تقدم خلق الأرض على خلق السماء
تعالى: [وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} [فصلت:9 - 12].
فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض].
وهذا إجماع من أهل العلم على أن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء، وأما ما روي عن قتادة بشأن أن السماء خلقت أولا فلا يعول عليه، وهذا كالإجماع من أهل العلم، وهو صريح الآية، حيث إن الله تعالى خلق الأرض أولا ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ذلك.
دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه
تعالى: [عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها} [النازعات:27 - 32].
قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا].
ما سرده القرطبي له وجه؛ لأنه أشكل عليه أن الله تعالى ذكر خلق السماء في آية النازعات قبل الأرض.
تعالى: [وقد حررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: {والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها} [النازعات:30 - 32]، ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل)].
فعلى هذا تكون الأيام السبعة كلها في خلق الأرض، وهذا حديث باطل، وإن رواه الإمام مسلم فهو من وهم الرواة، وهو أيضا من كلام كعب الأحبار، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ وهم أيوب بن خالد فرفعه، وأما أبو هريرة فرواه عن كعب، وكعب يأخذ عن بني إسرائيل، وهذا مناقض للآيات، فيوم السبت ليس فيه خلق، وإنما خلقت المخلوقات يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، بنص القرآن كما قال الله سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق:38]، أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم قال: {وما مسنا من لغوب} [ق:38]، وقال في سورة السجدة: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [السجدة:4]، فالخلق في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، والله قادر على خلقها في الأحد، فهو حكيم سبحانه وتعالى، والمراد بالأيام في الآية: الأيام هذه على الصحيح، خلافا لقول بعض أهل العلم أنها الأيام التي عند الله، كألف سنة مما تعدون؛ لأن الله خاطبنا بما نعلم.
سبق أن الحافظ رحمه الله ذكر في أول التفسير أن أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بإبطاله فهو باطل ومنه هذا.
والثاني: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا ثابت، والثالث: ما سكت عنه شرعنا، وهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب.
والمقصود أن هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم، فهو وهم من أيوب بن خالد، إذ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله، كما ذكر ذلك المحققون والأئمة كـ البخاري وعلي بن المديني والحافظ ابن كثير وغيرهم من المحققين.
تعالى: [وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي].
قال الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30].
[يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة} [البقرة:30]، أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك ورده ابن جرير قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة]
أبو عبيدة مع أنه لغوي ومعروف عند أهل اللغة إلا أنهم خطأوه في هذا، والصواب أن المعنى: واذكر، فإذ هنا ليست زائدة، وإنما هي معروفة، ومعناها معروف في اللغة العربية.
[قوله: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام:165]، وقال: {ويجعلكم خلفاء الأرض} [النمل:62]، وقال {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} [الزخرف:60]، وقال {فخلف من بعدهم خلف} [مريم:59].
وقرئ في الشاذ: (إني جاعل في الأرض خليقة) حكاها الزمخشري وغيره.
ونقل القرطبي عن زيد بن علي، وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط].
والقراءة السابقة إذا كان معناها صحيح، فتحمل على أنها تفسير، مثلما جاء في مصحف عبد الله بن مسعود في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام متتابعات، فقوله: متتابعات يحمل على أنها تفسير، ومثله ما جاء في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر يحمل على أنه تفسير، ولا يثبت على أنه قراءة.
وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره.
والظاهر أنه لم يرد آدم عينا؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30]، فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي.
أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه].
سؤال الملائكة عن حكمه، وليس اعتراضا على الله، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يعترضون على الله، كما قال الله، {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء:27].
فإن الله لما أخبرهم أنه سيكون خليفة في الأرض، قالوا: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هذا الخليفة؟ فهل سيكون منهم فساد، أو سفك للدماء؟، إن كانوا كذلك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
[وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30] الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا
السؤال
{ إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعباد، والزهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.
وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل).
فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، وقيل: معنى قوله تعالى جوابا لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30]، فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تضمن قولهم: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30] طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم.
ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم].
وعلى كل حال، فالسؤال عن استكشاف الحكمة، وليس اعتراضا على الله، وظاهر الآية، {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، يعني: من الحكمة في وجود هذا الخليفة، وأنه سيحصل منهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، والعلماء، والعاملون، إلى غير ذلك من حكمته سبحانه وتعالى في خلق بني آدم.
أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)
[ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه: قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.
وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم].
هذه الاستشارة لا محل لها هنا، ولا وجه لها، لكن يحمل على أن المراد أخبرهم.
[وروي عن قتادة نحوه، وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل].
هذه الآثار فيها تساهل؛ لأن المستشير هو الذي لا يعرف وجه الحكمة من الشيء، أما الله تعالى فهو لا يخفى عليه شيء، بل هو عليم بكل شيء، ولهذا قال: وإني أعلم ما لا تعلمون.
[وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.
{في الأرض} [البقرة:30]، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة)، وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم].
هذا الحديث حديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن سابط تابعي فهو مرسل.
وضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وفيه مدرج وهو قولهم: إنها مكة، فقوله: دحيت الأرض من مكة خاصة، والآية عامة وليست خاصة بمكة، فقول الله تعالى: {إني جاعل في الأرض} [البقرة:30]، عام في محل الأرض، وليس خاصا بمكة، ولا يصح أن تكون الملائكة طافت بالبيت؛ لأن الكعبة بناها إبراهيم الخليل، أما الآثار التي فيها أن الملائكة طافت فكلها آثار لم تثبت.
[فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.
{خليفة} [البقرة:30]، قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن الله تعالى قال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30] قالوا: ربنا! وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: إني جاعل في الأرض خليفة مني، يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه].
وهذا ضعيف وليس بشيء؛ لأن الخليفة إنما يكون للغائب، والله تعالى سائد حاضر ليس بغائب، فالذي يغيب هو الذي ينيب من يخلفه في تدبير مملكته؛ لأنه لا يعلم تدبير الأمور، ولا يعلم أحوال العباد، فالملك إذا غاب أناب من ينوب عنه في تدبير المملكة، وتدبير الملك؛ لأنه لا يعلم أحوالها، أما الله تعالى فهو شاهد حاضر ليس بغائب، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، وعليه فالصواب أن معنى خليفة أي: جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، فيخلف بعضهم بعضا، وليس المراد أن آدم خليفة عن الله؛ لأن الله حاضر وشاهد.
[وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه.
قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا].
وهذا هو الصواب.
[قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلانا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس:14]، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفا.
قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.
قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا.
قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال.
ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30].
وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30]، قال: يعنون به بني آدم].
وهذا ضعيف ومرسل عن عبد الرحمن بن سابط، وعطاء بن السائب اختلط تابعي يرسل، وهذا الأثر عن ابن عباس ضعيف، حتى ولو صح أخذه عن بني إسرائيل، فهذا من أخبار بني إسرائيل.
[وقال عبد الرحمن: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة، وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟! وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم، فقالت الملائكة ذلك.
وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30]، {قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]].
عبد الله بن عمرو يأخذ عن بني إسرائيل؛ لأنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، وهذه منها والله أعلم، ثم التحديد بألفي سنة يحتاج إلى دليل من الكتاب، أو خبر ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فكل هذه من أخبار بني إسرائيل، لا تصدق ولا تكذب.
والجن قيل: إنهم من ذرية إبليس وعلى هذا قول الشاعر: واسأل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران وقيل غير ذلك.
[وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، إلى قوله: {ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33].
قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة:30] كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه].
هذا الحديث مرسل عن الحسن، ومراسيل الحسن البصري ضعيفة.
[قال: قال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30]، {قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30].
قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام، قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت:11] وقوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30]، قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: قال: التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة.
وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30]، قال: يقولون: نصلي لك.
وقال مجاهد: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30]، قال: نعظمك ونكبرك.
وقال الضحاك: التقديس: التطهير.
وقال محمد بن إسحاق: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه.
وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم: سبوح، تنزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له].
ومنه بيت المقدس، فالبيت المقدس أي: المطهر، والتقديس: هو التطهير، فكأنهم يقولون: إنا نسبح بأن نذكرك، وننزهك عما لا يليق بك.
ومنه الدعاء لرجل بقولك: قدس الله روحه، فإنه لا بأس فيه، فهو بمعنى طهر الله روحه، وتطهير الروح يكون بالمغفرة.
[وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة].
والأرض لا توصف أنها مقدسة إلا بدليل؛ فمثلا بيت المقدس جاء ما يدل على أنه مقدس.
أما البشر فلا يقال فلان مقدس، لأنه لا يدرى هل غفرت ذنوبه أم لا، وقد يفضي هذا إلى الغلو.
فإن قيل: وهل يجوز أن يقال: فعلان مبارك؟ قلنا: إن كان بمعنى أن فيه البركة فإذا كان له آثار طيبة وآثار حسنة تدل على ذلك فلا بأس، كقول أسيد بن حضير لـ عائشة لما نزلت آية التيمم: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
[وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذا: {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة:30] ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك {ونقدس لك} [البقرة:30] ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده.
وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى.
{قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30]، قال قتادة: فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: {قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30].
[وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة].
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أنه يجب على أمة الإسلام أن ينصبوا خليفة لهم، يفصل بين النزاع، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب نصب الخليفة، أو يستحب؟ منهم من قال: يجب، ومنهم من قال: يستحب نصب الخليفة، وظاهر الأدلة أنه واجب، فلا يجوز ترك الناس فوضى كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لا بد من نصب الخليفة؛ لأن تركهم هكذا يؤدي إلى الفساد والفوضى، حتى في أيام الجاهلية فقد كان لكل قبيلة وعشيرة رئيس يرجعون إليه؛ ليفض ما بينهم من النزاع.
[إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب].
أي: أن إقامة الحدود واجبة، وإنصاف المظلوم من الظالم واجب، وإيصال الحقوق إلى أهلها واجب، وهذا لا يمكن إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا تتم هذه الأمور إلا بالإمام، وهذه الأمور واجبة، فيجب نصب الخليفة.
[والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور].
وهذا الكلام فيما تكتب فيه الإمامة، فقال بعضهم بالنص، وذلك كخلافة أبي بكر، وخلافة الصديق اختلف العلماء في ثبوتها، فمنهم من قال: أنها تثبت بالنص، ومنهم قال: ثبتت باختيار الناس له وانتخابه.
والذين قالوا: إنه بالنص اختلفوا، فمنهم من قال: بالنص الجلي، ومنهم من بالنص الخفي، والصوب أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب من الصحابة، وأهل الحل والعقد.
ويدل على ذلك أمور: الأمر الأول: أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، واختاروا خليفة منهم هو سعد بن عبادة، وأسرع المهاجرون وأراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، وزور في نفسه كلاما فأسكته أبو بكر وتكلم هو وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن الناس لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وقد رضيت لكم أحد أمرين، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة، قال عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله، فبايعه، ثم تتابع الناس فبايعوه.
فلو كان هناك نص لذكره عمر في هذا المقام الحرج في الاختلاف، وذكره الصديق، ولم يعلل بالسيادة والوزارة فدل ذلك على أنه ليس هناك نص.
والأمر الثاني هو أن عمر رضي الله عنه لما طعن قال له للناس: استخلف، فقال: إن استخلف، فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإلا استخلف فلم يستخلف الذي هو خير مني يعني: رسول الله، قال هذا في جمع من الصحابة، ولم ينكروا عليه، ولو كان هناك نص لأنكروا ذلك، مما يدل على أن الصواب هو أن الصحابة اختاروا أبا بكر لأدلة أرشدتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في مرض موته في الصلاة، ففهم الصحابة أنه هو الخليفة، وأنه هو الأحق بالخلافة، قال: (مروا أبو بكر فليصل بالناس)، وكذلك الأدلة التي تدل على فضائله.
والإمامة تثبت بواحدة من الأمور الثلاثة: الأمر الأول: الانتخاب والاختيار، كما ثبتت الخلافة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ ثبتت له الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، وإذا كان الاختيار للمسلمين فإنهم يختاروا من توفرت فيه الشروط، ومنها: أن يكون قرشيا، فالإمامة تكون في قريش إذا وجد منهم من يقيم الدين، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش)، وفي لفظ: (ما أقاموا الدين)، وفي لفظ: (بقي منهم اثنان)، فدل على أن الخلافة تكون في قريش، إذا وجد منهم من يقيم الدين، فإن لم يوجد منهم من يقيم الدين، يختار من غيره بهذا الخير، وذلك إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين ولأهل الحل والعقد.
والأمر الثاني: تكون الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، كما استخلف الصديق رضي الله عنه، عمر، وعهد بالخلافة إلى عمر فثبتت له الخلافة.
والأمر الثالث: بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، فإن جاء آخر ينازعه وقد اجتمعوا على الأول قتل الثاني، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من جاءكم وأمركم جميع فاقتلوه كائنا من كان)؛ لأن الثاني أراد أن يفرق الأمة، فإذا غلب أحد الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، ولو لم يكن من قريش، ويدل على ذلك حديث إسحاق بن أبي بر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف - وفي لفظ - ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة).
وجميع الولايات الآن ومن قبلها خلافة بني أمية، وبني العباس كلها كانت بالقوة والغلبة.
ولم تكن الخلافة بالاختيار والانتخاب إلا في اثنين من الخلفاء الراشدين فقط، وهم: الصديق، وعثمان، حيث ثبتت له الخلافة باختيار المسلمين وانتخابهم، إذ جعل عمر الشورى بين ستة، ثم في النهاية أجمعوا على اختيار عثمان رضي الله عنه.
أما علي رضي الله عنه فثبتت له الخلافة باختيار أغلب أهل الحل والعقد، ونازعه في هذا معاوية وأهل الشام فلم يبايعوه؛ لا لأنهم لا يرون أنه ليس أهلا للخلافة، أو لأن معاوية يطلب الخلافة لنفسه، بل لأنهم يطالبون بدم عثمان فقط.
وعلي رضي الله عنه لا يمانعهم، ولكنه كان يقول: لا يمكن الآن أن نقتص من قتلة عثمان؛ لأن الوقت وقت فتنة، ولا يعرف أحد بعينه، وهناك من تنتصر له قبيلته، فإذا هدأت الأمور أمكن أن نأخذ بدمه، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: إذا ترك القتلة فسيستشري الفساد، ويزيد شرهم وفسادهم، ولأنهم سوف يتعدون إلى غيره فيقتلون آخرين، وعلي رضي الله عنه يرى أنه هو الخليفة إذ بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وأنه يجب على معاوية وأهل الشام أن يطيعوه، وأنهم ليسوا من المؤلفة قلوبهم، فرأى أن الواجب إخضاعهم، فنشأ النزاع.
وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه، وعلموا أنه محق، واستدلوا بقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات:9]، فأهل الشام ومعاوية بغاة، لكن لا يعلمون أنهم بغاة، ويدل على أنهم بغاة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية)، فقتله أهل الشام، لكنهم مجتهدون ولا يعلمون أنهم بغاة.
وأشكل هذا الأمر على بعض الصحابة كـ أبي بكرة وأسامة بن زيد وسلمة بن الأكوع وغيرهم وخافوا من الأدلة التي فيها القتال في الفتنة، واستدلوا بالنصوص التي فيها أن الإنسان يجتنب الفتنة، وأنه إذا كان قائما فليقعد وإذا كان قاعدا فليضطجع فاعتزلوا الفريقين، والصواب مع علي رضي الله عنه.
وترك ابن عمر فما بايع أبدا حتى انتهى الخلاف، وبويع لـ معاوية رضي الله عنه، واجتمع الناس عليه، فبايعوا وأمر أولاده أن يبايعوه، فسمي العام عام الجماعة.
فـ علي ومن معه مجتهدون ومصيبون لهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مجتهدون ومخطئون، فلهم أجر في الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا، فهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، ومخطئ له أجر.
والمقصود أن الخلافة ثبتت في الصديق بالاختيار والانتخاب على القول المختار.
وقال بعض العلماء: ثبتت بالنص الجلي، وقال آخرون: ثبتت بالنص الخفي، والذين استدلوا بالنص عموما، قالوا: إن من النص قول النبي صلى الله عليه وسلم (ائتوني بدواة أكتب لكم كتابا حتى لا تضلوا، فلما اختلفوا قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
هذا إخبار عن المستقبل، يعني يأبى الله قضاء وقدرا والمسلمون اختيارا وانتخابا إلا أبا بكر، وكذلك الرؤيا المنامية التي فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم وزن بـ أبي بكر فرجح، ثم وزن أبو بكر بـ عمر فرجح، ثم وزن عمر بـ عثمان فرجح)، وكذلك الرؤيا المنامية الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت أني أنزع بدلو وفيه: فجاء أبو بكر فنزع نزعا ضعيفا، ثم استحالت غربا فنزعها عمر بن الخطاب) فقالوا: هذه خلافة النبوة رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأدلة كلها ليست صريحة وليست نصا، وإنما هي مبشرات وكشف للمستقبل، وإرشاد للمسلمين أن يختاروا أبا بكر.
وليس المراد بأهل الحل والعقد أهل هذه الانتخابات التي تسمعون في هذه الأيام فهذه الأصوات كلها باطلة، فالسفهاء والأطفال والنساء، ليس لهم شيء، وإنما أهل الحل والعقد هم رؤساء القبائل والعشائر وأهل الفضل، وأولو العقول، الذين إذا بايعوا نابوا عن غيرهم، أما هذه الانتخابات والأصوات فكلها جاهلية، ثم أيضا يدخلها الرشوة، والإجبار على الأصوات، فكلها باطلة، وليس فيها تحكيم للشريعة من الأساس.
[أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم].
قوله: (أو بمبايعة أحد منهم له)، هذا قول من الأقوال، ولا يكفي مبايعة واحد، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والقعد كلهم.
[أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف.
وقد نص عليه الشافعي.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان.
وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له
[ويجب أن يكون ذكرا، حرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، مجتهدا، بصيرا، سليم الأعضاء، خبيرا بالحروب والآراء، قرشيا على الصحيح].
تشترط إذا كانت الخلافة عن طريق الاختيار والانتخاب، ولم تتوفر هذه الشروط إلا بـ الصديق، وعثمان، وعمر، وعلي أما غير هؤلاء فلم تتوفر فيهم.
أما عن طريق الاستخلاف أو البيعة فتصح الخلافة مع عدم وجود بعض هذه الشروط.
فالمرأة لا يجوز اختيارها؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
والخلفاء الذين استخلفوا وهم مماليك، ثبتت لهم الخلافة.
وهناك أشخاص لا تثبت لهم الولاية بحال من الأحوال وهم: المرأة، والكافر، والمجنون، والصغير الذي لم يبلغ.
أما غير هؤلاء فتثبت لهم الخلافة إن كانت عن طريق الاستخلاف أو البيعة.
[ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض].
وبعضهم اشترط أن يكون من قريش ومن بني هاشم، وبعضهم قال: أيضا من بني هاشم ومن ولد علي، وقال بعضهم: من ولد العباس، وكل هذه شروط، ضيقه، أما اشتراط المعصوم فهذا أصل لدى الروافض، ويستدلون على ذلك بأدلة فيها ذكر العدد ويقولون: المقصود بهم الأئمة الاثني عشر وهذا باطل؛ إذ ليس هناك معصوم، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
[ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)].
ولا يجب الخروج على ولي الأمر إلا بشروط: الشرط الأول: أن يقع منه الكفر، وهذا الكفر موصوف بثلاثة أوصاف: كفر بواح صريح، واضح لا لبس فيه عندكم فيه من الله برهان.
والثاني: وجود البديل المسلم.
والثالث: القدرة.
فإذا وجدت هذه الشروط وجب الخروج، أما أن يزال كافر ويؤتى بدله بكافر، فلن يحصل المقصود، وكذلك القدرة، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، فإن لم يستطيعوا يصبروا ولو كانت الدولة كافرة، فسييسر الله الخروج.
أما ما يحصل من الانقلابات العسكرية، فيذهب عسكري ويأتي عسكري، وتذهب دولة كافرة وتأتي دولة كافرة، فلم يحصل المقصود.
أما إذا فقدت بعض الشروط فلا يجب الخروج؛ وذلك لأن الخروج على ولي الأمر يترتب عليه مفاسد عظيمة منها: إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال أحوال الناس، واختلال الاقتصاد والزراعة والتجارة والتعليم، ويتربص الأعداء بهم الدوائر، ونظرا لانشغالهم يتدخل الأعداء باسم حل المشكلات، إلى غير ذلك من المفاسد التي تتريب على الخروج على ولي الأمر، أما الفسق والمعصية فهذه مسألة خاصة به، وتكون النصيحة مبذولة من قبل العلماء فيما يليق بولاة الأمور، فإن حصلت الإزالة فالحمد لله، وإن لم تزل فلا يضرنا؛ لأن الصبر على جور الولاة يترتب عليه تكفير السيئات، ورفع الدرجات، فهو من جنس المصائب.
ولأن هذا فيه ردع للناس وزجر ليتوبوا إلى الله؛ لأن الولاة ما سلطوا على الرعية إلا بسبب فساد أعمالهم، والله تعالى يقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} [الشورى:30]، فإذا أراد الناس أن يتخلصوا من ظلم الجائر، فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويصلحوا أعمالهم، حتى يصلح الله لهم ولاته، فكما تكونوا يولى عليكم، بل قال تعالى لأفضل الناس وهم الصحابة ومعهم نبيهم عليه الصلاة والسلام لما حصل لهم ما حصل في غزوة أحد قال الله: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران:165]، فإذا كان الصحابة وهم خير الناس ومعهم نبيهم خير الناس أفضل الخلق يقال لهم: {قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران:165]، فكيف بمن سواهم؟! فإن قيل: هناك من المشايخ من يجوز الخروج على ولاة الأمر هذه الأيام، قلنا: قد بين الله لنا ماذا نعمل عند وجود الخلاف فقال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59]، وقال: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} [الشورى:10]، فإذا تنازع الناس في المسألة وجب عليهم ردها إلى الكتاب والسنة، وإذا رددنا ما نحن فيه من مسألة إلى الكتاب والسنة وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا أن ترو كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان)، فهذا نص صريح في أنه لا يجوز الخروج إلا إذا كفروا كفرا صريحا.
وكذلك أيضا حديث عوف ابن مالك الأشجعي، في صحيح مسلم حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم - يعني ولاتكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيف قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وهذا احتج به العلماء على كفر تارك الصلاة؛ لأنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يجوز الخروج عليهم، ولا يكفر إلا إذا فعل كفرا بواحا، فدل على أن ترك الصلاة كفر بواح.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة)، رواه مسلم في الصحيح بهذا اللفظ وهو صريح، وهناك أدلة كثيرة تدل على مثل هذا.
[وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، لكن هذا لعذر، وقد مدح على ذلك.
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان)، وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين.
وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة] قول الكرامية باطل، فإن الإمام هو علي فقط، أما معاوية فلم ينصب نفسه إماما.
[قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب.
ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى].
الأصل أنه لا يكون إلا إمام مسلم واحد.
ويروى عن هارون الرشيد أنه رأى سحابة، فقال لها: أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك.
فكل الأرض يملكها الخليفة، لكن إذا لم يمكن هذا، وصار الاجتماع على واحد يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والحروب والتناحر جاز أن يكون كل خليفة في إقليمه، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]، وعليه يجب طاعة كل خليفة في مملكته، كما هو الآن موجود في العصر الحاضر، وما هو موجود في العصر الحاضر الآن لا نضير له في المستقبل، إذ أصبحت هناك دويلات كثيرة، فهذا للضرورة لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، ومثلما ذكر الحافظ ابن كثير، إذ كان في زمن واحد خلفاء بني العباس في الشرق، والأندلس في الغرب، والفاطميين بمصر وهذا لتباعد الأقطار، فيكون كل خليفة في مملكته وقطرة، وتجب طاعته.
قال الله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:31 - 33].
[هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31].