بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد...
قال المؤلف -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: ((القسم الثالث: من له نوع عبادةٍ بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: أهل القدر، القائلون بأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبقَ في مقدوره إعانةً على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق وإرسال الرّسول، وتمكينه من الفعل، فلم يبقَ بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها. وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقة الاستعانة والتّوحيد.
قال ابن عبّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "الإيمان بالقدر نظام التّوحيد، فمن آمن بالله وكذّب بقدره نقض تكذيبه توحيده".
النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد، ولكن حظّهم ناقص من التّوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالرّوح المحرِّك لها، والمعوَّل على المحرِّك الأول، فلم تنفذ بصائرهم من السّبب إلى المسبّب، ومن الآلة إلى الفاعل، فقلّ نصيبهم من الاستعانة. وهؤلاء لهم نصيبٌ من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيبٌ من الضعف والخذلان بحسب قِلّة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبلٍ عن مكانه لأزاله)).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد...
فإن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا البحث الذي نقله من كتاب [مدارج السالكين] للإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في الجزء الأول قسَّم الناس تجاه العبادة والاستعانة إلى أربعة أقسام، قسَّم الناس في عبادة الله والاستعانة به إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة، وهؤلاء هم الرسل وأتباعهم، هؤلاء أهل الحق، يعبدون الله ويستعينون بالله على مرضاة الله، هؤلاء هم الرسل وأتباعهم: الصحابة، والتابعون، والأئمة، والعلماء أهل السنة والجماعة، هؤلاء هم أهل الحق، أهل البصيرة، أهل العبادة والاستعانة.
القسم الثاني: عكس ذلك مَن ليس له عباده ولا استعانة، المعرضون عن عبادة الله والاستعانة، فليس لهم عبادة ولا استعانة، وإذا سأل أحدهم ربه واستعان به إنما يستعين به على حظوظه وشهواته الدنيوية، لا يستعين على مرضاة الله وحقوقه.
القسم الثالث: مَن له عنده نوع من العبادة لكن ليس عنده استعانة.
والقسم الرابع: العكس مَن عنده استعانة وليس عنده عبادة.
هذه الأقسام الأربعة.
القسم الثالث: مَن له عنده نوع من العبادة لكن بلا استعانة، بلا توكل على الله، ما عنده توكل على الله، واعتماد على الله، لماذا؟ لأن هؤلاء يعتمدون على أعمالهم؛ لأنهم يرون أن العبادة مخلوقٌ أفعالها، هم لا يتوكلون على الله، عندهم عبادة بلا توكل، بلا استعانة.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وهؤلاء نوعان) يعني هؤلاء القسم الثالث: الذي له عبادة بلا استعانة نوعان:
النوع الأول: (أهل القدر، القائلون بأنه سبحانه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبقَ في مقدوره إعانةً على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق وإرسال الرّسول، وتمكينه من الفعل، فلم يبقَ بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها).
هؤلاء المعتزلة القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، الطاعات في المعاصي، ولهذا يقولون: فإن الله يجب عليه أن يُعذِّب العاصي وليس له أن يعفُ عنه، ولهذا أنكروا خروج أحدٍ من النار بعد دخولها؛ لأنهم يرون خلود العُصاة في النار، المعتزلة والخوارج يرون خلود العُصاة في النار، ولهذا أنكروا النصوص التي فيها إثبات الشفاعة للعصاة في الخروج من النار، أنكروها مع أنها متواترة، ولهذا صاح بهم أهل السنة وبدَّعوهم وضللوهم.
فالخوارج والمعتزلة قالوا: مرتكب الكبيرة مخلَّد في النار ولا شفاعة له، وحملوا النصوص التي وردت في الكفار على العصاة؛ ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾[المدثر:48] هذه في الكفار جعلوها في العصاة، قالوا: ما في شفاعة، العاصي خلاص، مرتكب الكبيرة مخلد في النار، ولا شفاعة له، ولا يمكن أن يخرج من النار، ومخلَّدٌ فيها كالكافر.
وكذلك قالوا: إن الله يجب على العبد أن يُثيب المطيع، وأنه يستحق الثواب على الله كما يستحق الأجر والجزاء؛ لأنه هو الذي:
خلق الطاعة، خلق الطاعة لا بد يأخذ أجرته من الله.
وخلق المعصية لا بد أن يُعذَّب.
وهؤلاء هم القدرية، هم قدريةٌ في الأفعال، معتزلةٌ في الصفات، وقالوا: إن الله تعالى بيَّن للناس جميعًا طريق الخير وطريق الشر، المؤمن والكافر على حدٍّ سواء، كلهم بيَّن الله لهم طريق الخير:
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد:10] طريق الخير وطريق الشر.
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾[فصلت:17].
فليس عندهم إلا هداية واحدة وهي هداية الدلالة والإرشاد، وأنكروا هداية التوفيق والتسديد، وقالوا: إن الله تعالى ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ليس هناك ميزة للمؤمن على الكافر، بل:
المؤمن اختار الإيمان بنفسه وإرادته، والكافر اختار الكفر بإرادته.
المؤمن لم يُعنه الله، ليس له من الله إعانة، والكافر ليس له من الله إعانة.
كلٌّ على حدٍّ سواء، كانوا يقولون: لو أعان هذا وخذل هذا صار ظالمًا، إذن الله تعالى بيَّن للمؤمن وللكافر طريق الخير وطريق الشر، عن طريق رسله، وفي الكتب المنزلة، وكلٌّ يختار ما يشاء؛
فالمؤمن اختار الإيمان بلا خلاف.
والعاصي اختار المعصية بلا خلاف.
والكافر اختار الكفر.
والله ما أعان المؤمن ولا خذل الكافر، كلٌّ يختار ما يشاء؛ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ﴾[الإسراء:20] هكذا يقولون، وأنكروا أن يكون لله نعمة دينه على المؤمن خصه بها دون الكافر، وهذا من أبطل الباطل، هذا النوع الأول: إذن القدرية.
قال المؤلف: (وهؤلاء نوعان: أحدهما: أهل القدر، القائلون بأنه سبحانه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبقَ في مقدوره إعانةً له على الفعل).
يعني العبد المؤمن والكافر قد فعل الله به (جميع مقدوره من الألطاف) حيث بيَّن له طريق الخير وطريق الشر؛ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد:10]، (ولم يبقَ في مقدوره إعانةً له على الفعل) ليس لله قدرةٌ على إعانة العبد على الفعل، أعانه الله بأي شيء؟
(بخلق الآلات وسلامتها) أعطاه الله قدرة على الحركة، وعلى الفهم، أعطاه عقل، وأعطاه سمع، وبصر، وقدرة على الإرادة وعلى الفعل، هذا الذي أعطاه، لكن توفيق خاص لا ما في توفيق خاص، أعان المؤمن وأعان الكافر على حدٍّ سواء، أعان أولياءه وأعان أعداءه على حدٍّ سواء.
ولهذا قالوا: (إن الله سبحانه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبقَ في مقدوره إعانةً له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات) يعني القدرة التي يستطيع بها على الفعل، الآلات التي اشتهرت؛ يعني أعطاه الله السمع، أعطاه البصر، أعطاه الفؤاد، أعطاه يدين يعمل بها، ورجلين يمشي بها، وسمع، وبصر، هذه الآلات فقط، أما شيءٌ آخر خاص وهو التوفيق ما في.
(فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها) سلامة السمع، والبصر، واليدين.
(وتعريف الطريق) عرَّفه طريق الجنة وطريق النار بالكتب المنزلة على الرسل.
(وإرسال الرّسول) عرَّفه إرسال الرسول.
(وتمكينه من الفعل) يستطيع يتمكن، ما هو ممنوع، يستطيع يقوم ويقعد ويتحرك ويفعله.
(فلم يبقَ بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها) ما بقي شيء، في زيادة في [مدارج السالكين] بعد قوله: (فلم يبقَ بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها) في [مدارج السالكين] زيادة قال: "بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء"، هذه يُستحسَن كتابته هنا.
بعد قوله: (فلم يبقَ بعدها إعانةً مقدورةً يسأله إياها بل) في [مدارج السالكين] الذي نقل عنه المؤلف الكلام: (بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء) هؤلاء الإشارة الأولى إلى المؤمنين، والإشارة الثانية إلى الكافرين، (بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء).
هل هذا صحيح هذا الكلام؟
هذا باطل، فالله تعالى ما ساوى بين أوليائه، المؤمنون وفقهم الله، وخلق في قلوبهم الهداية، خصَّهم بنعمةٍ دينية وهي التوفيق والتسديد، وأما الكافر فهو مخذول؛ لأن الكافر جاءه الحق وعرَفه فرَّده فعوقب: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾[الصف:5]، والله تعالى له نعمةٌ دينية على المؤمن خصه بها دون الكافر، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الحجرات:7-8] فالمؤمن خصه الله، حبَّب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى أعان المؤمن وخذل الكافر.
والمعتزلة والقدرية يقولون: لا ما أعان المؤمن، ولا خذل الكافر، كلٌّ على حدٍّ سواء، والهداية ليست له إلا هداية واحدة هي هداية الدلالة والإرشاد، وأهل السنة عندهم هدايتان:
هداية الدلالة والإرشاد هذه لكل أحد، للكافر والمؤمن هداه الله وأرشده، وبيَّن له طريق الخير وطريق الشر، وقامت عليه الحجة.
والثاني: هداية التوفيق والتسديد، وخلق هداية القلوب، وكونه يقبل الحق ويرضاه ويختاره، هذا خاصٌ بالمؤمن، هذه لا يملكها إلا الله.
وهداية الدلالة والإرشاد يملكها الدُعاة والمرشدون والرسل، ولهذا أثبت الله هذه الهداية للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52] هذه هي هداية الدلالة والإرشاد؛ يعني تدل وتُرشد، وهذه يملكها الدعاة أيضًا.
أما هداية التوفيق والسديد وخلق الهداية في القلوب هذه لا يملكها إلا الله، نفاه الله عن نبيه في قوله: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾[القصص:56] يعني لا توفِّق، ولا تخلق الهداية في القلوب، نزلت في أبي طالب لما مات على الشرك وحزن عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، نزلت هذه تثنيةً له، أنزلها الله ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[القصص:56]؛ يعني لا توفق ولا تسدِّد، ولا تملك هداية القلوب، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
أما القدرية أنكروا هداية التوفيق والتسديد، قالوا: ما في إلا هداية واحدة، الله تعالى أعطى هؤلاء الأسباب، وأعطى هؤلاء الأسباب، وأمدَّ الكفار وأمدَّ المؤمنين على حدٍّ سواء، دلَّ هؤلاء ودلَّ هؤلاء.
ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- حكم عليهم قال: (وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقة الاستعانة والتّوحيد) مخذولون حيث أنكروا هداية التوفيق والتسديد، أنكروا الإعانة والتوفيق من الله للمؤمن، (موكولون إلى أنفسهم) يقول: لا خلاص أنا الذي أختار الهداية بنفسي، إذن مَن وكل لنفسه فهو مخذول.
ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقة الاستعانة والتّوحيد) هؤلاء عصاة كما سبق مبتدعة، وعرفنا أن القدرية نوعان:
النوع الأول: القدرية الأولى الذين أنكروا العلم والكتاب، أنكروا المرتبة الأولى هؤلاء كفار، وقد انقرضوا، خرج في عصر الصحابة هم الذين كفَّرهم الصحابة كعمر وغيره.
ثم جاء بعدهم القدرية المبتدعة وهم عامة القدرية، أثبتوا المرتبة الأولى والثانية، علم الله بالأشياء قبل الكونية، وكتابة الله للوح المحفوظ، وأثبتوا الإرادة والخلق، لكن أنكروا عموم الإرادة وعموم الخلق، فقالوا: إن الله أراد كل شيء إلا أفعال العباد، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد هم الذين خلقوها وأرادوها بأنفسهم، فأتوا بالمعاصي.
وسبق أن شبهتهم قالوا: لو قلنا: إن الله خلق الطاعات، خلق المعاصي وعذَّب (14:24) العباد، وهذا من جهلهم سبق الرد عليهم أن الله تعالى الذي يُنسب إليه إنما هو الخلق وهو مبنيٌّ على الحكمة، والعبد هو الذي يستطيع الفعل والتسبُّب والمباشرة، والله تعالى أعطاه اختيار، خلقه وخلق القدرة والإرادة التي بها يفعل ويريد.
ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقة الاستعانة والتّوحيد.
