنواهي، وهؤلاء يلزم على قولهم إبطال الشريعة وتكون الكتب والرسل عبث؛ لأنهم يعتقدون أنه مجبور وأن الإنسان لا يستطيع يُنفِّذ الأوامر ولا النواهي.

نقف على هذا، ووفق الله الجميع.

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد