شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_12

00:00
00:00
تحميل
58

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد...

قال المؤلف -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: ((ولا قدره حقَّ قدره من نفى رحمته ورضاه، ومحبّته وغضبه، وحكمته مطلقًا، وحقيقة فعله، لم يجعل له فعلاً اختياريًّا، بل أفعاله مفعولاتُ منفصلة عنه، ولا قدره حقَّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا، أو جعله يحلُّ في مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود)).

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد...

فإن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بيَّن فيما سبق أن أصل ضلال جميع الطوائف طوائف الضلال والبِدَع يرجع إلى شيئين:

أحدهما: ظنهم بالله ظنَّ السوء.

والثاني: انهم لم يقدروا الرب حقَّ قدره.

قد ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة للظن بالله ظنَّ السوء؛

مثال ذلك: مَنْ ظنَّ أن الرب سبحانه لا يسمع ولا يستجيب إلا بواسطةٍ يُطلعه عليه غيره، هذا من الظن السيء ومن أسباب الضلال.

من ذلك: من ظن أنه لا يعلم ولا يسمع إلا بإعلامٍ من غيره.

وكذلك من ظنَّ أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يُليِّنه ويُعطِّفه على غيره. هذا من الظن.

وكذلك ظن القدرية الذين ظنُّوا أن الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يعلم بالأشياء حتى تقع، هؤلاء من أوائل الكفر ومن القدرية الأولى.

والقدرية الثانية: ظنُّوا أن أفعال العباد غير داخلةٍ في خلق الله وتقديره.

وبيَّن المؤلف أيضًا في الأمر الثاني وهو أنهم لم يقدروا الرب حق قدره لأمثلة:

من ذلك: أن من نفى عموم قدرته المتعلقة بأفعال العباد، هذا لم يقدر الله حق قدره.

كذلك من قال: إن الله يُعاقب عبده على ما يفعله فيه، فلم يقدر الله حق قدره، وهذا ظن الجبرية من الجهمية والأشاعرة، وسبق أن الظن يكون: ظنٌّ كفري، وظنُّ معصية وبدعة.

وكذلك مَن لم يقدر الله حق قدره؛ كالكفار الذين أنكروا البعث والجزاء والحساب، هؤلاء لم يقدروا الله حق قدره.

وكذلك العُصاة لم يقدروا الله حق قدره، وهذا شاملٌ للأمرين.

ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولا قدره حقَّ قدره من نفى رحمته ورضاه، ومحبّته وغضبه، وحكمته مطلقًا، وحقيقة فعله، لم يجعل له فعلاً اختياريًّا، بل أفعاله مفعولاتٌ منفصلةٌ عنه) هذا قول الأشاعرة الذين أنكروا صفات الرب الصفات الفعلية؛ ينفون الرحمة، والمحبَّة، والرضا، والغضب، والحكمة، ولا يُثبتون إلا سبع صفات: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع، والعلم، والقدرة، والإرادة؛

له الحياةُ والكَلامُ والبصَر 
 

 

سمعٌ إرادةٌ وعلم واقتَدَر
 

 

وما عدا ذلك فإنهم يؤوِّلونه وينفونه، ومنهم مَن يُثبت له أربعين صفة، ومنهم مَن يُثبت عشرين صفة.

والصفات الاختيارية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار يُنكرونها، شبهتهم في ذلك يقولون: لو قلنا: إن الرب يتصف بالرحمة، والمحبة، والرضا، والغضب لكان محل الحوادث؛ لأن هي حادثة، أفعال حادثة، والرب ليس محل الحوادث، لكن يُقال: إن هذا إنما يلزم من الإنسان المخلوق، المخلوق هي التي أفعاله حوادث، أما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيتصف بالصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، لا يُماثل المخلوقين في صفاته.

فمن نفى الرحمة، والمحبة، والغضب، والحكمة من الأشاعرة، ومن الكلَّابية، وغيرهم فإنه لم يقدِر الرب حقَّ قدره، حيث نفى الرحمة، ونفى المحبَّة، والرضا، والغضب، والحكمة، ولم يجعل للرب فعلًا اختياريًّا؛ لأنه بزعمه أنه لو كان الرب له فعلٌ اختياري لكان محلَّا للحوادث.

ويقول: (إن أفعاله مفعولاتٌ منفصلةٌ عنه) وهذا باطل، هذا من أبطل الباطل، فالمفعولات غير الفعل، هذا من جهلهم وضلالهم، فإن الفعل وصفٌ للرب قائمٌ به، الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، فالرب يتصف بالخلق، الخلق وصف الرب، والمخلوق مفعولٌ منفصل، فهم لم يُفرِّقوا بين الفعل والمفعول، ولم يُفرِّقوا بين الخلق والمخلوق من جهلهم وضلالهم. قالوا:

الفعل هو المفعول، فعل الرب هو المفعول، هو المخلوقات، وهذا باطل، فإن الفعل وصفٌ للرب قائمٌ به، الخلق وصف الرب، الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء هذا وصف الرب.

أما المفعول المنفصل فهو مخلوق؛ كالسموات، والأراضين، والآدميين، والجن، وغيرهم هذه مفعولات، مخلوقات منفصلة، والخلق وصف الرب، الله تعالى خلق الخلق، فالخلق وصف الرب، والمخلوق منفصل ليس هو الخالق، والفعل الرب صفته الفعَّال، الفعل هو اسم قائمٌ بالرب، والمفعول هو المخلوق البسيط.

