شعار الموقع

شرح كتاب تجريد التوحيد_13

00:00
00:00
تحميل
72

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد...

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..

قال -رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالىَ-: ((واعلم أن النّاس في عبادة الله -تعالى- والاستعانة به أربعة أقسامٍ:

أجلّها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم؛ ولهذا كان أفضل ما يسأل الرّب -تعالى- الإعانة على مرضاته، وهو الذي علّمه النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، فقال: «يا معاذ، والله إني أحبّك، فلا تدع أن تقول في دُبر كل صلاة: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك"»، فأنفعُ الدّعاء طلب العون على مرضاته تعالى)).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ تَعالىَ-: (واعلم أن النّاس في عبادة الله -تعالى- والاستعانة به على أربعة أقسام) فهذا البحث في تقسيم الناس في العبادة والاستعانة، وهذا البحث نقله المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ- من كتاب [مدارج السالكين لشرح منازل السائرين بين إيّاك نعبُدُ وَإيّاك نسْتعين] للإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللّهُ تَعالىَ-، فهو منقول، كل هذه الرسالة قيل أنها منقول، منقولة من كتب شيخ الإسلام وابن القيم، فهذا البحث بل البحث إلى آخر الكتاب كله منقول من [مدراج السالكين] لابن القيم، هذا البحث فيه بيان أقسام الناس.

أقسام (الناس في عبادة الله والاستعانة به على أربعة أقسام)، وهي أمور متقابلة:

القسم الأول: (أهل العبادة والاستعانة).

القسم الثاني: من لا عبادة له ولا استعانة.

القسم الثالث: من له عبادة بلا استعانة.

القسم الرابع: من له استعانة بلا عبادة.

هذه أقسامهم.

  • القسم الأول: من له عبادةٌ واستعانة.
  • القسم الثاني يقابله: من لا عبادة له ولا استعانة.
  • القسم الثالث: من له عبادة بلا استعانة.
  • القسم الرابع: من له استعانة بلا عبادة.

هذه أقسام الناس.

القسم الأول: (أهل العبادة والاستعانة).

يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (واعلم): العلم هو حكم الذهن الجازم بعد تصوره على حقيقته، والعلم هو إدراك الشيء والتيقن به.

سبق أن المدركات أنواع:

  1. العلم.
  2. والشك.
  3. والظن.
  4. والوهم.

فالعلم: هو اليقين الذي يتيقنه الإنسان ويجزم به، إدراك الشيء يقينًا.

والظن: الراجح من الأمرين. إذا كان الشيء محتمل لأمرين وأحدهم أرجح من الآخر فالراجح يسمى "ظن"، والمرجوح يسمى "وهم"، وإذا كان الأمرين على حدٍ سواء لا ترجيح لأحدٍ عن آخر يسمى "شك".

فالمدركات: (علم، ظن، شك، وهم).

فالمؤلف يقول: (اعلم) لا تشك، ولا تظن، ولا تتوهم، (اعلم) تيقن، "العلم" هو اليقين، حكم الذهن الجازم بعد تصوره على حقيقته، إدراك الشيء يقينًا.

(اعلم أن النّاس في عبادة الله والاستعانة به على أربعة أقسام)، يدخل في (النّاس) الجن أيضًا، الجن والإنس؛ لأن الجن مكلفون، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار مثل الإنس؛ قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، فالناس مكلفون، كلمة (النّاس) من النوس والحركة، تشمل الجن والإنس.

(في عبادة والاستعانة على أربعة أقسام):

القسم الأول، قال المؤلف: (أجلّها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها)، الاستعانة بالله على العبادة، (أهل العبادة والاستعانة بالله) على العبادة.

و(العبادة) قيل في تعريفها: "أنها ما أُمر به شرعًا من غير إطرادٍ عرفي ولا اقتضاءٍ عقلي"، يعني ما أمر به الشارع من غير أن يقتضيه العقل. العقل يقتضي أمورًا قد تكون غير مشروعة، وقد يطرد العرف، فالعبادة ليست عرفًا ولا اقتضاءٍ عقليًا، ما أمره به الشارع من غير أن يطرد فيه العرف ومن غير أن يقتضيه العقل، أما ما اطرد فيه العرف فهو عُرف تعارف عليه الناس أو اقتضاه العقل.

وقيل (العبادة)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللّهُ- في تعريف (العبادة):  "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطن والظاهرة". هذا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللّهُ-، قال: العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة. كل ما يحبه الله ويرضاه، الذي يحبه الله ويرضاه ما هو؟

فِعل الأوامر والنواهي، فالله -تعالى- أمر عباده بأوامر ونهاهم عن نواهي في كتابه وعلى عاشرة رسله، فهذه الأوامر التي أمر بها، أو أمر بها رسله يحب من عباده أن يفعلوها، وهذه النواهي التي نهى عنها أو نهتها عنه رسله يحب من عباده أن يتركوها؛ فإذا فعلت الأوامر وتركت النواهي فهذا هو الذي يحبه الله ويرضاه.

وهذه التي يأمر الله بها وينهى عنه تكون قولًا وتكون فعلًا، وهذا القول تكون قول ويكون فعل، وهذا القول يكون باطن، مثل: قول القلب واعتقاده وتصديقه، ويكون ظاهرًا بقول اللسان، حينما يتكلم بذكر الله، وقراءة القرآن، وقد يكون عملًا باطلًا، مثل: الخوف والرجاء، والمحبة والتوكل (07:36)، وقد يكون عملًا ظاهرًا، مثل: الصلاة والصيام والزكاة، هذه هي العبادة، هذا تعريف شامل: "اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، كل ما يحبه الله ويرضاه قولًا أو عملًا، ظاهرًا أو باطنًا".

فالخلاصة: أن (العبادة) هي الأوامر والنواهي التي جاءت في الشريعة، يفعل المسلم الأوامر وينهى عن النواهي.

لكن (العبادة) لابد لها من ركنين، وهما: (الحب والذل)، غاية الحب مع غاية الذل. يعني حينما تفعل الأوامر كـ (الصلاة) أقيم الصلاة، تصلي لابد تأتي بأركان العبادة، وهي (الحب والذل)، غاية الحب في غاية الذل، غاية المحبة لله في غاية الذل والخضوع لله، لابد من هذين الأمرين، فإذا أحب الإنسان شيئًا ولم يخضع له لا يكون عبادة، وإذا أحب خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عبادة، فإذا اجتمع صارت عبادة.

فقد يحب الإنسان شيئًا ولكنه يخضع له، كما يحب المال، والصديق، والزوجة، والولد لكن لا يخضع له، وقد يخضع للص أو السلطان الظالم لكن لا يحبه، فإذا اجتمع الأمران حُب وخضوعٌ وذل فهي (العبادة)، اجتمع الأمران غاية الحب في غاية الذل، (غاية) نهاية. غاية الحب في غاية الذل.

قال العلَّامة ابن القيم -رَحِمَهُ اللّهُ- في [الكافية الشافية]:

وعـبادةُ الرحمـن غَايَـةُ حُبِّـهِ

مـع ذُلِّ عـابـده همـا قُـطْبَـانِ

وعليهمــا فلـك العبـادة دائـرٌ

مـا دار حــتى قــامت القطبـانِ

ومـداره بـالأمر أمــرِ رسـوله

لا بالهـوى والنفـسِ والشـيطانِ

 

ومن جهةٍ أخرى أن العبادة لها أركانٌ ثلاثة:

  • الحب.
  • والخوف.
  • والرجاء.

فلابد أن يعبد الإنسان ربه بالحب، يتعبد الله بالحب والخوف والرجاء، فهو يحب الله ويخاف، لكن هذا الخوف لا يصل به إلى درجة القنوط واليأس وسوء الظن بالله؛ لأن عنده رجاء، يمنعه الرجاء، يمنعه أن يصل إلى القنوط واليأس (الرجاء). وكذلك "الرجاء" يرجو (10:17) لكن لا يحضره الرجاء ويسترسل في هذا الرجاء، حتى يتجرأ على المعاصي ويأمن مكر الله، فهو يرجو لكن لا يأمن مكر الله، هو يخاف لكن لا يقنط ولا يسيء الظن بالله.

فالخوف لولا الرجاء لكان يأسًا وقنوطًا، والرجاء لولا الخوف لكن أمنًا من مكر الله، والله -تعالى- قال في القنوط: فالخوف إذا وصل إلى حال القنوط واليأس، هذا صار كبيرةً عظيمة من كبائر الذنوب، قال: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾[الحجر:56]، قال: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾[يوسف:87]، سماه الله كفرًا، وكذلك "الرجاء" إذا استرسل صار مكرًا، ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأعراف:99].

فالمؤمن يعبد الله بالحب والخوف، بالخوف والرجاء كجناحه الطائر، يسير المؤمن إلى الله بالخوف والرجاء كجناحه الطائر لا يتوحد مع الآخر، فالطائر إنما يستقل طيرانه إذا استقام جناحه، فإذا فقد أحد الجناحين أو فقدهما صار الطائر في عداد الموت، فكذلك إذا فقد الإنسان الخوف والرجاء فقدت العبادة ما صحت العبادة، لابد من الخوف والرجاء والحب، فمن عبد الله بواحدٍ من هذه الأمور الثلاثة؛ فإنه لم يعبده حق العبادة.

"ومن عبد الله بالحب وحده" فهو زنديق فهذه طريقة الصوفية، "ومن عبد الله بالخوف وحده" فهو حروري هذه طريقة الخوارج، "ومن عبد الله بالرجاء وحده" فهو مرجئ (المرجئة)، "ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء" فهو مؤمنٌ موحد.

  • من عبد الله بالحب وحده لا يخاف ولا يرجو، هذه طريقة الزنادقة (الصوفية)؛ ولهذا تجد في كتب الصوفية، وفي كتب [الوعظ] ينكرون عن رابعة العدوية أنها قالت: "ما عبدت الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، فأكون كأسير السوء، ولكنِ عبدته حبًا لذاته وشوقًا إليه"، يعني ما فيه خوف ولا رجاء، لاحظ أنا ما أعبده للخوف ولا للرجاء، اللي يعبد للخوف والرجاء معناه نفعي، معناه ما ينظر إلَّا إلى ما نفسه فأنا ما أعبده.

يقول بعض الصوفية: "أنا ما أعبده للخوف ولا للرجاء، بل أعبده حبًا لذاته ولا أبالي بعد ذلك، بل إنه يستلذ العذاب، ويرى لو عُذب في النار يقول: "ما فيه مانع، لا بأس يعذب بالنار؛ لأنه مخالف لهواه. فهذه طريقة الصوفية هذا الزندقة.

  • "ومن عبد الله بالخوف وحده" فهذه طريقة الخوارج؛ ولهذا كفّروا المسلمين بالمعاصي، وقالوا: "من فعل الكبيرة فهو مخلد في النار، أو لو بالخوف فألفوا جانب الخوف.
  • "ومن عبد الله بالرجاء وحده" فهي طريقة المرجئة، الذين يقولون: (ما يضر مع الإيمان الطاعة كما لا ينفع مع الكفر معصية)، الذي يقول: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة).
  • "ومن عبد بالحب والخوف والرجاء" فهو مؤمنٌ موحد.

والعبادة لها أيضًا لها ركنان وهما: (الإخلاص، والمتابعة). وسيأتي المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ- يذكر أقسام الناس في الإخلاص والمتابعة.

و"الإخلاص": أن يكون العمل لله مرادًا به وجه الله والدار الآخر.

و"المتابعة": أن يكون العمل موافقًا للشريعة وثوابًا على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فهذه هي العبادة والسنن المقبولة، (العبادة) هي التي يتوافر فيها الحب والذل والخوف والرجاء، فتكون (14:07) لله موافقةً لشرع الله.

المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ- يقول: (النّاس في عبادة الله والاستعانة به على أربعة أقسام: أجلّها وأفضلها)، أجلّ هذه الأقسام وأفضلها: (أهل العبادة والاستعانة)، (الاستعانة) تقتضي كمال الذل وتفويض الأمر إلى الله -تعالى-، (الاستعانة): طلب العون، سؤال الله العون (الهمزة، والسين، والتاء) للطلب هي التوكل على الله.

فـ (أهل العبادة والاستعانة) هم أهل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، (أهل العبادة) هم أهل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ هم أهل هذا المقام الكريم، أهل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هذه العبادة، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ هذه الاستعانة، لابد من الأمرين عبادة واستعانة بالله -عزَّ وجلّ-، (والاستعانة) هي التوكل، والله -تعالى- جمع بين الأمرين: بين العبادة والتوكل فيما مضى من كتابه الكريم، كقوله هنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5].

قال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[هود:123]، ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ هذه العبادة، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ هذه الاستعانة.

﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾[الرعد:30]، ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه العبادة، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ هذه الاستعانة.

والآيات في هذا كثيرة إذًا بين العبادة والاستعانة، فهؤلاء يجمعون جمعوا بين العبادة والاستعانة، هما أفضل الأقسام وأجلّها، أفضلها (أهل العبادة والاستعانة بالله عليها).

قول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5] تقديم المعمول يفيد الحصر، يعني نعبدك يا الله ولا نعبد غيرك، ونستعين بك ولا نستعين بغيرك، فتقديم العبادة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على الاستعانة؛ لتقديم الغايات على الوسائل، (العبادة) غاية، (الاستعانة) وسيلة. فـ (الاستعانة): التوكل على الله وطلب العون من الله أن يعينك، وأن يقدرك على العبادة هذه وسيلة، فـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قُدمت العبادة على الاستعانة.

﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[هود:123] قدمت العبادة على الاستعانة، قُدمت الغاية على الوسيلة.

ومن جهةٍ أخرى، يقال: إن الاستعانة جزءٌ من العبادة من غير (16:27)، وليست العبادة جزءٌ من الاستعانة، فالاستعانة جزءٌ من العبادة (16:33) الاستعانة على العبادة يكون من التخصيص بعد التعميم.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (فعبادة الله غاية مرادهم)، يعني هذا قسم (أهل العبادة والاستعانة): (عبادة الله غاية مرادهم)، مطلوبهم (عبادة الله)، إذا تحققت العبادة بشروطها، أركانها وشروطها، بالحب والخوف والرجاء والذل، وشروطها وبالإخلاص وبالمتابعة هذا مرادهم، (مرادهم) أن يعبدوا الله كما شرع بالحب والخوف والرجاء، إخلاصًا لله، ومتابعةً لنبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا (غاية مرادهم).

(فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم) من الله -سبحانه وتعالى- (أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم) هؤلاء أفضل الأقسام، (عبادة الله) هي الغاية -غاية المطلوب لهم-، (وطلبهم) من الله (أن يعينهم) على العبادة (ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم).

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (ولهذا كان أفضل ما يُسأل الرّب -تعالى- الإعانة على مرضاته)، أفضل ما تسأله، أفضل ما يسأل الإنسان ربه (أن يعينه على مرضاته)، هذا أفضل من أي شيء؟ أفضل من أن تسأل الله الولد أو يعطيك أن يرزقك مالًا، أو يرزقك ولدًا، أو يقضي دينك أفضل ما تسأله أن يعينك على مرضاته، إذا عانك على مرضاته حصلت على خير الدنيا والآخرة، من فعل ما يرضي الله فهو السعيد في الدنيا والآخرة؛ (فلهذا أفضل ما يُسأل الرّب الإعانة على مرضاته). فاللهم أعني على مرضاتك، اللهم وفقني للعمل الصالح.

قال المؤلف: (وهو الذي علّمه النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبلٍ). (وهو) يعني الإعانة على مرضاة الله، سؤال الله، (الإعانة على مرضاته، هو الذي علّمه النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل).

(فقال: «يا معاذ، والله إني أحبّك») في فضيلة معاذ -رضي الله عنه-، حيث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «والله إني أحبّك» أقسم؛ للتأكيد، ويكفي أن يقول: (إني أحبك) لكن من باب التأكيد.

المؤكدات: التأكيد الأول هو: (الله) قسم، والتأكيد الثاني: (إني)، (إنَّ) من أدوات المؤكدات «إني أحبّك»، «والله إني أحبّك».

ثم قال: «فلا تدع أن تقول في دُبر كل صلاة: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك"». إذا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحبك؛ إذًا الحبيب ينصح لحبيبه، فالنبي أقسم وأكد بأنه يحبه، ومن محبته له أنه نصحه بهذه النصيحة، وأعطاه هذه الفائدة، وليست خاصة بمعاذ، لا، بل هي للأمة كلها (19:25) هذه النصيحة ليست خاصة بمعاذ؛ لأن الشريعة عامة، فنصيحة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لواحد هي نصيحة للأمة كلها.

كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عمر: «كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل». (كُنْ) هذا خطاب لمن؟ لابن عمر، «كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل» هذا خاص بابن عمر ولَّا عام للناس؟ عام للأمة كلها، كل إنسان يكون هذا يستعد لموت، «كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل».

وكما علم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عباس وهو صبي، قال: «يا غلام! إني أُعلمك كلمات: احفظِ اللهَ يحفظك، احفظِ اللهَ تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأُمة لو اجتمعوا على أن ينفعوكَ بشيء، لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيء، لم يضروكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليكَ». يقول له في الآخر: «تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّة، واعلم أنَّ النَّصر مع الصَّبر، وأنَّ الفرج مع الكرب، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا»، هل هذا خاصٌ بابن عباس؟

لا، عام للأمة كلها؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُشرع، إلَّا ما دلَّ الدليل على تخصيصه؛ كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخال ابن نيار، قال له في الأضحية: «قد تجزيك ولا تجزي عن أحدٍ بعدك». هذا فيه خصوصية، «تجزيك ولن تجزي عن أحدٍ بعدك»، فإذا دلَّ الدليل على التخصيص هذا يكون خاصًا، وإلَّا فالأصل أن الشريعة عامة.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (ولهذا كان أفضل ما يسأل الرّب -تعالى- الإعانة على مرضاته، وهو الذي علّمه النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل، فقال: «يا معاذ، والله إني أحبّك»). ومن ثمرة المحبة النصيحة الغالية.

قال: «فلا تدع أن تقول في دُبر كل صلاة: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك"». وهذا الحديث قدم للإمام أحمد، وأبو دود، والنسائي في [عمل اليوم والليلة]، وابن خزيم، وابن حبان، والحاكم كما ذكر المحقق، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال المحقق: "إن في إسناده عقبة بن مسلم الشبيبي لم يخرجا له لكنه ثقة فالإسناد صحيح".

فهذا الحديث صحيح، وفيه: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علّم معاذ، وهو تعليمٌ للأمة كلها أن يدعو بهذا الدعاء، وهو أن يسأل الله الإعانة على العبادة: «اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك».

و"الذكر" عام يشمل: الذكر بالقلب، والذكر باللسان، والذكر بالجوارح، فالعبادات كلها ذكرٌ لله فالصلاة ذكر، والصيام ذكر، والدعاء ذكر، وقراءة القرآن ذكر، تعظيم الله ذكر.

و"الشكر لله"، والشكر، قيل أن الشكر يكون، الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، و"الشكر" يكون كذلك أيضًا بالقلب وباللسان وبالجوارح، "وحسن العبادة" والعبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح، فتكون العطف عنها من عطف العبادة على العبادة، فالذكر عبادة، والشكر عبادة، (وحُسن عبادتك) والعبادة الحسنة هي الموافقة للشرع ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[لقمان:22] الموافقة للشرع. («أعنِّي على ذكرك وشُكرك») وعلى العبادة الموافقة للشرع.

ومتى يكون هذا الدعاء «اللّهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك»؟ هل يقوله في آخر الصلاة أو بعد الصلاة؟

النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «فلا تدع أن تقول في دُبر كل صلاة» مُحتمل؛ لأن "الدُبر" يطلق على آخر الشيء كـ (دُبر الحيوان)، ويطلق على ما بعد الشيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللّهُ-: (إن هذا الدعاء يقال قبل السلام، في آخر التشهد)؛ لأنه قال: «فلا تدع أن تقول في دُبر كل صلاة»، و(الدُبر) آخر الشيء، ومنه دبر الحيوان، دبر الحيوان آخره منه.

وقال بعض العلماء: "إنه يكون بعد السلام"؛ لأن دُبر الشيء يكون ما بعده، ولا مانع من الدعاء به قبل الصلاة، وفي آخر الصلاة، وبعد الصلاة، والدُبر يطلق على هذا ويطلق على هذا، يطلق على آخر الشيء، ويطلق على ما بعد الشيء.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (فأنفعُ الدّعاء طلب العون على مرضاة الله تعالى).

(أنفعُ الدّعاء) ما هو؟ (طلب العون على مرضاة الله تعالى)، (أنفعُ الدّعاء طلب العون على مرضاة الله تعالى).

وهذا الفائدة، وهي قول: (أنفعُ الدّعاء طلب العون على مرضاة الله) هذه نقلها ابن القيم -رَحِمَهُ اللّهُ- عن شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: "هذه الفائدة من شيخ الإسلام، وهي أن (أنفعُ الدّعاء طلب العون على مرضاة الله تعالى) هذا (أنفعُ الدّعاء)، فـ (طلب العون على مرضاة الله) هذا أفضل الدعاء؛ لأن الله إذا أعانك على مرضاته؛ فحصلت على السعادة، كنت سعيدًا.

((ويقابلها هؤلاء القسم الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله -تعالى- أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، والله -سبحانه وتعالى- يسأله من في السّموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء. وأبغض خلقه إليه إبليس، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته، ومتّعه بها، ولكن لما لم تكن عونًا على مرضاته كانت زيادةً في شقوته وبعده.

وهكذا كل من سأله -تعالى- واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مبعدًا له عن الله، فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة)).

هذا (القسم الثاني) من أقسام الناس في العبادة والاستعانة، (المعرضون) عن العبادة والاستعانة، ليس لهم عبادة ولا استعانة.

  • القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة، وهذا أجلُّ الأقسام وأفضلها.
  • والقسم الثاني: من لا عبادة له ولا استعانة، وهؤلاء شر الأقسام وأبعدها، وهم (المعرضون) الذين ليس لهم عبادةٌ ولا استعانة، (المعرضون) عن عبادة الله (والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة).

(بل إن سأله -تعالى- أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته)، يعني إذا سأل أحد هؤلاء الذي ليس لهم عبادة ولا استعانة: إنَّا نسأله في أمور الدنيا خاصة؛ لأن ما عنده عبادة، يسألُ على (حظوظه وشهواته) هذا منقول من [مدارج السالكين] لابن القيم، لما قال: فيه زيادة لابن القيم بعد قوله: (فعلى حظوظه وشهواته) لا على مرضاة ربه وحقوقه، فهذه يُبيّن فيها في [مدارج السالكين]: (بل إن سأله -تعالى- أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه)، يعني هؤلاء الذين ليس لهم عبادة ولا استعانة إذا سأل أحدهم هو لا يسأل، لكن لو سأل إنما يسأل في أمور الدنيا، في (حظوظه وشهواته) ولا يسأل عن (مرضاة ربه وحقوقه)؛ لأنه ليس عنده عبادة، ليس من أهل العبادة.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (والله -سبحانه وتعالى- يسأله من في السّموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء)، يعني أن هؤلاء الذين ليس لهم عبادة ولا استعانة إذا سألوا، لو سألوا في حظوظهم وشهواتهم يجابوا يجيبهم الله، قد يجيبهم الله؛ ويكون هذا لأن هذا يتعلق بالربوبية، كما أن الله -تعالى- يخلق المطيعين والعصاة فهو يرزق المطيعين والعصاة، ويجب دعاء هؤلاء ويجيب دعاء هؤلاء، يمد هؤلاء، ويمد هؤلاء.

ولهذا قال: (والله -سبحانه وتعالى- يسأله من في السّموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء)، (يمد هؤلاء) يُجيب سؤال أوليائه، ويجيب سؤال أعدائه. يُجيب سؤال أوليائه يوفقهم ويعينهم، ويجيب سؤال أعدائه إذا كانوا في حظوظهم وشهواتهم، ويمتعهم في الدنيا يتمتعون في الدنيا، ويجيب سؤالهم، كما أنه خلق المؤمن وخلق الكافر، ويعافي المؤمن ويعافي الكافر، يعافي الكافر معافى في الدنيا، يُعطي له الصحة في بدنه ومالًا وأولاد وأموال وهو كافر، ويجيب سؤاله إذا سأل في (حظوظه وشهواته)، لكن ليس لكرامته على الله، بل قد يكون مُبال عليه.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (وأبغض خلقه إليه إبليس، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته، ومتّعه بها)، ما هي سؤاله؟

(إبليس) قال: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الحجر:36] ما هو سؤاله؟ سأل الإنظار، "الإنظار": التأخير. قال الله، أجاب الله له: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾[الحجر:37-38]. هل هذا أجاب الله سؤال (إبليس) هل لكرامته عليه؟ لا، أجاب الله سؤال (إبليس) ليس لكرامته، ولا لعزّته، ولا لرفعته وهذا دعاء قد يُستجاب من الكافر.

أما المغفرة فإنها تختلف عن الدعاء، لو سأل المغفرة ما أُجيب، المغفرة خاصةٌ بالمؤمنين، قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف:56]. أما الكافر فمهما عمل من الأعمال وهو لم يُسلم، فلا تناله المغفرة والرحمة، و(إبليس) سأل الإنظار، ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الحجر:36] فأجاب الله سؤاله، ولو سأل المغفرة والجنة لما استجاب له.

وأما حديث: «الرجل الذي يُطيل السفر، أشعثَ أغبر، يمد يديه إلى السماء. يا ربِّ! يا رب! ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى -سُئِّل في الحديث-، فأنىَّ يُستجاب لذلك؟». المعنى: أنه لا يستجاب له فيما كان له شأن، وعلى أن الحديث معناه الاستبعاد، «فأنَّى يُستجاب له؟»، يعني الاستبعاد، ولا يمنع أن الاستجابة له.

المقصود أن (الله -تعالى- يسأله من في السّموات والأرض)، يسأله المؤمنون والكفار جميعًا (فيمد هؤلاء) ويمد (هؤلاء)، ويجيب دعاء هؤلاء، ويجيب دعاء هؤلاء بما يناسبهم، ومن ذلك (إبليس) وهو أبغض الخلق إلى الله ومع ذلك سأل الله وأجاب السؤال، سأل الله النظرة (الإنظار) فأجابه، (وقضى حاجته، ومتّعه بها) لكن هل تعينه على مرضاة الله؟

فقال: لا، (لكن)؛ ولذلك قال المؤلف: (ولكن لما لم تكن عونًا على مرضاته كانت زيادةً في شقوته وبعده) من الله. زيادة شقاء يزيد عداوة، يزداد من الكفر، ويزداد من إغواء الناس وإضلالهم فيزداد عذابهم -نسأل الله السلامة والعافية-؛ ولهذا قال المؤلف: (أبغض خلقه إليه إبليس، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته، ومتّعه بها، ولكن لما لم تكن عونًا على مرضاته كانت زيادةً في شقوته وبعده).

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (وهكذا كل من سأله -تعالى- واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مبعدًا له عن الله)، فهذا عام كل من سأل الله شيئًا، واستعان بالله على شيءٍ لا يكون عونًا على الطاعة؛ كان السؤال مُبعدًا لهم من الله، وكان زيادةً في عذابه وشقوته من (33:16) سؤال إبليس.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليس لكرامته عليه) فبعض الناس يسأل ويُجاب سؤاله، فهل هو دليل على الكرامة؟ لا.

قال: (بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه)، مثل: الكافر سأل ربه أن يعطيه مالًا فأعطاه مال، أجاب سؤاله وأعطاه مال، فصار المال سببٌ في شقاوته وزيادة عداوة، سأل ولد فأعطي الولد، قال: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾[المؤمنون:55-56]، وقال -تعالى-: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾[مريم:77-80]. يعطيه الله ما يقول من المال والولد، لكن يكون سببًا في شقائه.

﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾[مريم:77-80] نعطيه ما سأل ﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾[مريم:80].

﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾[المؤمنون:55-56].

﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[سبأ:35-36] كما سيأتي.

المؤلف يقول: (فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليس لكرامته عليه) كده هو امتحان، (بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانة).

فيسأل بعض الناس المال ولا يعطى مال، ويكون مصلحته ألَّا يعطيه مال، يسأل بعض الناس الولد ولا يعطى الولد قد يكون الولد سبب في هلاكه، مثل قصة الغلام الذي قتله خضر، قال: ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾[الكهف:80] لو عاش لكن سببًا في شقاء والديه، فالله -تعالى- من العلم الذي أطلع عليه خضر أنه، بشرعه الخاص بالخضر أنه يقتله فقتله.

فالإنسان قد يسأل ويعطى فيكون سببًا في شقائه، وقد يُمنع فيكون فيه خيرٌ له؛ ولهذا قال المؤلف: (فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليس لكرامته عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة)، يقول: الإنسان يتدبر ويتأمل لنفسه.

((وعلامة هذا: أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر، إذا رآه -سبحانه وتعالى- يقضي حوائج غيره يُسيء ظنّه به -تعالى-، وقلبه محشوٌ بذلك وهو لا يشعر.

وأمارة ذلك: حمله على الأقدار، وعتابه في الباطن لها، ولقد كشف الله -تعالى- هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا﴾[الفجر:15-17]؛ أي: ليس كل من أعطيته ونعّمته وخوّلته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ، ولكنه ابتلاءٌ منَّي وامتحانٌ له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إيّاه وأحوّله عنه لغيره؟

وليس كل من ابتليته فضيّقت عليه رزقه، وجعلته بقدرٍ لا يفضل عنه، فذاك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاءٌ وامتحانٌ منّي له، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته، أم يتسخط فيكون حظّه السّخط؟

وبالجملة: فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرّزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسّع على الكافر لا لكرامته، ويُقتّر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنّما يُكرم سبحانه من يكرم من عباده، بأن يوفّقه لمعرفته ومحبّته وعبادته واستعانته، فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها)).

المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ- يقول: (المعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة، وعلامة هذا: أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر، إذا رآه -سبحانه- يقضي حوائج غيره يُسيء ظنّه به -تعالى-، وقلبه محشوٌ بذلك وهو لا يشعر، وأمارة ذلك: حمله على الأقدار، وعتابه في الباطن لها).

يعني بعض الناس إذا صانه الله مما يضره، مثلًا:

  • في (المال) طلب مالًا ولم يعطه مالًا؛ لأنه لو أُعطيَّ مال لصار سببًا في شقائه أو كفره، بعض الناس تعطيه مال كفر بالله، أو صار يجمعه من حلالٍ وحرام ثم لا يفي بالواجبات، فيصير سببٍ في شقائه.
  • طلب أو سأل الله ولدًا فلم يعطه ولد، فصانه الله؛ لأنه لو أُعطيَّ ولد، لكان هذا الولد سببًا في شقائه.
  • أو سأل المُلك والإمارة، ولم يُعطى ملكًا ولا إمارة.

فتجد يقول: بعض الناس إذا سأل ربه ولم يعطه أساء الظن بربه، قال: كيف؟! كيف أنا ما أُعطيّ؟! كيف أنا ما عندي أولاد والناس كلهم عندهم أولاد؟! أنا ما عندي مال والناس عندهم أموال؟ يُسيء الظن بربه، ويعاتب ربه؛ لأنه يجهل الحقيقة، ما يدري أن الله -تعالى- يحميه، كما يُحمى المريض عن ما يضره.

(فعلامة هذا: أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر، إذا رآه سبحانه يقضي حوائج غيره يُسيء ظنّه به -تعالى-). (41:38) أنا مثل الناس. بعض الناس إذا أصيب بمصيبة ما يشكر يجزع، يعني الناس كلهم ما أُصيبوا، الناس ما حصل عليهم مصائب، وأنا لماذا؟ هذا تسخط من قضاء الله وقدره، ويُساء الظن بالله -أعوذ بالله-. الوجب الصبر والتحمل، وإحسان الظن بالله، وعدم الجزع، والرجوع إلى الله، والاسترجاع.

(إذا رآه -سبحانه- يقضي حوائج غيره يُسيء ظنّه به -تعالى-، وقلبه محشوٌ بذلك وهو لا يشعر)، (محشو) مملوء قلبه بالتسخط على قضاء الله وقدره، (أمارة ذلك)، يعني علامة ذلك: (حمله على الأقدار، وعتابه في الباطن لها)؛ الدليل على أنه (محشو)، وأنه (42:16) قدره: أن قلبه ملأن من السخط والتضجر وإن كان لا يتكلم، لكن قلبه متسخط، غير راضي ليس عنده رضا، ولا طمأنينة، ولا تسليم لقضاء الله وقدره، بل هو في الباطن يتسخط، ويغلي كالمرجل، ويسيء ظنه بربه -تعالى-.

قال المؤلف: (ولقد كشف الله هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى، -يعني في سورة الفجر-: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا﴾ [الفجر:15-17]).

﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ﴾[الفجر:15] يعني: جنس الإنسان، يشمل المؤمن والكافر.

﴿إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾، (ما) زائدة للتأكيد؛ هذه (43:02) النحاة زائدة.

يا طالبًا خذ فائدة

"ما" بعد "إذا" زائدة

 

يعني هي زائدة عند النحاة، يعني (43:11) محل من الإعراب وإلَّا ليس في القرآن زائدة لها فائدة عظمة وهي التأكيد.

﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾[الفجر:15]، ﴿ابْتَلاه﴾: يعني اختبره أو امتحنه.

﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾: يعني أعطاه مالًا، أو ولدًا، أو صحةً في بدنه، أو جاهًا وسطانًا، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾[الفجر:15] قال: هذا دليل على أن الكرامة عند الله، أنا أعطيك مال، أعطيك جاه، أعطيك سلطان، أعطيك ولد.

﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾، يعني اختبره، ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾، يعني ضيق عليه رزقه فكان فقيرًا لم يعطى مالًا، أو لم يعطى ولدًا، أو لم يعطى جاهًا وسلطانًا ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾[الفجر:16] أنا مُهان، هانني الله ما أعطاني مال، ولا أعطاني ولد، ولا أعطاني جاه، قال الله: ﴿كَلَّا﴾[الفجر:17] ردعٌ وزجر، ليس توسيع الرزق على الإنسان دليل على إكرامه، وليس تضيق الرزق على الإنسان دليل على إهانته، وإنما ابتلاء وامتحان.

فكلٌ مبتلى فالغني يُبتلى بغناه هل يشكر أو يكفر؟ والفقير مبتلى بفقره هل يكفر أو يتشكر؟ والمريض مبتلى بمرضه هل يكفر أو يتشكر؟ والمعافى مبتلى بعافيته هل يكفر نعمة الله، ويستعمل العافية في (44:22) أو لا؟ ما مِنا إلَّا مبتلى، كله مبتلى، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2].

(الله -تعالى- كشف هذا المعنى، قال: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾) يعني اختبره وامتحنه، ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ بالمال أو بالولد أو بالجاه والسلطان، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾[الفجر:15-16] اختبره، ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ﴾ فضيق عليه، ﴿رِزْقَهُ﴾ فلم يعطيه مالًا ولا ولدًا ولا جاه، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا﴾[الفجر:16-17] ردعٌ ورجز.

ليس التوسيع على الإنسان دليل على الإكرام، وليس التضيق دليل على الإهانة، ولكنه ابتلاء وامتحان، والمال يعطيه الله المؤمن والكافر. الدنيا يعطيها الله لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلَّا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، سواء عنده مال أو ليس عنده مال، ومن لا يُعطى الدين فلم يحبه، سواء عنده مال أو ليس عنده مال.

إذًا ليس توسيع الرزق مبني على الكرامة، وليس التضيق مبني على الإهانة ﴿كَلَّا﴾؛ ولذا قال الله: ﴿كَلَّا﴾[الفجر:17] ردعٍ وزجر، والله -تعالى- بيّن رد على الكفار، على من ظن أن المال والولد دليل على الإكرام، قال تعالى في سورة "سبأ": ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[سبأ:35] هذا الكفار، يقول: أنا عندي أولاد وأموال، فهذا دليل على أننا لا نعذب، دليل على إنه هو أكرمنا، تتصل السعادة الآخرة بسعادة الدنيا، نحن سعداء أعطان الله مالًا وولدًا هذا دليل على إكرامه.

﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[سبأ:35]، قال الله: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[سبأ:36]، وقال: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾[سبأ:37]. ليست الأموال ولا شيءٍ تقرب.

﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾[سبأ:37].

فالمال والجاه والسلطان قد تكون وبال وقد تكون خير، إذا استعملها الإنسان في طاعة الله، إذا استعمل المال في طاعة الله أنفقه، كسبه من وجوهٍ مشروعة، وأنفقه وأدى الواجبات، وأنفقه في وجوهٍ مشروعة صار خير، فيقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

أبو بكر أتاه الله المال لكن أنفقه في سُبل الخيرات، ولما تسابق عمر وعثمان حينما أمر النبي للنفقة، جاء عمر بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله، فقال النبي لعمر: «ماذا أبقيت لأهلك؟» قال عمر: أبقيت نصف مالي يا رسول الله"، وقال لأبي بكر: «ماذا أبقيت لهلك؟»، قال: "أبقيت لهم الله ورسوله"، جاء بجميع ماله.

وعثمان آتاه الله المال لكن جهّز ثلاثة مائة بعير بأحلاسها وأقتابها يوم تبوك، في غزوة تبوك، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما (47:20): «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ما على عثمان ما فعل بعد اليوم». وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من يشتري بئر رومة، ويكون دلوه كدلاء المسلمين وله الجنة» فاشتراها عثمان، وعبد الرحمن بن عوف كذلك آتاه الله المال فهو من أهله.

ولكن إذا كسب المال من الجهل المشروعة، المحرمة، والمشبوهة، المتشابه والحرام، وجعل يتعامل بالربا، وبالغش، والخداع، والرشوة، وأكل المال بالباطل، و(47:52) بالحالف الكاذب، وإخفاء عيب السلعة صار وبالًا عليه، وكذلك إذا أمسك المال ولم يأتي الزكاة، ولم يصل رَحمه، ولم ينفق في المسائل الخيرية صار وبالًا عليه.

وكذلك الفقير إن صبر واحتسب، صار الفقر خيرًا له، وإن تسخط وجزأ صار وبالًا عليه، وكذلك المريض إن صبر كُفِّرت سيئاته، وإن تسخط أيضًا صار وبالًا عليه، والمعافى إن استعمل عافيته في طاعة الله، وأدى ما وجب الله عليه فأعطي عافية خيرًا منها، وإن استعملها في المعاصي، صارت وبالًا عليه ما منا إلَّا مبتلي.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (أي: ليس كل من أعطيته ونعّمته وخوّلته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ، ولكنه ابتلاءٌ منَّي وامتحانٌ له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إيّاه وأحوّله عنه لغيره؟).

قال الله -تعالى- عن سليمان، سليمان آتاه الله النبوة والملك، لما جاءه عرش بلقيس، قال: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾[النمل:38-39]، يعني جلسة يجلسها للناس. قال: (49:02)، يعني عرش بلقيس في اليمن وهو في الشام، قال: آتني به قبل أن تنتهي الجلسة، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، قبل أن تأتي مسلمة؛ لأنها ليس مسلمة، قبل أن تأتي مسلمة يكون مالها حلال، فقال: أريد أسرع من ذلك.

فـ ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ ماذا قال؟ ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾[النمل:40]، هذا سليمان -عليه الصلاة والسلام- ما ذكر بيّن أن هذا ابتلاء وامتحان.

ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-:(وليس كل من ابتليته فضيّقت عليه رزقه، وجعلته بقدرٍ لا يفضل عنه، فذاك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاءٌ وامتحانٌ منّي له، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته، أم يتسخط فيكون حظّه السّخط؟).

قال المؤلف: (وبالجملة) -هذه الخلاصة-: (فأخبر) أخبر الله -تعالى-، يعني في هذه السورة: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾[الفجر:15-16]، (أخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرّزق وتقديره) يدورون على أي شيء؟ الإكرام يدور على أي شيء؟ على الشكر والصبر.

(فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرّزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسّع على الكافر لا لكرامته، ويُقتّر على المؤمن)؛ يضيق على المؤمن (لا لهوانه عليه). المؤمن إذا قتر الله عليه وضيق عليه رزقه، هل لهوانه عليه؟ لا، الدنيا ما ليست مقياس، والكافر إذا أعطاه الله المال، وأعطاه ملايين هل لكرامته عليه؟ لا، في حديث: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا شربة ماء».

(فإنه سبحانه يوسّع على الكافر لا لكرامته، ويُقتّر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنّما يُكرم سبحانه من يكرم من عباده، بأن يوفّقه لمعرفته ومحبّته وعبادته واستعانته) هذا الكرامة، الكرامة أن يوفق العبد لمعرفة الله، (ومحبّته، وعبادته، واستعانته).

ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة عليها) هذه الخلاصة، غاية السعادة (في عبادة الله والاستعانة) بالله (عليها).

يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللّهُ-: (فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها).

الأصول التي تبنى عليها السعادة ثلاثة، لكل واحدٍ منها ضد:

الأول: التوحيد، وضده الشرك، هذا مبني على التوحيد.

والثاني: السنة، وضدها البدعة.

والثالث: الطاعة، وضدها المعصية.

هذه أصول السعادة: (التوحيد، والسنة، والطاعة)، وضدها: (الشرك، والبدعة، والمعصية) وهذه السعادة الدنيوية والأخروية جمعت في آيةٍ واحدة، وهي قوله -تعالى-: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5].

وقال ابن القيم -رَحِمَهُ اللّهُ- في [مدارج السالكين]، يقول: (وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل) هذا كلام ابن القيم (حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصّل "المفصل من "ق" إلى آخره"، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾). وهذا اجتهادٍ من ابن القيم -رَحِمَهُ اللّهُ-. هو يقول: (إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب) هذا يحتاج إلى دليل، ولم يذكر دليل على عدد الكتب.

والمقصود: بيان ما تضمنتها هاتان الكلمتان "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" من عظيم المعاني وكبير الفوائد، وقد دلت هذه الآية على أصول السعادة، فهذه أصول السعادة.

نقف على القسم الثالث، وفق الله الجميع لما يرضاه، وصلى الله على محمدٍ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد