ثم أظهر الإسلام وأبطن الكفر خوفا على نفسه، فنجم النفاق بعد غزوة بدر في كل مجتمع يكون المسلمون فيه أقوياء يكون فيه منافقون وفيه دليل على قوة المسلمين إذا كان المسلمون أقوياء وكثيرون أخفوا نفاقهم وصاروا يتسترون. فهم موجودون الآن وإذا كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهم موجودون الآن أشد وأشد أعظم هم العلمانيون ينشرون في الصحف وغيرها يطعنون في الإسلام وفي المسلمين، يشككون والحداثيون وغيرهم كل هؤلاء من المنافقين يطعنون في الإسلام ويقولون: هذا تراث.
وكذلك الذين يطعنون في علماء السنة وفي أهل السنة وفي كتب أهل السنة، هناك الآن من يطعن فيهم ولهم نواد ومجالس، كل هذا منافقون هم موجودون الآن إنكار للواقع والذي يقول: إن هذا فيه تفريق للأمة؛ هذا معناه الدعوة إلى الكفر، فهو يريد أن يجمع الناس على الكفر، ما في اجتماع إلا على التوحيد والإيمان والإسلام، يريدون أن تجتمع الأمة هذه هي العولمة إذا اليهود والنصارى وأمريكا كلهم يد واحدة قرية واحدة، العالم قرية واحدة وهذا القول بأن الأديان واحد، والتآخي بين الأديان، ولهذا لما صار مؤتمر التآخي بين الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية، لما اجتمعوا ودعوا إلى التآخي بين الأديان قالوا: إنها كلها أديان سماوية، فينبغي أن تكون في كل مكان وفي كل بلد وفي كل مطار توجد مسجد وكنيسة ومعبد لليهود تحت سقف واحد، وتطبع التوراة والإنجيل والقرآن باسم واحد، هذه دعوة إلى الكفر، والعياذ بالله.
وقد كتبت اللجنة الدائمة بيانا في كفر هؤلاء الجهال القول بأن هذا تفريق للأمة، هذه دعوة إلى الكفر، نعم نحن نريد أن نفرق بين المسلم والكافر، الولاء والبراء والتوحيد والإيمان لابد من هذا الذي يقول هذا فيه تفريق ولا تقول مسلم ومنافق هذه دعوة إلى الكفر والإلحاد نعوذ بالله
وصف المعين بالنفاق؟
الجواب
لا يوصف إلا إذا ظهر منه ما يدل على ذلك، يكون معلوم مثل ما كتب حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى المشركين الكتاب قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله هذا ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معذور، ومثل ما حصل في قصة الإفك من عبد الله بن أبي لما تكلم وخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر وقال: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا. كما ثبت في البخاري
فقام سعد بن معاذ فقال: نحن نعذرك يا رسول الله، إن كان منا من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج فقال: لا تفعل ولا تقدر على ذلك، ولو كان من رهطك لما فعلت.
فقال له أسيد بن حضير: إنك منافق تجادل عن المنافقين.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم على المنبر، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية) فقوله: (إنك منافق تجادل عن المنافقين) لأنه ظهر منه هذا الكلام، فصار معذورا.
فالمقصود أن العلماء أخذوا من هذا أنه إذا وجد منه ما يدل على ذلك ثم رماه بالنفاق فيكون معذورا، أما بدون دليل بدون سبب فهذا مثلما جاء في الحديث: (إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما)، فلا يجوز من باب البغي لكن إذا ظهر منه دلالة ثم قال إنك منافق أو أن هذا كفر هذا يكون معذور، وقد لا يكون منافقا، لكن هو معذور في هذا بسبب ما ظهر له، أما كون إنسان يأتي شخص ويقول يا كافر يا فاسق بدون سبب هذا الذي عليه الوعيد الشديد.
والوصف بالنفاق بدون دليل يأخذ أحكام التكفير، فهو يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) كما تقدم.
قال الله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون} [البقرة:17 - 18].
[يقال: مثل ومثل ومثيل أيضا، والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت:43] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم].
فإن المنافقين من أخطر أعداء الله على المسلمين، وهم أشد الناس كفرا وضلالا؛ وذلك أنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيلتبس أمرهم على المسلمين، ولهذا جلى الله سبحانه وتعالى صفاتهم في مواضع من كتابه، وفي هذه السورة الكريمة، سورة البقرة ذكر الله تعالى أوصافهم في ثلاث عشرة آية، بينما ذكر المؤمنين باطنا وظاهرا في أربع آيات، والكفار ظاهرا وباطنا في آيتين.
أما المنافقون فلشدة خطرهم والتباسهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين جلى الله صفاتهم في ثلاث عشرة آية، وجلاها في مواضع من كتابه ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وأنهم يخادعون الله ورسوله، وأنهم يصفون المؤمنين بالسفه، وأنهم لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين. وضرب لهم هذا المثل الناري والمثل المائي هذا مثل
والمنافقون أصناف، هذا الصنف من المنافقين كانوا على الإيمان أولا ثم كفروا كانوا مؤمنين أبصروا الهدى ورأوا الحق، ثم عموا عن الحق -والعياذ بالله- انتكسوا وارتكسوا، نسأل الله السلامة والعافية.
ضرب الله لهم هذا المثل الناري فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} يعني إنسان في البرية أوقد نارا وأضاءت ما حوله أبصر ما حوله وصار يرى كل شيء حوله، فهذا فيه تمثيل لهم بأنهم آمنوا، وذلك أنهم آمنوا أولا وأبصروا الحق، وظهر لهم الحق وتبين ثم رجعوا بعد ذلك إلى الكفر فانطفأت هذه النار، فصاروا لا يبصرون ما حولهم، صاروا في ظلام دامس وهم مع ذلك كل واحد منهم أصم لا يستطيع السمع، وأعمى لا يبصر حتى ولو لم يكن هناك ظلمة فهو لا يبصر لأنه أعمى، ولا يسمع لأنه أصم ولا يتكلم لأنه أبكم ، كيف تكون حاله؟! نعوذ بالله في برية في ظلام دامس لا يستطيع الكلام ولا يسمع ولا يبصر هذه حال المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.
أما الصنف الثاني من الذين ضرب لهم المثل الناري؛ عندهم إيمان عندهم شكوك عندهم إيمان يخبو أحيانا يضيء أحيانا، أحيانا يكون عندهم إيمان وأحيانا يزول عندهم شكوك وريب والعياذ بالله
وقوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) يعني: اعتاضوا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، فهم رغبوا في الضلالة كما يرغب المشتري في السلعة، نسأل الله السلامة والعافية.
[وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة:8]، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم.
ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون:3]، فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة، قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب:19] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان:28]، وقال تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [الجمعة:5].
وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه، وقال آخرون: (الذي) ههنا بمعنى (الذين) كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد].
المقصود الذين وإن الذي حانت يعني وإن الذين، فتأتي (الذي) بمعنى (الذين).
وابن جرير رحمه الله شيخ المفسرين، معروف هو السابق وله اليد الطولى في التفسير، لكن قد يكون له بعض الآراء أحيانا المرجوحة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لخص تفسيره وأتى بتحقيقات جيدة، من هذا يتعقب أحيانا ابن جرير ويأتي بتحقيقات جيدة جديدة منها هذا هو يتعقب ابن جرير ويخالفه أحيانا في الترجيح، ومن المعلوم أن ابن جرير له اليد الطولى وله السبق، وكما قال ابن مالك لما سبقه ابن معط في الألفية: وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا
[قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون} [البقرة:17 - 18]، وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام.
وقوله تعالى:(ذهب الله بنورهم) أي: ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان.
(وتركهم في ظلمات) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق.
(لا يبصرون): لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك (صم) لا يسمعون خيرا، (بكم) لا يتكلمون بما ينفعهم، (عمي) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]].
وهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة يسمى الالتفات، أي: يلتفت من الغيبة إلى الخطاب مخاطبة المتكلم وأحيانا يلتفت من الخطاب إلى الغيبة
والمراد في قوله: (صم بكم عمي) المراد صما معنويا، المراد أنهم لا يسمعون الحق، وإلا فهم يسمعون أمور دنياهم يبيعون ويشترون وكذلك يتكلمون لكن لا يتكلمون بالحق ولا يبصرون ليسوا عميا يبصرون أمور دنياهم لكنهم عمي عن الحق فهم لا يرون الحق ولا يتكلمون بالحق ولا يسمعون بالحق وإن كانت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم سليمة، من جهة أمور دنياهم، فهم في أمور دنياهم يتكلمون، بل ليس الواحد منهم أخرس، ليسوا خرسا وكذلك يسمعون كلام الدنيا وأمور دنياهم، وكذلك -أيضا- يبصرون أمور دنياهم، لكنهم لا يبصرون الحق، ولا يقبلون الحق، ولا يتكلمون بالحق والعياذ بالله.
المراد صم بكم عمي في المعنى صم في المعنى وليس المراد أن هذه المحسوسات سلبت منهم في دنياهم نسأل الله السلامة والعافية
{ولهذا لا يرجعون إلا ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة}
[ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه: قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله} [البقرة:17] زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية
رواية العوفي عن ابن عباس ، وكذلك رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس منقطعة. لأنه ما أدرك ابن عباس لكنه يروي كثيرا العوفي وكذلك على بن أبي طلحة وإن كان فيها انقطاع
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك].
[وقال مجاهد: (فلما أضاءت ما حوله) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى.
وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قال: هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب..
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا، ثم كفروا، (فذهب الله بنورهم) أي: فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، (فتركهم في ظلمات لا يبصرون).
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه].
المعنى أن المنافق إذا أخفى نفاقه تجرى عليه أحكام الإسلام، هذا حكم الإسلام يعامل يزوج، ويرث من أقاربه، ويورث، ويصلى عليه، وتتبع جنازته، وتجرى عليه أحكام الإسلام، لكن في الآخرة في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله
إلا إذا أظهر نفاقه يقتل يعامل معاملة المرتد، لكن إذا أخفى نفاقه تجرى عليه أحكام الإسلام ولا ينفعه هذا لا ينفعه في الآخرة ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ودلي في حفرته كما في صحيح البخاري جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، وصلى عليه فلما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: أتصلي على رئيس المنافقين فقال: (أخر عني يا عمر فإني خيرت قيل لي " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " فلو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها).
وهذا قبل أن ينهى، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة:84]، وإنما فعل هذا عليه الصلاة والسلام لأنه لم ينه عن الصلاة عليهم، ولأنه يرجو أن ينفعه ذلك، وللأوس، ومراعاة لابنه عبد الله، فإنه يتألفهم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نهي عن الصلاة على المنافقين، فمن علم نفاقه فلا يصلى عليه، ومن لم يعلم يصلى عليه.
[وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} [البقرة:17]؛ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة].
وهذا الذي يكون عنده شك وعنده شيء من الإيمان يخبو ويظهر أما القسم الأول انتهى الإيمان ليس عندهم شيء من الإيمان والعياذ بالله
هم طبقات: منهم من استحكم الكفر والنفاق في قلبه، فليس عنده شيء من الإيمان، ومنهم من عنده شيء يسير يضيئ أحيانا ويخبو أحيانا، فإذا كثرت الشكوك والريب طفئ هذا النور، وإذا خفت شكوكه ظهر شيء منه.
[وقال الضحاك: (ذهب الله بنورهم): أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) هي لا إله إلا الله أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)].
يعني دخلوا في الإسلام بـ (لا إله إلا الله) دخلوا في الإسلام فأكلوا بها وشربوا، يعني بقوا بقيت حياتهم سلمت دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو لم يقولوها قتلوا، فهم بلا إله إلا الله أكلوا وشربوا ونكحوا يعني تزوجوا وورثوا وورثوا ولكنهم إذا كانوا يناقضون هذه الكلمة بالشك والريب والكفر، فلا تنفعهم في الآخرة، فيكونوا في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله .
[وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين وغازاهم بها]
غازاهم يعني غزا وجاهد معهم في سبيل الله، لأن المنافقين كانوا في زمن النبي يغزون يجاهدون ولهذا انخذل عبد الله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش، كانوا ذهبوا للقتال ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام إنما يجري الأحكام على الظواهر، والبواطن لها الله.
[ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) يقول: في عذاب إذا ماتوا.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (وتركهم في ظلمات) أي: يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده: (وتركهم في ظلمات) فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصري: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله].
قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
[(صم بكم عمي) قال السدي بسنده: (صم بكم عمي) فهم خرس عمي.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (صم بكم عمي) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة].
يعني معنوي صممهم معنوي وليس بحسي، هذه أسماعهم سليمة، وأبصارهم سليمة، وألسنتهم سليمة، ولكن المراد صم عن سماع الحق، بكم لا يتكلمون بالحق، وعمي لا يرون الحق.
[يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة (فهم لا يرجعون) قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس.
وقال السدي بسنده: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) إلى الإسلام، وقال قتادة: (فهم لا يرجعون) أي: لا يتوبون ولا هم يذكرون].
قال الله تعالى: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} [البقرة:19 - 20].
قال الحافظ ابن كثير
[وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين].
الضرب: هو النوع، أي: فهذا مثل ضربه الله تعالى لنوع آخر من المنافقين، لأن المنافقون أقسام.
[وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيب)، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر].
الأقرب أنه المطر؛ لأنه جاء في الحديث إذا نزل المطر قال اللهم صيبا نافعا).
[والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق (ورعد)، وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو} [المنافقون:4]].
لأن قلوبهم مريضة، فهم يخشون عندهم فزع يخشون أن يطلع المؤمنون على نفاقهم فيعاملون معاملة الكفار، هم عندهم فزع وخوف دائما إذا سمعوا شيئا ظنوا أنهم اطلع عليهم وكشفت حالهم، نسأل الله العافية.
[وقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة:56]].
هكذا يتقون المؤمنين بالأيمان الكاذبة، إذا تخلفوا عن الجهاد حلفوا أيمانا كاذبة أنهم معذورون كما في غزوة تبوك وفي غيرها؛ ولهذا قال تعالى {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة:56] أي يخافون شدة الخوف، وشدة الهلع
في سورة الأحزاب ذكر الله كيفية الهلع بقوله: {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب:18 - 19]، الخوف في الجهاد، قال تعالى: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير} [الأحزاب:19] أي: يريدون أن يقاسموا المسلمين في الغنيمة، فإذا جاء صوت فزعوا منه؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد والشهادة، قال تعالى: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير} [الأحزاب:19] أي: الغنيمة، {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} [الأحزاب:19].
[وقال تعالى {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}[التوبة56 - 57].
أي: وهم مسرعون.
[والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين) أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا؛ لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال تعالى: {هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا في تكذيب * والله من ورائهم محيط} [البروج:18 - 20].
والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم: صاعقة، وحكى بعضهم: صاعقة وصعقة وصاقعة]
يعني كلها لغات
[ونقل عن الحسن البصري أنه قرأ (من الصواقع حذر الموت) بتقديم القاف، وأنشدوا لـ أبي النجم: يحكوك بالمصقولة القواطع شفق البرق عن الصواقع
قال النحاس: وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة.
حكى ذلك القرطبي في تفسيره].
وتكون لغة، صواعق واللغة الثانية صواقع إلا أن الأولى أشهر.
[ثم قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} [البقرة:20] أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} [البقرة:20] يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) أي: لشدة ضوء الحق، {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} [البقرة:20] أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة} [الحج:11] الآية].
أي: إذا انتصر المسلمون وأصابوا من الغنائم اطمأن وفرح، وقاسم المسلمين الغنائم، وإذا أصابهم نكبة أو هزيمة ارتدوا والعياذ بالله؛ لما في قلبه من الشكوك، قال الله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج:11].
[وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} [البقرة:20] أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم في قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر (قاموا) أي: متحيرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة، وهو أصح وأظهر، والله أعلم].
[وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك].
نورهم في يوم القيامة على حسب نور الإيمان في الدنيا: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم:8]: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد:12] على حسب الإيمان فمن كان قوي الإيمان دفعه هذا الإيمان إلى العمل الصالح والاستجابة والانقياد لأوامر الله وترك نواهيه، فيكون نوره قويا يضيء له فراسخ، ومن ضعف إيمانه في هذه الدنيا ضعف نوره في يوم القيامة حتى يكون المنافقون هكذا لهم نور يخبو يطفأ يخبو ويطفأ ثم ينطفئ، نعوذ بالله.
وبعضهم من أول مرة ينطفئ نوره، كما قال الله تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب} [الحديد:13]، وذلك أنهم لما كانوا مع المؤمنين في الدنيا وكانوا يشاركونهم في العبادات كانوا معهم في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الطويل أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (تتبع كل أمة ما تعبد، من كان يعبد الشمس يتبع الشمس من كان يعبد القمر يتبع القمر ويتساقطون في النار حتى يقال لليهود ما تعبدون؟ فيقولون: عزير ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولدا، فيلقوا في النار وكذلك يقال للنصارى ما كنتم تعبدون؟ قالوا: نعبد المسيح ابن مريم، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة، ولا ولد، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا فيتجلى الله لهم، فيسجد المؤمنون، فيريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود، يكون ظهر كل واحد منهم طبقا واحدا، {يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون} [القلم:42])، ثم بعد ذلك يمشون سويا كل واحد معه نور، ثم ينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، نسأل الله العافية. كل هذا جاء في أحاديث صحيحة
[ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد:13]].
(انظرونا) يعني انتظروا ليس المراد النظر، المراد الانتظار، انتظرونا تمهلوا حتى نقتبس من نوركم، إذا طفئ نورنا اصبروا انظرونا يعني اصبروا وانتظروا حتى نقتبس من نوركم فقيل لهم: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد:13].
[قال تعالى فيهم: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا }[الحديد:13].فقال في حق المؤمنين: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار} [الحديد:12]، وقال تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} [التحريم:8]
ذكر الحديث الوارد في ذلك: قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات): ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه)].
أي: منهم من يكون نوره طويلا إلى عدن أبين، ومنهم من أقل فصنعاء ومنهم من نوره دون ذلك، على حسب العمل لكن هذا عن قتادة مقطوع، ثم قوله ذكر لنا أبهم، فلا يعتمد عليه إلا بسند ثابت على كل حال الآية كافية فالنور يوم القيامة على حسب الإيمان
[حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه.
وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة].
يتقد يعني يضيء ويؤتى يعني يعطى
[وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (نورهم يسعى بين أيديهم) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: (ربنا أتمم لنا نورنا).
وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: (ربنا أتمم لنا نورنا)].
[فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما: مؤمنون خلص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خلص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع من الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم].
المنافقون قسمان وإلا في الأصل هم قسم واحد الصنف الأول: المؤمنون باطنا وظاهرا {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة:5] والقسم الثاني: الكفار ظاهرا وباطنا {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} [البقرة:6 - 7].
ثم الصنف الثالث: المؤمنون ظاهرا والكفار باطنا، وهم المنافقون {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} [البقرة:8] إلى آخر الآية.
قسم هؤلاء إلى قسمين: قسم كفرهم غليظ، وهم المنافقون الخلص، وهم الذين ضرب لهم المثل الناري، وقسم آخر يظهر لهم الإيمان ويخبو ويظهر لهم مرة ثاني ويخبو نسأل الله العافية، وهم الذين ضرب لهم المثل المائي.
[وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان، واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله، ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء وهم أصحاب الجهل المركب في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا} [النور:39] ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال الله فيهم: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور:40]].
هؤلاء جاهلون لا يعلمون الحق جهلهم بسيط، وأما العباد من الكفار فجهلهم مركب؛ لأنهم لا يعلمون ويظنون أنهم على حق، فهم فهموا فهما معكوسا، فهم يتعبدون اليهود والنصارى لكن على جهل وغي، وهم يحسبون أنهم على الحق.
فالجاهل الذي لا يعلم بالمرة كون لا نعلم ما تحت الأرض هذا جهل بسيط، لكن كون الإنسان يتصور ما تحت الرض كذا وكذا بخلاف الواقع هذا جهل مركب الذي لا يعلم جهل بسيط والذي يفهم فهما خاطئا هذا جهله جهل مركب
[فقسم الكفار هنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج:3]، وقال بعده: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج:8] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقين، وهم المقربون، وأصحاب يمين، وهم الأبرار.
فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين أيضا صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)].
المعروف عند أهل العلم هذا الحديث إنما هو في النفاق العملي، يعني كل واحدة في النفاق العملي لكن قال العلماء: إن هذه الخصال الأربع إذا استحكمت في الإنسان وكملت جرته إلى النفاق الأكبر. وإلا فالنفاق العملي
[استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث، أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله].
فالمؤمنون كما ذكر المؤلف سابقون مقربون ومقتصدون وهناك أيضا صنف ثالث ذكرهم الله في سورة فاطر، وهم الظالمون لأنفسهم، هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، مؤمنون موحدون لم يقعوا في الشرك لكن وقعوا في المعاصي، إما قصروا في بعض الواجبات، أو ارتكبوا بعض المحرمات، هؤلاء على خطر، منهم من يغفر الله له ويعفو عنه لتوحيده وإيمانه وإسلامه، ويدخل الجنة من أول وهلة، ومنهم من يشفع فيه، ومنهم من يعذب في النار، ومنهم من يعذب في القبر، ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة، فيكونون ثلاثة أصناف: سابقون مقربون، ومقتصدون، وظالمون لأنفسهم.
[قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر قال حدثنا أبو معاوية -يعني: شيبان - عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)، وهذا إسناد جيد حسن].
كيف سنده جيد، فيه ليث بن أبي سليم معروف أنه ضعيف؟! إلا إن كان حسنه بشواهده.
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن مقبل الوادعي: الحديث في سنده ليث، وهو: ابن أبي سليم كما جاء مصرحا به في (المعجم الصغير) للطبراني، وهو مختلط، وفي السند أيضا انقطاع؛ فإن أبا البختري -وهو: سعيد بن فيروز - لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما في (تهذيب التهذيب)، فعلم بهذا ضعف الحديث.
على هذا يكون فيه علتان الليث والعلة الثانية الانقطاع بين أبي البختري وسعيد والحافظ يقول هذا إسناد جيد فلعله حسنه لأن له طريق أخرى ليس فيها الليث وليس فيها انقطاع
[(ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته، (إن الله على كل شيء قدير) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.
وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وأنه على إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى (قدير) قادر، كما أن معنى (عليم) عالم].
فيكون ختام الآية مناسب لأن هؤلاء المنافقين ما استعملوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فيما ينفعهم، بل استعملوها فيما يضرهم، وحذرهم الله وخوفهم وأنه قادر على سلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم الحسية، كما أنه سلبت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم المعنوية. فهو قادر على أن يسلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم الحسية فيكونون صما حسا يسمعون وإن كانوا لا يسمعون الحق ويسمعون أمور دنياهم فتسلب عقولهم وألسنتهم وأبصارهم نسأل الله السلامة والعافية تحذير شديد
[وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون (أو) في قوله تعالى: (أو كصيب من السماء) بمعنى الواو، كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان:24]].
يعني: آثما وكفورا، وقوله: (أو كصيب) أي: وكصيب.
[أو تكون للتخيير، أي: اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا.
قاله القرطبي: (أو) للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة: (ومنهم) (ومنهم) (ومنهم)، يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم -والله أعلم- كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور:39] إلى أن قال: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج} [النور:40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع والمقلدين، والله أعلم بالصواب.
الأقرب ما ذكره المؤلف رحمه الله واختاره الحافظ ابن كثير، أنهما صنفان، وأن المثل الأول للمنافقين الخلص، والمثل الثاني: للكفار الذين عندهم شك وريب
لكن يتفاوت عذابهم على حسب تفاوت الكفر.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى
قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:21 - 22].
[شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته لأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا، أي: مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات (والسماء بناء) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} [غافر:64]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)].
هذه الآية الكريمة أول الأوامر أول أمر في القرآن الكريم هو هذا الأمر هو الأمر بعبادة الله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة:21]، في الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهرا وباطنا، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله سبحانه وتعالى الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} يعني: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبين سبحانه وتعالى أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، لأنه أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة كما بين سبحانه وتعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم.}: (اعبدوا ربكم) هذا توحيد العبادة، واستدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية، يعني الذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم لأنه المتفضل لأنه الخالق الرازق ولما له سبحانه من صفات عظيمة وأسماء حسنى التي يتصف بها ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى ولما يتصف به من الصفات العظيمة، فهو سبحانه وتعالى الحميد المجيد الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
وكثيرا ما يدلل سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين. {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:21 - 22]. في كلها أدلة لاستحقاقه العبادة
وفي سورة النمل استدل سبحانه وتعالى في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون * أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء} [النمل:59 - 60].
ثم قال: {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا} [النمل:61] الآية، وقال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل:62] الآية، وفي كل آية يقول: (أإله مع الله)، {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أئله مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل:63 - 64]. استدلال بتوحيد الربوبية على استحقاقه للعبادة
وفي هذه الآية قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:21] لأنهم مقرون بتوحيد الربوبية ويشركون مع الله غيره فكما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وهو المسبغ النعم على عباده، تقرون بهذا ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، لماذا تشركون معه غيره؟! لماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ وفيه إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وتوحيد الألوهية هذا التوحيد الثاني، هذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات وأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسما مستقلا، وإلا هو واحد.
[فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك) الحديث.
وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) الحديث].
وهذا حق الله حق إيجاب وإلزام في حديث معاذ (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم).
فرق بين الحقين: الحق الأول حق إيجاب وإلزام وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى، حق أوجبه سبحانه على نفسه لم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى، فأوجبه على نفسه من نفسه كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلا منه وإحسانا، كما قال القائل:
ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع
[وفي الحديث الآخر: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان)].
هذا من التنديد الأصغر، كما سيأتي التنديد نوعان: تنديد أكبر، وهو مخرج من الملة، وتنديد أصغر، وهو ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، مثل: (ما شاء الله وشئت)، ولولا الله وأنت، كما سيأتي عن ابن عباس في تفسير الآية.
[وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لأمها قال: (رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)].
وهذا الحديث رؤيا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها، وقوله: (قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) جاء في بعض الروايات أنه كان يمنعه الحياء، وإنما منعه الحياء لما لم يأمره الله بنهيهم عنها، ولو أمره الله بنهيهم عنها لما منعه الحياء، في الأول كان يمنعه الحياء قبل أن يأمره الله كان هذا جائزا في أول الإسلام: (ما شاء الله وشئت) في أول الهجرة، وكانوا يحلفون أيضا بغير الله كانوا يحلفون بآبائهم، ثم بعد ذلك لما استقرت الشريعة نهي عن الحلف بغير الله، ونهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
وكانت هذه الرؤيا سببا في التشريع، رؤيا الطفيل أخي عائشة من أمها وفيه أن اليهود والنصارى كل منهم فهموا ما يقوله المسلمون: (ما شاء الله وشاء محمد) مع أنها من الشرك الأصغر وسيلة، ولم يفهموا ولم يفقهوا ما هم عليه من الشرك الأكبر، اليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، هذا شرك أكبر كفر وردة عن الإسلام، ومع ذلك أنكروا على المسلمين : ما شاء الله وشاء محمد، ولم ينظروا إلى ما هم فيه من الشرك الأكبر، فيد دليل على أن الخصم لا ينظر إلى عيبه وإنما ينظر إلى عيب الآخرين.
وهذا من الأحاديث التي نقلها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في (كتاب التوحيد) باب: (ما شاء الله وشئت).
وليس في هذا الحديث تأخير البيان لوقت الحاجة، في الأول ما أمر عليه الصلاة والسلام بالنهي، كان جائزا في أول الإسلام، وكانت هذه الرؤيا سببا في التشريع النهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، كانوا في الأول يقولون: ما شاء الله وشئت، كانوا يحلفون بآبائهم، ثم استقرت الشريعة ونهي عن الحلف بغير الله، ونهي عن قول: ما شاء الله وشئت.
وفيه دليل أنه يجوز للإنسان أن يقول: (ما شاء الله ثم شئت)، ففيه فرق بين (الواو) و (ثم)؛ فإن الواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، أما (ثم) فإنها تفيد الترتيب والتراخي، والمعنى أن مشيئة الله أولا ثم تأتي مشيئة المخلوق متراخية بعد مشيئة الله، أما الواو فإنها تفيد التشريك ولا تفيد الترتيب، فلهذا نهي عنها. وقول ما شاء الله وحده أفضل فالأحوال ثلاثة:
الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئت، هذا شرك أصغر.
الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، هذا جائز.
الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، هذا أفضل.
[هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه.
وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده)، رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به.
وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم].
قوله: (ما شاء الله وحده) هذا هو الأكمل، وقوله: (أجعلتني لله ندا)، هذا من التنديد الأصغر التنديد نوعان: التنديد الأكبر، والتنديد أصغر، مثل ما جاء في الحديث: ما شاء الله وشئت، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.
[وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم].
هذا لا شك أنه الأمر للفريقين: للمؤمنين والكفار، هذا أمر لكل أحد كل واحد من الجن والإنس من المؤمنين والكفار مأمور بهذا الأمر: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) يعني: وحدوا وأخلصوا له العبادة، كل شخص من الجن والإنس والملائكة مأمور بعبادة الله وإخلاص الدين له وليس لهم الخيرة في هذا. (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم)
انقسم الناس إلى فريقين: منهم من أطاع الله، وهم الموحدون، ومنهم من أشرك بالله، وهم الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، والملائكة يعبدون الله ويوحدون الله لا يعصون الله ما أمرهم وإنما العصيان يكون من أهل الأرض، أما أهل السماء فهم كما قال الله {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6].
[وبه عن ابن عباس: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر].
قوله: (يا أيها الناس) من الخطابات العامة التي تشمل كل أحد، والله تعالى يوجه الخطاب تارة بـ" يا أيها الناس" وتارة يوجه الخطاب للذين آمنوا {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} [الحشر:18] وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران:102]، وأحيانا يوجه الخطاب: (يا أيها الناس)، {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة:21] كما في هذه الآية، وقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء:1]، وقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده} [لقمان:33]، هذا عام للمؤمنين وللكفار، وللذكور والإناث.
فكل واحد مأمور بأن يعبد الله ويوحد الله، وكل واحد مأمور بأن يتقي الله فالمؤمن مأمور أن يتقي الله ويستقيم على طاعته، والكافر مأمور أن يتقي الله وأن يعبد الله وأن يدخل في دين الإسلام وينقذ نفسه من النار.
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوما فقال: (يا أيها الناس!) وكانت أم سلمة لها ماشطة تمشطها، فقالت: كفي عني، أرادت أن تسمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت الماشطة: إنه يقول: (يا أيها الناس، فقالت: أنا من الناس).
(يا أيها الناس) يشمل الذكور والإناث، والمؤمنين والكفار هذا الخطاب موجه لكل أحد لكل واحد من الثقلين من الإنس والجن موجه لهم هذا الخطاب.
الخطاب يوجه بـ(يا أيها الذين آمنوا) لأنهم هم الذين يقومون بالأوامر والنواهي، هم الذين ينقادون، هم الذين ينتفعون، فيوجه الخطاب إليهم، ويوجه خطاب في مرة أخرى في موضع آخر إلى الناس جميعا. فأحيانا يوجه الخطاب للجميع مثل هذا وأحيانا يوج للمؤمنين لأنهم هم الذين ينقادون لأوامر الله وهم الذين يقبلون شرع الله بخلاف الكفرة فإنهم لا يقبلونه
الله سبحانه وتعالى معروف بالعقل والأدلة كما في هذه " الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " سيأتي الكلام في هذا وكلام بعض الأعراب (البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج وسماء ذات فجاج وبحار تزخر ونجوم تزهر ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير) هذا من الأدلة وكذلك أيضا العقول التي ركبها الله في الناس عرفوا الله بعقولهم ونظروا في السماوات الله تعالى لفت أنظارهم أن ينظروا " قل انظروا ما في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " [وبه عن ابن عباس: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:22] أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو...}
حدثني أبي عمرو يعني والده والده هو عمرو بن عاصم النبيل هو والد أحمد
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: (فلا تجعلوا لله أندادا) قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك].
قوله: [حدثني أبي عمرو] هو والد أحمد بن عمرو، وقوله: [حدثنا أبي الضحاك بن عمرو] هو والد عمرو.
فيه دليل على أن هذا من التنديد الأصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، الحلف بغير الله، مثل: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، تقول: لولا كلبة هذا لأتى اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، يعني إسناد الشيء إلى السبب، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه وتعالى، والذي ينبغي: لولا الله ثم هذا السبب.
ولولا الله وفلان كذلك تشريك بين الخالق والمخلوق لولا الله وفلان ينبغي نقول لولا الله ثم فلان لهذا قال لا تجعل فيها فلانا هذا كله فيه شرك من الشرك الأصغر من التنديد الأصغر مثل ال