بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله من خلقه، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم وأسأله المزيد من فضله، واسأله -سبحانه وتعالى- أن يصلح قلوبنا، وأعمالنا، ونياتنا، وذريتنا، كما اسأله -سبحانه- أن يرزقنا جميعًا العلم النافع، والعمل الصالح، كما اسأله -سبحانه- أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصوما، وأن لا يجعل فينا شقيًا ولا محرومًا.
كما أسأله -سبحانه- أن يجعل جمعنا هذا جمع خير، وعلم، ورحمة، تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»، أيها الإخوان نحمد الله -سبحانه وتعالى- أن أعادنا إلى مجالس الذكر، ومجالس العلم ولا يخفى عليكم فضل مجالس الذكر، ومجالس العلم، وأن تعلم العلم وتعليمه من أفضل القربات، وأجل الطاعات لمن صحة نيته، وخلص قصده لله -عز وجل- فالله -تعالى- رفع شأن العلم والعلماء فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ]سورة المجادلة: 11[.
والله -سبحانه وتعالى- قرن شهادة العلماء بشهادته، وشهادة ملائكته على أجل مشهودٍ به، وهو الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ]سورة آل عمران: 18[، ولم يأمر الله نبيه أن يسأله المزيد من شيء سوى العلم، فلم يأمره أن يسأله المزيد من المال، أو الجاه، وإنما أمره أن يسأله المزيد من العلم فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ]سورة طه: 14[، وثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله معطي»، قال العلماء هذا الحديث له منطوق، وله مفهوم، منطوقه أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا، ومفهومه أن من لم يفقهه الله في الدين فلم يرد به خيرًا ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفقه في الدين عام، الفقه في الدين أعظم الفقه، الفقه في أسماء الله وصفاته، التفقه في أسماء الله وصفاته، وفي أحكامه، وفي شرعه، العلم أنواع وأقسام، العلم الشرعي النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه ثلاث أنواع:
النوع الأول: العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وهذا أجلها، وأعظمها.
النوع الثاني: العلم بدينه بالأوامر والنواهي، العلم بدين الله.
النوع الثالث: العلم بالجزاء، جزاء الموحدين، وجزاء المخالفين للتوحيد وهم المشركون.
هذه أقسام العلم النافع، علم بالله وأسمائه وصفاته، علم بدينه وشرعه وهي الأوامر والنواهي، مستدعي بالجزاء يوم القيامة، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:
والعلم أقسامٌ ثلاثٌ ما لها |
|
من رابعٍ والحق ذو تبيانِ |
علمٌ بأوصافِ الإلهِ وفعلِهِ |
|
وكذلك الأسماءُ للرحمنِ |
والأمرُ والنهيُ الذي هو دينُهُ |
|
وجزاؤه يومَ المعادِ الثاني |
هذه أقسام العلم النافع، أن تتعلم أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو تتعلم شرعه ودينه الأوامر والنواهي، أو تتعلم الجزاء يوم القيامة، جزاء الموحدين وجزاء الكافرين أو العصاة، ولكن على طالب العلم أن يتأدب بآداب طالب العلم، ومن أعظم الآداب الإخلاص لله -عز وجل- تتعلم لله لأنك تعبد الله تنقذ نفسك تتبصر في شريعة الله فتنقذ نفسك من الجهل، وتنقذ غيرك من الجهل، لا تتعلم لأجل المال، أو لأجل الوظيفة، أو لأجل السمعة والرياء، أو لأجل المباهاة، أو لأجل مباهاة العلماء، أو مجاراة السفهاء، أو لأجل أن يرى مكانك وغير ذلك من المقاصد، لأن هذه المقاصد تحبط العمل، والعلم تعلم العلم وتعليمه من أفضل القربات وأجل الطاعات، والطاعة والعبادة لا تصح ولا تكون مقبولة ولا نجاة عند الله حتى يتحقق فيها أصلان:
الأصل الأول: أن تكون خالصة لله مراد بها وجه الله والدار الآخرة، تصلي لله، تصوم لله، تحج لله، تبر والديك لله، تتصدق لله، تجاهد لله، تأمر بالمعروف لله، تنهي عن المنكر لله، تحسن إلى جارك لله، تتعلم العلم لله، فإن صرفت شيء من أنواع العبادة لغير الله وقعت في الشرك.