قال ابن عبّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "الإيمان بالقدر نظام التّوحيد، فمن آمن بالله وكذّب بقدره نقض توحيده").
هذا الأثر عن ابن عباس أخرجه عبد الله بن أحمد في السنَّة، وأخرجه اللالكائي، وفي إسناده مقال، هذا الأثر ضعيف لكن معناه صحيح أن من آمن بالله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، من كذَّب بالقدر كفر؛ لأن الإيمان بالقدر أصل الإيمان وهو الأصل السادس كما في حديث جبريل لما سأله عن الإيمان، قال: «الإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]، فمن كذَّب بالقدر كفر، نكر تكذيبه وتوحيده، لكن هذا الأثر فيه ضعف.
النوع الثاني من القسم الثالث: الذين عندهم عبادة بدون استعانة، بدون توكل على الله، قال: (من لهم عبادة وأوراد) يعني ورد، يعني شيء مخصص من العبادة من صلاة، أو صيام، أو حج، (من لهم عبادة وأوراد، ولكن حظّهم ناقص من التّوكل والاستعانة) بالله -عَزَّ وَجَلَّ-.
(لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر) الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات، ربط هذا بهذا، ربط الشبع بالأكل، فالأكل سببٌ في الشبع، ربط هذا بهذا، لو لم يأكل الإنسان لم يشبع، والشرب سببه في الرِّي، لو لم يشرب الإنسان استمر ظمآن، الله ربط هذا بهذا، والسبب هو سببٌ مقدَّر، وفتح العين سبب في الإبصار، والأذن سبب في الاستماع، والنار سببٌ في الإحراق، والسكين سببٌ في القطع، وهكذا، الله تعالى ربط السبب بالمسبب.
وهذا مقدَّر وهذا مقدَّر، لكن هؤلاء أنكروا ارتباط الأسباب بالقدر بمسبباتها، وقالوا: لا ما لها تأثير، ليس لها تأثير، وهذا ناشئ من قلة استعانتهم، من قلة توكلهم واستعانتهم، وهذا مذهب الأشاعرة، الأشاعرة يُنكرون الأسباب.
الجبرية من الأشاعرة والجهمية يُنكرون ربط الأسباب بالمسببات، فيقولون: النار ليست سببًا في الإحراق، وليس الأكل سببًا في الشبع، وليس الري سببًا في الشرب، وليست السكين سببًا في القطع، لماذا؟ أنكروا الأسباب، فالأسباب ما هي مرتبطة بمسبباتها، لماذا؟ قالوا: لأن لو قلنا: إن الأسباب لها تأثير صار هناك مؤثر مع الله، وليس هناك مؤثر إلا الله، ففرارًا من ذلك أنكروا الأسباب.
فإذا قلت لهم: كيف تنكرون الآن، هذا حسي، النار إذا أشعت النار أحرقت، قالوا: لا هذا علامة، الإشعال علامة على الإحراق، أو أمارة، كما أن زوال الشمس علامة على دخول الوقت، فكذلك إشعال النار علامة على الإحراق، والسكين ليست سببًا في القطع لكن علامة، أمارة.
فإذا قلت له: كيف إذا أشعلت النار أحرقت؟ قالوا: هذا من باب الارتباط العادل، ليس لأن هذا سبب، فيقولون: إنه يوجد الإحراق عند إشعال النار لا بالنار، الباء يُنكرونها باء السببية، والسكين يريد بها القطع عند السكين لا بالسكين، السكين ما يوجد القطع بالسكين لكن عند السكين، عند وجود السكين يوجد القطع، والأكل ليس سببًا في الشبع لكن يوجد الشبع عند الأكل لا بالأكل، فإذا أكل كثير الفائدة ما يكون سبب، قال: جُعِل هذا علامة على هذا.
فالقطع بالسكين علامة على القطع.
والنار علامة على الإحراق.
لكن السبب ليس (18:44) قصدهم الإنكار، إنكار الأسباب حتى لا يكون الناس... ولهذا أنكروا الأسباب، وأنكروا الغرائز، وأنكروا العلل ما في علَّة، ولا سبب، ولا غريزة، ما في سبب مؤثر إلا الله، نقول له: هذا باطل، هذا إنكارٌ محسوس، النصوص في القرآن، القرآن مملوء بذكر الأسباب والمسببات؛
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾[البقرة:22].
﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾[المؤمنون:18].
﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾[النبأ:15].
به هذه باء السببية، والعلل:
﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[الأحزاب:43] هذه العلة.
﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾[الحج:78] هذه العلة.
﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾[الإسراء:59] هذه علة.
وهكذا، فالقرآن من أوله إلى آخره مملوء بذكر الأسباب والعلل ومع ذلك أنكروا، نقول: النار سببٌ في الإحراق، النار محرقة، سبب، ليست علامة أمارة بل هي سبب، والله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، الله تعالى هو الذي ربط السبب بالمسببات، والسكين سببٌ في القطع، والأكل سببٌ في الشبع، والشرب سببٌ في الري، وهكذا.
فنقول لهم: النار محرقة؛ لأن الله جعل فيها خاصية الإحراق، لكن لو أراد سبحانه أن يسلبها خاصية الإحراق سلبها كما سلب نار إبراهيم خاصية الإحراق فلم تُحرق، إبراهيم أُلقي في النار ما أحرقته النار؛ لأن الله سلبها خاصية الإحراق، قال الله: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء:69].
والسكين تقطع وإذا أراد الله أن يسلبها خاصية القطع ما تقطع، كما أن سكين إسماعيل التي ذُبِح بها سلبها الله خاصية القطع فلم تقطع، إبراهيم أجرى السكين على حلق ولده ولكن لم تقطع؛ لأن الله سلبها خاصية القطع، وهكذا.
لكن السكين تقطع، والنار تحرق.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد، ولكن حظّهم ناقص من التّوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر) سبب النار، مثلًا النار سببٌ في الإحراق.
(وأنها بدون المقدور، كالموت الذي لا تأثير له) السبب النار إذا أراد الله أن تُحرِق أحرقت، لكن لا بد من القدر، إذا قدَّر الله أنها تُحرِق أحرقت.
(وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالرّوح المحرّك لها) القدر هو الروح المحرِّك للسبب، فمثلًا السكين سبب في القطع لكن لا بد من القطع، إذا قدَّر الله أن تقطع في شيء قطعت، فإنها تقطع، لا بد من القدر، لا تقطع السكين إلا بقدر، والقدر مكتوب، كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، والنار كذلك تُحرق بقدر، لكن الله قدَّر أن نار إبراهيم لم تُحرق، فلذلك لم تُحرقه، قدَّر وكتب في الأجل أن سكين إسماعيل لا تقطع فلم تقطع حلقه.
(وأن القدر كالرّوح المحرّك لها، والمعوّل على المحرّك الأول) وهو القدر.
(فلم تنفذ بصائرهم من السّبب إلى المسبّب) وهو الله تعالى، ما نفذت بصائرهم بصائر هؤلاء لم تنفذ من السبب وهو مثلًا النار إلى المسبِّب وهو الله، وهو الذي سبَّب أن تُحرق.
(ومن الآلة إلى الفاعل) الآلة كالسكين، إلى الفاعل: وهو الله.
قال: (فقلّ نصيبهم من الاستعانة) قلَّ نصيبهم من الاستعانة والتوكل على الله.
قال المؤلف: (وهؤلاء لهم نصيبٌ من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيبٌ من الضعف والخذلان بحسب قِلّة استعانتهم وتوكلهم) إذن هؤلاء عندهم استعانة لكن ضعيفة، عندهم استعانة وتوكل على الله لكن ضعف، عندهم نقص وضعف.
قال المؤلف: لهم نصيب من التصرف بحسب الاستعانة والتوكل، ولهم نصيب من الخذلان بحسب قلة الاستعانة، فضعف الاستعانة والتوكل على الله يوقعهم في الخذلان، ووجود الاستعانة في بعض الأشياء والتوكل يجعل لهم نصيب من التصرف والقوة، وهؤلاء لهم جانبان:
جانب توكل والاستعانة لهم قوة ونشاط.
وجانب ضعف في الاستعانة لهم خذلان وضعف.
(وهؤلاء لهم نصيبٌ من التصرّف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيبٌ من الضعف والخذلان بحسب قِلّة استعانتهم وتوكلهم).
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله) هل هذا صحيح هذا الكلام؟ توكل العبد على الله؛ يعني يأتي شخص يقول: أنا أريد أتوكل على الله في أن أزيل جبل قبيس، يستطيع يزيله؟ أنا متوكل على الله في أن يزول الجبل، لا هذا ليس بصحيح، والسبب في ذلك أن المؤلف نقل هذه الجملة من [دارج السالكين] وحذف أسقط كلمة، أسقط جملة فصارت العبارة فيها ضعف، لا بد تكتبها الجملة الساقطة.
في [مدارج السالكين] ابن القيم انظر: (ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه -وكان مأمورًا بإزالته- لأزاله) هذه أسقطها، اكتب فيه: "وكان مأمورًا بإزالته لأزاله" هذا صحيح، إذا كنت مأمور شرعًا بإزالته وتوكلت على الله نعم يزول، لكن لو كنت لست بمأمور تقول: أنا أتوكل على الله في إزالة الجبل، نقول له: ما هو بصحيح هذا.
المؤلف أسقط جملة فحصل في العبارة خلل، ولهذا لا بد أن تكتب الجملة هذه التي أسقطها المؤلف: (ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه) اجعل بعدها شرطة، بين شرطتين -وكان مأمورًا بإزالته- ثم تأتي بعدها لأزاله) يعني قبل لأزاله جملة، (ولو توكّل العبد على الله حقّ توكّله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله).
((فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملًا؟
قلنا: هي التي يعبّر عنها بالتّوكل، وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى، وتفرده بالخلق والأمر والتّدبير والضّر والنّفع، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فتوجّب اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وثقةً به، فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطّفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما. فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التّقوى، كانت له العاقبة الحميدة: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 2-3] أي: كافية)).
هذا بيان حقيقة الاستعانة أورده المؤلف بصيغة السؤال والجواب، قال: (فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملًا؟) ما هي الاستعانة؟ قال: الاستعانة هي التوكل؛ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5] نتوكل عليك في حصول مرضاتك.
(فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملًا؟ الجواب: قلنا: هي التي يعبّر عنها بالتّوكل) إذن كأن السؤال يقول: ما المراد بالاستعانة، الجواب: الاستعانة هي التوكل، وما هو التوكل، قال: (التوكل: حالةٌ للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى، وتفرده بالخلق والأمر والتّدبير والضّر والنّفع) هذا هو التوكل.
إذن الاستعانة: هي التوكل.
والتوكل: هو حالةٌ للقلب، حالة: وصف القلب، (حالةٌ للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى، وتفرده بالخلق والأمر والتّدبير والضّر والنّفع، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فتوجّب اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وثقةً به) هذا الاستعانة والتوكل.
حالة القلب تنشأ من أي شيء؟ تنشأ من معرفتك بالله، إذا عرَفت الله، وآمنت بتفرُّد الله بالخلق والأمر؛ ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾[الأعراف:54] فالخلق له، والأمر له.
الخلق: هذا القدر.
والأمر: الشرع.
(وتفرُّده بالخلق والأمر والتّدبير) تعتقد أن الله هو المتفرد بالخلق، متفرِّد يعني لا يشاركه أحد من الخلق، ولا يُشاركه أحد في الأمر في الشرع، ولا يشاركه أحد في التدبير، ولا يشاركه أحد في الضر، ولا يشاركه أحد في النفع، وتعتقد (أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) فعند ذلك يحصل اعتماد على الله، (فتوجّب اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وثقةً به) هذا التوكل، وهذا الاستعانة.
(فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطّفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما) تصير نسبة العبد إلى الله كنسبة الطفل إلى أبويه، الطفل إذا أصابه شيء ماذا يعمل؟ أي شيء يدهم الطفل يفزع إلى أمه وأبيه، ما يعرف إلا أمه، أي شيء يُصيبه يفزع إلى أمه، يفزع إلى أبيه، فكذلك المتوكل على الله أي شيء يُصيبه يفزع إلى الله، يكون يفزع إلى الله في كل شيء.
(فتصير نسبة العبد إلى ربه كنسبة الطّفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته) أي شيء ترغبه، وأي شيء تخافه تلجأ إلى الله، لا تلجأ إلى غيره، كما أن الطفل في كل شيءٍ يريده وفي كل شيءٍ يخافه يلجأ إلى أبويه، فأنت تلجأ إلى الله في كل شيء.
قال: (فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات)؛ يعني الطفل لم يلجأ إلى غيرهما، فأنت كذلك إذا دهمك ما عسى أن يدهمك من الآفات لا تلجأ إلا إلى الله، هذا المستعين به والمتوكل عليه.
(فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التّقوى، كانت له العاقبة الحميدة) إن كان هذا المعتمد على الله، المتوكل على الله ومع ذلك من أهل التقوى ومن أهل الطاعة والعبادة يجتمع معه الأمران: توكل وعبادة صار من المتقين، وصارت العاقبة الحميدة له.
ثم استدل المؤلف بقوله تعالى: (﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 2-3]) قال العلماء أخذًا من هذه الآية: من اتقى الله... إذا ضاقت بالإنسان الحيل، وانسدَّت عليه الأمور، وكان متقيًّا لا بد أن يفرِّج الله كربته أخذًا من هذه العبارة.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾[الطلاق: 2] فإن لم تُفرَّج الكربة فذلك نقصٌ في تقواه.
﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 3] هذه العظة من المتوكل المتقي موعودٌ بتفريج الكربات، وموعودٌ بالرزق، كن تقيًّا وأبشر بالفرج، وأبشر بالرزق.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2-3] وأما المتوكل على الله موعودٌ بأي شيء؟ بالكفاية، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3] فسَّر المؤلف: (أي: كافية) ومن كان الله كافيه فلا مطمع لأحدٍ فيه.
((القسم الرابع: من له استعانةٌ بلا عبادة، وتلك حالة من شهد بتفرُّد الله بالضّر والنّفع، ولم يدر بما يحبّه ويرضاه، فتوكّل عليه في حظوظه، فأسعفه بها. وهذا لا عاقبة له، سواء كانت أموالًا أو رياسات، أو جاهًا عند الخلق، أو نحو ذلك، فذلك حظّه من دنياه وآخرته)).
هذا القسم الرابع يُقابل القسم الثالث.
القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة.
القسم الثاني: لا عبادة ولا استعانة.
القسم الثالث: عبادة وبلا استعانة.
هذا القسم الرابع: استعانة بلا عبادة، (من له استعانةٌ بلا عبادة).
قال المؤلف: (وتلك حالة من شهد بتفرُّد الله بالضّر والنّفع) هذا عنده توكل، وعنده إيمان بالقدر، واستعانة بالله يشهد تفرَّد الله بالضر والنفع، يقول: الضر والنفع بيد الله، والخلق بيد الله، والتصرُّف بأمر الله، لكن ما عنده عبادة، ما يعبد الله.
قال: (ولم يدرِ بما يحبّه ويرضاه) لماذا؟ لأنه ما عنده عبادة، عنده توكل، وإيمان بالقضاء والقدر، قال: الله تعالى بيده كل شيء، وهو المتصرِّف، وهو المدبِّر، وهو الضار، وهو النافع.
قال: (ولم يدرِ بما يحبّه ويرضاه) في [مدارج السالكين]: "ولم يدُر مع ما يُحبه الله ويرضاه"، ما يدُر مع ما يُحبه الله ويرضاه؛ لأن ما عنده عبادة، ما عنده إلا توكل، "ولم يدُر مع ما يُحبه الله ويرضاه" وهنا (ولم يدرِ) لها معنى.
"ولم يدُر مع ما يُحبه الله" يعني ما يدُر مع ما يُحبه الله؛ لأن ما عنده التقوى ولا عباده، ما ينظر إلى ما يُحبه الله ويرضاه، إنما ينظر بس إلى التوكل، الإيمان بالقدر فقط، وهنا قال: (ولم يدرِ ما يُحبه الله) يعني ولم يعلم ما يُحبه الله ويرضاه؛ لأن ما عنده التقوى.
(فتوكّل عليه في حظوظه، فأسعفه بها) توكل على الله في أمور الدنيا؛ لأن ما عنده عباده، في أمور الدنيا توكل على الله في حصول المال، توكل على الله في حصول الجاه، توكل على الله في حصول الرياسة.
قال المؤلف: (وهذا لا عاقبة له) لا عاقبة له في الآخرة، أموره مقصورة على الدنيا؛ مال، رياسة، ولد، سلطان، إمارة، إدارة، ما ينظر إلا إلى أمور الدنيا.
قال المؤلف: (وهذا لا عاقبة له سواء كانت) يعني حظوظه وشهواته (سواء كانت أموالًا أو رياسات، أو جاهًا عند الخلق، أو نحو ذلك، فذلك حظّه من دنياه وآخرته) حظه من آخرته، ما تجاوز همته وإرادته الدنيا، فهذا عنده توكل، متوكل على الله، ويستعين بالله لكن في أمور الدنيا لا في أمور الآخرة، فالله تعالى يُسعفه، يُعطيه ما يُناسبه ويُفضيه إلى الآخرة، ولا عاقبة له -نسأل الله العافية والسلامة-، ولهذا قال هنا: (وهذا لا عاقبة له، سواء كانت أموالًا أو رياسات، أو جاهًا عند الخلق، أو نحو ذلك، فذلك حظّه من دنياه وآخرته) -نسأل الله العافية والسلامة-.
هذه أقسام الناس، وأسعدهم القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة.
((واعلم أن العبد لا يكون متحققًا بعبادة الله تعالى إلا بأصلين:
أحدهما: متابعة الرّسول -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
والثاني: إخلاص العبودية.
والنّاس في هذين الأصلين على أربعة أقسام:
الأول: أهل الإخلاص والمتابعة؛ فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم ومنعهم، وإعطاؤهم وحبّهم وبغضهم كل ذلك لله تعالى، لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكورًا، عدُّوا النّاس كأصحاب القبور، لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. فإنه لا يعامل أحدًا من الخلق إلا لجهله بالله وجهله بالخلق)).
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (واعلم) وسبق أن معنى العلم هو اليقين؛ يعني تيقَّن، لا تشك، ولا تتوهم، ولا تظن، وحكم الذهن جائز.
(واعلم) يعني تحقق (أن العبد لا يكون متحققًا بعبادة الله تعالى إلاّ بأصلين) العبادة لها أصلان:
الأصل الأول: (متابعة الرّسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-.
