بسم الله الرحمن الرحيم
قارئ المتن:
قال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
ولهم شبهة أخرى، وهي قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار اعترض له جبريل عليه السلام في الهواء فقال: ألك حاجة؟. فقال إبراهيم عليه السلام: «أما إليك فلا» قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل عليه السلام شركا لم يعرضها على إبراهيم. فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم/5].
فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض، والجبال، ويلقها في المشرق، أو المغرب لفعل، ولو أمره الله تعالى أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلا محتاجًا، فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ، ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد. فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!
شرح الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيّنا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بعد: ...
فهذه أَيْضًا من الشبه الَّتِي يستدل بها أهل الشرك عَلَى جواز الاستغاثة بالأموات ودعائهم والذبح لهم والنذر لهم من دون الله U, يقولون: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الَّذِي أرسله الله سبحانه وتعالى إِلَى أمة كافرة عباد الكواكب والنمرود, فإنه دعاهم إِلَى الله U فأبوا واستمروا عَلَى عبادة الأصنام والأوثان, ثُمَّ أرادوا به كيدًا فأرادوا إهلاكه فجمعوا له حطبًا عظيمًا.
ثُمَّ أججوها نارًا ثُمَّ ألقوه فيها من بعد, من شدة حنقهم عليه حَتَّى أنهم جمعوا جلسوا يجمعون الحطب مدةً طويلة, حَتَّى إن المرأة تجمع الحطب وإذا غضبت عَلَى ابنها قالت له كلامًا أَنَّهَا ستجمع حطبًا لإبراهيم أو ما أشبه ذلك مِمَّا ورد في بَعْض القصص.
ومن أيضًا اللطائف في هذا أن الوزغ كان ينفخ في نار إبراهيم, كانت الدواب كلها ليس فيها شر إِلَّا الوزع, فالوزغ من شدته من خبثه وشره كان ينفخ في نار إبراهيم, ولهذا أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ, هذا من خبثه وإِلَّا لا يؤثر شيئًا نفخه, لكنه من شدة خبثه ينفخ في نار إبراهيم حَتَّى تزداد اضطرابًا.
فلما ألقوا إبراهيم ألقوه يقال: إنهم ألقوه بالمنجنيق من مكان مرتفع؛ لِأَنَّ النَّار ارتفع لهبها, واضطربت فألقوه من مكان بعيد, فلما كان يهوي في الجو عَلَى النَّار عرض له جبريل فقال له: هل لك حاجة؟
هذا عَلَى فرض صحة القصة هذه, الشيخ رحمه الله أخذ الفائدة من القصة بقطع النظر عن كونها ثابتة أو غير ثابتة, وهو يهوي في الجو عرض له جبريل فقال له: ألك حاجة؟ تحتاجني؟ فقال إبراهيم: «أَمَّا إليك فلا وأما إِلَى الله فبلى» فجاء الفرج أسرع, فقال الله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم}[الأنبياء/69].
الفرج من الله أسرع من إغاثة جبريل, قال العلماء: إن الله تعالى قال: كوني بردًا وسلامًا, فصار جو النَّار معتدلًا, لو قال الله: كوني بردًا لمات من شدة البرد إبراهيم, ولو لم يقل الله: كوني بردًا وسلامًا لاحترق من النَّار.
فلما قال الرب سبحانه وتعالى: كوني بردًا وسلامًا صار جو النَّار معتدلًا لا حار ولا بارد, ليس حارًا ولا باردًا, هذا أسرع من جبريل.
حجتهم يقولون: إن جبريل عرض عَلَى إبراهيم الاستغاثة أن يغيثه فدل عَلَى جواز الاستغاثة بالأموات.
والجواب: أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر لا بأس به, الممنوع الاستغاثة بالميت والغائب, والحي غير القادر, لكن جبريل حي قادر, له ستمائة جناح, كل جناح يملأ ما بين السَّمَاء والأرض, رفع بطرف جناح من أجنحته مدائن قرى قوم لوط, سبع قرى وأرسلها إِلَى السَّمَاء ثُمَّ نكسها, أعطاه الله القدرة, لو أذن الله له لاقتلع النَّار وما حولها وألقاها في أي مكان في المشرق أو في المغرب, ولو أذن الله أن يرفع إبراهيم لرفعه, فَهُوَ قادر؛ لِأَنَّ الله أعطاه القدرة.
فهذا ليس لا يحتج به, ليس دليلاً لأهل الشرك عَلَى جواز الاستغاثة بالأموات, نحن نقول: الحي الحاضر القادر لا بأس أن يستغاث به, إنسان غرق في الماء فاستغاث بسباح قال له: أغثني, سباح يحسن السباحة لا بأس, هذا لا بأس به, قال الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}[القصص/15].
لكن يستغيث بميت لا, هذا شرك, أو يستغيث بغائب لا يسمع, أو بحي غير قادر هذا لا يجوز, أَمَّا الحي الحاضر القادر فلا بأس بالاستغاثة به فيما يقدر عليه, وبهذا تبطل هذه الشبهة وهو قولهم: إن جبريل عرض عَلَى إبراهيم أن يغيثه فدل عَلَى جواز الاستغاثة بالأموات.
نقول: جبريل حي حاضر قادر, والحي الحاضر القادر لا بأس به فإنه يستغاث به فيما يقدر عليه, مع أن جبريل هُوَ الَّذِي عرض عليه.
قارئ المتن:
ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شانها، ولكثرة الغلط فيها، فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب، واللسان، والعمل: فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا, فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس، وأمثالهما. وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار. ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً}[التوبة/9].
وغير ذلك من الآيات، كقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ}[البقرة/146].
فإن عمل بالتوحيد عملا ظاهرا وهو لا يفهمه، أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص، لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء/145].
وهذه المسألة كبيرة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس: ترى من يعرف الحق، ويترك العمل به؛ لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة لأحد, وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرف. ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى: أولاهما: ما تقدم، وهي قوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة/66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله ... .
شرح الشيخ
هذه المسألة الَّتِي ختم بها المؤلف رحمه الله الرسالة مسألة عظيمة وهي أن الإيمان يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح, لَابُدَّ في الإيمان من اعتقاد القلب وتصديقه, وَلَابُدَّ من الإقرار باللسان, وَلَابُدَّ من العمل بالجوارح, فالقلب يؤمن ويصدق واللسان ينطق فيشهد ألا إله إِلَّا الله ويشهد أن محمد رسول الله, والجوارح تعمل, هذا مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
- قول باللسان.
- وتصديق بالقلب.
- وعمل بالقلب.
- وعمل بالجوارح.
مكون من أربعة أشياء الإيمان.
تصديق القلب وهو الإقرار والاعتراف.
وعمل القلب وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة والرغبة والرهبة.
وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين, والنطق بالكلام في الكلام في الواجبات في الواجب.
وعمل بالجوارح كالصلاة والصيام.
لَابُدَّ منها فإذا صدق بقلبه اعترف بقلبه ولكنه امتنع عن العمل, فهذا يكون مستكبر عن عبادة الله, إذا كان يعرف الحق ويعتقد الحق يعرف الحق ويعلم الحق ومصدق بالحق, لكن ما يعمل, هذا يكون مستكبر عن عبادة الله, والمستكبر كافر, المستكبر كافر والمشرك كافر, كلٌ من المشرك الَّذِي يعبد غير الله, والمستكبر الَّذِي لا يعمل بالتوحيد ما علمه به, فهذا مستكبر, والمستكبر والمشرك كافر, والمسلم هُوَ الَّذِي يعتقد الحق ويعمل به, المسلم يعتقد الحق ويعمل به.
والمشرك هُوَ الَّذِي أشرك في عبادة الله, والمستكبر الَّذِي لم يعمل, فإذا عرف الحق بقلبه ولكنه لم يعمل ولم ينقد فهذا كافر مثل إبليس, ومثل فرعون, ومثل اليهود, ومثل أبي طالب, كل هؤلاء يعرفون الحق ولا يعملون به.
الَّذِي يعرف الحق ولا يعمل به ولا يتبع الرَّسُوْل ولا ينقاد له ولا يتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ولا ينقاد له، مستكبر عن عبادة الله, قال الله تعالى عن إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين}[البقرة/34].
إبليس قابل أمر الله لا بالرد وإنما قابله بالإباء والاستكبار, أمامه وهو يعرف أمر الله معترف بربوبية الله قال: {قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}[الأعراف/14].
لكن قابله بالإيباء والاستكبار والرفض, رفض العمل, وقاس قياسًا فاسدًا, قال: كيف أسجد لآدم وعنصري أحسن من عنصر آدم, عنصر آدم الطين, وعنصري النَّار, والنَّار أحسن من الطين ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}[ص/76].
إذًا كفره بأي شيء؟ بالجهل؟ ليس بجهل, مصدق؟ نعم مصدق بقلبه, الكفر بأي شيء؟ بالإيباء والاستكبار, الرفض, رفض أمر الله, رفض العبادة, استكبر عن عبادة الله, وكذلك فرعون أخبر الله أَنَّهُ قال: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُون}[المؤمنون/47].
يعني موسى وهارون, وكذلك اليهود يعرفون صدق النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقًا لكن رفضوا الاتباع, قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[البقرة/146].
فهؤلاء الكفار الذين استكبروا عن عبادة الله رفضوا الانقياد, رفضوا الطاعة, رفضوا العمل, رفضوا التوحيد, وهم مصدقون عكسهم المنافقون, المنافقون يعملون يصلون ويصومون ويحجون ولكن ليس عندهم إيمان في الباطن, ما هو عن إيمان عن نفاق, في الباطن فالقلوب مكذبة, وفي الظاهر الجوارح تعمل, وإبليس وفرعون بالعكس القلب مصدق لكن الجوارح ما تعمل, ما في عمل.
والإيمان لَابُدَّ فيه من شيئين:
- لَابُدَّ من تصديق القلب.
- وعمل الجوارح.
لَابُدَّ فيه من تصديق وعمل, إقرار بالقلب وتصديق بالقلب وعمل, فهذا الإيمان الَّذِي في القلب لَابُدَّ له من عمل يتحقق به وإِلَّا صار كإيمان إبليس وفرعون, والعمل الَّذِي يعمله الإنسان من صلاة وصيام لَابُدَّ من إيمان يصححه وإِلَّا صار كعمل المنافقين.
لَابُدَّ من أمرين:
- تصديق بالقلب.
- وعمل بالجوارح.
فالقلب مصدق موحد مؤمن والجوارح تعمل تنقاد, أَمَّا إذا صدق بالقلب وامتنع عن العمل فهذا كفره كفر الإيباء والاستكبار, وإذا عمل والقلب غير مصدق فهذا منافق في الدرك الأسفل من النَّار.
فالمنافقون يعملون ولكن ما عندهم إيمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين}[البقرة/8].
فلابد من هذه الأمور الثلاثة, لَابُدَّ من الأمرين: العمل والتصديق.
فإذا رفض العمل وكان معترضًا في الباطن فهذا كفره مثل كفر إبليس وفرعون, وإذا عمل ولم يصدق في الباطن فهذا كفره كفر المنافقين.
فالأول مستكبر والثاني منافق, فالمستكبر كافر والمنافق في الدرك الأسفل من النَّار.
وهناك قسم ثالث: وهو المشرك الَّذِي يعمل لكنه أشرك بعبادة الله غيره.
فيكون المستكبر كافر, والمشرك كافر, والمنافق كافر, والمسلم هُوَ الَّذِي انقاد لشرع الله ولدينه صدق بقلبه وعمل بجوارحه ولم يبق في عمله شرك.
والشيخ رحمه الله يبين يقول: بَعْض النَّاس تقول: أنا أعرف الحق ولكن ما أستطيع أن أعمل, أعرف أن فلان ما قاله فلان حق, وأن هذا هُوَ التوحيد, لكن ما أستطيع أن أعمل؛ لِأَنَّ النَّاس ما يوافقون, وأهل بلدنا ما يوافقون, فهذا يكون كافر, ولو كان عارف بالحق, بَعْض النَّاس يظن أَنَّهُ إذا عرف الحق صار مؤمنًا, لا, لَابُدَّ أن تعرف الحق وتعمل به, أَمَّا إذا عرفته ولم تعمل به ما يكون الإنسان مؤمن, كإبليس إبليس يعرف الحق ولكنه لم يعمل به, فرعون يعرف الحق ولكنه لم يعمل به, اليهود يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به
أبو طالب عم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دعاه إِلَى الإسلام عند موته واعترف بأنه عَلَى الحق, قال: (ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا) لكن ما الَّذِي منعه؟ منعه خوف العار عَلَى أجداده وآبائه, خاف أن يشهد عليهم بالكفر, فكان مستكبرًا عن عبادة الله وطاعة رسوله, قال: (لولا الملامة أو حذاري سبةٍ لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا) هذا الَّذِي منعه.
وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم له عند الموت: «يا عم قل لا إله إِلَّا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قرناء السوء, فقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب, عيب عليك تترك ملة أبيك وجدك, فأعاد عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فأعادوا, فكان آخر ما قال: هُوَ عَلَى ملة عبد المطلب, عَلَى الكفر, وأبى أن يقول: لا إله إِلَّا الله, نسأل الله السلامة والعافية.
إذًا قول بَعْض النَّاس: أنا أعرف الحق, وأنا أعرف أن فلان عَلَى الحق لكن ما أستطيع أن أعمله, وأهل بلدي ما يوافقون عَلَى هذا, هذا لا يبرر, هذا لا يجعله مؤمن, لَابُدَّ من العمل والانقياد الانقياد, تصديق بالقلب وانقياد وعمل بالجوارح, فالقلب يصدق والجوارح تعمل.
هذا الإيمان الَّذِي في القلب لَابُدَّ أن يتحقق بالعمل, إيمان بالباطن يتحقق بالعمل, أَمَّا إذا تخلف العمل صار مستكبرًا عن عبادة الله, ولو كان مصدقًا في الباطن.
وإذا عمل وتخلف الإيمان في الباطن صار منافقًا في الدرك الأسفل من النَّار, كان المنافقين في زمن النبي يصلون ويحجون ويصومون ويتصدقون ويجاهدون لكنهم مكذبون في الباطن فهم في الدرك الأسفل من النَّار, كعبد الله بن أبي وغيره, قال الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُون}[التوبة/84].
إذًا الإيمان لَابُدَّ فيه من تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قارئ المتن:
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى: أولاهما: ما تقدم، وهي قوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة/66].
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفًا من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
شرح الشيخ:
هذه الآية وهي قوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة/66]. نزلت في بعض الصحابة الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وغزوا الروم, ثم تكلموا بكلام كلام يقطعون به الطريق عنهم, لكنهم لمزوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء, وسخروا منهم, وقالوا: ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء أرغب بطونًا, يعني أكثر أكل, ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء.
فأنزل الله آيات تتلى وأنهم كفروا بهذا, قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِين}[التوبة/65-66].
أثبت لهم الكفر بعد الإيمان, فإذا كان هؤلاء كفروا بكلمة قالوها, فكيف بمن قال: أنا لا أستطيع أن أعمل بالتوحيد, أنا أعرف أن محمدًا على الحق, أعرف أن هذا هو الدين لكن ما أستطيع أن أعمل به, ما أستطيع أخشى على مالي, أخشى على كذا, أخشى على سمعتي, أخشى أهل بلدي ما يوافقونني, هذا الكفر يكون أعظم, يكون هذا أعظم إذا كان الذي تكلم بكلمة كفر فكيف بالذي يترك العمل من أجل حظوظ الدنيا؟!
ولهذا قال تعالى: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}[التوبة/9].
وقال سبحانه وتعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/106-107].
قدم حظه على الآخرة, قدم حظه على الإيمان, قدم حظوظ دنياه وشهواته على الإيمان، وهي الآية الثانية التي سيذكرها المؤلف رحمه الله نعم.
قارئ المتن:
والآية الثانية: قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/106-107].
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفا، أو طمعا، أو مداراة لأحد، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره.
فالآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}، فلم يستثن الله تعالى إلا من المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام، أو الفعل، وأما عقيدة القلب، فلا يكره عليها أحد.
والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/107].
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين.
شرح الشيخ:
وهذه الآية وهو قوله تعالى: : {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}[النحل/106] دليل عَلَى أن الإنسان إذا كفر بالله تكلم بكلمة الكفر أو فعل الكفر وهو ليس بمكره فإنه يكفر, ولا يستثنى إِلَّا المكره الَّذِي اطمأن قلبه بالإيمان.
فإذا تكلم ولو كان خائفًا فإنه لا يعذر, أو مازحًا, فإذا تكلم بكلمة الكفر قاصدًا عامدًا يكفر, وإذا تكلم بكلمة الكفر هازلًا يكفر, وإذا تكلم بكلمة الكفر خائفًا يكفر, وإذا تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر يكفر, وإذا تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان فلا يكفر.
كم الصور؟ خمس صور, أربع حالات يكفر, والحالة الخامسة ما يكفر, نعيدها مرة ثانية:
- شخص تكلم بكلمة الكفر أو فعل الكفر قاصدًا عامدًا يكفر.
- شخص تكلم بكلمة الكفر ساخرًا هازلًا لاعبًا يكفر.
- شخص تكلم بكلمة الكفر خائفًا يكفر ولو كان خائف.
- شخص تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر يكفر.
- شخص تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان لا يكفر.
إذًا خمس حالات أربع حالات يكفر والخامسة ما يكفر, تكلم بكلمة الكفر عامدًا يكفر, تكلم بكلمة بالكفر هازلًا ساخرًا يكفر, تكلم بكلمة الكفر خائفًا يكفر, تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر يكفر, تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان فلا يكفر.
قارئ المتن:
والآية الثانية: قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/106-107].
شرح الشيخ:
قوله: {وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}، شرح بالكفر صدرًا فالمكره لا ينشرح صدره بالكفر, المكره يكره الكفر, لكن هذا انشرح صدره بالكفر, ولو كان مكرهًا يكفر, أَمَّا إذا كره الكفر ولم ينشرح صدره بالكفر وهو مكره يعني ملجأ يعني قيل له: لما تكلم بكلمة الكفر وإِلَّا وضع السيف عَلَى رأسه هذا هُوَ المكره, يتكلم بكلمة الكفر ولا يضره, أو يفعل الكفر ولا يضره, ما دام أن قلبه مطمئن بالإيمان, الحمد لله, أَمَّا إذا كان مجرد خوف فلا يعذر.
قارئ المتن:
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
شرح الشيخ:
(فلم يعذر الله ) يعني من الحالات الخمس {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، خمس حالات نعم
القارئ
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفًا.
شرح الشيخ
خوفًا هذا الخائف هذا يكفر.
قارئ المتن:
أو مداراة لأحد.
شرح الشيخ:
أو مداراة تكلم بكلمة الكفر مداراة, من باب المداراة والمجاملة.
قارئ المتن:
أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله.
شرح الشيخ:
أو مشحة بأهله أو بوطنه أو ماله، يعني تكلم بكلمة الكفر مداراة, تكلم بكلمة الكفر مشحة لأهله وماله ووطنه.
قارئ المتن:
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان, وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفًا, أو مداراة لأحد, أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله.
شرح الشيخ:
إذًا نقول كما سبق: إذا تكلم بكلمة الكفر عامدًا أو هازلًا, أو خائفًا, أو مداراةً أَيْضًا مجاملة, أو مشحةً بأهله أو ماله أو وطنه أو عشيرته, يكون كافرًا, أو مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر, فتكون الحالات إذًا تزيد عَلَى هذا.
تكون إذا تكلم بكلمة الكفر عامدًا, تكلم بالكفر هازلًا, تكلم بكلمة الكفر خائفًا, تكلم بكلمة الكفر مداراة, تكلم بكلمة الكفر مشحةً بأهله أو وطنه أو عشيرته, تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر, فتكون ست حالات.
والسابعة: إذا تكلم بكلمة الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان فلا يكفر.
قارئ المتن:
أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره.
والآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}، فلم يستثن الله تعالى إلا من المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام، أو الفعل، وأما عقيدة القلب، فلا يكره عليها أحد.
شرح الشيخ:
هذا الأمر الأول؛ لِأَنَّهُ قال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}، والإكراه إِنَّمَا يكون عَلَى الفعل, ما يكره الإنسان عَلَى عقيدة القلب, عقيدة القلب ما يستطيع أحد أن يكرهك, فدل عَلَى أَنَّهُ أكره عَلَى النطق باللسان, لكن عقيدة القلب ما أحد يستطيع أن يكرهك عليه, وهُوَ يكره الكفر بقلبه.
قارئ المتن:
والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/107].
شرح الشيخ:
نعم إذًا الحالة ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، إذًا كفر لكونه ايش لكونه قدم الدنيا عَلَى الآخرة, شح بأهله شح بوطنه, شح بعشيرته, فلذلك صار يوافقهم عَلَى الكفر, ولو كان عَلَى حساب دينه فيكون كافرًا نعوذ بالله.
قارئ المتن:
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين.
شرح الشيخ:
نعم ليس بسبب الاعتقاد ولا بسبب الجهل, ولا بسبب البغض للدين, وإنما بسبب المشحة في الأهل والمال والوطن, لا بسبب الجهل ولا بسبب الاعتقاد, وإنما هُوَ بسبب ايش المشحة.
قارئ المتن:
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أو الجهل، أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين.
شرح الشيخ:
لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/107].
ليس بسبب الاعتقاد؛ لِأَنَّ عقيدة القلب ما في أحد يكرهه عليه, وإنما بسبب المشحة بأهله وماله ووطنه, بسبب الدنيا نسأل الله السلامة والعافية.
قارئ المتن:
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
شرح الشيخ:
اللَّهُمَّ صل وسلم وبارك عَلَى نَبِيّنا محمد, والحمد لله رب العالمين.