الأمر الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لشرع الله، وصوابًا على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ ]سورة الكهف: 110[، العمل الصالح هو الموافق للشريعة، والعمل الذي ينفي الشرك هو الخالص لله، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ]سورة لقمان: 22[، وإسلام الوجه هو إخلاص العمل لله، والإحسان هو أن يكون العمل موافقًا للشريعة، فعلى طالب العلم أن يتأدب بهذه الآداب يخلص لله، يتعلم لله، لا لقصدٍ آخر، ويحرص على الحضور من أول الدروس يلازمها، ويحضر ذهنه وسمعه وفكره، ويقيد الفوائد والشوارد، العلم صيدٌ والكتابة قيده، قيد قيودك بالحبال الواثقة، ويسأل عما أشكل عليه، يسأل سؤال استرشاد، لا يسأل سؤال تعنت ولا سؤال يؤذي، ولا سؤال يوقع في الحرج أو يسأل للرياء، أو لغير ذلك من المقاصد السيئة، وإنما يسأل للاسترشاد والاستفادة، يحترم إخوانه وزملائه ويحذر من الغيبة والنميمة، ويحذر سب إخوانه أو التدخل في نياتهم أو أن لهم مقاصد كذا، النيات لا يعلمها إلا الله، كيف تدخل في نيات غيرك، فلان قصده كذا، فلان ليس قصده كذا، اتقي الله واحذر، اسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو تجريد التوحيد المفيد للعلامة أحمد بن علي المقريزي المصري الشافعي مولود سنة سبع مائة ستة وستون، وتوفى سنة ثمان مئة وخمسة وأربعون سبق أن شرحنا ثلثي الكتاب في الدورة الماضية والدورة التي قبلها، وبقي الثلث الأخير أو أقل نكمله إن شاء الله في هذه الدورة، وقد سمى هذه الرسالة مؤلفها تجريد التوحيد المفيد، تعرض المؤلف -رحمه الله- في أول الكتاب إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وأطال في هذا ويدخل في توحيد الربوبية توحيد الأسماء والصفات، التوحيد نوعان: إثبات حقيقة لذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله هذا اسمه توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
الثاني: توحيد العبادة والألوهية، توحيد الإرادة والقصد والطلب.
تكلم عن هذين النوعين من التوحيد وأطال فيهما، ثم ذكر الشرك الذي هو ضد التوحيد وقال إن الشرك نوعان: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وأن الشرك في الربوبية هو الغالب على الأمم، شرك عباد الأصنام والأوثان، شرك عباد القبور، شرك عباد الجن، عباد الملائكة، عباد الأوثان، عباد البقر كله شرك في الألوهية، والشرك في الربوبية فقط.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله-أقسام الناس في الاستعانة والعبادة، وأن الناس أربعة أقسام:
القسم الأول: أهل عبادة واستعانة يعبدون الله، ويستعينون بالله هم أهل إياك نعبد وإياك نستعين، وهؤلاء هم أفضل الأقسام وخيرها.
القسم الثاني: هو من ليس له عبادة ولا استعانة ضد القسم الأول، وهؤلاء هم الكفرة ليس لهم عبادة ولا استعانة.
القسم الثالث: عنده نوع عبادة لكنه لا استعانة له ولا توكل، عنده نوع عبادة.
القسم الرابع: بالعكس هو من عنده نوع استعانة وتوكل لكن ليس له عبادة.
ثم تكلم المؤلف عن الإخلاص والمتابعة، وقال إن الإخلاص والمتابعة لا بد منهما في صحة العبادة، وأن الناس أقسام أربعة أيضًا:
القسم الأول: عندهم إخلاص ومتابعة وهم خير الأقسام.
القسم الثاني: يقابل هذا وهو من لا إخلاص له ولا متابعة وهؤلاء شر الأقسام.
القسم الثالث: ما عنده إخلاص لكن ليس له متابعة عن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
القسم الرابع: عنده متابعة وليس عنده إخلاص.
ولا ينجوا إلا أهل القسم الأول، ثم تكلم المؤلف -رحمه الله-على أن أهل مقام إياك نعبد وإياك نستعين تكلموا في أفضل العبادات ما هي؟
فمنهم من قال أفضل العبادات أصعبها وأشقها على النفوس ولهم أدلة، ومنهم من قال أفضل العبادات التدرج عن الدنيا والزهد فيها، والتقلل منها، والطائفة الثالثة قالوا أفضل العبادات التي نفعها متعدي دون النفع القاصر، ومنهم من قال إن أفضل العبادات أن تؤدى كل عبادةٍ في وقتها المحدد، تؤدى كل عبادة في الوظيفة التي وظفت لها، وهذا هو الموقف الذي وقفنا عليه، ونقرأ الآن:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، يقول الإمام المقريزي -رحمه الله تعالى-:
ثم أهل مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقّها بالإيثار والتخصيص، أربعة طرق، وهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها وأشقها على النّفوس وأصعبها، قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التّعبّد، والأجر على قدر المشقّة، ورووا حديثا ليس له أصل: "أفضل الأعمال أحمزها"
أي: أصعبها وأشقّها. وهؤلاء هم أرباب المجاهدات، والجور على النّفوس، قالوا: وإنما تستقيم النّفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الرّاحة، فلا تستقيم إلاّ بركوب الأهوال، وتحمّل المشاق.
هذا البحث منقول نقله المؤلف من كتاب مدارج السالكين لابن القيم الجزء الأول بعض الطبعات في صفحة 598 يقول:
(أهل مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} الذين يعبدون الله ويستعينون بالله هم أهل الاستقامة، هم أهل التوحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: نخصك يا الله في العبادة ولا نعبد غيرك، وإياك نستعين أي: نخصك يا الله بالاستعانة والتوكل ولا نستعين إلا بك، ولا نتوكل إلا عليك، هؤلاء هم أهل العبادة وأهل الاستعانة بالله اختلفوا في أفضل العبادة، وأنفعها، وأحقها بالإفادة عند الله، واختلفوا في ذلك على أربعة طرقة، وهم على ذلك أربعة أصناف، أي: هؤلاء الموحدون، المؤمنون، اختلفوا في أفضل العبادات، اختلافهم في أفضل العبادات حتى يعرف الإنسان الأصلح، حتى يفعل الأفضل، إذا فعل الإنسان الأفضل زاد أجره وثوابه عند الله.
فالصنف الأول قالوا: أفضل العبادات كل عبادة فيها مشقة على النفوس هذه هي الأفضل، وأنفعها عند الله، أشقها على النفوس وأصعبها، وعندهم في ذلك أدلة وتعليل.
أما التعليل: قالوا: إن العبادة الصعبة والشاقة على النفوس أبعد الأشياء عن هواها فكون الإنسان يتعبد عبادة فيها مشقة يكون بعيد عن الهوى، ويكون في ذلك قد عبد الله حقيقة التعبد.
