شعار الموقع

سورة البقرة - 4

00:00
00:00
تحميل
105

 

الاعتقاد يكون في القلب وهو أن يكون مؤمنا في الظاهر، وفي الباطن يكذب الله، أو يكذب رسوله، أو يبغض الله ويبغض رسوله، أو في الباطن يحب ظهور الكفرة على المسلمين، أو يكره انتصار الإسلام والمسلمين، يسر بانتصار الكفرة هذا النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.

[وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود، إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله؛ قال عبد الله بن أبي بن سلول -وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله- فلما كانت وقعت بدر قال: هذا أمر الله قد توجه.
فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب].
النفاق ما وجد إلا في المدينة، مكة ما فيها نفاق، وكذلك أيضا إنما وجد النفاق بعد غزوة بدر؛ لأنه في مكة الكفار هم الأقوياء فليس هناك حاجة للنفاق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بل العكس، إن كثيرا من المؤمنين يخفون إسلامهم بسبب تعذيب الكفار لهم وإيذائهم.
فالنفاق ووجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأنهم لا يستطيعون إظهار الكفر ولهذا لما حصلت وقعة بدر فأعز الله جنده وخذل الكفر وأهله، وقتل من الكفار سبعون وأسر سبعون؛ قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه.
فأظهر الإسلام وأبطن الكفر حتى يحقن دمه وماله؛ لأنه لو أظهر الكفر قتل، وكان عبد الله بن أبي رئيسا في الأوس، وكادوا قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كادوا أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة التي يعصب بها الرؤساء والملوك.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم الأوس والخزرج فاته ذلك، فشرق بالإسلام فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وتبعه طوائف، نسأل الله السلامة والعافية.
فوجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأنهم لا يستطيعون إظهار كفرهم، فهم قوم يداهنون ويخادعون، وإذا حصلت لهم فرص أظهروا كفرهم، وإذا لم تحصل لهم فرصة أخفوا كفرهم وهكذا، وهم يقلون ويكثرون، ويقوون ويضعفون على حسب أحوال مجتمع المسلمين الذي هم فيه، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم.
  [فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها].
المعنى أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق؛ لأنهم هاجروا باختيارهم، وتركوا ديارهم وأموالهم ووطنهم لله تعالى، إنما النفاق إنما هو في الأوس والخزرج، هم الذين قدم إليهم المؤمنون وهاجروا إليهم فالمهاجرون ما في داع يدعوهم للنفاق الذي لا يريد الإسلام ما يهاجر فإذا النفاق خاص بالأوس والخزرج والنفاق خاص بعد الهجرة ولم يوجد النفاق إلا بعد غزوة بدر لما قوي الإسلام والمسلمون. فلم يكن أحد منهم نافق

[فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة:8] يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي
ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين؛ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير} ولهذا جلى الله صفاتهم ووضحها للمؤمنين حتى يعلموها فلا يعتقد إيمانهم وأنهم منهم

فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة:8] أي: يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر].
يعني الإيمان إنما هو باللسان، والكفر في القلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان ونفى عنهم الإيمان، كيف ذلك؟! كيف يثبت شيء وينفى شيء؟ نعم نقول: الجهة منفكة، ولا يقال: إن هذا تناقض -تعالى الله-؛ لأن شرط التناقض اتحاد الجهة، أن يرد النفي والإثبات على جهة واحدة، هذا تناقض هذا لا يقع في كلام الله ولا كلام رسوله، ولا كلام العقلاء.
لكن إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، فجهة إثبات الإيمان اللسان، وجهة نفي الإيمان القلب، فالجهة منفكة.
{ومن الناس من يقول آمنا بالله} [البقرة:8] يعني: بألسنتهم، {وما هم بمؤمنين} [البقرة:8] يعني: بقلوبهم، فأثبت لهم الإيمان بالألسنة ونفى عنهم الإيمان بالقلوب، نسأل الله السلامة والعافية.
[كما قال تعالى{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} [المنافقون:1]].
قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله) يعني: بألسنتهم، (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) يعني: بقلوبهم.
 [أي: إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط، لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون الشهادة بـ (إن) ولام التأكيد في خبرها، أكدوا أمرهم قالوا: {آمنا بالله وباليوم الآخر} [البقرة:8] وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون:1]، وبقوله: {وما هم بمؤمنين} [البقرة:8]].
أكد هذه ثلاثة تأكيدات: (إن)، واللام، والجملة الاسمية {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون:1] ثلاث تأكيدات: (إن) مؤكدة واللام مؤكدة والجملة الاسمية مؤكدة لبيان تحقيق كذبهم وشدة كذبهم، وأنهم كاذبون في الواقع ونفس الأمر.
أثبت لهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، قد يكون عندهم إيمان ضعيف؛ المنافقون يتفاوتون، بعضهم عنده إيمان ضعيف يأتي ويذهب، ومرة يخبو ومرة يوجد المقصود أن الله تعالى أثبت لهم الكفر بعد الإيمان.

[وقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} [البقرة:9] أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة:9].
يقول: وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء:142]، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد].

القراءة المشهورة يخدعون وهذه القراءة الثانية يخادعون

كذلك استمر معهم هذا الغرور حتى في موقف القيامة -نسأل الله السلامة والعافية-، وظنوا أن كونهم مع المؤمنين في الدنيا ينفعهم، فيكونون مع المؤمنين في يوم القيامة، وقد ثبت في الحديث الصحيح الطويل في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (لتتبع كل أمة ما تعبد) فمن كان يعبد الشمس تبع الشمس، ومن كان يعبد القمر تبع القمر، ومن كان يعبد عزير تبعه وهكذا ويتساقطون في النار، وتبقى في هذه الأمة منافقوها، فيقول الله تعالى: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. قد جعل الله لهم علامة سبحانه وتعالى.
ثبت أنه في موقف القيامة يرونه أربع مرات، وأنه يتجلى لهم في الصورة الأولى، ثم يتجلى لهم في صورة غير الصورة التي يعرفون فينكرونها ويقولون: نعوذ بالله، هذا مكاننا، فإذا جاء ربنا عرفناه.
يرونه في المرة الأولى، ثم يرونه المرة الثانية فيتجلى لهم في غير الصورة التي يعرفون فينكرون، ثم يرونه في المرة الثالثة يجعل لهم علامة يكشف الساق سبحانه وتعالى فيسجدون له، فيريد المنافقون أن يسجدوا فيجعل الله ظهر كل منافق طبقا فلا يستطيع أن يسجد، قال سبحانه وتعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} [القلم:42]. فيرفعون رءوسهم فيتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هذه أربع مرات في موقف القيامة 
وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان هذا في كتابه العظيم (بيان تلبيس الجهمية)، الذي حقق رسائل وانتهى وهو كتاب عظيم فيه مباحث عظيمة لا توجد في غيره من الكتب. جمع أحاديث الصورة في هذا وقد مر ذكر هذا في الصحيحين وبينا هذا
المقصود أن المؤمنين يرون ربهم في موقف القيامة أربع مرات، وفيه أن المنافقين يكونون مع المؤمنين؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا، فكانوا معهم في موقف القيامة، ثم بعد ذلك ينطلقون معهم النور، فينطفئ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم ...}

كما أخبر الله في الآية

{انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد:13].

وينفصل المؤمنون المنافقون فهم لا يزال في غرورهم حتى في موقف القيامة حتى يضرب بسور بينهم وبين المؤمنين. نسأل الله السلامة والعافية
  [قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعا فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن، وذلك من فعله، وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع؛ لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومجيرهها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به].
فهذا خداع منه لنفسه، والعياذ بالله يمني نفسه كأنه يعني يعطيها السرور بهذا الخداع، وأنه يطمع أن يكون له يد مع المؤمنين ومع الكفار، وهو في الواقع يجرها إلى الهلاك، فهذا خداع منه لنفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
  [فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة:9] إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم فبإسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين.
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي: حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى: {يخادعون الله} [البقرة:9] قال: يظهرون (لا إله إلا الله) يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك].
وقال سعيد عن قتادة: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون): نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق، يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها].

كأن الخنوع الذلة المنحط الأخلاق الخنوع والذلة والتطامن

(الخانع: المريب الفاجر، وقد خنع كـ (منع)، والخنعة: الفجرة، والريبة، والمكان الخالي)

خنع ويحتمل هذا الفعل خنع فهو خنع
ظهر لي في الأول الخانع بمعنى: (الوضيع) المتطامن من (أخنع الأسماء عند الله) يعني أوضع وأحقر يعني: أوضع وأحقر، لكن هنا قد يأتي بمعنى آخر من السياق هو الذي يؤيد هذا يعني: المريب الفاجر. يعني مريب فاجر وضيع الأخلاق
قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة:10].
[قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (في قلوبهم مرض) قال: شك، (فزادهم الله مرضا) قال: شكا.
في قلوبهم مرض يعني مرض الشهوة والشك والنفاق المرض يأتي في القرآن معنوي مرض الشهوة ومرض الشبهة هذا المراد مرض الشبهة في قلوبهم مرض الشبهة والشك أما مرض المعصية في قوله تعالى " فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " يعني شهوة المعصية 

(في قلوبهم مرض) قال: شك، (فزادهم الله مرضا) قال: شكا.
وقال ابن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: شك.
وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة.
وعن عكرمة وطاوس (في قلوبهم مرض) يعني: الرياء.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: نفاق.
(فزادهم الله مرضا) قال: نفاقا، وهذا كالأول
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (في قلوبهم مرض) قال: هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد، وهم المنافقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام، (فزادهم الله مرضا) قال: زادهم رجسا].
نعم مرضهم في الدين لا شك مرض النفاق والشبهة والشك والحيرة، نعوذ بالله.
 [وقرأ: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة:124 - 125]، قال: شرا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضا: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد:17].
وقوله: {بما كانوا يكذبون} [البقرة:10] وقرئ: (يكذبون) وقد كانوا متصفين بهذا وهذا؛ فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا].
يعني هم كذبة في أنفسهم، ويكذبون بالغيب؛ هم كذبة لأنهم لم يؤمنوا، فقلوبهم مكذبة، فهم كذبة في دعواهم الإيمان، وهم مكذبون بالغيب، جمعوا بين الشرين نعوذ بالله.

[وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك، منها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (أكره أن يتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه)، ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب]
يعني الناس ينفرون لأن الناس ما يدرون ولا يعلمون حالهم فإذا قتل المنافقون وهم يظهرون الإسلام وهم يعيشون بين المسلمين قال من لا يعلم: محمد يقتل أصحابه! فينفر من الإسلام فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلهم. لئلا ينفر الناس من الإسلام ولا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه هم ليسوا أصحابه لكن لأنهم يعيشون بينهم يظهرون الإسلام ومن لا يعلم يظن أنهم من أصحابه
[ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونهم بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه.
قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم، كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم.
قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك، نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون، ومنها ما قال مالك: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه].
هذا قول آخر القول الأول أنه تنفير لئلا ينفر الناس ترك قتلهم لئلا ينفر الناس من الإسلام، والثاني يتعلق بالحكام والقضاة، الحاكم لا يحكم بعلمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم منافقون، لكن لا يحكم بعلمه.
ومثال ذلك أيضا إذا كان القاضي في البلد يعلم القضية أنه حصل على فلان كذا وكذا، ثم جاءوا يتخاصمون إليه، يعلم أن هذا الشخص له حق على هذا الشخص وأنكر، وتخاصموا إليه ولم يكن عند المدعي بينة، لكن القاضي يعلم هذا هل يحكم بعلمه أو لا يحكم بعلمه؟
لا يحكم بعلمه ولو كان يعلم، يقول للمدعي: ائت بالبينة.
فإن لم يكن له بينة توجه اليمين إلى المدعى عليه، ولا يحكم بعلمه، والمسألة خلافية فيها كلام لأهل العلم.
[قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجب ما قبله.
ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).
ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان].
وهذا أمر مشترك، أن من أظهر الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، يعامل معاملة المسلمين في الزواج، في الإرث وفي الصلاة عليه إذا مات وتغسيله ما دام أنه يظهر الإسلام، وإن كان يبطن الكفر، لكن لا ينفعه هذا في الآخرة، إذا كان يبطن الكفر فهو في الدرك الأسفل من النار. ولا يفيده إجراء أحكام الإسلام عليه

بيان الحكم الثلاثة أولا التنفير الثاني القاضي لا يحكم بعلمه الثالث أن الأحكام تجرى على الظاهر وقد أظهروا الإسلام فتجرى عليهم ولا ينظر إلى معتقدهم 
ولهذا جاء في قصة الرجل الذي قال له الصحابي إنه كذا وكذا (أليس يصلي؟ قال: يصلي ولا صلاة له، قال إني نهيت عن قتل المصلين وفي اللفظ الآخر: (إني لم أومر أن أنقب عن الناس ولا أن أشق بطونهم).
فالأحكام تجرى على الظاهر، والسرائر لها الله.

لهذا بعد أن صلى على عبد الله بن أبي لكن إذا عرف كفره بدليل الآية
{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله} [التوبة:84]. فمن عرف كفره ونفاقه لا يصلى عليه ومن لم يعلم يصلى عليه وبهذا أخذ العلماء من هذا أنه يصلى على الفاسق لأنه لا ينطبق عليه هذا الوصف العلة ليس فيه هذه العلة " إنهم كفروا بالله ورسوله " ويصلى على الفاسق ويصلى خلفه على الصحيح.
وإنما جاء النهي عن الصلاة على الغال وقاتل نفسه هذا لا يصلي عليه أعيان الناس ولكن يصلي عليه عامة الناس تنفيرا للأحياء حتى لا يفعلوا مثل فعله، والفاسق إذا لم يوجد غيره، أو كان إمام المسلمين، أو كان يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة يصلى عند عامة أهل السنة فإن وجد غيره فهل يصلى خلفه؟ اختلف العلماء هل تصح الصلاة خلف الفاسق على قولين: فالحنابلة والمالكية يرون أنه لا تصح الصلاة خلفه، والشافعية والحنفية يرون صحة الصلاة خلفه.
والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة، والذين منعوا من الصلاة خلفه قالوا: لأنه يجب إنكار المنكر، ومن إنكار المنكر أن لا يصلى خلفه.
ولكن الصواب الذي عليه المحققون هو وإن تلبس المصلي بعدم الإنكار فإن هذا أمر خارج عن الصلاة.
القاعدة عند المحققين: أن المنهي عنه إذا كان بشيء خارج فإنه لا يؤثر في الصلاة، كما لو صلى في ثوب مغصوب أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة، أو في ثوب مغصوب، صحت الصلاة في أصح قولي العلماء.
وذهب الحنابلة وجماعة إلى أن من صلى في ثوب مغصوب، أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة لا تصح صلاته، والصواب أنها تصح، فله ثواب الصلاة وعليه إثم الغصب؛ لأن الجهة منفكة، بخلاف ما نهي عنه في الصلاة بخصوصها، كما لو صلى في ثوب نجس هذا لا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأن الثوب النجس لو لبسه في غير الصلاة صح، بخلاف ثوب الحرير، لا يجوز لا في الصلاة ولا خارجها، وما فيه صورة لا يجوز لا في الصلاة ولا خارجها والغصب لا يجوز لا في الصلاة ولا خارجها.
أما الثوب النجس فهذا منهي عنه بخصوصه، فلا تصح الصلاة به؛ لأن المصلي يجب أن يكون ثوبه طاهرا وبدنه طاهرا والبقعة التي يصلي عليها طاهرة.
  [{ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} [الحديد:14] الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [سبأ:54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث.
ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون].
ولهذا قال العلماء: إن المنافق وبعض الناس الذي يسب النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عنه في حياته لكن بعد وفاته لا يعفى عنه، من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ولا يعفى عنه أما في حياته فإنه قد يعفو عن بعض المنافقين وعن بعض من يؤذونه.
[قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم.
قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام].
من العلماء من قال: إن الزنديق لا تقبل توبته يعني في الدنيا، أما في الآخرة بينه وبين الله، فالله تعالى يقبل توبة الصادقين، لكن في الدنيا لا بد أن يقتل.
قالوا: الزنديق والمنافق والساحر والساخر إن سخر بالله ومن تكررت ردته فهؤلاء يقتلون في أحكام الدنيا ولا يستتابون، من غير توبة زجرا للناس عن هذا الكفر الغليظ، حتى لا يتجرأ الناس على هذا الكفر الغليظ بخلاف المرتد بغير هذه الأمور.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه يستتاب أيضا ولو كان كفره بالنفاق أو تكرار الردة.
وهذا محل نظر وتأمل عند الحاكم الشرعي.
وهذا حجة من قال أنه لا تقبل يقول هكذا وكذلك الساحر يقول علم الساحر لا يزول من نفسه ولو ادعى التوبة، فلا بد أن يقتل، لكن قال آخرون: إعذار وإنذار إذا أظهر التوبة ما علينا منه نتركه حتى يظهر نفاقه مرة أخرى.
[على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام]

ويحتمل أن هذه الأمور كلها رآها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتحدث الناس بأن محمد يقتل أصحابه ولأنه لا يحكم بعلمه ولأنه ليس خائفا منهم في حياته يحتمل هذه المعاني كلها ولغيرها 

الحافظ ابن كثير له كتاب الأحكام. له أيضا شرح على صحيح البخاري ذكره ولا موجود منه شيء ذكر هذا ذكرنا هذا في شرحنا على صحيح البخاري 

[تنبيه: قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزوة تبوك، الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك].
يعني أرادوا نفروا الإبل دبروا خطة في ظلام الليل في مكان مرتفع كانوا دبروا خطة وأجلبوا وأوضعوا وحركوا الإبل حتى يسقط النبي صلى الله عليه وسلم منها
[عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة، ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها، والله أعلم]

أو لغيرها أو لجميعها لمدرك من هذه الأمور التي ذكرها المؤلف رحمه الله

[فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة:101] الآية.
وقال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} [الأحزاب:60 - 61]، ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم]

يعني الذي عرف أربعة عشر في غزوة تبوك وما عداهم فيه دليل على أنه لم يعرفهم " لا تعلمهم نحن نعلمهم " 

[وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم ولم يدرك على أعيانهم]

هذا يؤيد لم يعرفهم لعله أقرب لم يعرفهم

[كما قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد:30]. وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول].

هو رئيس المنافقين، وهو الذي تولى كبر الإفك، كما قال تعالى: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور:11] نسأل الله السلامة والعافية.
  [وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين، ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم، وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين}

وهو الذي قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "

[ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم، وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: (إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه)، وفي رواية في الصحيح: (إني خيرت فاخترت)، وفي رواية: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت)].
وقد ثبت هذا ثابت في صحيح البخاري، أن عبد الله بن أبي لما مات ودلي في حفرته جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرجه من حفرته ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه.
فلما أراد أن يصلي عليه جاء عمر وأخذ بثوبه فقال: أتصلي عليه رئيس المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخر عني يا عمر فإني خيرت فقيل لي {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة:80] فلو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لزدت على السبعين وهذا قبل أن تنزل الآية: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} [التوبة:84].
وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا تأليفا للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي من أصلح المؤمنين من خيار المؤمنين عبد الله بن عبد الله بن أبي
وأيضا إلباسه قميصه مكافأة له على إعطائه العباس لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر لم يجد له قميصا يناسبه إلا قميص عبد الله بن أبي كان طويلا والعباس طويل فأعطاه قميصه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه، ونفث فيه من ريقه لعل الله أن ينفعه وصلى عليه وهو لم ينه عليه الصلاة والسلام بعد، وتأليفا للخزرج ومراعاة لابنه عبد الله ثم نزلت الآية بعد ذلك: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة:84] فلم يصل على منافق بعد ذلك عليه الصلاة والسلام.

قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة:11 - 12].
  [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] قال: هم المنافقون، أما (لا تفسدوا في الأرض) قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية].
هذه الآية في أوصاف المنافقين، سبق الكلام على أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السورة الكريمة ببيان صفات الطوائف الثلاث، وأن الله تعالى ابتدأها ببيان الطائفة الأولى وهم المؤمنون باطنا وظاهرا، وذكرهم في أربع آيات: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة:3 - 5].
بين سبحانه وتعالى أنهم أهل هداية وأهل فلاح {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة:5] تفيد الحصر أن هؤلاء حصل الهداية فيهم والفلاح.
ثم ذكر الطائفة الثانية في آيتين، وهم الكفار باطنا وظاهرا، {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6].
ثم ذكر الطائفة الثالثة، وهم الكفار باطنا المظهرون للإسلام ظاهرا في ثلاث عشرة آية لشدة خطرهم، ولشدة التباسهم، وجلى الله تعالى صفاتهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ذكرهم في ثلاث عشرة آية أيضا في أثناء السورة {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} [البقرة:204]، وذكرهم في سورة النساء، وكذلك في سورة التوبة تسمى الفاضحة، لم يزل ومنهم ومنهم حتى خشوا أن يسموا بأعيانهم، في سورة النور كذلك، وفي سورة كاملة باسم سورة المنافقون، في سورة محمد، وفي غيرها من السور.
هنا بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر بقلوبهم، وأن في قلوبهم مرض النفاق، ومن أوصافهم -ما في هذه الآية- أنهم يسمون الفساد صلاحا، يفسدون في الأرض بالمعاصي والكفر وإشاعة الفساد بين المؤمنين، ويسمون هذا صلاحا. هذا من علاماتهم أنهم ينشرون الفساد على الناس ويسمونه صلاحا
وهم موجودون في كثير من الأوقات، وهم في هذا الزمن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسمون بالمنافقين، ثم بعد ذلك كانوا يسمون بالزنادقة، وفي هذا الزمن يسمون العلمانيين، العلماني هو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

وهذا السند يرويه السدي هذا السدي الكبير ثقة والسدي الصغير كذاب وهو يروي دائما بهذا السند عن أبي مالك وعن أبي صالح وعن مرة الهمداني هذا سند السدي 
  [وقال ابن جرير عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا} [البقرة:11] قال: يعني: لا تعصوا في الأرض.
وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن جريج عن مجاهد: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} [البقرة:11] قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون.
وقد قال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن سلمان الفارسي: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] قال سلمان: لم يجئ أهل هذه الآية بعد]

هذا فيه نكارة؛ لأن أهل هذه الآية جاءوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السند فيه عنعنة الأعمش، وفيه -أيضا- عباد بن عبد الله الأسدي ضعيف

وفيه نكارة، لأن المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل هذه الآية

[وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان في هذه الآية قال: ما جاء هؤلاء بعد].
المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل هذه الآية والآية تشملهم وتشمل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، كل من اتصف بهذا الوصف هو من أهل هذه الآية، كل من أفسد في الأرض بالمعاصي ونشر الفساد على الناس وسماه صلاحا هو من أهل هذه الآية.
 [قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عني أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد].
هذا تأويل ابن جرير، يعني لو صح هذا الأثر يكون هذا تأويله يعني الذين يأتونكم أشد وإلا فإن من كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل هذه الآية لكن جاء من هو أشد هذا هو أصح تأويل لكنه ضعيف

[قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء].
كل هذه من صفات المنافقين إقامتهم على الشرك، شكهم في دين الله، مظاهرتهم ومعاونتهم أهل التكذيب من المشركين مشركي أهل مكة واليهود في المدينة، فإن المنافقين يظاهرونهم ويعاونونهم على المسلمين، كل هذا من أعمال النفاق نسأل الله السلامة والعافية.
  [ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها وهذا الذي قاله حسن؛ فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال:73]].
نعم والمنافقون يتخذون اليهود أولياء، ويفضلون أهل مكة من المشركين يفضلونهم على المؤمنين، لما جاء وفد من أهل مكة سألوا اليهود وقالوا هل نحن أهدى سبيلا من محمد أو هم أهدى قالوا أنتم أهدى سبيلا من محمد والمنافقون ويظاهرونهم ويعاونونهم، يتخذون اليهود أولياء، ويتخذون المشركين أولياء وهذا من إفسادهم في الأرض.
  [فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} [النساء:144] ثم قال: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} [النساء:145].
فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته الأول لكان شره أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح، ولهذا قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء}

ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله-؛ لأنهم شاركوا اليهود والوثنين في الكفر، فهم كفار مثلهم، وزادوا في الخداع خداع المؤمنين حيث أظهروا الإسلام، فصار التباسهم أشد، وصار ضررهم أعظم، فلهذا عاقبهم الله فكانت عقوبتهم أشد، صاروا في الدرك الأسفل من النار. من درك اليهود ودرك النصارى نعوذ بالله وهم يعيشون بين المسلمين، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، إلا من أظهر نفاقه، من أظهر نفاقه قتل ومن لم يظهر تجرى عليه أحكام الإسلام ولا ينفعهم هذا ولا ينفعهم في الآخرة إجراء الأحكام عليهم. ولهذا فإن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين لما مات ودلي في حفرته كما في صحيح البخاري جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه وهذا كان قبل أن ينهى عن الصلاة عليه فلما أراد أن يصلي أخذ عمر بثوبه وقال تصلي على رئيس المنافقين قال النبي صلى الله عليه وسلم أخر عني يا عمر إني خيرت فقيل لي " استغفر لهم أو تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة " فلو أعلم أني زدت عن السبعين يغفر لزدت على السبعين فصلى عليه عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك نزلت الآية " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " فلم يصل على منافق بعد ذلك رواه البخاري في الصحيح وإنما ألبسه قميصه مكافأة له على إعطائه العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر في بدر لم يجد له ثوب لأن العباس طويل وعبد الله بن أبي طويل فلم يجد له ثوب إلا ثوب عبد الله بن أبي فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم وأما كونه صلى عليه فهذا مراعاة لابنه عبد الله لأنه له ابن اسمه عبد الله من أصلح عباد الله من أصلح المؤمنين عبد الله بن عبد الله بن أبي وأبوه رئيس المنافقين مراعاة لابنه ولعل الله ينفعه وهو عليه الصلاة والسلام لم ينه عن ذلك ثم بعد ذلك نهي جاء النهي فلم يصلي على منافق بعد ذلك هذا من إجراء أحكام الإسلام أحكام الإسلام تجرى عليه الإرث والصلاة والتغسيل إذا كان لم يظهر الكفر لكن من أظهر كفره قتل وعومل معاملة الكفار ومن لم يظهر كفره عومل معاملة المسلمين ولا ينفعه ذلك إذا كان منافق في الباطن ما ينفعه إجراء الأحكام في الدنيا عليه وتجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار

كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11] أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
يقول الله: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة:12] يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا].

قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} [البقرة:13].
[يقول الله تعالى: وإذا قيل للمنافقين: {آمنوا كما آمن الناس} [البقرة:13] أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} [البقرة:13] يعنون -لعنهم الله- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟!].
وهذا أيضا من أوصافهم، أنهم يسمون الإيمان سفها، فإن الله وصفهم بأوصافهم " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " إظهار الإسلام وإبطان الكفر، يخادعون الله من صفاتهم الخداع، في قلوبهم مرض الحقد والنفاق ويسمون الفساد صلاحا ويسمون الإيمان سفها كذلك من أوصاف المنافقين

[والسفهاء جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم، والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء:5] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان.
وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال: {ألا إنهم هم السفهاء} [البقرة:13] فأكد وحصر السفاهة فيهم، {ولكن لا يعلمون} [البقرة:13] يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى].
وهذا فيه تأكيد{ألا إنهم هم المفسدون} [البقرة:12} {ألا إنهم هم السفهاء}  فإن الله تعالى أكد هذا (إن) والجملة الاسمية، وهم مؤكدات تفيد أيضا الحصر، حصر السفه فيهم، الجملة تفيد الحصر ومؤكدة بإن واسمية الجملة و(أل) في قوله: (المفسدون) و(السفهاء) كلها مؤكدات تدل على المبالغة، وأن الفساد محصور فيهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم، والسفه كذلك.
وهل أعظم سفها وفسادا من شخص يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعمل بما يكون سببا في هلاكه في الدنيا والآخرة، ولا يستفيد في الدنيا شيئا، فهو في الدنيا معرض للقتل، ومعرض للخزي والعار، وفي الآخرة محقق هلاكه؟! هذا أعظم سفه، نسأل الله السلامة والعافية. لكن ما يشعرون لا يعلمون العقل كل العقل والحزم كل الحزم في الإيمان بالله ورسوله وفي تخليص الإنسان نفسه من عذاب الله
قال الله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة:14 - 15].
هذا -أيضا- من أوصافهم، أن لهم وجها عند المؤمنين ولهم وجه آخر مع أصحابهم، فإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما هم عليه من الكفر، فلهم وجهان، يتلونون بلونين: لون عند المؤمنين ولون عند الكافرين، نسأل الله العافية.
إذا ذهبوا إلى اليهود، أو إلى أصحابهم، أو إلى المشركين أظهروا الكفر، وإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإنما فعلوا ذلك لتسلم نفوسهم، ولتسلم أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر قتلوا، وسبيت أموالهم، فهم يعملون هذا يظهرون الإسلام حتى تجرى عليهم أحكام الإسلام وحتى يسلموا من القتل. لأن من أظهر النفاق قتل
[وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، أي أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غرورا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14] يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم]
لأنهم تجرى عليهم أحكام الإسلام، فهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهدون فإذا جاهدوا حصل لهم ما حصل للمؤمنين من الغنيمة، فهم لهذا يظهرون الإسلام حتى تسلم نفوسهم وأموالهم، وحتى يشركوا المسلمين في المغانم والغزوات والسرايا.
[{وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14] يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم.]

فضمن (خلوا) معنى: (انصرفوا) لتعديته بـ (إلى)؛ ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به.
ومنهم من قال: (إلى) هنا بمعنى: (مع) والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك: (خلوا) يعني: مضوا، و (شياطينهم) يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14] يعني: هم رءوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (وإذا خلوا إلى أصحابهم) وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14] من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14]: إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال قتادة: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} [البقرة:14] قال: إلى رءوسهم وقادتهم في الشرك والشر.
وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس.
قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام:112].
الشيطان هو متمرد من كل جنس من الدواب الجن لهم شياطين الكافر شيطان، ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطانا، وكذلك أيضا المتمرد من الحيوانات ولهذا جاء في الحديث: (يقطع صلاة الرجل -إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل- الحمار والكلب الأسود والمرأة)، فسأل الراوي أبا ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الكلب الأسود شيطان). فالشيطان لأنه متمرد خرج عن طبيعة غيره كل جنس له شياطينه، وهم المتمردون الخارجون عن طبيعة جنسهم بالأذى، ولهذا قال تعالى: {شياطين الإنس والجن} [الأنعام:112].
فالجن لهم شياطين، وهم الكفرة، ومن أسلم منهم لا يسمى شيطانا، والإنس لهم شياطين، وهم المتمردون من الفسقة وأهل الشر وأهل الكفر والضلال.
 [وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. فقلت: يا رسول! وللإنس شياطين؟! قال: نعم)
الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال: حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر! هل صليت؟ قلت: لا قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟! قال: نعم)، وذكر الحديث]
فيه المسعودي ضعيف واختلط،

لكن لا شك في أن من الإنس شياطين، كما في الآية: {شياطين الإنس والجن} [الأنعام:112].والحديث الصحيح أيضا في صحيح مسلم " الكلب الأسود شيطان " لكن بهذا السند ضعيف متروك ضعيف جدا لكن قد يكون له شواهد
 [وقوله تعالى: {قالوا إنا معكم} [البقرة:14] قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إنا على مثل ما أنتم عليه {إنما نحن مستهزئون} [البقرة:14] أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {إنما نحن مستهزئون} [البقرة:14] ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة].

[وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة:15] قال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد:13]، وقوله تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} [آل عمران:178].
قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله -تعالى ذكره- وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل].
يعني مجازاة لهم {الله يستهزئ بهم} [البقرة:15] يجازيهم على استهزائهم {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران:54] في مقابلة أعمالهم وهذا من باب الخبر.
 [قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.
قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران:54]، وقوله: {والله يستهزئ بهم} [البقرة:15] على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: {إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم} [البقرة:14 - 15] وقوله: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء:142]، وقوله: {فيسخرون منهم سخر الله منهم} [التوبة:79] وقوله: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة:67] وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40]، وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} [البقرة:194]، فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما قال: وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم]
وعلى هذا يكون هذا من باب الخبر عن الله، ولا يشتق من هذا صفات لله، ولا يقال: إن من صفات الله: المستهزئ، أو الساخر، أو الماكر، أو الكائد، وإنما هذا من باب المقابلة باب الخبر أن الله تعالى يقابلهم ويجازيهم على أعمالهم السيئة. "ومكروا ومكر الله " إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " سخر الله منهم " الله يستهزئ بهم" كل هذا من الخبر ويجازيهم على أعمالهم
 [قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم: (صدقنا بمحمد -عليه السلام- وما جاء به) مستهزئون، فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا -يعني: من عصمة دمائهم وأموالهم- خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني: من العذاب والنكال].

[ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك، قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس، حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} [البقرة:15] قال: يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة:15] قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (يمدهم) يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم، وقال تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون:55 - 56].
وقال: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف:182] قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة، وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام:44 - 45].
قال ابن جرير: والصواب: نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام:110].
والطغيان: هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة:11].
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {في طغيانهم يعمهون} [البقرة:15] في كفرهم يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة،

وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير: والعمه: الضلال، يقال: عمه فلان يعمه عمها وعموها: إذا ضل.
قال: وقوله: {في طغيانهم يعمهون} [البقرة:15] في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا.
وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب وقد يستعمل العمى في القلب أيضا، قال الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46] وتقول: عمه الرجل، يعمه عموها فهو عمه وعامه وجمعه: عمه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت].

قال الله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة:16].
  [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن ناس من الصحابة: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة:16] قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة:16] أي: الكفر بالإيمان].
معنى (اشتروا) اعتاضوا، أي: أخذوا هذا عوضا عن هذا، حيث أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، فاعتاضوا عن الهدى بالضلالة، كحال المشتري، فإنه يعتاض عن المبيع بالثمن.
وهؤلاء -والعياذ بالله- اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
  [وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا.
وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت:17]].
والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد، (هديناهم) يعني: دللناهم، مثل قوله: {وهديناه النجدين} [البلد:10] يعني: بينا له طريق الخير وطريق الشر؛ لأن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وتسديد، فالله تعالى ما سددهم ولا وفقهم، ولكن هداهم هداية الدلالة والإرشاد، أوضح لهم الحق، لكنه خذلهم ولم يوفقهم هداية التوفيق والتسديد فلهذا ضلوا فاستحبوا العمى على الهدى.
[وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة:16] أي: بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} [المنافقون:3] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم؛ فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالى: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة:16]].
يعني المنافقون أقسام: منهم من كان مؤمنا ثم ارتد، ومنهم من كان عنده إيمان ضعيف يخبو يأتي ويذهب ومنهم من عنده شك وتردد وريب، فهم أقسام ومنهم من هو كافر الذي عنده ثبات على الكفر، استحكم الكفر في قلبه فهم طبقات نسأل الله السلامة والعافية.
  [ولهذا قال تعالى: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة:16] أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة {وما كانوا مهتدين} [البقرة:16] أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة:16] قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء]
سؤال
هناك من ينفي وجود المنافقين ويقول: إن الحديث عن وجودهم يسبب الفرقة بين الأمة الإسلامية، فما هو قولكم في ذلك؟
الجواب
المنافقون موجودون، والمنافقون عندما يكونون في المجتمع الإسلامي إذا كان فيه قوة يوجد المنافقون يبطنون الكفر خوفا على أنفسهم، ولهذا قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لم يكن هناك منافقون؛ لم يكن إلا كفار صرحاء لأن الكفار  أقوياء يظهرون الكفر، وكذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حصلت غزوة بدر وقتلت صناديد قريش قتل منهم سبعون وأسر سبعون قال عبد الله بن أبي: هذا أمر توجه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد