بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، اللهم سدد شيخنا واغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال الإمام المقريزي -رحمه الله تعالى-:
والأفضل في أيام عشر ذي الحجّة: الإكثار من التّعبّد، لا سيما التّكبير والتّهليل والتّحميد، وهو أفضل من الجهاد غير المتعيّن. والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المساجد، والخلوة فيها، مع الاعتكاف والإعراض عن مخالطة النّاس، والاشتغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن عند كثيرٍ من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيّتك. والأفضل في وقت نزول النّوازل وإيذاء النّاس لك: أداء واجب الصّبر مع خلطتك لهم، والمؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم وإيذائهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم، وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشّر أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلّله فخلطتهم خير من اعتزالهم.
وهؤلاء هم أهل التّعبّد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التّعبّد المقيّد، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلّق به من العبادة وفارقه؛ يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله - تعالى - على وجه واحد، وصاحب التّعبّد المطلق ليس له غرض في تعبّد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبّع مرضات الله - تعالى -: إن رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذّاكرين، والمتصدّقين، وأرباب الجمعيّة، وعكوف القلب على الله، فهذا هو الغذاء الجامع للسّائر إلى الله في كل طريق، والوافد عليه مع كل فريق.
واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -، وقول النّبي صلى الله عليه وسلم بحضوره: "هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائما؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ اتبع اليوم جنازةً؟ ". قال أبو بكر: أنا ... الحديث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهؤلاء هم الصنف الرابع من الأصناف الذين لهم في أفضل العبادات وأمتعها ... (02:47) أنهم أربعة أصناف:
1 - رأوا أن أنفع العبادات وأفضها أشقها على النفوس وأصعبها، فقلنا أن هذا القول ليس بصحيح لأن المشقة ليست مطلوبة بذاتها.
2 - أفضل العبادات وأفضها التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها وعدم الاحتراز بها، قلنا هذه طريقة الصوفية والزهد الحقيقي إنما هو الزهد من الحرام والمتشابه، وأما كسب المال فإذا كسبه من الوجوه المشروعة وأنفقه في الوجوه المشروعة فهذا هو المطلوب، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، وهذا الذي عليه أغنياء الصحابة.
3 - أصل العبادات ما كان فيه نفع متعدي بخلاف النفع القاصر الذي يتعدى نفعه للأخرين فهذا هو الأفضل، وقلنا أن هذا صحيح في الجملة لكن ليس على اطلاقة وعمومه بل قد تكون العبادة قاصرة أحيانًا أفضل من المتعدية.
4 - فهم الذين قالوا أفضل العبادات في كل شيء بحسبه وفي كل وقت بوظيفة ذلك الوقت من العبادة، كل وقت له عبادة موظفة فيرد الإنسان العبادة عبادة الوقت الذي وظفها الله تعالى، ولهذا قالوا أصل العبادة العمل على مرضات الرب -سبحانه- واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، ففي وقت الجهاد يشتغل بالجهاد، وفي وقت حضور الضيف يشتغل بخدمة الضيف، وفي وقت السحر يشتغل بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء، وفي وقت الأذان يشتغل بإجابة المؤذن ويترك ما هو فيه من العمل، وفي وقت الصلوات الخميس يجد ويجتهد في إقاعها على أكمل وجه ويبادر إلى أدائها، وفي وقت ضرورة المحتاج يبادر إلى مساعدته، وفي وقت السفر يساعد المحتاج ويعين الرفقة، وفي وقت قراءة القرآن؛ الأفضل جمعية القلب على الله والعزم على تنفيذ الأوامر، وفي وقت الوقوف بعرفة يكفي التضرع والدعاء إلى الله والذكر، دون الصوم .. والأصل في أيام عشر ذي الحجة الاكثار من التعبد لا سيما التكبير، والتهليل، والتحميد، وهو أصل من الجهاد غير المتعين يشير إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» وفي الحديث الحث على الإكثار من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، إذًا في أيام عشر ذي الحجة الأفضل التعبد والإكثار من التكبير، والتهليل، والتحميد، وهو أفضل من الجهاد المتعين، الجهاد الواجب، إذا كان الجهاد فرض فهذا مقدم كما في الأحوال الثلاثة التي ذكرنها، إذا داهم العدو بلد من بلاد المسلمين صار فرض عين، وإذا استنفر الإمام أحدًا صار فرض عين، وإذا وقف في الصف صار فرض عين، هنا يتعين وبعد ذلك هذه الأحوال الثلاثة التعبد في العشر الأول من ذي الحجة والإكثار من التكبير، والتهليل، والتحميد أفضل من الجهاد المتعين، لأن هذا وظيفة هذه الأيام، والأفضل في العشر الأواخر من رمضان لزوم المساجد والخلوة فيها مع الاعتكاف، والإعراض عن مخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى انهم أفضل من الاقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء، في العشر الأواخر من رمضان تتفرغ للخلوة بربك -عز وجل- والاعتكاف هذا أفضل شيء، تعتكف العشر الأواخر اقتضاءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعرض عن مخالطة الناس، وتقبل على قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، وتقبل على قراءة القرآن ولو تركت تعلم والتعليم في هذه العشر، هذه العشر مخصصة بالعبادة فوقتها ووظيفتها الخلوة بالله -عز وجل- والاعتكاف وقراءة القرآن، والإعراض عن الناس.
(والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته) الأفضل في وقت المرض، مرض أخيك المسلم أن تعوده، والأفضل في وقت موته أن تشيع جنازته، وتقدم ذلك على خلوتك وجمعيتك، إذا كان الإنسان يخلو بربه، أو له قراءة خاصة أو أذكار خاصة يقدم تشييع الجنازة وزيارة المريض.
(والأفضل في وقت نزول النّوازل وإيذاء النّاس لك: أداء واجب الصّبر) إذا نزل بك نازلة، نزلت بك مصيبة من فقرٍ، أو مرضٍ، أو فقد محبوب فإن الواجب الصبر، والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله هذا هو الصبر، مع الخلطة للناس.
(والمؤمن الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم وإيذائهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم) والأولى يخالط الناس ويصبر على أذاهم، وكذلك العلماء والدعاة.
(وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه) إذا كان الإنسان يخالطهم في الخير ويؤثر عليهم ويفيدهم أفضل من كونه يعتزلهم.
(وعزلتهم في الشّر أفضل من خلطتهم فيه) إذا كان شر نزع الخير، وصار الإنسان لا يجد محلًا للخير فهذا يعتزل الناس كما جاء في الحديث «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع فيه شعب الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» قال العلماء: هذا الحديث يأتي العمل به إذا نزع الخير من المدن والقرى ولم يكن فيه جمعه ولا جماعة ولا تعلم ولا تعليم، ولا أحد يقبل النصح، فهنا يكون الاعتزال عن الناس أفضل، ويذهب الإنسان إلى البرية ويتخذ غنمًا ويعتزل الناس، إذا لا بد من نزوع الخير لا يوجد أذان، ولا صلاة، ولا جمعه، ولا جماعة، ولا تعلم، ولا تعليم هنا يأتي العمل بهذا الحديث «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع فيه شعب الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» وحينئذ يكون الخلطة مع الوحوش أولى من الخلطة مع الناس، ويأتي قول الشاعر:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى |
|
وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ |
يستأنس بالوحوش، لأن الشرور والفتن تكون فيها خلطة الناس، أما إذا المدن كانت فيها جمعه وجماعة، وتعلم وتعليم، وأذان، وصلاة، وفي أهل خير، ومن يقبل الخير هنا لا ينبغي للإنسان أن يذهب إلى البرية، بل إذا ذهب الى البرية وصلى في البادية فهذا من الكبائر التعرض في البادية، التعرض يكون الإنسان عربيًا يكون في البادية هذا من كبائر الذنوب لأنه حينئذٍ يبتعد عن الذكر، وصلاة الجماعة وحينئذٍ يكون عنده جفاء.
(وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشّر أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلّله) أزال الشر وقلله.
(فخلطتهم خير من اعتزالهم) إذا علم أنه إذا خالط الناس يقل الشر ويؤثر في الناس هنا يخالطهم، وإذا علم أن الشر يزيد وأن الشر يبقى على حاله فلا يخالطهم.
(وهؤلاء هم أهل التّعبّد المطلق) هؤلاء الذين يقولون أن الأفضل العبادات العمل على مرضات الرب -سبحانه- واشتغال كل وقت بما هو موقت لذلك الوقت، هؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم هم أهل التعبد المقيد الذي يقول التخلي عن الدنيا، وأفضل العبادة أصعبها يقول هؤلاء هم أهل التعبد المقيد عبادتهم مقيده بالعبادة الصعبة، وهؤلاء عبادتهم مقيده بالزهد في الدنيا، وهؤلاء عبادتهم مقيده بالنفع المتعدي، لكن هؤلاء الذين يقولون كل وقتٍ له وظيفة وعبادة نؤديها هؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد.
(فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلّق به من العبادة وفارقه) إذا كان الذي يرى أن أصل العبادات هي العبادة الصعبة، إذا فارق العبادة الصعبة يرى نفسه أنه قد نقص ونزل عن عبادته فهو يعبد الله على وجهٍ واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضات الله -تعالى- أين كانت، وبهذا يتبين أهل الصنف الرابع قولهم هو الصواب.
أن أفضل العبادات أن تؤدى كل عبادةٍ في الوقت الذي شرعها الله فيه، تؤدى العبادات كل وقت في الوظيفة التي وظفها الله فيه، فصاحب التعبد المطلق ليس له غرضٌ في تعبدٍ بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضات الله -تعالى- أين كانت.
(إن رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذّاكرين، والمتصدّقين، وأرباب الجمعيّة، وعكوف القلب على الله) في جميع أنواع العبادات.
(فهذا هو الغذاء الجامع للسّائر إلى الله في كل طريق، والوافد عليه مع كل فريق) السائر إلى اللهِ المتعبد، المؤمن سائر إلى الله -تعالى- ووافد عليه يوم القيامة، فهذا هو الغذاء الجامع للسّائِر إلى اللهِ في كُلِ طريق، والوافدِ عليهِ مع كُلِ فرق، في مدارج السالكين اختلافٌ في هذا إن رأيت العباد رأيته معهم من قوله إن رأيت العلماء رأيته معهم هذا فيه اختلاف في مدارج السالكين هذه عبارة ابن القيم في مدارج السالكين إن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعيةِ وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده قيود انتهى؛ هذا كلام ابن القيم -رحمه الله- هذا الكلام منقول من كلام ابن القيم لكن غيره المؤلف، نعيد كلام ابن القيم: إن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعيةِ وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده قيود.
(واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -) هذا كله تأييد لأن المسلم يعمل في كل وقت يؤدي العبادة لا يأخذ نوع واحد من العبادة بل يؤدي كل أنواع العبادة مثل: الجهاد، الذكر، الصدقة، الإحسان وهكذا.
(واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -) أي: استحضر دليلًا لأهل التعبد المطلق استحضر لهم دليلًا.
(وقول النّبي صلى الله عليه وسلم بحضوره) أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يومًا لأصحابه ومعهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.
(هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائما؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ اتبع اليوم جنازةً؟ ". قال أبو بكر: أنا) وبقية الحديث فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما اجتمعنا في شخص في يوم إلا دخل الجنة» اليوم أي: من طلوع الشمس إلى غروبه، أي إذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة في يوم دخل الجنة، وهذا الحديث رواة الإمام مسلم في صحيحه، وهذا يدل على أن الإمام أبو بكر سباق بالخيرات، كل عبادة يضرب منها بنصيب.
(هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائما؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ اتبع اليوم جنازةً؟ ". قال أبو بكر: أنا) سباق إلى الخيرات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «ما اجتمعنا في شخص في يوم إلا دخل الجنة» مع الإيمان بالله ورسوله هذا معروف، إذا كان الإنسان مؤمن هذا يستوجب الجنة، إذا اجتمعنا في يوم في شخص وكان مؤمنًا بالله ورسوله يشهد لله -تعالى- بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة وليس فيه عمل الشرك هذا من أسباب دخول الجنة، وكذلك أيضًا يشترط أن لا يكون مصر على كبيرة من كبائر الذنوب لأن النصوص يضم بعضها إلى بعض، هذا الحديث أخرجه مسلم لكن المؤلف الآن ما بلغه أن الحديث أخرجه مسلم غفل المؤلف عن رواية مسلم واشتغل بالكلام على الحديث وتقويته، ولو وقف المؤلف على رواية مسلم لاستغنى عن الطرق الواهية التي ذكرها، الحديث هذا رواه الإمام مسلم لكن المؤلف غفل عن هذه الرواية ما بلغه أن الإمام مسلم أخرجه، وأخذ يتكلم على الحديث وطرقه وأنه طرقه ضعيفة ويحتاج إلى تقوية كل هذا لو اطلع على رواية مسلم ما احتاج إلى هذا الكلام.
قال المؤلف -رحمه الله-:
هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل، حدّثنا يغنم بن سالم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في جماعةٍ من أصحابه فقال: "من صام اليوم؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "من تصدّق اليوم؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "من عاد اليوم مريضا؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "من شهد اليوم جنازةً؟ ". قال أبو بكر: أنا. قال: "وجبت لك". يعني: الجنّة.
ويغنم بن سالم وإن تُكلِّم فيه لكن تابعه سلمة بن وردان وله أصل صحيح من حديث مالك، عن محمد بن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنّة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصّلاة نودي من باب الصّلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان" فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها؟. قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
هكذا رواه عن مالك موصولاً مسندًا عن يحيى بن يحيى، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن المبارك. ورواه يحيى بن بكير، وعبد الله بن يوسف، عن مالك عن ابن شهاب، عن حميد مرسلاً. وليس هو عند القعنبي لا مرسلاً ولا مسندًا.
المؤلف يريد أن يقوي هذا الحديث، الحديث ضعيف ويأتي بطرق يريد أن يقويها، لكن لو اطلع على صحيح مسلم ما احتاج إلى هذا الكلام، الحديث في صحيح مسلم وصحيح مسلم قد تجاوز القنطرة أي حديث في الصحيحين قد تجاوز القنطرة لكن ما اطلع على صحيح مسلم فلذلك أتى بها بالطرق الضعيفة يريد أن يقويها.
(هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل، حدّثنا يغنم بن سالم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -) ثم ساق الحديث، هذا الطريق موجود في التمهيد لابن عبد البر، وهذا الإسناد متروك، قال الإمام ابن حبان كان يغنم بن سالم يضع الحديث على أنس، وقال ابن يونس حدث عن أنس فكذب، وجزم بضعفه أبو حاتم وابن عدي وجماعة، هذا الطريق الذي أتى به المؤلف طريق غير صحيح، لا يصح بها الحديث، ولو اطلع على رواية مسلم ما احتاج إلى هذا الكلام، هذا الحديث روي من طريق عبد العني بن أبي عقيل قال حدثنا يغنم بن سالم عن أنس بن مالك إلى أخره، يغنم بن سالم هذا يضع الحديث على أنس، وقال ابن يونس حدث عن أنس فكذب، وجزم بضعفه أبو حاتم وابن عدي وجماعة، إذًا فالحديث اسناده متروك فلا يصح.
(ويغنم بن سالم وإن تُكلِّم فيه لكن تابعه سلمة بن وردان) يجاب عنه بأن الكلام في يغنم بن سالم عظيمًا وليس يسيرًا قيل عنه أن يضع الحديث ما تفيده المتابعة، حديث في سنده متروك لا تفيده المتابعة.
وسلمة فيه كلام أيضًا فلا تغني متابعته، ويغنم متروك فلا تفيده متابعته أيضًا، ومتابعة سلمة بن وردان جاءت في مسند الإمام أحمد وجعل القائل عمر ولم يجعله أبو بكر، لكن في مسلم أبو بكر، وسلمة بن وردان لا يحتج بخبره إذا انفرد فكيف إذا خالف، وبهذا تعلم أن الطريق الذي ذكره المؤلف غير ثابته، لكن الحديث في مسلم ما اطلع عليه المؤلف، ولو اطلع عليه لأغناه عن الكلام في هذا.
(وله أصل صحيح من حديث مالك) المؤلف -رحمه الله- يقول هذا الحديث وإن كان ضعيف لكن له أصلٌ صحيح من حديث مالك لكن سبق أن الحديث أخرجه الإمام مسلم.
(وله أصل صحيح من حديث مالك، عن محمد بن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله ... إلخ) الحديث هذا صحيح أخرجه الشيخان: البخاري، ومسلم وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله» ومعنى زوجين أي: شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوعٍ واحد كالدرهمين، أو رغيفين، أو شاتين، «من أنفق زوجين في سبيل الله» أي شيئين من صنف من نوع واحد كالدرهمين، أو دينارين، أو رغيفين، أو ما أشبه ذلك، صنفين من أصناف المال من نوع واحد، «من أنفق زوجين في سبيل الله» قيل المراد الجهاد في سبيل الله، وقيل المراد ما هو أعم منه أي في طلب ثواب الله ومرضاته، «نودي في الجنة» يدعى لدخول الجنة في فضل النفقة، لأن الإنسان إذا انفق شيئين من أي صنف من نوعٍ واحد فإن له هذا الأجر «نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير» فمن كان من أهل الصلاةِ نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من بـاب الجهاد، ومن كان من أهلِ الصدقةِ نودي من بـاب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من بـاب الريان، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها؟. قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم» يقول أبو بكر ما على أن يدعى من هذه الأبواب هذا واضح كل واحد متميز في الصيام، ومتميز في الصدقة، ومتميز في الصلاة، لكن هل هناك شخص يدعى من جميع الأبواب الثمانية، قال نعم وأرجو أن تكون منهم وهذا رجاء النبي متحقق أبو بكر يدعى من أبواب الجنة الثمانية كلها لأنه سباق إلى الخيرات، من أهل الصلاة، ومن أهل الصيام، ومن أهل الزكاة، ومن أهل الصدقة، ومن أهل الجهاد، سباق بالخيرات فيفتح له باب الريان ينادي، ويفتح له باب الصدقة ينادي، ويفتح له باب الصلاة ينادي، ينادى من جميع الأبواب رضي الله عنه وأرضاه فهذا الحديث فيه من الفوائد منها الدليل على تعدد أبواب الجنة وهي ثمانية جاء هذا صريحًا من حديث عمر في صحيح مسلم أن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة كما قال الله -تعالى-: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ [سورة الحجر: 44]، أبواب النار سبعة، وأبواب النار ثمانية، لكن الباب المصرعين ما بين المصرعين من أبواب الجنة كما بين مكة والشام هذا سعة الباب، نسأل الله -تعالى- أن ندخله، وفي الحديث دليل من الفوائد على فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأنه سباق بالخيرات، وأنه يدعى من أبواب الجنة كلها، وفيه الرد على الرافضة الذين يسبون أبا بكر ويلعنونه قبحهم الله، وفيه الإيمان بالقضاء والقدر وأن الإنسان يحصل له ما قدره الله له، الله -تعالى- قدر لأبي بكر هذا الخير، وفيه أن الأعمال من مسمى الإيمان، هذه الأعمال تدل على قوة إيمان أبي بكر، وأن الأعمال داخله في مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يكفي في مجرد التصديق كما تقوله المرجئة لا بد من الأعمال، وفيه الرد على القدرية الذين يقولون أن العبد يخلق غير نفسه، فالله -تعالى- خالق الإنسان وخالق أفعاله، وفيه الرد على الجبرية الذين يقولون أن العبد مجبور هذا أبو بكر كان يعمل باختياره.
(هكذا رواه عن مالك موصولاً مسندًا عن يحيى بن يحيى، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن المبارك) الحديث.
(ورواه يحيى بن بكير، وعبد الله بن يوسف، عن مالك عن ابن شهاب، عن حميد مرسلاً) قال الحافظ ابن حجر معقبًا على كلام ابن عبد البر: هذا أخرجه الدارقطني في الموطأت من طريق يحيى بن بكير موصولًا، والخبر ثابت موصول من حديث مالك رواه البخاري وغيره، وقد ثبت من حديث غيره.
(وليس هو عند القعنبي لا مرسلاً ولا مسندًا) قال الحافظ أخرجه أيضًا الدارقطني في الموطأت من طريق القعنبي فلعله حدث به خارج الموطأ، وليس هو عند القعنبي مرسلًا ولا مسند، هذا الكلام منقول من التمهيد لابن عبد البر بشيء من التصرف.
المؤلف -رحمه الله- أراد أن يشرح معنى الحديث فقال:
(ومعنى قوله: " من أنفق زوجين" يعني: شيئين من نوعٍ واحدٍ، نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين، وكذلك من صلّى ركعتين، أو مشى في سبيل الله - تعالى - خطوتين، أو صام يومين، ونحو ذلك) هذا تفسير لقوله من أنفق زوجين، نحن نناقش المؤلف -رحمه الله- نقول أولًا: من أنفق شيئين كل شيء من نوعٍ واحد، شيء من نوع واحد هذا صحيح نحو درهمين هذا شيء من نوع واحد، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين هذا صحيح، لكن قوله وكذلك من صلى ركعتين، أو مشى في سبيل الله خطوتين، أو صام يومين نناقش المصنف نقول: قياس الصلاة، والصيام على النفقة فيه نظر لأن الصلاة لا تصلى إلا ركعتين ما عدا الوتر، ولا يتطوع بركعةٍ واحدة في غير الوتر، وكذلك من مشى خطوتين في سبيل الله ولم يصل إلى الغاية لم يحصل المطلوب وهو الجهاد وإن كان يؤجر على أجره، وكذلك من مشى إلى الصلاة خطوتين، وكذلك الصيام لا يشرع أن يصوم يومين متتابعين بقصد أن ينفق زوجين، يصوم يومين بقصد أن ينفق زوجين لأن الصيام، والمشي لا يسمى إنفاقًا ولو كان هذا مشروعًا لفعله الصحابة.
إذًا قول المؤلف: (يعني: شيئين من نوعٍ واحدٍ، نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين) هذا مسلم صحيح.
أما قوله: (وكذلك من صلّى ركعتين، أو مشى في سبيل الله - تعالى - خطوتين، أو صام يومين) هذا ليس بصحيح لأن الصلاة، والمشي، والصيام، لا يسمى إنفاق.
(وإنما أراد والله أعلم أقل التكرار) وأقل التكرار اثنان.
(وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البرّ، لأن الاثنين أقل الجمع) هذا من حيث الشرع، ومن حيث اللغة، لكن ليس المراد من الحديث الجمع، الرسول ما أراد الجمع ما قال من أنفق شيئين، لكن الاثنين أقل الجمع هذا من حيث الشرع، ومن حيث اللغة، لكن ليس المراد من الحديث أقل الجمع.
قال المؤلف -رحمه الله-:
فهذا كالغيث أين وقع نفع، صحب الله بلا خلق، وصحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين وتخلّى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلّى عنها، فما أغربه بين النّاس، وما أشدّ وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه.
وهذا منقول من مدارج السالكين لابن القيم الجزء الأول صفحة تسعين.
(فهذا كالغيث أين وقع نفع) فهذا أي: المتصف بالأوصاف المتقدمة الذي يعمل الأعمال الخيرية، الصلاة، الصيام، الجهاد، الصدقة هذا المتصف بالأوصاف المتقدمة فإنه يدور مع الامر حيث دار، كالغيث في نفعه المطر مع الإخلاص والمتابعة أين وقع نفع.
(صحب الله بلا خلق) صحب الله بلا خلق وهذه منزلة الإحسان وهي أعظم منازل العبودية حيث يقوم بالعبودية عن معرفة وانقطاع عن الخلق وتعلق برب العالمين.
(وصحب الخلق بلا نفس) لأن النفس معلقةٍ بالله -تعالى- فأخرج نفسه وأثر الخلق على نفسه فإذا سقط النفس لأن النفس معلقة بالله -تعالى- فأخرج نفسه وأثر الخلق على نفسه في نفعهم وقضاء حوائجهم.
(إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين، وتخلّى عنهم) في نسخة عن البين، وفي مدارج السالكين عن البين، والبين هي النفس، فهو بنفسه يخلو بربه ويتخلى عن الخلق بإخلاصه ومراقبته لربه.
(وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلّى عنها) من الوسط أي: وسط الخلق، فيعزل نفسه عنهم ويتخلى عنهم فيقدم مصلحتهم على حظ نفسه.
(فما أغربه بين النّاس) أي: هذا الرجل غريب، وهو غريب لإخلاصه ومراقبته لربه، ونفعه للناس، وإحسانه إليهم، وفي الحديث «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ».
(فما أغربه بين النّاس، وما أشدّ وحشته منهم) لأنه إنما يعمل بالسنة وبالأثر وهو يدور مع النصوص أين دارة، ومن جميل سفيان بن عيينة قوله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثرٍ فافعل، أي: لا تعمل شيء إلا بدليل.
(وما أشدّ وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه).
قال المؤلف -رحمه الله-:
واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقا أربعةً، وهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل، الذين يردّون الأمر إلى نفس المشيئة، وصرف الإرادة. فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلاّ لمجرّد الأمر، من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد، ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرّد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق: لم يخلق لغايةٍ ولا لعلّةٍ هي المقصودة به، ولا لحكمةٍ تعود إليه منه، وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها، وليس في النّار سبب للإحراق، ولا في الماء قوّة الإغراق ولا التّبريد. وهكذا الأمر عندهم سواء، لا فرق بين الخلق والأمر، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور صفةٌ تقتضي حسنه، ولا بالمنهي عنه صفةٌ تقتضي قبحه.
ولهذا الأصل لوازمٌ فاسدةٌ، وفروعٌ كثيرةٌ.
وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعّمون بها، ولهذا يسمّون الصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والتّوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف، أي: كلّفوا بها، ولو سمّى مدّعي محبّة ملك الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يعد محبا له.
وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجّعد بن درهم.
هذا البحث في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها، العبادة التي تتعبد الله بالعبادة.
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، هي الأوامر والنواهي، الصلاة عبادة، والصوم عبادة، والزكاة عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، والإحسان للجار عبادة، وصلة الأرحام عبادة، وبر الوالدين عبادة، والجهاد في سبيل الله عبادة، كف الأذى عن الناس عبادة، هذه العبادات هل لها حكمة وفائدة؟ ولماذا شرعها الله؟
الناس لهم في هذه المسألة أربعة أقوال، أو أربعة أصناف:
الصنف الأول: الجبرية مذهب الجبرية من الجهمية والأشاعرة يقولون: ليس للعبادات حكم ولا تعليل الله خلقها بمحض المشيئة والإرادة ولا فائدة.
الصنف الثاني: القدرية والمعتزلة يثبتون نوعًا من الحكمة لا توعد إلى الرب، بل تعود لمصلحة المخلوق فقط.
الصنف الثالث: الصوفية الذين يزعمون أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها.
الصنف الرابع: أهل الحلق الذين يجمعون بين الخلق والأمر، والقدر، والسبب، يقولون أن الله -تعالى- له الخلق، وله الأمر، وله القدر، وله الحكمة البالغة، يثبتون الحكمة لله، ويثبتون خلق الله وأمره، ويثبتون أسباب ومسببات.
هذه أصناف الناس، الصنف الرابع هم أهل الحق القائلون بالجمع بين الخلق، والأمر، والسبب ويثبتون الحكم، والأسباب، والغرائز.
الصنف الأول لا يثبتون الحكم، ولا أسباب، ولا غرائز، ولا طبائع وهو مذهب الجبرية، والجبرية هم: الجهمية والأشاعرة، فهم جبرية في الأفعال، وهم نفات الصفات الجهمية ينفون الأسماء والصفات، والأشاعرة يثبتون بعض من الأسماء والصفات، يثبتون سبع صفات وينفون البقية، فالنصف الأول ينفون الحكم والتعليل ويردون الأمر إلى نفس المشيئة وصرف الإرادة، يقولون أن الله -تعالى- يفعل بمشيئته يفعل ما يشاء، وليس لله حكمه في التشريعات ولا الجزاءات، فعندهم إن الله -تعالى- له أن يقلب التشريعات والجزاءات ما في حكمه ولا شيء، هذا واجب لأن أوجبه، وهذا حرام لأن الله حرمه لكن ما في حكمه، الحرام ما في فساد إنما هو حرام لأن الله حرمه، وقالوا الله -تعالى- له أن يقلب التشريعات والجزاءات، وله أن يجعل الزنا واجبًا والعفة حرام، هكذا ما في حكمه، وله أن يبطل حسنات الأبرار والأنبياء ويحملهم أوزار الفجار ويعذبهم ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، ما في حكم ولا أسرار، ولا طبائع، ولا غرائز، ما في أسباب فيقولون أن السكين لا تقطع ليس فيها قوة القطع، والنار ليس فيها قوة الإحراق، والماء ليس فيها قوة الإرواء، والطعام ليس فيه قوة الشبع، والجهمية أشد من الأشاعرة، الجهمية غلاة، والأشاعرة أقل منهم ينكرون الأسباب ولكن يسمونها أمارات وعلامات ولا يسمون أسباب، يقولون: أن السكين لا تقطع ولكنها أمارة على القطع فالله -تعالى- يوجد القطع عند جراء السكين لا بالسكين، فالقطع يوجد عند السكين لا بالسكين هذه فرار من الأسباب، والنار ليس فيها قوة الإحراق، لكن الله يوجد الإحراق عند اشعال النار لا بالنار، والعين ليس فيها قوة البصر، لكن الله يوجد الإبصار عند فتح العين لا بالعين، والأكل ليس فيه قوة الشبع لكن الله يوجد الشبع عند الاكل لا بالأكل، فالكلمة الباء يفرون منها، فليس عندهم باء السببية إطلاقًا، باء السببية ينكرونها ويسمونها باء مصاحبة، وليس عندهم لام التعليل ينكرونها، ويسمونها لام العاقدة، والقرآن من أوله إلى آخره فيه الأسباب والعلل، ... (35:00) ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ سورة الإسراء: 59، ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ سورة البقرة: 164، اللام تعلل فالقرآن من أوله إلى آخره مملوء بالحكم والأسباب، وهؤلاء ينكرون الأسباب ليس عندهم، باء السببية ينكرونها يسمونها باء المصاحبة فرارًا من القول بأنها سببية، واللام لام التعليل ينكرونها يسمونها لام العاقلة هذا مذهب الجبرية من الجهمية والأشاعرة يسمون نفات الحكم والتعليل ليس لله هناك حكمة في أي شيء، ينكرون أن الله حكيم، ردوا كلام الله ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ سورة يوسف: 6، أنكروا كلام الله ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ هذه علة ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ سورة يونس: 4، وهكذا فيقولون الأمر مردود إلى نفس مشيئة الله وصرف الإرادة فهؤلاء عندهم القيام بها أي العبادة ليس إلا مجرد الأمر، تعمل العبادة لمجرد الأمر فقط من غير أن يكون سببًا لسعادة في معاش ولا ممات، حتى قالوا أن الأعمال الصالحة ليست سببًا في دخول الجنة، والأعمال السيئة ليست سببًا في دخول النار لأنهم أنكروا الأسباب، فيقولون إن الله -تعالى- يدخل هؤلاء الجنة بمحض مشيئته بدون عمل، ويدخل هؤلاء النار بمحض مشيئته لا يوجد عمل ولا سبب، ويستدلون بحديث «أن الله قبض قبضة فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي، ثم قبض قبضة أخرى فقال هؤلاء في النار ولا أبالي» وبحديث «إن الله لو عذب أهل السموات وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكان خير لهم» ويعمون عن بقية النصوص، الحديث المعنى أن الله -تعالى- لو حاسب عباده بنعمه عليهم وأعمالهم لكانوا مديني له وحينئذٍ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه -سبحانه- لا يفعل ذلك بل يبتدئ بنعمه الجديدة فهؤلاء ينكرون الأسماء والحكم والغرائز والعلل، ويقولون إن الأوامر تفعل لمجرد الأمر من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاشٍ ولا ممات، فالأعمال الصالحة نعملها الصلاة، والصيام لمجرد الأمر، لا لأن الاعمال سبب في دخول الجنة والله -تعالى- يقول: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ سورة النحل: 32، فهم ينكرون أن تكون الباب سببيه في غير أن يكون سببًا لسبب في معاش ولا معاد، ولا سببًا لنجاة وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة كما قالوا في الخلق لم يخلق لغاية وإنما لعلةٍ هي المقصودة ولا لحكمه تعود إليها، خلق الخلق ما في غاية ولا حكمة، والله -تعالى- يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ سورة الذاريات: 56، أليست هذه حكمة غاية، انكروا هذا وقالوا إن الله -تعالى- لم يخلق الخلق لغاية ولا لعلةٍ هي المقصود، ولا لحكمةٍ إليه منه.
(وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها) مثل ما سبق يقولون السكين ليس فيها قوة القطع، والنار ليس فيها قوة الإحراق، والماء ليس فيها قوة الإرواء، والأكل ليس فيه قوة الشبع، فيقولون يوجد الشبع عند الأكل لا بالأكل، الأكل موجود ومشبع لكن الله ينزل الشبع، وقطعة السكين لا تقطع لأنه لا يوجد سبب، الله يوجد القطع عند اجراء السكين لا بالسكين، والنار لا تحرق ليس بها قوة الإحراق، فإذا قلت اشعال النار تحرق قالوا الله يوجد الإحراق عند الإشعال عند النار لا بالنار والقصد من ذلك إنكار الأسباب، وتجدون في الأشاعرة ينكرون الأسباب في القياس الذي يدرسونه في أصول الفقه يسمون العلل أمارات فرارًا من القول بالأسباب والعلل.
(كما قالوا في الخلق: لم يخلق لغايةٍ ولا لعلّةٍ هي المقصودة به، ولا لحكمةٍ تعود إليه منه، وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها) الأوامر ليس لها حكمة، والنواهي ليس لها حكمة، والخلق ليس له حكمة، إذًا لماذا تفعل الأوامر تفعل لمجرد الأمر فقط لمحض المشيئة الذي يريده الله نفعله ما نقول إنه حسن أو إنه طيب ما نعرف، وما نهى عنه نتركه ولا نقول انه فيه مضره لكن لأن الله نهاه فقط لمجرد الأمر والنهي فقط.
(وهكذا الأمر عندهم سواء، لا فرق بين الخلق والأمر، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور) لا فرق بين أقيموا الصلاة، ولا تقربوا الزنا الفرق بينهما أن الله أمر بهذا ونهى عن هذا فقط، أما أن الزنا فيه مضره والصلاة فيها مصلحة لا، تترك الزنا لأن الله -تعالى- نهى عنها فقط لا لأنها فيها مضره، وتصلي لا لأنها فيها مصلحة وفيها فائدة وليست سبب في دخول الجنة هذا مذهب سيء قبيح.
(ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور صفةٌ تقتضي حسنه، ولا بالمنهي عنه صفةٌ تقتضي قبحه) يقول المشيئة مشيئة الله اقتضت أن يأمر بالصلاة لا لأن الصلاة فيها فائدة أو حسنه، واقتضت مشيئة الله أن ينهي عن الزنا لا لأن الزنا فيها مضره والخمر فيها مضره فقط لأن الله نهى عنه فقط.
(غير أن يقوم بالمأمور صفةٌ تقتضي حسنه، ولا بالمنهي عنه صفةٌ تقتضي قبحه) هذا مذهب الجبرية.
(ولهذا الأصل لوازمٌ فاسدةٌ، وفروعٌ كثيرةٌ) في المدارج فروعٌ كثيرة فاسدة.
(وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها، ولا يتنعّمون بها) هذا لأنهم ينكرون الحكم، والعلل، والأسباب ما يجدون طعم للعبادة، ولا لذة لأنهم أنكروا الحكم والفوائد التي تترتب بأداء الأوامر وترك النواهي، ولهذا يسمون الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والتوحيد، والإخلاص يسمونها تكاليف أي كلفوا بها، كلف بها الإنسان مجبر عليها ما فيها فائدة، لكن الحكم والأسرار تبين لك فائدة العبادة وهم أنكروا الحكم والأسرار فإذًا يسمونها تكاليف أي: مرغم الإنسان بها وإن كان ليس فيها فائدة، ولهذا لا يجدون لذة للعبادة يسمونها تكاليف أي: كلفوا بها.
(ولو سمّى مدّعي محبّة ملك الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يعد محبا له) لو شخص يأمره الملك، أو رئيس الجمهورية، أو وزير يأمره بأوامر ثم يقول هذه تكاليف، هل يكون محبًا له؟
لا يحبه لأنه مرغم، فإذا كان من يسمي من يأمره به البشر لا يكون محبًا له، فمن بـاب أولى أن الذي ينكر أن يكون لأوامر الله حكم وأسرار لا يكون محبًا لله.
(وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجّعد بن درهم) الجعد بن درهم هو أول من صدرت عنه هذه المقالة، وهو المؤسس لعقيدة نفي الصفات، أول من تكلم في الإسلام بنفي الصفات الجعد بن درهم، وأول من حدث عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم، وإنكاره أنكر صفتين: صفة المحبة، وصفة الكلام، أنكر صفة أن يكون كلم الله موسى تكليمًا، أو يكون أتخذ الله إبراهيم خليلًا، كلمتين لكن هاتين الكلمتين ترجع إليها جميع الصفات، إنكاره للكلام معناه إنكار للرسل، والكتب المنزلة، وإنكار للشرائع الأوامر والنواهي بالكلام، الرسل أرسلهم الله بالكلام، الشرائع والكتب منزله بالكلام، إذًا معناه أنكر الشرائع كلها، والمحبة أنكر محبة الله لعباده ومعناه قطع الصلة بين العباد وبين ربهم، أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وكلم موسى تكليمًا، وكان هذا في أوائل المائة الثانية فلما أظهر هاتين المقالتين أفتى العلماء في ذلك الزمان بقتل هذا الرجل، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والبصرة بواسط بفتوى من علماء زمانه وكانوا كلهم من التابعين افتوا بقتله لأن هذا فتح باب شر للناس فنفذ هذه الفتوى الأمير وصادف ذلك في وقتِ عيد الأضحى فأتى به مقيدًا وكان خالد بن عبد العزيز القصري على عادة الأمراء أنهم يصلون بالناس العيد والجمعة، فصلى بالناس العيد وخطب خطبة العيد وكان الجعد تحته مقيد وقال في أخر الخطبة ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحيٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل وأخذ السكين وذبحه ذبح بالسكين، فشكره العلماء وأثنوا عليه وأقروه لأن هذا قطع لباب الشر والفساد، ولا شك أن قتله أعظم أجر من الأضحية شكره العلماء ومن ذلك العلامة ابن القيم في الكافية الشافية:
ولِأَجلِ ذا ضَحَّى بِجَعدٍ خالِدُ |
|
القَسرِيُّ يَومَ ذَبائِح القُربانِ |
إذ قالَ إبراهيمُ ليس خَليلَهُ |
|
كلا وَلا مُوسى الكليمُ الدَّاني |
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صاحِبِ سُنَّةٍ |
|
لله درُّكَ من أخي قُربانِ |
هذا أول من تكلم في التعطيل أنكر هاتين الكلمتين لكن مع الأسف قبل أن يموت تتلمذ عليه الجهم بن صفوان وأخذ عنه هذه المقالة فقال بالتعطيل ونشرها وتوسع فيها على نطاق أوسع فنسبت عقيدة نفي الصفات للجهم فسميت عقيدة الجهمية، والأصل أن يقال عقيدة الجعدية لأنه هو المؤسس، والجهم هو الذي نشرها وتوسع فيها فنسبت مقالة الجهمية إليه، والجعد بن درهم هو أول من ثبتة عنه مقالة التعطيل، ومقالة الجبر، أن العبد مجبور، وأن الأوامر والنواهي ليس فيها حكمة، وليس لله حكمة في الأوامر والنواهي، أول من صدرة هذه المقالة صدرة عن الجعد بن درهم.
قال المؤلف -رحمه الله-:
الصنف الثاني: القدريّة النّفاة، الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتّعليل لا يقوم بالرّب ولا يرجع إليه، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنّعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره. قالوا: ولهذا يجعلها سبحانه وتعالى عوضًا، كقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وفي الصحيح: "إنّما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثمّ أوفيكم إيّاها". قالوا: وقد سماها جزاءً وأجرًا وثوابا لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي: يرجع إليه. قالوا: ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلّق الثواب بالأعمال عوضًا عليها لم يكن للموازنة معنى.
وهاتان الطائفتان متقابلتان:
هذا الصنف الثاني، أو الطائفة الثانية القدرية النفاة وهم المعتزلة ضد الجبرية، الجبرية هم الأشاعرة والجهمية، الصنف الثاني القدرية النفاة وهم المعتزلة، الجبرية الصنف الأول لا يثبتون حكمة ولا علة ولا سبب ولا غريزة أبدًا، وهؤلاء القدرية يثبتون نوع من الحكمة والتعليل لا تقوم بالرب، ولا ترجع إليه بل لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، يثبتون نوع من الحكمة لكنها ترجع إلى العبد والرب ليس له حكمة، لا يقوم به الرب حكمة ولا يرجع إليه، فهؤلاء القدرية النفاة يثبتون نوع من الحكمة والتعليل لا يكون للرب ولا ترجع إليه بل ترجع إلى محض مصلحة المخلوق ومنفعته، وهم طائفتان:
1 - الطائفة الأولى تقول: أن العبد يخلق فعل نفسه الخير والشر، إذًا الأعمال هو الذي يخلفها خيرًا وشرًا إذا لا يوجد حكمة الحكمة ترجع إلى العبد لأنها الذي يخلق فعل نفسه.
2 - الطائفة الثانية تقول: أن الله يخلق الخير دون الشر وهناك طائفة ثالثة تثبت نوع من الحكمة تعود إلى الله، عند هؤلاء أن العبادات شرعة أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم وأنها بمنزلة استفاء الأجير أجره، هؤلاء يقولون العبد هو الذي يخلق الخير والشر، وإذا كنت تخلق الخير والشر يجب على الله أن يثيبك، يجب على الله أن يثيب المطيع لأن عمله هو الذي خلق فعله
(أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنّعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره) العبادات شرعت عوض، صلي خذ أجرك مثل ما يعطى الأجير أجره كما تعطي الأجير الدراهم يجب أن يعطيك الله أجرك أنت الذي خلقتها ويقولون إن الله ليس له منة ولا فضل نعوذ بالله، العبد هو الذي خلقها بنفسه إذًا يستحق الأجر عليها، كما أنه يستحق العاصي يجب على الله أن يعذب العاصي ولا يعفو عنه لأنه توعده فيجب على الله أن ينفذ وعيده، وكذلك يجب على الله أن يثيب المطيع وهذا واجب عليه، وهي بمنزلة أجرة الأجير.
(أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنّعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره. قالوا: ولهذا يجعلها سبحانه وتعالى عوضًا) يجعل الله العمل عوض، يجعل الجنة عوض، والثواب عوض عن العمل.
كقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجنة ثمن للعمل بنص القرآن.
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إذًا عملهم جزاء، إذًا ثوابهم جزاء عن العمل.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الباء عوض عن عملكم.
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالصبر عمل، فيوفون أجرهم على صبرهم، واستدلوا أيضًا بالحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح: «إنّما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثمّ أوفيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فاليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» هذا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري.
(قالوا: وقد سماها جزاءً وأجرًا وثوابا) سمى الله الجنة، والثواب سماه جزاء، وسماه أجر، وسماه ثواب لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله، أي: يرجع إليه.
(قالوا: ويدل عليه الموازنة) الموازنة بين الحسنات والسيئات.
(فلولا تعلّق الثواب بالأعمال عوضًا عليها لم يكن للموازنة معنى) إذًا الله -تعالى-؛ توزن الحسنات والسيئات تكون موازنة فهذا دليل على تعلق الثواب بالأعمال، أن تعلق الثواب بالأعمال عوض عليها ولولا ذلك لم يكن للموازنة معنى.
(وهاتان الطائفتان متقابلتان) وسيحصل بين الطائفتان مناقشة، وسنجيب على هذا كل هذا أدلتهم الذي استدلوا بها استدلال خاطئ، وسيأتي إن شاء الله غدًا الموازنة بين الطائفتين وكل طائفة ترد على الأخرى، ويستفاد منها أن كل طائفة تبطل استدلالها بأدلة الطائفة الأخرى فيخرج الحق والصواب، فاتستفيد من بطلان مذهب هؤلاء وأولئك يردون عليهم ويبطلون استدلالهم ويخرج من بين ذلك الحق، وفق الله الجميع وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.