يعني: يحاسب نفسه حتى تستقيم على طاعة الله.
قال: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل وسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة:44]، والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود:88]، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الأخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن من ارتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف].
هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموما، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس -يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضا وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله.
ولهذا قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم [وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت: لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، هذا حديث غريب من هذا الوجه.
[وقال أبو العالية في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: (والصلاة) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45]، الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال: حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).
ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن أبي عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ويقال أخو حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى)، حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا رضي الله عنه يقول: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح)].
وهذا سند لا بأس سند جيد، وأبو إسحاق صرح بالسماع
وعبد العزيز بن اليمان ابن أخي حذيفة بن اليمان.
[قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه مر بـ أبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد؟ ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم، قال: قم فصل فإن الصلاة شفاء)].
(أشكم درد) هذه بالفارسية يعني أيوجعك بطنك؟ وهذا ضعيف؛ دؤاد بن علبة ضعيف وليث بن أبي سليم ضعيف والحديث مداره على الليث يعني فيه ضعيفان دؤاد وليث ما يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية.
[قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة:45]].
"أطال الجلوس" محتمل يعني: في التشهد، في آخر التشهد محل دعاء.
[وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله: (إنها لكبيرة) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} [القصص:80]، وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت:34 - 35] أي: وما يلقى هذه الوصية (إلا الذين صبروا وما يلقاها) أي: يؤتاها ويلهمها إلا {ذو حظ عظيم} [فصلت:35]، وعلى كل تقدير فقوله تعالى: ((وإنها لكبيرة)) أي: مشقة ثقيلة، (إلا على الخاشعين)].
[قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقا، وقال أبو العالية: (إلا على الخاشعين): الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا على الخاشعين) يعني به: المتواضعين، وقال الضحاك: (وإنها لكبيرة) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه).
وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب! بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين، أي: المتواضعين المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم].
فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن كان تحذيرا لبني إسرائيل فهو تحذير لهذه الأمة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم.
فبنو إسرائيل قد مضوا، والمعني هو هذه الأمة.
[هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: إن الصلاة أو الوصاية لثقيلة (إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، (وأنهم إليه راجعون) أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله: {يظنون أنهم ملاقو ربهم} [البقرة:46]، قال ابن جرير رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخا والمستغيث صارخا].
هذه من الأضداد، يطلق على الشيء وضده، كما تسمى الصحراء مفازة هي مهلكة، ولكن سميت مفازة تفاؤلا بالسلامة، تسمى باسم ضدها وكما يسمى اللديغ سليما تفاؤلا له بالسلامة، وهكذا فالظن المراد به اليقين، (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) يعني: يتيقنون؛ لأن من شك في ملاقاة الله كفر وليس المراد هذا، وإنما المراد اليقين، ويأتي في كثير من المواضع الظن بمعنى اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد]
يعني تيقنوا بألفي مدجج، يهددهم سراتهم يعني: أسراهم، ليس المراد شكوا، بل المراد: تيقنوا، فأطلق الظن وأراد به اليقين، وكذلك في الآية المراد بالظن اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم.
وقال عمير بن طارق:
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
يعني: أجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر.
وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف:53]].
يعني تيقنوا أنهم مواقعوها من غير شك لما رأوها وهم يعلمون أعمالهم الخبيثة تيقنوا أنهم واردون عليها وملاقون لها. هم شاهدوها مع أعمالهم الخبيثة وما شاهدوا من أهوال يوم القيامة تيقنوا بملاقاتها والسقوط فيها نسأل الله السلامة والعافية
[ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظنوا.
وحدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح].
يعني {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة:20] يعني: تيقنت: {فهو في عيشة راضية * في جنة عالية} [الحاقة:21 - 22]. ليس المراد شككت المراد تيقنت
[وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) قال: الظن هاهنا يقين، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم): علموا أنهم ملاقوا ربهم، كقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة:20] يقول: علمت، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: (ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: اليوم أنساك كما نسيتني)].
فقوله: (أظننت أنك ملاقي؟) أي: أتيقنت أنك ملاقي؟ هذا هو الشاهد.
وقوله: (اليوم أنساك كما نسيتني) المراد بالنسيان الأول تركه في النار والإعراض عنه، والنسيان الثاني المراد به ترك أوامر الله واجتراح نواهيه، يعني لما ترك أوامر الله وارتكب المناهي عومل أنساك يعني أعاملك معاملة المنسي كقوله تعالى {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر:19] نسوا الله يعني: نسوا أوامره ونواهيه، (فنسيهم) يعني: عاملهم معاملة المنسي، فأعرض عنهم، وتركهم في النار ولم يبال بهم. نسأل الله السلامة والعافية
[وسيأتي مبسوطا عند قوله تعالى {نسوا الله فنسيهم} [التوبة:67] إن شاء الله تعالى].
قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة:47].
[يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان:32]، وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة:20] قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة:47]، قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان].
يعني على عالم زمانهم المراد بالعالمين عالم زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110]، والمراد: على عالم زمانهم، هذا هو الصحيح؛ يعني بني إسرائيل أفضل الناس في زمانهم، أرسل الله منهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فهم أفضل الناس، ثم جاءت هذه الأمة فكانت أفضل منهم.
[فإن لكل زمان عالما، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} [آل عمران:110].
وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110].
وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ولا يلزم تفضيلهم مطلقا، حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم؛ لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر؛ لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه].
قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة:48].
[لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: {واتقوا يوما} [البقرة:48] يعني: يوم القيامة {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة:48] أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164]، وقال: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس:37]، وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} [لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} [البقرة:48] يعني: من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} [الشعراء:100 - 101].
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} [البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} [آل عمران:91]، وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} [المائدة:36]، وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} [الأنعام:70]، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} [الحديد:15] الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} [البقرة:254]، وقال: {لا بيع فيه ولا خلال} [إبراهيم:31].
قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {ولا يؤخذ منها عدل} [البقرة:48] قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {ولا يؤخذ منها عدل } البقرة 48يعني: فداء.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة].
وهذا من باب الوعيد نسأل الله العافية.
[وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ، وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية.
وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال: قيل: يا رسول الله! ما العدل؟ قال: (العدل الفدية)].
لكن ضعيف هذا فيه مجهول، الصواب القول الأول: أن العدل يعني الفداء، المفاداة، مهما افتدى ولو بملء الأرض ذهبا ما قبل منه إذا كان كافرا وأعماله سيئة، {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} [البقرة:123]، لا تجزي نفس عن نفس ولا يقبل منها فداء فليس هناك إلا الأعمال الصالحة والأعمال السيئة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة:7 - 8]، الذي عمله سيء لا يفيده ولو فدى نفسه بملء الأرض ذهبا ما يقبل منه قال تعالى {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة:36 - 37].
[وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} [البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم، كما قال:{فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق:10] أي: أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا يخلصه منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون:88]، وقال: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد} [الفجر:25 - 26]، وقال: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات:25 - 26]، وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم} [الأحقاف:28] الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {ما لكم لا تناصرون} [الصافات:25]: مالكم اليوم لا تمانعون منا؟! هيهات ليس ذلك لكم اليوم].
لا تمانعون يعني: لا تستطيعون أن تدافعوا وتمنعوا عن أنفسكم، أو تردوا عنكم العذاب ولا تمتنعون منه. السدي عن ابن عباس سند لا بأس
[قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} [البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات].
الرشى جمع رشوة، ولا وجود للرشوة في الآخرة، فالرشوة موجودة في الدنيا، بعض الناس يدفع رشوة ويسلم من العقوبة ومن العذاب، لكن في الآخرة ما فيه
والرشا من المثلثات بالضم جمع رشوة، وهي المال الذي يدفعه الإنسان ليفتدي به، أو يتزلف به حتى يحصل على شيء أو يدفع عنه شيء، والرشى بالكسر الحبل الذي يدلى به في البئر، والرشى بالفتح ولد الغزال.
[بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات:24 - 26]].
الله تعالى لا يضل ولا ينسى لكن المراد بالنسيان الترك تركهم في النار والإعراض عنهم والمبالاة لهم مجازاة لهم على صنيعهم كما أنهم نسوا أوامر الله عوملوا معاملة المنسي
قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:49 - 50].
[يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته؛ رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى].
هذه الآية وما بعدها يمتن الله سبحانه وتعالى بها على بني إسرائيل، ويعدد عليهم نعمه، حيث أنجاهم من آل فرعون، كان فرعون يسومهم سوء العذاب: يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ثم ذكر نعمته بأن فرق بهم البحر، وأنجاهم وأغرق آل فرعون، وجعل يعدد سبحانه وتعالى نعمه المتتابعة.
والخطاب لبني إسرائيل، وهذا إنما حصل لآبائهم وأجدادهم، ولكن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد، فهو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل أهل الكتاب الذين في المدينة في زمن النبوة، وهم ما رأوا هذا ولا حصل لهم، ولكن حصل هذا لآبائهم وأجدادهم؛ ولأن الأحفاد إذا أقروا الأجداد على ما هم عليه فحكم الأحفاد حكم الأجداد؛ لأن الراضي كالفاعل، إذا رضوا بأفعالهم فحكمه حكمهم والامتنان على الآباء والأجداد امتنان على الأحفاد والأولاد، {وإذ نجيناكم من آل فرعون} [البقرة:49] إن هذه النجاة إنما كانت لآبائهم وأجدادهم عندما كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وهو خطاب لليهود في المدينة وقت نزول الوحي: {وإذ نجيناكم} [البقرة:49] يعني: نجينا آباءكم، {وإذ فرقنا بكم البحر} [البقرة:50]، يعني: فرقنا بآبائكم وأجدادكم مع موسى.
وحديث الفتون سبق حديث طويل في سورة طه رواه ابن عباس وأخرجه النسائي بطوله، وأكثره مأخوذ من بني إسرائيل.
[وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها].
يعني يكونوا عمال هم الأيدي العاملة يستعملونهم في الخدمة والعمل والكنس والطبخ، وما أشبه ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقوم بها إلا هم، ولهذا لما أمر فرعون بقتل بني إسرائيل قال له الأشراف إذا تنتهي اليد العاملة ينتهون من يعمل؟ من يعمل؟ من يقوم بهذه الأشغال؟ فعند ذلك رأى رأيا آخر وهو أن يقتل الذكور سنة ويبقيهم سنة؛ حتى تبقى اليد العاملة ولا ينقطع الذكور من بني إسرائيل وكذلك أيضا تقل الكثرة التي يخاف منها؛ إذا قتلهم سنة بعد سنة تقل الكثرة الذي يخاف منهم وتبقى الأيدي العاملة أما إذا تركوا كثروا ويخشى منهم، وإذا قتلوا في كل سنة انتهوا وانتهت اليد العاملة ولا يوجد أحد يشتغل هم العمال بالأعمال الشاقة والأعمال الرذيلة
واختلف في المراد بالآل: فقيل يطلق على الرجل من باب التعظيم، فيقال: آل فلان، ولا يضاف إلى البلدان على المشهور، وجوز بعضهم ذلك كأن يقال: أهل المدينة، حكى أبو عبيد: أهل مكة، أهل الله، وهكذا يضاف إلى موطن الرجل على المشهور، قال عبد المطلب: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال غيره:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلك
يعني في قوله وإن يكن من آل فرعون ما المراد بالآل؟ مثل قول المصلي اللهم الصلاة على محمد وعلى آل محمد ما المراد بالآل؟ قيل آله أزواجه وذريته، وقيل: نسبه وعشيرته، وقيل: أتباعه على دينه، وهذا هو الأرجح أتباعه على دينه، ويدخل فيه أزواجه وذريته وجميع المؤمنين من أزواجه وذريته وبني هاشم، وأتباعه على دينه اللهم الصلاة على محمد وعلى آل محمد يدخل فيه جميع أتباعه على دينه
وآل الرجل يدخل فيهم هو دخولا أوليا، فآل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم دخولا أوليا، وآل فرعون يدخل فيهم فرعون دخولا أوليا، هو أولهم، وأتباعه تبع له.
[وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]].
فجعل تذبيح الأبناء جزء من العذاب.
[وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى يسومونكم: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا]
فهذا عمرو بن كلثوم يمدح قومه وأنهم لا يستجيبون ولا يقبلون الخسف وإن قبله غيرهم، يعني العذاب والإهانة. إذا أهانت الملوك الناس فقومي لا يقبلون الإهانة
[إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} [إبراهيم:6]].
(يسومونكم) أي: يولونكم أو يديمون العذاب يذبحون الأبناء ويستحيون النساء يعني: يقتلون الأبناء، (ويستحيون النساء)، يعني: يبقون النساء أحياء فلا يقتلونهن، الذكور يقتلون والإناث تستحيا وتترك حية لأن النساء أو الإناث لا يخشى منهن؛ لضعفهن، وعدم تحملهن، وعدم حملهن السلاح في الغالب.
[وإنما قال هاهنا: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} [إبراهيم:6]ثم فسره بهذا لقوله هاهنا: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة:40]، وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم:5] أي: بأياديه ونعمه عليهم، فناسب أن يقول هناك: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل].
يعني المراد تعداد النعم هنا وهنا في هذه الآية لما ذكر النعم جعل الذبح داخلا في سوم العذاب، وهناك لما أراد التعداد وذكرهم بأيام الله بنعمه قال: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]، عطف بعضها على بعض تعدادا للنعم، وهنا جعلها شيئا واحدا جعل الذبح جزءا منه
[وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا، وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافرا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند].
وهذا فيه نظر؛ لأن بطليموس معروف لمن ملك اليونان، يسمون البطالسة ملوك اليونان وحدهم: بطليموس.
[ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، وقيل مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من إصطخر، وأيا ما كان فعليه لعنة الله.
وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله تعالى: {بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال: نعمة].
يأتي البلاء للنعمة ويأتي للمحنة والمصيبة يطلق على هذا وعلى هذا قال بلاء عظيم، يعني: نعمة عليكم أو مصيبة.
ويطلق بطليموس على حكماء اليونان، والحكيم قد يكون ملكا وقد لا يكون.
[وقال مجاهد {بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال: نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم.
وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء:35]، وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو].
أبلاه يعني: في الخير، ويبلو: في الشر.
[قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل: المراد بقوله: {وفي ذلكم بلاء} [البقرة:49] إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان].
[وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50]، معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في موضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله.
(فأنجيناكم) أي: خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50] قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط].
يعني ملك جبار ظالم كافر، فإذا أمر ينفذ أمره؛ لأنه يخشى شره، ولهذا قال: لا أفرغ من أكل الكبد حتى يجتمع إلي ستمائة ألف فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط: من الجنود والجيوش العظيمة.
[فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك؟ قال: أمامك يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به الغمر ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت فعل ذلك ثلاث مرات].
يعني: ما كذبت أنت، ولا كذبت يعني: كذب أمر الله لك.
قال المؤلف رحمه الله: [فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: مثل الجبل-، ثم سار موسى ومن معه، وأتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال:{وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50]، وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء)، وهذا ضعيف من هذا الوجه؛ فإن زيدا العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه].
فيه ضعيفان فلا يصح هذا الحديث في الصحيحين أنه قال: (يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى، قال النبي: فنحن أحق بموسى منكم)، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على قولهم.
قوله تعالى: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون].
وهذه من النعم التي يعددها الله تعالى عليهم، يعني واذكروا إذ واعدتم موسى أربعين ليلة، ثم عبدتم العجل، ثم الله عفا الله عنكم وتاب عليكم، مع أنهم وقعوا في الشرك.
[وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} [البقرة:51 - 53]يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف:142]، قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} [البقرة:53] يعني: التوراة {والفرقان} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لعلكم تهتدون)].
الله أعلم بتحديد السنة يحتاج إلى دليل المهم بعد هلاك فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل أنزل الله التوراة على موسى، كما قال: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} [القصص:43].
[وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} [البقرة:53] يعني: التوراة {والفرقان} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لعلكم تهتدون)]. وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص:43]، وقيل: الواو زائدة والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب].
يعني الفرقان وصف للكتاب آتى موسى الكتاب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
[وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحدا، كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه فألفى قولها كذبا ومينا].
لراهشيه بالهاء وهذا هو المعروف. معروف من الشواهد يستشهد به ذكره ابن عقيل في شرح الألفية
هذا الشاهد: (كذبا ومينا)، عطف المين على الكذب، والمين هو: الكذب والكذب هو: المين، يريد أن يستشهد به الكتاب والفرقان عطف الفرقان على الكتاب وهما شيء واحد، وهذا من باب اختلاف اللفظ والمعنى واحد، فإذا اختلف اللفظ يعطف أحدهما على الآخر وإن كان المعنى واحدا، كما تقول: قام ووقف، جلس وقعد، الجلوس هو القعود، والقعود هو الجلوس، فعطف أحدهما على الآخر تأكيدا.
[وقال الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد]
الشاهد هو: (النأي والبعد)، فعطف البعد على النأي وهما واحد، النأي هو البعد والبعد هو النأي، كذلك الكتاب هو الفرقان والفرقان هو الكتاب.
[فالكذب هو المين، والنأي هو البعد، وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
أقوى وأقفر معناهما واحد فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو].
قال الله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:54].
[هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة:54]، فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع، حتى قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} [الأعراف:149]، الآية.
قال: فذلك حين يقول موسى: {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة:54].
وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فتوبوا إلى بارئكم} [البقرة:54] أي: إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا {إلى بارئكم} [البقرة:54] تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى: (إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول)، وهذا قطعة من حديث الفتون، وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله].
وذلك أن ذنبهم عظيم وهو: الشرك، حيث عبدوا العجل فجعل الله توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا نسأل الله العافية، وهذه أخبار عن بني إسرائيل لكن الآية واضحة في هذا، كما يروى عن ابن عباس وغيره أنهم جاءتهم ظلمة فكانوا فيها وأخذوا السيوف فجعل يقتل بعضهم بعضا حتى انجلت، فإذا سبعين ألفا قتلوا، فتاب الله عليهم، والله أعلم بالكيفية، لكن الآية واضحة في هذا أن الله تاب عليهم، وجعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54]، فجعل توبتهم من عبادة العجل والشرك أن يقتل بعضهم بعضا، الكيفية والعدد فلا يهمان.