والدليل: أن الأجر على قدر المشقة وكلما زادت المشقة زاد الأجر، واستدلوا بحديث قال المؤلف:
(ورووا حديثا ليس له أصل: "أفضل الأعمال أحمزها") ومعنى أحمزها: أصعبها وأشقها، وهذا الحديث كما ذكر المحقق، ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة بلفظ أفضل العبادات أحمزها، ونقل عن المزي أنه قال هو من غرائب الأحاديث، ولم يروا في شيء من الكتب الستة، وذكره أبو عبيد في غريب الحديث من رواية ابن عباس قال أبو عبيدة أحمزها أي: أمكنها وأقواها، استدلوا بهذا الحديث، أقول لو استدلوا بحديث عائشة أجرك على قدر نصبك لكان أولى، حديث عائشة -رضي الله عنها- في العمرة قال لها: «أجرك على قدر نصبك» والنصب هو التعب، هذا كان أولى أن يستدلوا به، فهذا أصح مما استدلوا به، لكن هذا أيضًا الحديث ليس فيه صريح بأن أفضل العبادات أصعبها ولكن فيه أن الأجر على قدر المشقة التي تحصل للإنسان في أداء العبادة، لا لأن العبادة فيها صعوبة ومشقة، وليس فيه دليل على أن العبادة التي فيها صعوبة ومشقة هي الأفضل.
والصواب: أن هذا القول ليس بصحيح لأن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، الإنسان لا يؤمر بأن يفعل ما فيه مشقة، بل الأحاديث جاءت ما يدل على اليسر والسهولة ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ]سورة الحج: 78[، «بعثت بالحنيفية السمحة» «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» فليست المشقة مطلوبة لذاتها، لكن إذا حصل للإنسان مشقة أجره الله حصل له الأجر والثواب، لكن ليس معنى ذلك أن يتخير الإنسان العبادة التي فيها تعب ومشقة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وقول هؤلاء إن أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها ليس بصحيح، لأن المشقة ليست مطلوبة لذاتها.
(وهؤلاء هم أرباب المجاهدات، والجور على النّفوس) هؤلاء الذين اختاروا هذا القول، هم أرباب المجاهدات يجاهدون أنفسهم، ويجورون عليها ويشقون على نفوسها.
(قالوا: وإنما تستقيم النّفوس بذلك) النفوس لا تستقيم إلا بالمجاهدة، والجور عليها، وحملها على المشاق، فبذلك تستقيم النفوس.
(إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الرّاحة) فطبيعة النفوس الكسل، والمهانة، والإخلاد إلى الراحة فلذلك ينبغي حملها على الأمور الصعبة.
(فلا تستقيم إلاّ بركوب الأهوال، وتحمّل المشاق) وهم يجاهدون أنفسهم ويجارون على النفوس، فنقول هذا اجتهاد منهم لكن ليس بصحيح، لأن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، بل الإنسان يختار الأيسر، والحمد لله.
قال المؤلف -رحمه الله-:
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات وأنفعها: التّجرّد والزّهد في الدّنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، وإطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث لما هو منها. ثم هؤلاء قسمان:
فعوامّهم: ظنّوا أن هذا غاية، فشمّروا إليه وعملوا عليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، ورأوا الزّهد في الدّنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودًا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله - تعالى -، والاستغراق في محبّته، والإنابة إليه، والتّوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات: دوام ذكره بالقلب واللسان.
هذا الصنف الثاني (أفضل العبادات وأنفعها: التّجرّد والزّهد في الدّنيا، والتقلل منها غاية الإمكان) والرغبة في الآخرة؛ الصنف الأول قالوا: أفضل العبادات أشقها على النفوس وأصعبها، وهؤلاء قالوا أفضل العبادات: التجرد والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، وإطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث لما هو منها، هؤلاء رأوا أن أنفع العبادات كون الإنسان يتجرد عن الدنيا ويزهد فيها، ويتقلل منها لا يتوسع في ملاذها، وفي مأكلها، ومشاربها، لا يتوسع في المأكل وفي المشارب، ولا في الملابس، ولا في المراكب، ولا في المساكن، يتقلل منها غاية الإمكان ولا يهتم بها، ولا يكون عنده اهتمام بها، ولا يبالي هذه هي أفضل العبادات عندهم، الزهد في الدنيا والتقلل منها، وهذه طريقة الصوفية، نقول لهم إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الحرام والمتشابه بالبعد عنه، وأما ما كسب المال من الوجوه المشروعة وأنفقه في الوجوه المشروعة فهو كأغنياء الصحابة، كأبي بكر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، فكم من إنسان يتقلل من الدنيا ولم يزهد في الحرام والمتشابه، فالزهد الحقيقي هو الزهد في الحرام، والزهد في المتشابه وفي الحديث «نعم المال الصالح، للرجل الصالح».
(ثم هؤلاء قسمان) عوام، وخواص الصوفية، هذه طريقة الصوفية، يقولون: أفضل العبادات وأنفعها التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان.
(فعوامّهم: ظنّوا أن هذا غاية) أن الغاية هي التجرد من الدنيا.
(فشمّروا إليه وعملوا عليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة) قالوا: أن الإنسان يتجرد من الدنيا أفضل من أن يتعلم العلم، وأفضل من أن يتعلم، أن يتجرد من الدنيا ويتقلل منها هذا هو الأفضل ولو لم يكن عنده علم، ولا عبادة.
(ورأوا الزّهد في الدّنيا غاية كل عبادة ورأسها) يكفيك التجرد من الدنيا والتزهد فيها، ولو لم تقبل على العلم، والعبادة فهذه طريقة العوام منهم، فأما الخواص قالوا: إن ترك الدنيا ليس غاية ولكنه مقصودًا لغيره، مقصود لعكوف القلب على الله والإنابة إليه والتوكل عليه.
العوام قالوا: التقلل من الدنيا والزهد في الدنيا هو الغاية، والخواص قالوا: التقلل من الدنيا ليس غاية إنما هو وسيلة، والغاية عكوف القلب على الله، هو مقصود التقلل من الدنيا، التقلل من الدنيا مقصود لعكوف القلب على الله، والاستغراق في محبته، في مدارج السالكين: وتفريغ القلب لمحبته عبارة ابن القيم الذي نقل منها المؤلف الكتاب وأن مقصود به عكوف القلب على الله والاستغراق في محبته، في المدارج وتفريغ القلب لمحبته، بدل والاستغراق في محبته؛ إذًا هذا المقصود عند الخواص عكوف القلب على الله، والاستغراق، وتفريغ القلب لمحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات دوام ذكر الله بالقلب واللسان، هذا هو أفضل الأعمال.
وأما الزهد في الدنيا والتقلل منها هذا وسيلة لدوام الذكر، لكن نقول لهم: دوام ذكر الله بالقلب واللسان لا يكفي بل لا بد من العلم والعمل.
قال المؤلف -رحمه الله-:
ثمّ هؤلاء قسمان:
فالعارفون: إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه، ولو فرّقهم وأذهب جمعهم.
والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من القلب جمعيّته، فإذا جاء ما يفرّقه عن الله لم يلتفتوا إليه، ويقولون:
يطالب بالأوراد من هو غافلاً ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد
ثم هؤلاء - أيضا - قسمان:
منهم: من يترك الواجبات والفرائض لجمعيّته.
ومنهم: من يقوم بها ويترك السّنن والنّوافل، وتعلّم العلم النّافع لجمعيّته.
والحق: أن الجمعيّة حظ القلب، وإجابة داعي الله حقّ الرّب، فمن آثر حقّ نفسه على حقّ ربّه فليس من العبادة في شيء.
هؤلاء الخواص: انقسموا قسمين قلنا أن هؤلاء الصنف الذي قال أفضل العبادات التجرد قسمان: عوام وخواص، الخواص قسمان عارفون ومنحرفون.
(فالعارفون: إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه، ولو فرّقهم وأذهب جمعهم) يزعمون أنهم يجتمعون على الذكر، وأنهم يجلسون يذكرون الله، فإذا أقبل القلب على الله واجتمع القلب لا يتفرقون حتى لو جاءت الصلاة لا يتفرقون لأن الصلاة تفرقهم وتفرق جمعيتهم على الله.
(فالعارفون: إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه) أقيموا الصلاة، تركوا هذا الاجتماع ولو فرقهم، وإذا جاء النهي كذلك، فالعارف هذا القسم الأول من الخواص.
(فالعارفون: إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه) أي: امتثلوا الأمر ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم.
القسم الثاني: المنحرفون ما يفرقهم الأمر والنهي.
(والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من القلب جمعيّته، فإذا جاء ما يفرّقه عن الله لم يلتفتوا إليه) المنحرفون يقولون اجتمعوا مثلًا بعد الظهر ثم جاءت صلاة العصر وهم مجتمعون يذكرون مثل ما يفعل الصوفية لا إله إلا الله، أو الله الله فإذا جاءت الصلاة ما صلوا لأن هذا يفرقهم، اجتمعنا على الله والذكر الآن والصلاة تفرقنا، المقصود جميعة الله فإذا جاء ما يفرقه ما ننصرف نستمر، أما العارفون إذا جاء الأمر بادروا إليه ولو فرق جمعيتهم يتفرقون ويمتثلون الأمر، والمنحرفون يستمرون على اجتماعهم ولو جاء الأمر، لو جاء أمر الله ما يمتثلونه، ولهم شبهة وهي المقصود من القلب جمعيته على الله أن يجتمع على الله، فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه، ويقولون تمثلًا بقول الشاعر:
يطالب بالأوراد من كان غافلاً |
|
فكيف بقلب كل أوقاته ورد |
يطالب بالأمر والنهي الغافل، لكن نحن قل أوقاتنا على الذكر ما نحتاج إلى الصلاة، جاءت الصلاة الصلاة المقصود بها الذكر ونحن كل أوقاتنا الذكر، الذي يطالب الأوراد من عنده غفلة، أما الذي أوقاته كلها ورد كلها ذكر ما يطالب، أرأيتم الفرق بين هؤلاء المنحرفون وبهذا يتبين أن هذا الصنف هم صوفية، لكن العوام عوامهم يقولون الغاية هو التقلل من الدنيا.
والخواص: يقولون ليس هو الغاية، الغاية عكوف القلب، ثم الخواص ينقسمون إلى قسمين:
عارفون، ومنحرفون.
فالعارفون: إذا جاء الأمر بادروا إليه ولو فرق جمعيتهم.
والمنحرفون: إذا جاء الأمر لا يتلفتون إليه بل يقولون المقصود الاجتماع، جميعة القلب على الله فإذا جاء ما يفرقه لا نلتفت إليه، ويقولون نحن أهل ذكر، فكيف نطالب بأوامر أخرى نحن على الذكر، إنما يطالب الغافل، أما غير الغافل فلا يطالب.
ثم أيضًا المنحرفون أنقسموا قسمان:
(ثم هؤلاء - أيضا - قسمان) هذا التقسم للمنحرفين، سبق أنهم قسمان: عوام وخواص.
والخواص قسمان: عارفون، ومنحرفون.
والمنحرفون قسمان: قسم يترك الواجبات والفرائض لجمعيته، إذا أذن المؤذن للصلاة وهم مجتمعون يتركون الواجبات ويقولون نحن على الذكر، المقصود بالصلاة الذكر ونحن على ذكر فالصلاة تفرقنا فلا نهتم بها.
يتركون الواجبات والفرائض لجمعيتهم.
والقسم الثاني: لا يتركون الواجبات، لكن يتركون السنن والنوافل والمستحبات، فإذا جاء الواجبات يؤدونها.
والنوافل: مثل سنن الرواتب، وتعلم العلم هذه يتركونها يقولون جمعية القلب على الله مقدم على النوافل، وكل من القسمين منحرف، كل من الطائفتين منحرف، الله -تعالى- خلق الإنسان لعبادته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ]سورة الذاريات: 56[، فإذا أمرك الله فعليك أن تمتثل الأوامر سواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب، أما أن يترك الإنسان الأوامر سواء أمر إيجاب أو أمر استحباب ويقول أنه مشغول بالجمع على الله هذا انحراف عن الحق، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-:
(والحق: أن الجمعيّة حظ القلب، وإجابة داعي الله حقّ الرّب، فمن آثر حقّ نفسه على حقّ ربّه فليس من العبادة في شيء) الجمعية كونك تظن أنك مجتمع على الذكر، وأنكم تذكرون أيها الصوفية وتجتمعون هذا حظ القلب، وإجابة داعي الله إذا أذن المؤذن هذا حق الله، وحق الله مقدم على حق النفس، فمن قدم حق النفس على حق الله فلم يكن عابدًا لله، هذا رد المؤلف على هؤلاء، قال: الحق أن الجمعية حظ القلب، هو الآن يقدم حضور نفسه حضور شهوته وقلبه، وإجابة داعي الله من الأوامر والنواهي حق الرب، فمن آثر أي: فضل وقدم حق نفسه على حق ربه فليس من العبادة في شيء بل هو يعمل بهوى نفسه.
والصواب: أن الجمعية يكون فيها حظ القلب، وحظ النفس، وحق الرب، والمطلوب إثار حق الله، حق الرب، وحظ النفس ليس ممنوعًا مطلقًا ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أنزل الله في سورة الأحزاب ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ ]سورة الأحزاب: 51[، قالت ما على ربك إلا أن يسارع في هواك هذا هوى لكنه ليس ممنوعًا.
والعارف له ثلاثة إطلاقات: الإطلاق الأول: يطلق على الذي وصل إلى العلم والمعرفة عند الصوفية، وهو أن يعلم ما قدر سيكون، وأن أفعاله هي أفعال الله، وحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، ويستدلون بقوله -تعالى-: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ]سورة الحجر: 99[، هذا يسمى عارف.
العارف هو الذي يعلم ويعرف أن ما قدر سيكون، وينظر إلى المشيئة والقدر، ويلغي صفاته وافعاله ويجعلها صفاته لله، فالله عنده هو المصلي، والصائم وحينئذٍ تسقط عنه التكاليف ويتسدلون بقوله -تعالى-: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ وفسروا اليقين بالعلم، فإذا جاء العلم انتهت العبادة.
هذا جواب الصوفية وهؤلاء الذين يعتقدون هذا الاعتقاد لا شك في كفرهم لأن أجمع المسلمون أن من اعتقد أن أحد الناس يسقط عنه التكليف وعقله حاضر فإنه كافر، يستتاب فإن تاب، وإلا قتل كافرًا ما في أحد يسقط عنه التكليف إلا إذا فقد العقل، أما إذا كان العق لموجود فالتكليف موجود، فمن زعم أن أحد الناس سقط عنه التكليف وعقله معه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا، كما قرر ذلك شيخ الإسلام وغيره.
هذا يسمونه العارف، العارف: هو الذي عرف أنما قدر سيكون، وألغى صفاته وأفعاله وجعل صفاته وأفعاله لله تسقط عنه التكاليف، هذا رده عن الإسلام ومن اعتقد ذلك الاعتقاد فهو مرتد.
القسم الثاني من العارفين: العارف الذي له كشوف ومعارف عن المغيبات في المستقبل، يزعم أنه يكشف له هذه المغيبات من المستقبل، وأيضًا هذا كفرٌ ورده لأن من ادعى شيء من علم الغيب فهو كافر، من ادعى أنه يعلم المغيبات فهو كافر، قال الله -تعالى-: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ ]سورة الجن: 27[، وقال -تعالى-: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ ]سورة النمل: 65[، فمن زعم أنه يكشف له عن المغيبات في المستقبل فإنه كافر لأن علم الغيب من خصائص الله -عز وجل-.
الثالث: العارف المنتسب إلى هذه الفرقة الصوفية، العارفون كما يقال عارف يعني منتسب إلى صوفيه يسمونه السالك، منتسب إليهم وواحد منهم، مثل ما يقال الآن في الفرق يقال إخواني، سلفي، تبليغي، سروري، هذه كذلك يقال عارف منتسب إليهم وواحد منهم، نقف على هذا، وفق الله الجميع، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.