والثاني: إخلاص العبودية) يعني للمعبود، فالعبادة لها أصلان لا تقوم إلا عليهما، ولا تصح، ولا تكون نافعة، ولا مقبولة عند الله إلا بهذين الأصلين:
(أحدهما: متابعة الرّسول -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
والثاني: إخلاص العبودية).
وهنا قدَّم المتابعة على الإخلاص، والأصل الإخلاص هو المقدَّم، الأصل أن الأصل الأول: هو الإخلاص، والثاني: المتابعة، لكن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- نقل من [مدارج السالكين] لابن القيم، ابن القيم هنا قدَّم الأصل الثاني على الأصل الأول، وإلا فالأصل الأول: هو الإخلاص، إخلاص العبودية للمعبود، إخلاص العبودية لمن؟ يعني لله، للمعبود.
(أحدهما: متابعة الرّسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-) متابعة الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- معناه أن يكون العمل موافقًا للشرع، موافقًا للشريعة، وصوابًا على هدي النبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(إخلاص العبودية) أن يكون العمل والعبادة مرادًا به وجه الله والدار الآخرة، ما يريد به الرياء، ولا السمعة، ولا المال، ولا الجاه، ولا الوظيفة، ولا أي شيء؛ لأن الإنسان يعبد ربه بالصلاة، بالصيام، بالزكاة، بالحج، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بالدعوة إلى الله، ببر الوالدين، بصلة الأرحام، بالصدقة، بالإحسان، بالإحسان إلى الخلق، كف الأذى، فلا بد تتوفر فيه هذان الأصلان:
أن يكون هذا العمل -هذه العبادة- تريد بها وجه الله، لا تريد بها الدنيا، ولا تريد بها المال، ولا الشهرة، ولا الرياء، ولا السمعة، ولا مماراة العلماء، ولا مجاراة السفهاء، ما تقصد به إلا وجه الله والدار الآخرة.
والثاني: التابعة للنبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يكون عملك موافق للشريعة، والصواب المشي على هدي رسول الله.
وهذان الأصلان دلت عليهما نصوص كثيرة، من هذه النصوص:
- قول الله تعالى في آخر سورة الكهف: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110] قوله: ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110] هذا الإخلاص، فالعمل الذي ليس فيه شرك هو الخالص لله، وقوله: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾[الكهف:110] هذه المتابعة، العمل الصالح هو الموافق للشريعة وهو المتابعة، ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110] العمل الذي ليس فيه شرك هو الخالص.
- وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾[لقمان:22] إسلام الوجه هو إخلاص العمل لله، هذا الأصل الأول. ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[لقمان:22] العمل الحسن هو الموافق للشريعة.
- قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾[البقرة:112] هذا الإخلاص، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[البقرة:112] هذا العمل الموافق للشريعة.
وكذلك النصوص دلت على هذا، دل على الأصل الأول: وهو الإخلاص حديث عمر في الصحيحين: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» هذا هو الإخلاص، ومقتضى هذا الأصل تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، الإخلاص هو: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
والأصل الثاني: وهو المتابعة دل عليه حديث عائشة في الصحيحين: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي لفظِ لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، ومقتضى هذا الأصل: تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله.
وإذا تخلف الأصل الأول: وهو الإخلاص حلَّ محله الشرك.
وإذا تخلف الأصل الثاني: وهو المتابعة حلَّ محله البدع.
والأصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
والأصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله.
وهاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملَّة، فأصل الدين وأساس الملَّة: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة لنبيه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بالرسالة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله هذا أصل الدين وأساس الملَّة، وهاتان الشهادتان هما مفتاح الإسلام، ومفتاح دار السلام، مفتاح الجنة: لا إله إلا الله.
قيل للحسن: "أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله كما في البخاري؟ قال: بلى، ولكن ليس بمفتاحٍ إلا له أسنان"، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتِح لك، وإلا لم يُفتَح لك، والأسنان هي الشرائع؛ الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام.
إذن هذان الأصلان هما أصل الدين وأساس الملة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-: (والنّاس في هذين الأصلين أربعة أقسام) أقسام الناس في هذين الأصلين أربعة:
القسم الأول: (أهل الإخلاص والمتابعة) وهؤلاء هم أفضل الأقسام وخيرهم، وهم أهل النجاة وأهل السعادة.
القسم الأول: (أهل الإخلاص والمتابعة).
القسم الثاني: بالعكس لا إخلاص ولا متابعة، وهؤلاء شر الأقسام، وهم الكفرة والملاحدة.
القسم الثالث: من عنده إخلاص وليس عنده متابعة.
القسم الرابع: من عنده متابعة وليس عنده إخلاص.
أربعة أقسام، كما أن الناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام، فكذلك الناس في الإخلاص والمتابعة أربعة أقسام، وسيأتينا أيضًا بقية الكتاب إن شاء الله، أيضًا كذلك أنفع الأعمال الناس فيها أربعة أقسام، ثم كذلك العبادة وهل العبادة لها حكمة وتعليل في النفس أربعة أقسام كذلك أيضًا، وسيأتي أيضًا أن تحقيق العبودية أربعة أشياء وهكذا.
إذن الناس في هذين الأصلين أربعة أقسام:
القسم الأول: (أهل الإخلاص والمتابعة) وهؤلاء هم الرسل وأتباعهم: الصحابة، والتابعون، والأئمة، والمؤمنون، وسائر المؤمنين هم أهل الإخلاص والمتابعة، وهم خير الناس وأفضل الناس، وهم أهل السعادة وأهل النجاة في الدنيا والآخرة.
القسم الأول: (أهل الإخلاص) يعني للمعبود سبحانه، والمتابعة للرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، أهل الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول.
(فأعمالهم كلها لله) خالصة، لا يريدون بها الدنيا ولا حطامها، (فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم) لله، ومنعهم لله، وعطاؤهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، ولهذا قال المؤلف: (كل ذلك لله، لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكورًا) يعملون لله، ليسوا يعملون للناس.
قال الله تعالى في وصف البررة: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9] يعملون لله، يُطعمون المساكين: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾[الإنسان:8] ثم يقولون لهم: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9] لا تشكرونا، لا تثنون علينا وتمدحوننا، ولا تكافؤننا، لا نريد منكم مكافأة مالية، ولا مكافأة أيضًا قولية بالثناء، نريد وجه الله؛
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾[الإنسان:9] هذا الإخلاص.
﴿لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9].
قال المؤلف: (لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكورًا، عدُّوا النّاس كأصحاب القبور) الناس الأحياء كأنهم أصحاب القبور، هل تنظر إلى أصحاب القبور؟ هل أحد يُرائي أصحاب القبور؟ واحد ميت في القبر، مدفون في القبر يقول: أبغي أعمل لكي يُثني عليَّ صاحب القبر؟ لا، إذن عُدَّ الأحياء مثل أصحاب القبور، كما أن أصحاب القبور لا ينفعون ولا يضرون هكذا الأحياء لا ينفعون ولا يضرون، كيف ترائيهم بعملك؟
(عدُّوا النّاس كأصحاب القبور، لا يملكون) الأحياء (لا يملكون ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا) هل يملكونها؟ لا يملكونها لا لأنفسهم ولا لغيرهم فكيف ترائيهم بعملك؟
قال: (فإنه لا يعامل أحدًا من الخلق إلاّ لجهله بالله وجهله بالخلق) فالذي يُعامل الخلق ويرائيهم هذا جاهلٌ بالله وجاهلٌ بالخلق؛
جاهلٌ بالله وعظمته وأنه مستحق للإخلاص والعمل.
وجاهلٌ بالخلق؛ لأنهم لا يضرون ولا ينفعون.
(فإنه لا يعامل أحدًا من الخلق إلا لجهله بالله وجهله بالخلق) ما عرَف الخلق ولا عرَف ربه حق المعرفة، ولو عرَف ربه حق المعرفة لأخلص له العبادة، ولو عرَف الخلق حق المعرفة لما رآهم بعمله.
((والإخلاص هو العمل الذي لا يقبَّل الله من عامل عملًا صوابًا عاريًا منه، وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت، قال الله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2]، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الكهف:7]، وأحسن العمل: أخلصه وأصوبه.
فالخالص: أن يكون لله.
والصواب: أن يكون على وفق سنّة رسول الله -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا هو العمل الصالح المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾[الكهف:110]، وهو العمل الحسن في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[النساء:125]، وهو الذي أمر به النّبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وكل عملٍ بلا متابعةٍ فإنه لا يزيد عامله إلاّ بعدًا من الله، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء والآراء)).
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يُبيِّن معنى الإخلاص والمتابعة، قال: (والإخلاص هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل عملًا صوابًا عاريًا منه)؛ لأنه لا يقبل الله من عمل ولو كان صواب، ولا موافقٌ للشريعة إلا إذا كان خالصًا لله.
واحد أخلص العمل لله، وصلَّى لله، لكن صوَّب العمل، العمل موافق للشريعة، صلَّى صلاة موافقة للشريعة لكن قصد به غير وجه الله ما ينفع؛ فالإخلاص هو العمل الذي لا يتقبل الله من عاملٍ عملًا صوابًا ولو كان موافق للشريعة، (عاريًا منه) يعني خاليًا منه.
قال: (وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت) الإخلاص ألزم الله به عبادة إلى الموت، (قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2]) يعني يختبركم فيكم أحسن عملًا، ولم يقل: أكثر عملًا، المهم العمل الحسن.
(وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ﴾[الكهف:7]) يعني لنختبرهم (﴿أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الكهف:7]) هذا العمل الخالص.
قال: (وأحسن العمل: أخلصه وأصوبه) هذان الأصلان.
(فالخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على وفق سنَّة رسول الله) قال: (وهذا هو العمل الصالح المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾[الكهف:110]) صالح موافق للشريعة.
(وهو العمل الحسن في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[النساء:125]) العمل الحسن هو الموافق للشريعة.
(وهو الذي أمر به النّبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ») هذا سبق لنا الحديث رواه الشيخان بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي لفظ لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
قال: (وكل عملٍ بلا متابعةٍ فإنه لا يزيد عامله إلاّ بعدًا من الله) كل عمل ما فيه متابعة للنبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لا يزيد صاحبه إلا بعدًا من الله، (فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالأهواء والآراء) كل عملٍ ما فيه متابعة للرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- فإنه لا يزيد صاحبه من الله إلا بعدًا من الله؛ لأنه ليس موافق للشريعة، فإن الله إنما يُعبَد بالأمر، يعني بما أمر به، بالأوامر والنواهي، (لا بالأهواء والآراء) الله يُعبَد لا بأهواء الناس وآرائهم، ولكن يُعبَد بالأوامر.
((الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة له، وهؤلاء شرار الخلق، وهم المتزينون بأعمال الخير، يراءون بها النّاس. وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم، والفقر والعبادة، فإنهم يرتكبون البدع والضلال، والرّياء والسّمعة، ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[آل عمران:188])).
هذا القسم الثاني، الضرب الثاني يُقابل القسم الأول: (من لا إخلاص له ولا متابعة له) ما عندهم إخلاص لله ولا متابعة للرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، هؤلاء يقول المؤلف: (شرار الخلق) -والعياذ بالله- كفرةٌ فجرة، ما عندهم إخلاص لله ولا متابعة وعمل بالشريعة.
قال: (وهم المتزينون بأعمال الخير، يراءون بها النّاس) يتزيَّنون بأعمال الخير لكن لا يريدون بها وجه الله وإنما يريدون بها الناس.
قال: (وهذا الضرب) الضرب يعني النوع (يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه) يعني هذا القسم يكثر في المنحرفين عن الصراط المستقيم؛ يعني عن الشريعة (من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر) الفقر التصوَّف، بعض الناس ينتسب إلى الفقه، أو ينتسب إلى العلم، أو ينتسب إلى التصوف، أو ينتسب إلى العبادة لكنهم ليس عندهم إخلاص ولا متابعة.
ولهذا قال: (فإنهم يرتكبون البدع والضلال، والرّياء والسّمعة، ويُحبِّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا) يعني يرتكب البدع، ويرتكب الضلال، ويُرائي بعمله، والسمعة في الأقوال، والرياء في الأفعال، ويُحب أن يحمده الناس بشيءٍ لم يفعله.
قال: (وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[آل عمران:188]) هذا ذمٌّ ووعيدٌ شديد لمن يُحب أن يُحمَد بشيءٍ ويتزيَّن بشيءٍ لم يفعله.
((الضرب الثالث: من هو مخلصٌ في أعماله، لكنها على غير متابعةٍ الأمر؛ كجُهَّال العُبَّاد، والمنتسبين إلى الزّهد والفقر، وكل من عبد الله على غير مراده. والشأن ليس في عبادة الله فقط، بل في عبادة الله كما أراد الله. ومنهم من يمكث في خلوته تاركًا للجمعة، ويرى ذلك قربة، ويرى مواصلة صوم النّهار والقيام بالليل قربة، وأن صيام يوم الفطر قربة، وأمثال ذلك.
الضرب الرّابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله تعالى؛ كطاعات المرائين، وكالرّجل قاتل رياءً وسمعةً وحمّيةً، وشجاعةً وللمغنَم، ويحجّ ليُقال، ويقرأ ليُقال، ويعلَم ويُعلِّم ليُقال؛ فهذه أعمال صالحة لكنها غير مقبولةٍ، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[البينة:5]، فلم يأمر النّاس إلاّ بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها، والقائم بهما هم أهل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5])).
الضرب الثالث: من عنده إخلاص ولكن ليس عنده متابعة للنبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لا يُتابع الشريعة، مخلص في عمله لكن عمله على غير متابعة، مثل (جُهَّال العُبَّاد، والمنتسبين إلى الزّهد والفقر، وكل من عبد الله على غير مراده) هذا يحصل كثير، بعض الناس عنده إخلاص ويتعبَّد لكن العبادة غير موافقة للشرع، تجد بعض الناس بعض العُبَّاد من العامة وغيرهم، بعض الناس عنده عبادة ومخلص في العبادة لكن على غير متابعة.
مثل بعض الناس يصوم أيام البيض، ويصوم اليوم الثالث عشر من ذي الحجة مع أنه من أيام التشريق الثلاثة بسبب جهله، ومخلص قال: أنا أريد وجه الله، لكن قلنا: على غير المتابعة، صوم اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ممنوع، نهى النبي قال: «أَيَّامُ التَشرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَصُومُهَا إِلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيِ مِنَ الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرينَ» فهذا على غير المتابعة.
تجد بعض الناس كذلك يتعبَّد مع أنه مخلص لكن على غير المتابعة، فتجد بعض الناس يُصلي ركعتي الفجر ويُطيل في الركوع والسجود كذا كأنه يتهجَّد، نقول: هذا على غير المتابعة، الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كان يُخفِّف هاتين الركعتين، فهذه نعم هي خالصة لله لكن نقول: على غير المتابعة.
فهذا القسم من الناس يحصل من بعض العُبَّاد وبعض الزهَّاد، وبعض الصوفية يتعبَّدون ويُخلصون العمل لله، لكن العمل غير موافق للشريعة، أو فيه نقص، هذا القسم الثالث: (من هو مخلصٌ في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر).
مثال ذلك: قال المؤلف: (جُهَّال العُبَّاد، والمنتسبين إلى الزّهد والفقر) يعني التصوف، (وكل من عبد الله على غير مراده) ثم قال: (والشأن ليس في عبادة الله فقط، بل في عبادة الله كما أراد الله) ليس الشأن أن تعبد الله، وإنما أن تعبد الله كما أراد الله، وموافق للشريعة.
قال: (ومنهم من يمكث في خلوته تاركًا للجمعة) بعض الصوفية يمكث في خلوته ويتعبَّد ويترك الجمعة، مخلص لله، يقول: خلاص أنا الآن عندي الآن قلبي جمعته على الله، فإذا قمت للجمعة تفرَّق علي جمعية قلبي، وينصرف قلبه فيترك الجمعة والجماعة ويتعبَّد في خلوته، هذا مخلص لله لكن عمله على غير الشريعة.
وكذلك أيضًا (ويرى ذلك قربة، ويرى مواصلة صوم النّهار والقيام بالليل قربة) بعض الناس يصوم بالليل والنهار، بعض الجُهَّال يرى أن هذا قربة مع أن المبادرة بالفِطر أفضل، هذا عملٌ خالصٌ لكن على غير المتابعة، وأن (صيام يوم الفطر قربة) بعضهم يصوم يوم العيد لجهله، يوم العيد حرام صومه، (وأمثال ذلك).
الضرب الرابع: عكس هؤلاء (من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله) أعماله موافقة للشريعة مثلما يُقال: بعضهم مئة في المئة، لكن مرائي في عمله، العمل ما هو لله، يُرائي الناس، من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله.
مثال ذلك: قال: (كطاعات المرائين) يُصلي يرائي، يقرأ يرائي، يأمر بالمعروف يرائي، يتعلَّم يرائي، يُعلِّم يرائي، يتصدَّق يرائي، قال المؤلف: (كالرّجل قاتل رياءً) يقاتل في سبيل الل لكم مرآة ما هو لله، يُقاتل رياءً وسمعة، أو يُقاتل حميَّة، أو يقاتل لتحرير الأرض فقط، أو للقومية، أو العصبية وللدم ما هو لله، هذا العمل ليس لله وإن كان موافقًا الجهاد موافق للشريعة لكن ليس لله.
(وكالرّجل قاتل رياءً وسمعةً وحمّيةً وشجاعةً وللمغنم، ويحجّ ليقال) يعني ليُقول الناس حج، (ويقرأ ليقال) ليُقال: قارئ، (ويعلَم ليقال) تعلَّم، (ويُعلِّم ليقال) قال: (فهذه أعمال صالحة) موافقة للشرع (لكنها غير مقبولةٍ) لماذا؟ لأنها ليست لله، 3قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾[البينة:5] على أي شيء؟ ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة:5] الدين معناه العبادة، مخلصين له العبادة ﴿حُنَفَاءَ﴾[البينة:5] جمع حنيف والحنيف هو المائل من الشرك إلى التوحيد.
قال: (فلم يأمر النّاس إلاّ بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها) الناس أُمروا بشيئين، لم يؤمر الناس إلا:
بالعبادة على المتابعة، متابعة الرسول.
والإخلاص له.
(والقائم بهما) القائم بالعبادة والإخلاص (هم أهل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وإلى هنا نقف إن شاء الله، فاجعلوا الموقف الآن، وغدًا ما في درس إن شاء الله، تتوقف الدروس، وبقية إن شاء الله الكتاب نُكمله إن شاء الله في دورةٍ قادمة، وفَّق الله الجميع.