فهؤلاء الأشاعرة نفوا الصفات الاختيارية للرب؛ كالرحمة، والمحبة، والرضا، والغضب، والحكمة، ولم يجعلوا للرب فعلًا، نفوها، عطَّلوا الرب عن الوصف، بل قالوا: الأفعال هي مفعولات، الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، وهذا من جهلهم وضلالهم؛

فالفعل وصفٌ قائمٌ بالرب، وصفه، والمفعول منفصل.

الخلق وصف الرب، والمخلوق منفصل.

ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولا قدره حقَّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا) وهؤلاء هم المشركون، هؤلاء لم يقدروا الله حق قدره حيث وقعوا في الشرك، جعلوا لله صاحبةً وولدًا كالنصارى الذين قالوا: إن عيسى ابن الله، جعلوا الولد لله، وجعلوا لله صاحبة وهي مريم -تعالى الله عما يقولون-، هذا كفرٌ وضلال.

بل إن نسبة الولد إلى الله من الجرائم العظيمة الكفرية التي أمرها عظيم، التي تكاد له السموات أن تنشق، وتتفطَّر السموات، وتنشق الأرض، وتكاد الجبال أن تنهد لهذا الأمر العظيم، نسبة هذا الأمر الشنيع إلى الله؛ ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾[مريم: 88-89] أمرًا عظيمًا، ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[مريم:90-93].

كل من في السموات والأرض يأتي عبد معبَّد، مقهور مذلَّل، مسخَّر، مربوط بسرَّة، تظهر فيه قدرة الله، ليس له من نفسه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، كل من في السموات والأرض يأتي معبَّد، والله تعالى هو الخالق ليس له ولد ولا صاحبة، هذه من الجرائم العظيمة، نسبة الولد إلى الله من الجرائم الكفرية العظيمة.

(ولا قدره حقَّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا) يعني زوجة، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا﴾[الجن: 1-3]، ﴿تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ أي ارتفعت عظمته، الجد بمعنى العظمة هنا، ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ أي ارتفعت عظمته، الجد يأتي بمعاني:

يأتي بمعنى العظمة كما هنا.

ويأتي بمعنى أبي الأب، ثم الجد.

ويأتي بمعنى الحظ كما في الذِكر: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ مِنْكَ الجَدِّ»؛ يعني لا ينفع الصاحب الحظ منك حظًّا؛ يعني لا ينفع حظَّه من الجاه والمال والسلطان ما ينفعه وحده، إلا أن يستخدمه في طاعة الله.

فالجد:

يأتي بمعنى أبي الأب.

ويأتي بمعنى الحظ.

ويأتي بمعنى العظمة؛ (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ) يعني ارتفعت عظمتك؛ ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾[الجن:3] ارتفعت عظمته. ﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا﴾[الجن:3] فمن جعل لله صاحبةً وولدًا فلم يقدره حقَّ قدره، هذا شرك.

(أو جعله يحلُّ في مخلوقاته) هذا قول الحلولية وهو كفر، يقولون: أن الله حالٌّ في كل مكان -تعالى الله عما يقولون- وهو قول الجهمية الحلولية، يقولون: أن الله حالٌّ في كل مكان -نسأل الله العافية والسلامة-، حتى قالوا: إنه حالٌّ في بطون السباع وأجوف الطيور والأماكن القذرة -تعالى الله عما يقولون-، فهذا من أعظم الكفر قول الحلولية.

والحلولية طائفتان:

طائفة تقول بالحلول الخاص كالنصارى يقولون: إن الله حلَّ في عيسى، ومنهم من يقول: إنه حلَّ في بعض الصور الجميلة.

والنوع الثاني: الحلول العام، وهو القول بأن الرب حالٌّ في كل مكان -تعالى الله عما يقولون- وهذا من أعظم الكفر.

(أو جعله عين هذا الوجود) هذا قول الاتحادية وهو كفر، (جعله عين هذا الوجود) قالوا بالاتحاد، والاتحاد هو نوعان:

الاتحادٌ الخاص.

والاتحاد العام.

الاتحادٌ الخاص: كقول النصارى الذين قالوا: إن الرب اتحد في عيسى، اتحاد اللاهوت في الناسوت يقولون، فعيسى مكون من شيئين:

مخلوق.

وخالق.

فيه جزءٌ من الله، وجزءٌ من الناس، جزءٌ من الإله وجزءٌ من الناس، اتحاد اللاهوت في الناسوت، جزءٌ من الإله وجزءٌ من الناس، وصار شيئًا واحدًا يُقال له: المجسِّدة -تعالى الله عما يقولون-.

والثاني: الاتحاد العام وهو القول بوحدة الوجود، ورئيسهم العربي، القول بوحدة الوجود يقول: إن الوجود واحد، ما تراه واحد، ليس فيه رب ولا عبد؛

فالرب هو العبد، والعبد هو الرب.

والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق.

الخالق على المخلوق، والمخلوق على الخالق.

والرب عن العبد والعبد عن الرب.

ما في أنت الرب، وأنت الخالق، وأنت المخلوق، وأنت العبد، رئيسهم العربي رئيس وحدة الوجود، التبس عليه الأمر، ما يدري الرب يقول:

الرَّبُ عَبدٌ والعبدُ رَبٌّ
 

 

يا ليتَ شِعري مَنْ المُكَلِّف؟
 

 

ما يدري أيهم؟ ما يدري كيف يُكلَّف؟

الرَّبُ عَبدٌ والعبدُ رَبٌّ
 

 

يا ليتَ شِعري مَنْ المُكَلِّف؟
 

إنْ قلتُ عبدٌ فذاك ميتٌ
 

 

أو قلتُ ربٌّ أنّى يُكلَّفْ؟!
 

 

إن قلت: عبد فهو ميت، وإن قلت: رب كيف يُكلَّف؟ أرأيت كيف التبس الأمر -والعياذ بالله- في أوضح الأمور، ويقول: "ربٌّ مالك، وعبدٌ هالك، وأنتم ذلك، والعبد فقط والكثرة وهم"، ولن تتوهم أن هناك... فالتعدُّد هذا وهم، وما تراه مظاهر لتجلِّي الحق، والسموات والأراضين وما تراه هي أجزأ وأسمع والصفات له، مثل: البحر الذي له زبد متعدد الأمواج وهو شيءٌ واحد -تعالى الله عما يقولون-.

ويقول:

سِرْ حَيْثُ شِئْت فَإِنَّ اللَّهَ ثَمَّ
 

 

وَقُلْ مَا شِئْت فِيهِ فَإِنَّ الْوَاسِعَ اللَّهُ


 

 

أيهما أعظم كفرًا: الاتحادية أو الحلولية؟ الاتحادية أعظم كفر، والفرق بين الحلولية والاتحادية:

أن الحلولية قالوا: بإثبات اسمين أحدهما حلَّ في الآخر، مثل: المال حلَّ في الكوز، الكوز يصب في الماء، شيئان حلَّ أحدهما في الآخر.

أما الاتحادية: فلا يقولون بالتعدد، يقولون: الوجود واحد، ما في اثنين، لا اثنانية ولا تعدُّد، ما في اثنان حلَّ أحدهما في الآخر، لا هما شيءٌ واحد اتحدا وصارا شيئًا واحدًا -نسأل الله العافية والسلامة-.

وكفر الاتحادية أعظم، أعظم الكفر كفر الاتحادية -والعياذ بالله-، أنكروا الرب العظيم الذي قامت بأمره السموات والأرض، وهو مذهب فرعون حينما قال للناس: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24].

فهذه ثلاثة أنواع من الكفر:

(ولا قدره حقَّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا) هذا كفر المشركين.

(أو جعله يحلُّ في مخلوقاته) هذا كفر الحلولية.

(أو جعله عين هذا الوجود) هذا كفر الاتحادية.

((ولا قدره حقَّ قدره من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته، وجعل فيهم الملك، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته، وهذا يتضمَّن غاية القدح في الرِّب، تعالى الله عن قول الرَّافضة. وهذا مشتقٌ من قول اليهود والنصارى في ربِّ العالمين: إنه أرسل ملكًا ظالمًا، فادعى النبوّة، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلًا يقول: أمرني بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أبناء الله وأحبائه، والرّب تعالى يظهره ويؤيده، ويقيم الأدّلة والمعجزات على صدقه، ويُقبِل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذُّل أعداءه أكثر من ثمان مائة عام، فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرّافضة تجد القولين سواء)).

ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قولان:

قول الرافضة.

وقول اليهود والنصارى.

وقال: إن هؤلاء كلٌّ من الرافضة والنصارى لم يقدروا الرب حق قدره، ما عظَّموه حق تعظيمه، لو عظَّموه حقَّ تعظيمه ما كفروا به، فالرافضة ما قدروا الله حق قدره، ماذا يقولون؟ يقولون: (إِنَّ الله رفع أعداء رسوله وأهل بيته، وجعل فيهم الملك، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته).

كيف ذلك؟ الرافضة يعتقدون أن الصحابة أعداء للرسول، وأعداء لأهل بيته، ولهذا كفَّروا الصحابة وكذَّبوا النصوص التي فيها أن الله تعالى زكَّى الصحابة وعدَّ لهم ووعدهم بالجنة؛

﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾[الحديد:10] والحسنى الجنَّة، نصَّ هذا ووعده الله بالجنة، ﴿مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ وهو ما يكون بعد صلح الحديبية.

وقال في سورة الفتح في آخرها: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾[الفتح:29] قال في آخرها ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:35].

وقال في سورة التوبة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾[التوبة:100].

وقال في الفتح: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾[الفتح:18].

وفي الحديث: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

فهذه النصوص كلها ضرب بها الرافضة عُرض الحائط التي فيها الترضِّي عن الصحابة ووعدهم بالجنة، فقالوا: إن الصحابة كفروا، كفَّار وارتدُّوا بعد وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وهم أعداء لله ولرسوله، وأعداءٌ لأهل بيته، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- نصَّ على أن الخليفة بعده علي، ثم الحسن، ثم الحسين ولكن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ومن ردَّتهم أنهم ولُّوا أبو بكر واغتصبوا الخليفة الأول عليّ، وأنكروا النصوص، فأخفوا النصوص التي جاء أنه هو الخليفة، ثم ولوا أيضًا عمر زورًا وبهتانًا، ثم ولوا عثمان زورًا وبهتانًا؛ فالصحابة كفَّار عند الرافضة وأعداء لأهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.

يُقال لهم: هل يمكن أن يكون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يرفع أعداء الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وأعداء أهل بيته ويجعل فيهم الملك؟ جعلوا الملك وصيفًا في مَن؟ في أبي بكر، وعمر، وعثمان، إذا كنتم تقولون: أنهم أعداء لله وأعداء لرسوله، كيف هل يليق بالله وعظمته أن يرفع أعداء الرسول وأهل بيته ويجعل فيهم الملك، ويضع أولياء الرسول وأهل بيته ويخذلهم؟ هذا يتضمن غاية القدح في رب العالمين، هذا يتضمن القدح في رب العالمين.

كيف يجعلوا الخلاف والملك في أبي بكر وعمر وعثمان وهم أعداء لله ولرسوله ولأهل بيته، ويخفض أهل بيته ولا يجعل فيهم ملك ولا خلافة؟! ما تولى إلا علي، والباقي (16:52) ثلاثة، والباقي كل الاثنا عشر ما تولى واحد، هذا يليق في حكمة الرب أنه يخذل أعداء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وأعداء أهل البيت، ويرفع أعداءهم، يخذل أهل البيت ولا يجعل فيهم الخلافة، ويجعلهم أذلاء، ويرفع أعداءهم ويجعل فيهم الملك؟! هذا لا يليق، مَن قال هذا فإنه ما قدر الرب حق قدره.

 قال المؤلف: (ولا قدره حقَّ قدره) ما قدر الرب حق قدره ولا عظَّمه حق تعظيمه (من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته) مَن هم أعداء رسوله وأهل بيته عندهم؟ أبو بكر وعمر وعثمان والصحابة، (وجعل فيهم الملك والخلافة ووضع أولياء رسوله وأهل بيته) ووضعهم وخذلهم ولا قال فيهم شيء.

قال المؤلف: (وهذا يتضمَّن غاية القدح في الرِّب، تعالى الله عن قول الرَّافضة) هذا قول الرافضة.

قال: (وهذا مشتقٌ من قول اليهود والنصارى) هذا إشارة يعود إلى أي شيء؟ إلى قول الرافضة، (مشتقٌ) يعني مأخوذ (من قول اليهود والنصارى في ربِّ العالمين) ما هو قول اليهود والنصارى؟ اسمع قول اليهود والنصارى في رب العالمين:

قالوا: (إنه) إن الله يعني (أرسل ملكًا ظالمًا، فادعى النبوّة، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلًا يقول: أمرني بكذا ونهاني عن كذا) هو كذَّاب (تبيح دماء أبناء الله وأحبائه، والرّب تعالى يظهره ويؤيده، ويقيم الأدّلة والمعجزات على صدقه، ويُقبِل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذُّل أعداءه أكثر من ثمان مائة عام) لماذا ثماني مئة عام؟ لأن المقريزي عاش في القرن التاسع الهجري، وفاته في القرن التاسع ثمانمائة وخمسة وأربعين.

ثمانمائة عام وهذه المدة ونحن نقول كم الآن؟ نقول: ألف وأربعمئة عام والله تعالى يُظهرهم، هل يُمكن هذا؟ هل يليق بحكمة الرب أنه يرسل ملكًا ظالمًا يدَّعي النبوَّة ويكذب على الله والله يؤيده، وهو ينصره، وهو يُقتِّل الأنبياء والأولياء ويستبيح دماءهم، والله تعالى يؤيده وينصره ويُقبِل بقلوب الخلق وأجسادهم، ويجعلهم يُحبونه، ويُقيم دولته، ولا تزال الدولة تزداد ثمانمائة عام على هذا، والله يؤديه وهو كذَّاب؟

هل يُمكن؟ ما يمكن، الله تعالى قال لنبيِّه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾[الحاقة:44-47] لو حرف امتناع الامتناع، (لو) هذا مستحيل، المقصود منها بيان مقادير الأشياء، بيان عِظَم ذنب الكذب على الله.

(لو) لو تقوَّل النبي محمد مع دلالته على الامتناع لكن مستحيل هذا، هو معصوم من هذا، لكن (لو) حرف امتناع الامتناع، الرب يقول: (لو) حرف امتناع الامتناع (لو) لو تقوَّل النبي محمد، ﴿لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ﴾[الحاقة:44] وكذب ماذا يحصل له؟ ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[الحاقة: 45-46] الوتين: عرق ويتصل في القلب إذا قُطِع مات الإنسان في ساعته.

(لو) حرف امتناع ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)[الحاقة:44-46] لو لكن هذا معصوم من هذا، لكن المراد لبيان عِظَم ذنب من كذب على الله وأن الله يُعجِّل بالعقوبة؛ كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65] هو معصوم من الشرك، لكن المراد هذا تحذير للأمة والمراد بيان مقدار عِظَم الشرك، وأن المشرك مهما كان يحبط عمله؛ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65].

فهؤلاء اليهود والنصارى يقولون: (إن الله أرسل ملكًا ظالمًا، فادَّعى النبوّة، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلًا) يُقتِّل لأنبياء والأولياء والله يُظهره ويؤيده، ويقيم دولته ثمانمائة عام، هل يليق بحكمة الرب؟ ما يليق.

يقول المؤلف: (وازن بين قول هؤلاء) اليهود والنصارى (وقول إخوانهم من الرّافضة تجد القولين سواء)، (وازن بين قول هؤلاء) الإشارة تعود إلى اليهود والنصارى، (وقول إخوانهم من الرّافضة تجد القولين سواء)، المعنى أن:

قول اليهود: أن الله (أرسل ملكًا ظالمًا، فادعى النبوّة، وكذب على الله).

وقول الرافضة: (إن الله رفع أعداء رسوله وأهل بيته، وجعل فيهم الملك، ووضع أولياء رسوله).

القولين سواء، إذا وازنت بين القولين تجد أن قول الرافضة مشتقٌ من قول اليهود والنصارى، وهذا ليس بغريب بأن الرافضة يوافقون اليهود في كثيرٍ من الأحكام ومن العقائد، وذكر الشيخ ابن تيمية في [منهاج السنَّة] أن الرافضة يوافقون اليهود في سبعين خصلة أو ثمانين خصلة؛

منها: أن كلًا من الطائفتين لا تأكل لحم الإبل.

ومنها: أن كلًا من الطائفتين لا تصلي المغرب حتى تشتبك النجوم.

ومنها... جعل يُعددها.

ومنها: أن اليهود رموا مريم الطاهرة بالفاحشة، والرافضة رموا أم المؤمنين بالفاحشة.

وهكذا، فلا يُستغرَب قول الرافضة يوافق قول اليهود، لا يُستغرب هذا، ولذلك يقول المؤلف: وازن بين قول الرافضة وقول اليهود والنصارى تجد القولين سواء.

اليهود ماذا قالوا؟ قالوا: (إن الله أرسل ملكًا ظالمًا، فادعى النبوّة، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلًا زمنًا طويلً ويستبيح دماء أنبياء الله وأوليائه وأحبائه، والرّب تعالى يظهره ويؤيده، ويقيم الأدّلة والمعجزات على صدقه، ويُقبِل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة، ويذُّل أعداءه أكثر من ثمان مائة عام).

هل يليق بحكمة الرب هذا؟ ما يمكن، الكذَّاب على الله يُعاجل بالعقوبة كما سمعتم في الآية، هذا مصادم للآية؛ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾[الحاقة:44-45] الذي يكذب على الله يُعاجل بالعقوبة، يدَّعي النبوَّة، ولذلك تجد الكذَّابين الذين ادَّعوا النبوَّة كلهم عوجلوا بالعقوبة.

مسيلمة الكذَّاب عوجل بالعقوبة.

الأسود العنسي عوجل بالعقوبة، وهكذا.

كل من ادَّعى النبوَّة لا يصطبر زمنًا طويلًا، يُعاجل بالعقوبة، وهؤلاء اليهود يقولون: هو ثمانمائة عام، يقول المؤلف: إن قول الرافضة مثل قول اليهود والنصارى.

الرافضة يقولون: (إن الله رفع أعداء رسوله وأهل بيته) وهم أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان، (وجعل فيهم الملك، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته وخذلهم) قال: (هذا يتضمَّن غاية القدح في الرِّب، تعالى الله عن قول الرَّافضة) فهذا كله داخل في الأمر الثاني، يقولون: من أسباب الضلال والانحراف الظن بالله الظن السوء وأنهم لم يقدروا الرب حق قدره؛ فهؤلاء الرافضة واليهود كفرهم أنهم لم يقدروا الله حق قدره، فلم يقدروا الرب قدره حيث كفروا بالله وبرسوله.

 ((ولا قدره حقَّ قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور ليبيِّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين)).

نعم (ما قدر الله حقَّ قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى) وهذا الزعم للمشركين الذين أنكروا البعث، قال الله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾[التغابن:7] الله تعالى أمر نبيَّه أن يُقسِم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه:

الموضع الأول: في سورة التغابن ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[التغابن:7] أمره الله أن يُقسِم على البعث.

والموضع الثاني: في سورة يونس قال تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾[يونس:53] يعني البعث ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾[يونس:53].

والموضع الثالث: في سورة سبأ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ﴾[سبأ:3].

فمن زعم أن الله لا يُحيي الموتى ولا يبعث من في القبور فإنه لم يقدِر الله حق قدره، ولم يُعظِّمه حق تعظيمه، فالله تعالى يحيي الموتى، ويبعث من في القبور ليبيِّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين؛ فإذا بُعِثوا حينئذٍ تبيَّن للكافر وعرَف، ويعرف ويعلم أنه كاذب حينما أنكر البعث.

ولذلك لما ذكر الله تعالى في سورة الصافات المحاورة التي بين المسلم وقرينه الكافر، وأن الكافر كان يُنكر البعث ثم وبَّخه المؤمن وقال: الآن بُعثت رأيت البعث، فذكر الله تعالى قصة هي العظة والعبرة في سورة الصافات، مؤمن وكافر قرينان في الدنيا، وكان الكافر يُنكر البعث والمؤمن ينصحه، ثم مات فدخل الكافر النار، ودخل المؤمن الجنة، فصار الكافر يتقلَّب في النار، والمؤمن يكشف عليه من فوق يتفرج عليه.

وقال لبعض أصحابه: هلم هلم نطَّلع على صاحبنا ننظر حاله، فاطلعوا فرأوه يتقلَّب في النار، وجعل يُناديه من فوق، كيف يُنادي أهل الجنة؟ ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾[الأعراف:50] كيف يتنادون؟ أهل الجنة على عليِّين فوق السماء السابعة، فوق عرش الرحمن، فوق الفردوس، والنار في أسفل سافلين، فتُبرَز يوم القيامة ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾[النازعات:36]، وتُسجَّر البحار وتُفجَّر وتكون جزءًا من النار.

فالنار أسفل، والجنة أعلى ومع ذلك يتخاطبون، كيف يسمع صوته مع طول المسافة؟ يسمع ويراه أيضًا، الله أعطانا في هذه الدنيا الآن، الآن الجوال أنا نتكلم الآن في المشرق والمغرب وتراه في الشاشة الآن، (26:58) المشرق والمغرب، تشاهد من في الدنيا الآن، هذه الله أعطاه هذا نموذج فلا يستوي، ولذلك يتخاطب أهل الجنة وأهل النار؛

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾[الأعراف:44]

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[الأعراف:50].

قال تعالى في سورة الصافات: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾[الصافات: 50-51] يعني في الدنيا، ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾[الصافات: 52-53] يقول لك: كان لي قرين يُصدِّق أن فيه بعث، ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾[الصافات:53] يعني مبعوثون ومحاسبون ومدينون.

﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (50) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾[الصافات: 50-54] تحبون تطلعون ترونه في النار، ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾[الصافات:55] فاطلع القرين في الجنة رأى صاحبه يتقلَّب في وسط النار.

﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾[الصافات:55] فجعل يناديه فقال: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾[الصافات:56] القرين الذي في الجنة يقول للذي في النار: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ﴾[الصافات: 56-58] أنت تُنكر البعث.

﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[الصافات: 58-59] يوبخه، أنت تقول: ما في إلا الموت هذا ولا في بعث؟ ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ قال الله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾[الصافات:60-61].

فــ (من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور) فإنه ما قدر الله حق قدره، ولا عظَّمه حق تعظيمه، والله تعالى يبعث الموتى ليُحاسبهم ويُجازيهم، و(ليبيِّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) أهل النار.

((وبالجملة: فهذا بابٌ واسعٌ، والمقصود أن كل من عبد مع الله غيره فإنما عبد شيطانًا، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[يس:60]، فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله تعالى، وذلك غاية رضى الشيطان، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ﴾[الأنعام:128] أي: من إغوائهم وإضلالهم، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾[الأنعام:128])).

يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وبالجملة: فهذا بابٌ واسعٌ) يعني الخلاصة فيما سبق أن هذا الأمر واسع؛ يعني الظن بالله ظن السوء، ومَن لم يقدِر الله حق قدره بابه واسع، وأمثلته كثيرة، لكن هذه أمثلة وإلا فمن أمثلة كفر الكافرين وشركهم وضلال أهل البدع يرجع إلى هذين الأصلين:

ظنهم بالله ظن السوء.

وكونهم لم يقدروا الله حق قدره.

 أمثلةٌ كثيرة.

ولهذا قال المؤلف: (وبالجملة: فهذا بابٌ واسعٌ) لكن المقصود ذِكر الأمثلة والتنبيه (وبالجملة: فهذا بابٌ واسعٌ، والمقصود أن كل من عبد مع الله غيره فإنما عبد شيطانًا) لأنه أطاع الشيطان، كل مَن عبد مع الله غيره فقد عبد الشيطان بمعنى أطاعه؛ لأن الشيطان هو الذي يدعو إلى ذلك، يدعو إلى كل بدعة، يدعو إلى كل شرك، ويدعو إلى كل رذيلة؛ فمن عبد من دون الله شيئًا فقد عبد الشيطان لأنه أطاعه ومثَّل المؤلف بهذه الآية.

(﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[يس:60]، فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان) لماذا؟ (ما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان) مَن عبد البقر وقعت عبادته للشيطان، من عبد الحجر وقعت للشيطان، ومن عبد النجوم وقعت للشيطان، مَن عبد البشر وقعت للشيطان، من عبد السموات وقعت للشيطان، من عبد الأراضين وقعت للشيطان، كل شيء عُبِد ما في شيء ما عُبِد، حتى الفرج عُبِد، حتى في معبودات في الهند تزيد على مئات المعبودات؛ ومنها عبادة الفرج، كل شيء عُبِد.

فهذه المعبودات كلها تكون للشيطان؛ مَن عبد شيئًا كائنًا من كان فقد عبد الشيطان؛ لأنه إطاعة، والعبادة تكون بمعنى الطاعة، ولهذا قال المؤلف: (فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان)، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[يس:60] والعبادة هنا بمعنى الطاعة، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾[يس:60] أي ألا تُطيعوا الشيطان.

فالعبادة بمعنى الطاعة كما قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[التوبة:31] يعني يُطيعونهم في التحليل والتحريم، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾[التوبة:31] هل المعنى أنهم سجدوا لهم وركعوا لهم؟ لا المعنى أطاعوهم في التحليل والتحريم، فالعبادة تكون بمعنى الطاعة، فالشيطان دعاهم فأطاعوه فصارت طاعتهم عبادةً له، هذا هو الذي فسَّره المفسِّرون، فسَّروا العبادة هنا بمعنى الطاعة؛ ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ ألا تُطيعوه.

لكن أيضًا مثَّلوا العبادة بالعبادة الحقيقية، وأنهم عبدوا الشيطان حقيقةً وسجدوا له وركعوا له، كم وجد في هذا الزمن من يعبد الشيطان حقيقةً؟ في ناس يُسمون عُبَّاد الشيطان معروفون، في لبنان عُبَّاد الشيطان حقيقةً، فتُفسَّر الآية بالأمرين جميعًا، تُفسَّر الآية: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾:

ألا تعبدوه حقيقة كما وقع في هذا الزمن عبدوا الشيطان حقيقة.

وتُفسَّر بالطاعة أيضًا.

تشمل الأمرين، فهي ثابتة في الأمرين؛ فالشيطان عُبِد حقيقةً الآن، يُمثلون الشيطان ويتصورنه ويسجدون له -والعياذ بالله-، ويعبدونه من دون الله.

وأيضًا الطاعة تُسمى عبادة، ولهذا قال المؤلف: (فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلاّ وقد وقعت عبادته للشّيطان، فيستمتع العابد بالمعبود) كل واحد يستمتع بالآخر، كل واحد يستفيد من الآخر.

(فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله تعالى، وذلك غاية رضى الشيطان) كل واحد يستمتع:

العابد الذي يعبد الشيطان يستمتع بأي شيء؟ يستفيد بماذا؟ بحصول غرضه، يحصل له غرضه.

والمعبود يستمتع بالعابد؛ لأنه يُطيعه ويُعظِّمه والشركيات.

مثل الساحر والشيطان، الساحر الآن الذي يتصل بالشيطان كل واحد يستمتع بالآخر؛ لأنها خدمة متبادلة، فالشيطان يستمتع بالإنس في الشرك، كونه يشرك به، في الشركيات التي يأمرهم بها، كونه يُطيعه: يأمره بالكفر بالله، يأمره بأن يُلطِخ المصحف بالنجاسة، يأمره بأن يتكلم بكلام فيه كفر، يأمره بأن يتقرَّب إليه بالقرابين والبدع الظاهرة.

والساحر يستفيد من الشيطان يستجيب لمطالبه، وإذا أمره أن يلطِم أحدًا لطمه، إذا أمره أن يخرج من الدين خرج، يسرق له بعض الأشياء كما يوجد بعض الشياطين تسرق بعض الأشياء وتأتي بها للسحرة، يوجد بعض الشياطين يسرق بعض الطيف، وفُقِد بعض الأطياف في الهند ووجدت عند بعض السحرة، سرقها الشيطان وأتى بها إليه؛ فهذه من الفوائد التي يستفيدها السحر من الشيطان.

الساحر يستفيد من الشيطان: يستجيب لمطالبه، يأتي له ببعض الأشياء، يلطِم بعض الناس إذا أمره أن يلطِم لطمه، إذا أمره أن يخرج من دينه خرج حتى يستفيد من الدنيا.

والشيطان يستمتع به في الشركيات التي يأمره بها.

(فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله تعالى، وذلك غاية رضى الشيطان، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ﴾[الأنعام:128]).

﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ أي الجن والإنس، أي الجن وأوليائهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا كلهم حشروا.

﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ﴾ أي من إغوائهم وإضلالهم.

﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ﴾ يعني أولياء الجن، قال أولياء الجن من الإنس.

﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ قال الحسن -رَحِمَهُ الله- في تفسير هذه الآية: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرك فعملت الإنس، استجابت.

 ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ يعني الموت، قبل الموت، ﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعني مأواكم، وفيها إثبات القول لله -عَزَّ وَجَلَّ- أن الله يتكلم، ﴿قَالَ النَّارُ﴾ فيه الرد على من أنكر الكلام لله من المعتزلة وغيرهم، ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ في الآية إثبات للبعث والجزاء، وإثبات الجنة والنار.

((فهذه إشارةٌ لطيفةٌ إلى السِّر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه موجبٌ للخلود في العذاب العظيم، وأنه ليس تحريمه قبحه بمجرّد النّهي عنه فقط، بل يستحيل على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يشرع لعباده عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله)).

يقول المؤلف -رَحِمَهُ الله-: (هذه إشارةٌ لطيفةٌ إلى السِّر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر) والشرك: هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، الشرك الأكبر: هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، تسوية الله بغيره في الربوبية، أو في الألوهية، أو في الأسماء والصفات هذا هو الشرك، هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.

في الربوبية كأن يسوي غير الله بالله بأن يقول: هناك مدبر لهذا الكون، هناك رب مع الله، هناك من يتصرف في هذا الكون، هناك من يخلق ويرزق مع الله، هناك من يدبر الأمر مع الله، هناك من يُماثل الله في العلم، في القدرة، وفي السمع، والبصر، وفي الإرادة، هناك من يُماثل الله في ذاته، أو في أسمائه، أو في صفاته، أو في أفعاله، هذه شركٌ أكبر من دون الله؛ لأنه سوَّى غير الله بالله في ربوبيته، أو في أسمائه، أو في صفاته، أو في أفعاله، أو في ألوهيته، هذا هو المشرك، هذا الشرك؛ تسوية غير الله بالله.

قال هنا: أثبت أن لله مثيل في ذاته، أو مثيل في أسمائه، اسم الله الرحمن، أو مثيل في صفاته، أو مثيل في أفعاله، هو مساوي لله، أو مثيل في ألوهيته حق العبادة في حق أن يُعبَد من الله، في حق أن يُدَّعى أو يُذبَح له، أو يُنذر له، أو يُصلَّى له، أو يُصام له، أو يُطاف له، أو غير ذلك من أنواع العبادة، فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ الله-: (فهذه إشارةٌ لطيفةٌ إلى السِّر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر) لماذا كان الشرك أكبر الكبائر؟ لأن في تسوية المخلوق الضعيف الناقص الذليل بالعزيز الحميد، الكامل، تسوية الناقص بالكامل، تسوية المخلوق بالخالق، فلهذا (كان الشرك أكبر الكبائر)، ولا يغفره الله، (لا يغفر بغير التوبة منه

فمن تاب قبل الموت تاب الله عليه.

ومن لقي الله بالشرك فإنه لا يُغفر له.

(وأنه موجبٌ للخلود في العذاب العظيم) إذن هذه الأمور تتعلق بالشرك:

أولًا: الشرك الأكبر لا يُغفَر إلا بالتوبة؛ فمن لقي الله بالشرك فإنه لا يمكن أن يُغفَر له، ومن لقي الله بغير الشرك فهو تحت المشيئة؛

إن شاء الله غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة بتوحيده وإيمانه والإسلام.

وإن شاء عذَّبه بقدر ذنوبه ثم يُخرجه من النار.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48] إذن هذا الأمر أن الشرك من لقي الله فإنه لا يُغفَر له.

ثانيًا: أن الشرك محبط الأعمال، محبط الأعمال كلها؛ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65]، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:88]، ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23] فالشرك محبطٌ للأعمال، والشرك لا يُغفَر، والشرك لا يدخل تحت الموازنة بالحسنات والسيئات، بل يهدم الحسنات كلها، ما يبقى معه حسنة.

بخلاف الشرك الأصغر فإنه يدخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات؛

فإن رجحت السيئات عُذِّب بالشرك الأصغر.

وإن رجحت الحسنات فإن هذا الشرك يسقط لا يدخل تحت الموازنة بين الحسنات ولا يدخل النار، الشرك الأصغر.

أما الشرك الأكبر فإنه لا يدخل تحت الموازنة بين الحسنات بل يهدم جميع الحسنات، فالشرك لا يغفر بغير التوبة منه، والشرك يُحبط الأعمال، الشرك لا يغفره الله لمن لقيه به، والشرك موجب الخلود في النار، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾[المائدة:72] فالجنة حرام على المشرك.

ولا يستطيع أحدٌ أن يُخلِّصه من عذاب الله، المشرك، لا يستطيع أحد أن يُخلِّصه، لو اجتمع الناس كلهم الخلائق كلهم يُنقذونه من النار ما استطاعوا، ولا يستطيع أن يفدي نفسه ولو بملء الأرض ذهبًا ما يستطيع؛

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾[المائدة: 36-37].

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾[آل عمران:91].

من مات على الشرك ما في شيء له، ما يستطيع أحدٌ أن يُنقذه، ولا تنفعه الشفاعة، ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[المدثر:48] حتى لو كان الشافع وجيهًا عند الله؟ ولو كان وجيهًا عند الله، ولو كان ما يستطيع، ما في حيلة، مات على الشرك.

إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- خليل الرحمن أعظم الناس وجاهةً بعد نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قال الله عن موسى: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾[الأحزاب:69]، وإبراهيم أعظم وجاهة، هو نبيٌّ أعظم، دعا إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَام- أباه إلى الإسلام ولكنه لم يقبل، دعا أباه وقومه، وتلطَّف إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- في دعوة أبيه؛ يا أبتٍ، يا أبتِ، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)  أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾[مريم: 41-45]

انظر كيف التلطُّف في الدعوة، تلطَّف في الخطاب؛ يا أبتِ:

﴿يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾[مريم:44]

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾[مريم:45]

تلطُّف، نصح، تفوح رائحة النصح من الكلمات، ماذا قال الأب الشيخ الضال؟ ماذا رد عليه؟ ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾[مريم:46]، الرد؛ ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾[مريم:46] ماذا رد عليه ابنه؟ قال ابنه، قال إبراهيم: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾[مريم:47]؛ فاستغفر له فنهاه الله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾[التوبة:114] لما قال: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾[الشعراء:86] في سورة الشعراء قال: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾[الشعراء:86] تعالى، بيَّن الله في سورة التوبة: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[التوبة:114].

والله تعالى أمرنا أن نقتدي بإبراهيم إلا في دعوته لأبيه فلا نقتدي به، في قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الممتحنة:4] قدوة ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾[الممتحنة:4] هذه لا تقتدون به، ليس لكم أسوةٌ فيه.

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾[الممتحنة:4] في براءته في البراءة من أي شيء؟ من المشركين، ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾[الممتحنة:4] هذا مستثنى ليس لنا أسوة فيه ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الممتحنة:4] وهذا استغفر له: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾[التوبة:114].

بعد هذا كله إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَام- بلغ النصح في النصح لأبيه، ومع ذلك ما في سمة، مات على الكفر والده: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:74] آزر أبوه.

ثبت في صحيح البخاري أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: «يلقى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ قَتَرَةٌ»، «يلقى إبراهيم أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ قَتَرَةٌ فيقول إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أباه: اليوم لا أعصيك» يوم القيامة ما ينفع، فإبراهيم رقَّ له، فنادى إبراهيم ربه قال: "يَا رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَعْظَمُ مِنْ خِزْيِ أَبِي الْأَبْعَدِ؟!" رقَّ لأبيه، قال إبراهيم لأبيه: يَا رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال: فَأَيُّ خِزْيٍ أَعْظَمُ مِنْ خِزْيِ أَبِي الْأَبْعَدِ؟!" فلما رقَّ له وإبراهيم أبوه عنده مسخ الله أباه فصار ذيخ، والذيخ هو الذكر من الضبع، ذيخ ملتطخ بقذراته، فقيل له: يا إبراهيم انظر ما تحتك، فإذا هو بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَأُخِذَ بِقَوَائِمِهِ وَأُلْقَى فِي النَّارِ، حتى تزول الرحمة منه، وهذا ثبت في صحيح البخاري.

الأمر ما في حيلة، مَن مات على الشرك ما في حيلة، إبراهيم لما رقَّ له مسخ الله أباه فصار ذيخًا، وأُخِذ بقوائمه وأُلقي في النار -نسأل الله العافية والسلامة-.

يقول المؤلف -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (فهذه إشارةٌ لطيفةٌ إلى السِّر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه موجبٌ للخلود في العذاب العظيم) عرفنا أن الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله في الربوبية، أو في الألوهية، أو في الأسماء والصفات.

والشرك يُحبِط الأعمال، الشرك الأكبر ويوجب الخلود في النار، ولا يدخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات بل يهدم الحسنات، فهذه كلها أحكام الشرك الأكبر أنه يُحبِط الأعمال، ولا يدخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات، ولا يُغفَر إلا بالتوبة، ويوجب الخلود في النار.

قال المؤلف: (وأنه ليس تحريمه قبحه بمجرَّد النَّهي عنه فقط) يعني بل قبح الشرك مستقرٌ في العقول والفِطر، ليس لأجل النهي فقط... الأشاعرة والجبرية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد