هذه الآية الكريمة فيها دليل على فضل وشرف العلم، وأن العلم عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه أسماء كل شيء.
وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31] فيها دليل على فضل شرف العلم، وأن العلم له شرف عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه الله أسماء كل شيء، فالعلم فضله عظيم، وشرفه جسيم, فآدم عليه الصلاة والسلام فضله الله وشرفه على الملائكة, وهم ملائكة يسبحون بحمده ويقدسونه، كما قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6] فلما اختصه الله تعالى بالعلم الذي لم يؤته الملائكة, شرف عليهم وفضل، حتى إن الحيوانات المعلمة تفضل على غيرها, فالكلب المعلم له مزية على غيره, فيجوز اقتناء الكلب المعلم, والكلب غير المعلم لا يجوز اقتناؤه للصيد، فالمعلم يصطاد به، فشرف على سائر الكلاب بالعلم، فكيف بالآدمي! وهذا مما يدعو المسلم إلى أن يحرص على طلب العلم، والعلماء ورثه الأنبياء.
والمراد بالعلم الذي وردت النصوص بفضله وشرفه هو علم الشريعة، وعلم الحلال والحرام, وفقه النصوص, وفقه الأسماء والصفات.
[قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31] قال: علمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب, فقيل: هذا الحمار, هذا الجمل , هذا الفرس.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، إنسان ودابة, وسماء وأرض, وسهل وبحر, وخيل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: علمه اسم الصحفة والقدر، قال: نعم, حتى الفسوة والفسية].
قوله: (حتى الفسوة والفسية)؛ لأنه مكبر ومصغر.
[وقال مجاهد: (وعلم آدم الأسماء كلها) قال: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء.
وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل شيء.
وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة, وقال حميد الشامي: أسماء النجوم, وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم, واختار ابن جرير: أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: (ثم عرضهم) , وهذا عبارة عما يعقل, وهذا الذي رجح به ليس بلازم].
والصواب أن المراد العموم، فالله علمه أسماء كل شيء, من الملائكة، والآدميين، والذوات، والصفات والأفعال، قال الله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31] وكل من صيغ العموم, فتشمل أسماء الذوات والصفات والأفعال، أما تخصيصها بأسماء الملائكة أو بأسماء الذرية، فهذا تخصيص بغير مخصص.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذا الذي رجح به ليس بلازم؛ فأنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب, كما قال تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} [النور:45].
وقد قرأ عبد الله بن مسعود: (ثم عرضهن)، وقرأ أبي بن كعب: (ثم عرضها) أي: المسميات, والصحيح: أنه علمه أسماء الأشياء كلها، ذواتها وصفاتها وأفعالها.
كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفسية، يعني: أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر، ولهذا قال البخاري في تفسير هذا الآية في كتاب تفسيره من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
وقال لي فريسة: حدثني يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس, خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحا؛ فأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس به علم فيستحي، فيقول: ائتوا خليل الرحمن, فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيقول: ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه، فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله, وكلمة الله وروحه, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)].
الشيخ: إذا كان هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستحون من ربهم حينما فعلوا أشياء قد تكون خلاف الأولى, مثل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعتذر فيستحي من ربه أنه كذب في ثلاث كذبات يجادل بهن عن دين الله, وموسى عليه السلام قتل نفسا قبل النبوة, وعيسى ما ذكر ذنبا, ونوح لما سأل ربه ما ليس له بعلم، وهو نجاة ابنه، فإذا كان هؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام يستحون من الله, ونحن الآن الكثير منا يبارز الله بالعظائم، ولا يستحي من الناس ولا من الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فالواجب تقوى الله عز وجل، والاقتداء بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام في الاستحياء من الله, وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: أن الذي لا يستحي من الله ولا يستحي من الناس يفعل ما يشاء, وثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوما: (استحوا من الله الحق حق الحياء, قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحي من الله, قال عليه الصلاة والسلام: إن من استحى من الله فإنه يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويترك زينة الدنيا، ويذكر الموت والبلى) أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث أن عيسى عليه السلام قال: الناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
ولكن هذا ليس بذنب؛ لأنه لم يرض بذلك، ومع ذلك فإنه اعتذر عليه الصلاة والسلام.
[(فيقول لست هناكم ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع)].
هذا الإذن هو معنى قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة:255]، فمحمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وأفضل الخلق على الإطلاق، لا يشفع حتى يؤذن له فيسجد ويفتح الله عليه بمحامد يلهمه في ذلك الموقف، ويظل ساجدا حتى يأتيه الإذن من الله فيقول الله له سبحانه وتعالى: (يا محمد أرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) وهذا يشبه قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة:255].
ثم الذين يشفع فيهم لا بد أن يأذن الله فيهم، فيحد الله له حدا بالوصف فيخرجهم من النار، فالشفاعة لا بد فيها من شرطين، حتى أفضل الخلق رسول الله لا يشفع إلا إذا تحقق هذان الشرطان: إذن الله للشافع أن يشفع, ورضاه عن المشفوع له.
أما الشفاعة العظمى فهي عامة لأهل الموقف جميعا، وتكون لفصل القضاء, ولجميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم حتى يفصل بينهم، وهي المقام المحمود.
[(فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي مثله، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة)].
قوله: (فإذا رأيت ربي مثله) يعني: وقعت له ساجدا حتى يقال: (يا محمد، ارفع راسك وسل تعط) ففي كل مرة من المرات يسجد حتى يأتيه الإذن عليه الصلاة والسلام.
[(فإذا ذكر معنى قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة) فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: {ثم عرضهم على الملائكة} [البقرة:31] يعني: المسميات، كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة:31]
وقال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31] ثم عرض الخلق على الملائكة.
وقال ابن جريج عن مجاهد: ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إن كنتم صادقين} [البقرة:31] إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {إن كنتم صادقين} [البقرة:31] إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة.
وقال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: (إن كنتم صادقين) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30] من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك (إن كنتم صادقين) في قيلكم: إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري].
في نسخة: (عصاني ذريته) بدون واو.
فالمؤلف نقله عن ابن جرير فيحتمل أن الواو سقطت من ابن جرير، لكن لها وجه.
[وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين].
قال الله تعالى: [{قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة:32].
[هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى؛ ولهذا قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة:32] أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: (سبحان الله) قال: تنزيه الله نفسه عن السوء، ثم قال عمر لـ علي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال.
قال: وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي، قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله قال: اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء].
يعني: عن كلمة سبحان الله، أو عن قول: سبحان الله.
ولهذا يشرع للمسلم في الأسفار إذا هبط واديا أن يسبح الله وإذا علا مرتفعا أن يكبر وهذا مناسب؛ لأن الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير، وإذا هبط ينزه الله عن النقص وعن السهول.
[قوله تعالى: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] قال زيد بن أسلم قال: أنت جبرائيل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب، وقال مجاهد في قول الله: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة:33] قال: اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء.
وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33].
أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} [طه:7]، وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} [النمل:25] {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} [النمل:26].
وقيل في قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] غير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33]، قال: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار.
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30] الآية فهذا الذي أبدوا.
{وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري، واختار ذلك ابن جرير، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] فكان الذي أبدوا هو قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة:30] وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود:119].
قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل، وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو: أن معنى قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون} [البقرة:33] وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض، وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شيء، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم].
هذا هو الصواب وهو أنه عام: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] أي: ما يبديه الملائكة وما يخفونه.
[والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة:30] والذي كانوا يكتمون ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} [الحجرات:4] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم.
قال: وكذلك قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33]].
قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة:34].
[وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضا كثيرة، منها: حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام: (رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته) وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة]
أي: أن هناك طائفة من الملائكة يسمون الجن, خلقوا من نار السموم، والملائكة خلقوا من نور, والجن الذين هم أحد الثقلين: الجن والإنس، ومنهم إبليس، هم غير الجن الذين هم طائفة من الملائكة، فتكون كلمة الجن كلمة مشتركة بين طائفة من الملائكة، والجن الذين هم أحد الثقلين في الأرض.
قال المؤلف رحمه: [وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي].
أي: هذا الحي من الملائكة فإنهم خلقوا من نار.
[قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين].
فعلى هذا يكون الجن خلقوا من مارج من اللهب وهو لسان النار، وأما طائفة من الملائكة فخلقوا من نار السموم.
[فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30] فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال الله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30] يقول: إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الطيب من حمأ مسنون منتن].
والأقرب أن يكون الصلب؛ لأن هذا بمعنى اللازب، وهو موجود في ابن جرير.
[وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى: {من صلصال كالفخار} [الرحمن:14] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا كالصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء:11] قال: ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2] بإلهام الله، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم، قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: {اسجدوا لآدم فسجدوا} [البقرة:34] فسجدوا كلهم أجمعون {إلا إبليس أبى واستكبر} [البقرة:34] لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا.
{خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف:12] يقول: إن النار أقوى من الطين قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها].
هذا كله من أخبار بني إسرائيل.
قال: [ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} [البقرة:31] أي: يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إن كنتم صادقين} [البقرة:23] إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم].
قوله: (موجدة الله) يعني: غضب الله عليهم، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
وعند ابن جرير: (فلما علم الملائكة مؤاخذة الله).
ومؤاخذة بمعنى: موجدة، وسبق أن الملائكة إنما سألوا عن الحكمة وهذا لا يوجب الغضب، يعني: إن الله ما غضب عليهم أو آخذهم لأنهم سألوا عن الحكمة، فلم سألوا اعتراضا.
[قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قالوا سبحانك} [البقرة:32] تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك {لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة:32] تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة:33] يقول: أخبرهم بأسمائهم، {فلما أنبأهم بأسمائهم} [البقرة:33]، قال: (ألم أقل لكم) أيها الملائكة خاصة {إني أعلم غيب السموات والأرض} [البقرة:33] ولا يعلم غيري {وأعلم ما تبدون} [البقرة:33] يقول: ما تظهرون {وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وهذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها].
هذا كلام صحيح، فالرواية من أخبار بني إسرائيل؛ لأن ابن عباس يأخذ عن بني إسرائيل.
وظاهر الآية العموم، فقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [البقرة:34]، عام، والتخصيص يحتاج إلى دليل.
[وهذا الإسناد إلى ابن عباس يرويه به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن وإنما سموا الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة].
عند ابن جرير: فوقع في صدره كبر أو كبره.
[فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30] فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، قالوا: ربنا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة:30] يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل للأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب! إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا، واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: {إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [الحجر:29] فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، فكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: {من صلصال كالفخار} [الرحمن:14].
ويقول: لأمر ما خلقت، ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة: قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: يرحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء:37].
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك، (أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) والصغار: هو الذل.
قال: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة:31]، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة:31] أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة:32].
قال الله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة:33] قال: قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة:30] فهذا الذي أبدوا، (وأعلم ما تكتمون) يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع في إسرائيليات كثيرة].
هذا من الإسرائيليات، ولو استكفى ببعضها لكان أولى.
[فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم].
هذا هو الصواب فهو من الإسرائيليات.
[والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول: على شرط البخاري].
لأن الحاكم رحمه الله متساهل، فيرى مثل هذا ويقول: على شرط الشيخين، وذلك من تساهله، ويقال: إن الحاكم رحمه الله لما جمع المستدرك أراد أن ينقحه فاحتضرته المنية قبل أن يسوده وينقحه فوقع فيه ما وقع.
[والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، بأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم، وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر، وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف:50]، ولهذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد -يعني: ابن العوام - عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد، وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء، وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما، رواه ابن جرير، وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير].
كل هذه من أخبار بني إسرائيل، فابن عباس يروي كثيرا عن بني إسرائيل.
[وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس؛ فلذلك قال تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} [الكهف:50].
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقا فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر فقال: {إني خالق بشرا من طين} [ص:71] اسجدوا لآدم، قال: فأبوا، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده؛ فإن فيه رجلا مبهما ومثله لا يحتج به، والله أعلم].
كلها من أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب.
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: {وكان من الكافرين} [البقرة:34] من الذين أبوا فأحرقتهم النار.
وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية: {وكان من الكافرين} [البقرة:34] يعني: من العاصين، وقال السدي: {وكان من الكافرين} [البقرة:34] الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد.
وقال محمد بن كعب القرظي: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى: {وكان من الكافرين} [البقرة:34]].
[وقال قتادة في قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [البقرة:34] فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن يسجد له ملائكته، وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا} [يوسف:100] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا].
كان في شريعة يعقوب ويوسف تجوز التحية، ولهذا لما قدم يعقوب عليه الصلاة والسلام وأبناؤه من فلسطين إلى مصر على يوسف رفعهم على العرش وخروا له سجدا سجود تحية لا سجود عبادة، وكان هذا تأويلا للرؤيا؛ لأنه لما رأى وهو صغير: {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف:4] قال بعد مدة طويلة: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف:100] وذلك حين سجدوا له، وكان هذا جائزا في شريعة من سبقنا، أما في شريعتنا التي هي أكمل الشرائع فلا يجوز لغير الله سجود لا تحية ولا سجود إكرام.
[قال معاذ: (قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ورجحه الرازي.
وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78]].
وهذا غلط؛ لأنه مخالف للنص، قال الله تعالى: {اسجدوا لآدم} [البقرة:34] فالسجود لآدم، لكنه عبادة لله, فالله تعالى أمرهم أن يسجدوا لآدم تعبدا له سبحانه, وإذا أمر الله بأمر وجب امتثال أمره.
ومن ذلك أمر الله أن نقبل الحجر الأسود تعبدا له, وأن نطوف بالبيت تعبدا له لا للكعبة.
[وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما، وهي طاعة لله عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين، وهما كونه جعل قبلة؛ إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض، وهو ضعيف كما قال].
الصواب: أن هذا سجود صحيح وحقيقي، وهو سجود إكرام لآدم، وعبادة لله عز وجل؛ لأنه الآمر بذلك.
[وقال قتادة في قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة:34] حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال: أنا ناري، وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام.
قلت: وقد ثبت في الصحيح: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين: {وكان من الكافرين} [البقرة:34] أي: وصار من الكافرين؛ بسبب امتناعه كما قال: {فكان من المغرقين} [هود:43] وقال: {فتكونا من الظالمين} [البقرة:35] وقال الشاعر بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها].
قوله: بتيهاء، يعني: بمكان تيه كصحراء يتيه فيها الإنسان والمطي يعني: الإبل.
وقوله تعالى: {وكان من الكافرين} [البقرة:34]، يعني: أنه صار من الكافرين المستكبرين، وقول الشاعر: (قد كانت) يعني: قد صارت، وهذا هو وجه الاستشهاد.
[أي: قد صارت.
وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين، ورجحه القرطبي وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا: من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض الصوفية والرافضة، هذا لفظه، ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني: والولي الذي يقطع له بذلك الأمر.
قلت: وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ، حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان:10]].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد ذات مرة: خبأت لك خبيئة، وابن الصياد رجل من اليهود، كان يظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدجال، وقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا بد أن يظهره الله، فإن كان هو فأنا كافيكم، وإن كان غير الدجال فلا خير لك في قتله، ثم بعد ذلك تبين للنبي أنه ليس الدجال الأكبر، بل هو دجال من الدجاجلة, أما الدجال الأكبر فيخرج في آخر الزمان كما بين للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي قال له: خبأت لك خبيئة -ينظر ماذا عنده- فقال: هو الدخ.
فقال النبي: اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك.
[وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة].
الخوارق قد يجليها الله على يد الأنبياء وعلى يد الأولياء الصالحين ببركة اتباعهم الأنبياء, وقد يجليها الله على يد المشعوذين والسحرة, وآخرهم الدجال الذي يخرج في آخر الزمان, إذ له خوارق عظيمة، منها: أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت, ويشق رجلا نصفين فيستوي قائما، ولن يسلطه الله على غيره, فكل هذه خوارق، وهي لا تدل على الكرامة أبدا، بل إن كان هذا الشخص مستقيما على طاعة الله فهذه كرامة حصلت له ببركة اتباعه النبي, كمثل ما حصل لـ أسيد بن خضير وعباد البشر , حيث خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهم حتى وصل إلى بيته, وكما حصل لـ عمر رضي الله عنه, حيث كان يخطب على المنبر فدعا: يا سارية! الجبل الجبل، وكان جيشه في العرق، وكما حصل للعلاء بن الحضرمي حيث عبر هو وجيشه نهر دجلة والفرات على أقدامه والخيل, لكن بعد أن نظر إليهم وطاف بهم خلف العدو، في الليل ركعا وسجدا يبكون ويتضرعون, وفي النهار مجاهدين في سبيل الله, أما الشخص الذي تجري على يده الخوارق وهو وهو منحرف فهذه شعوذة، فقد يطير الشخص في الهواء كما يستخدم الشياطين بعض السحرة, كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله, وتوقفه بعرفة في يوم عرفة، ثم يرجع في نفس اليوم, وظن أنه قد حج وهو لم يحرم ولم يأت بشيء من المناسك, وقد تغوص به الشياطين في البحر، فالشياطين تعمل مثل هذه الأشياء.
فالخوارق إذا قد تجري على يد الأنبياء، فتكون من المعجزات، وقد تجري على يد الصالحين فتكون من الكرامات، وقد تجري على يد المشعوذين والسحرة فتكون من الشعوذة والحالات الشيطانية, فالعبرة في استقامة الشخص وتمسكه بدينه.
[وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض؟ وقد رجح كلا من القولين طائفة، وظاهر الآية الكريمة العموم: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحجر:30] فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم، والله أعلم].
قال الله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة:35 - 36].
[يقول تعالى إخبارا عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث شاء، ويأكل منها ما شاء رغدا، أي: هنيئا واسعا طيبا, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضيل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قلت: (يا رسول الله! أرأيت آدم أنبيا كان؟ قال: نعم، نبيا رسولا يكلمه الله قبيلا) يعني: عيانا].
يقول سبحانه: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [البقرة:35] فيها ابتلاء الله تعالى لآدم وزوجه حواء، حيث أدخلهم الجنة، وأباح لهما أن يأكلا مما فيها إلا شجرة واحدة استثناها سبحانه وتعالى، ونهاهما عن أكلها؛ لحكمة بالغة يعلمها سبحانه وتعالى، ومن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك أن آدم وزوجه حواء سيأكلان من هذه الشجرة ثم يخرجان من الجنة, ثم يتوب الله عليهما, ثم يخرج من ذريتهما عبادا صالحين وأنبياء ومرسلين, ومطيعين وعصاه, فله حكمة بالغة سبحانه وتعالى.
أما هذا الحديث فهو حديث ضعيف، ولكن لا شك أن آدم نبيا مكلما ورسولا إلى ذريته.
[فقال: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة:35]، وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى].
الراجح القول الأول بأنها في السماء، أما القول بأنها في الأرض فيقولون بأنها بستان.
[وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها، فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة:33] إلى قوله: {إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة:32]، قال: ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها].
البلاغ عن ابن عباس منقطع، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
فنحن نعلم أن الله تعالى خلق حواء من آدم، كما قال الله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} [الأعراف:189]، وقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء:1]، وأما هذا التفصيل من أنه وقع عليه النعاس وأنه لم يهب من نومه حتى خلق الله له حواء، فهو من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم.
[فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبلا: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [البقرة:35]].
لأن من يفعل المعاصي فهو ظالم لنفسه؛ فالمعاصي كلها ظلم, وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم ظلم العباد فيما بينهم في الدماء أو الأموال أو الأعراض، ثم ظلم الإنسان لنفسه فيما بينه وبين الله, والأكل من الشجرة ظلم من آدم وحواء لأنفسهما فيما بينهما وبين الله، ولهذا قال تعالى: {فتكونا من الظالمين} [البقرة:35]؛ لأن من خالف أمر الله فقد تعدى وظلم، والله نهاهما عن أكل الشجرة، وقال لهما: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا} [البقرة:35] إن أكلتم منها {من الظالمين} [البقرة:35] لتعديكما ما حده الله.
[ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة، كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبو صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة.
قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي.
قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي.
قال الله: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما} [البقرة:35]].
بيان الشجرة التي نهي عنها آدم وحواء
[وأما قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة:35] فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم، وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، وقال السدي أيضا في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة:35]: هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني، حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر.
وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم: أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة.
وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر، وألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة:35] قال: النخلة.
وقال ابن جرير عن مجاهد {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة:35] قال: التينة.
وبه قال قتادة وابن جريج.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث.
وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة].
وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، بل كلها تخمين, والله أعلم بهذه الشجرة، وليس في تعيينها فائدة, إذ لو كان في تعيينها فائدة لعينها الله سبحانه وتعالى, ولكن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن الشجرة المعينة التي عينها لهما، فأكلا منها، وسواء كانت هي التينة، أو النخلة، أو البر أو غيرها, فليس هناك دليل صحيح يثبت هذه الشجرة، ولا يترتب على ذكرها فائدة, ولا على جهلها مضرة.
[قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم.
وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب.
وهذا كلام جميل وهو الحق، حيث إن شجرة معينة عينها الله لهما ولم يخبرنا بها, وإذا علمنا فلا ينفعنا هذا, وإذا جهلنا فلا يضرنا, لكن العبرة في أن الله نهاهم عن الشجرة فعصيا وأكلا منها, فأخرج من الجنة، والعبرة أيضا: أن من عصى الله تركت المعاصي عليه آثارها, فالمعاصي لها شؤم وآثار, والله تعالى أخرج آدم وحواء بالمعصية من الجنة, فالمعاصي والذنوب لها آثار, ولها شؤم, هذه هي العبرة, أما أن تكون شجرة التين، أو النخلة، أو العنب، فمعرفة ذلك لا ينفع، والجهل به لا يضر.
[وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها} [البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: (عنها) عائدا إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود: (فأزالهما) أي: فنحاهما].
وجاء في بعض الأقوال: إنها شجرة الخلد، وكان يأكل منها الملائكة فيخلدون, وهذا ليس بصحيح؛ فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون, وإنما هم عباد مكرمون {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء:27].
[ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة: (فأزلهما) أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام: {فأزلهما الشيطان عنها} [البقرة:36] أي: بسببها، كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} [الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى {فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة:36] أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة:36] أي: قرار وأرزاق وآجال (إلى حين) أي: إلى وقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كـ السدي بأسانيده، وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا ولكن استحياء)].
وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة قتادة وهو مدلس، وفيه انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب، فهو ضعيف، لكن المعنى صحيح، فإن الله أخبر: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} [الأعراف:22]، فيدل على شؤم المعاصي؛ لأنهما لما عصيا الله سقط اللباس وبدت عوراتهما, وجعلا يأخذان من ورق الشجرة يستران عورتهما، فهو يدل على أن المعاصي تكشف الإنسان.
وقوله: (فأزلهما) قرأها حمزة: (فأزالهما) وقراءة حفص القراءة المشهورة، وقراءة باقي القراء: (فأزلهما الشيطان).
[وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم! أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم! اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين).
هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما].
قوله: معضل، يعني: سقط من السند اثنان، إذ بين قتادة وبين كعب اثنان، وهو أشد من المنقطع.
[وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد].
وفي نسخة ابن باكويه وهو خطأ، والصواب أنه محمد بن أحمد بن بالويه شيخ الحاكم.