شعار الموقع

سورة البقرة - 12

00:00
00:00
تحميل
82


يعني: يحاسب نفسه حتى تستقيم على طاعة الله.
قال: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل وسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة:44]، والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود:88]، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الأخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن من ارتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف].
هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموما، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس -يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضا وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله.
ولهذا قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم   [وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت: لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، هذا حديث غريب من هذا الوجه.


 

 

 

 

[وقال أبو العالية في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: (والصلاة) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45]، الآية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال: حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).
ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن أبي عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ويقال أخو حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى)، حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا رضي الله عنه يقول: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح)].
وهذا سند لا بأس سند جيد، وأبو إسحاق صرح بالسماع

وعبد العزيز بن اليمان ابن أخي حذيفة بن اليمان.

[قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه مر بـ أبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد؟ ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم، قال: قم فصل فإن الصلاة شفاء)].
(أشكم درد) هذه بالفارسية يعني أيوجعك بطنك؟ وهذا ضعيف؛ دؤاد بن علبة ضعيف وليث بن أبي سليم ضعيف والحديث مداره على الليث يعني فيه ضعيفان دؤاد وليث ما يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية.
[قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة:45]].
"أطال الجلوس" محتمل يعني: في التشهد، في آخر التشهد محل دعاء.
[وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله: (إنها لكبيرة) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} [القصص:80]، وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت:34 - 35] أي: وما يلقى هذه الوصية (إلا الذين صبروا وما يلقاها) أي: يؤتاها ويلهمها إلا {ذو حظ عظيم} [فصلت:35]، وعلى كل تقدير فقوله تعالى: ((وإنها لكبيرة)) أي: مشقة ثقيلة، (إلا على الخاشعين)].

[قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقا، وقال أبو العالية: (إلا على الخاشعين): الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا على الخاشعين) يعني به: المتواضعين، وقال الضحاك: (وإنها لكبيرة) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه).
وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب! بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين، أي: المتواضعين المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم].
فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن كان تحذيرا لبني إسرائيل فهو تحذير لهذه الأمة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم.
فبنو إسرائيل قد مضوا، والمعني هو هذه الأمة.

[هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: إن الصلاة أو الوصاية لثقيلة (إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، (وأنهم إليه راجعون) أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات.
فأما قوله: {يظنون أنهم ملاقو ربهم} [البقرة:46]، قال ابن جرير رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخا والمستغيث صارخا].
هذه من الأضداد، يطلق على الشيء وضده، كما تسمى الصحراء مفازة هي مهلكة، ولكن سميت مفازة تفاؤلا بالسلامة، تسمى باسم ضدها وكما يسمى اللديغ سليما تفاؤلا له بالسلامة، وهكذا فالظن المراد به اليقين، (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) يعني: يتيقنون؛ لأن من شك في ملاقاة الله كفر وليس المراد هذا، وإنما المراد اليقين، ويأتي في كثير من المواضع الظن بمعنى اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج   سراتهم في الفارسي المسرد]

يعني تيقنوا بألفي مدجج، يهددهم سراتهم يعني: أسراهم، ليس المراد شكوا، بل المراد: تيقنوا، فأطلق الظن وأراد به اليقين، وكذلك في الآية المراد بالظن اليقين.
قال المؤلف رحمه الله: [يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم.
وقال عمير بن طارق:

فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم     وأجعل مني الظن غيبا مرجما

يعني: أجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر.
وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف:53]].
يعني تيقنوا أنهم مواقعوها من غير شك لما رأوها وهم يعلمون أعمالهم الخبيثة تيقنوا أنهم واردون عليها وملاقون لها. هم شاهدوها مع أعمالهم الخبيثة وما شاهدوا من أهوال يوم القيامة تيقنوا بملاقاتها والسقوط فيها نسأل الله السلامة والعافية
[ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظنوا.
وحدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح].
يعني {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة:20] يعني: تيقنت: {فهو في عيشة راضية * في جنة عالية} [الحاقة:21 - 22]. ليس المراد شككت المراد تيقنت
[وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) قال: الظن هاهنا يقين، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم): علموا أنهم ملاقوا ربهم، كقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة:20] يقول: علمت، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: (ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: اليوم أنساك كما نسيتني)].
فقوله: (أظننت أنك ملاقي؟) أي: أتيقنت أنك ملاقي؟ هذا هو الشاهد.
وقوله: (اليوم أنساك كما نسيتني) المراد بالنسيان الأول تركه في النار والإعراض عنه، والنسيان الثاني المراد به ترك أوامر الله واجتراح نواهيه، يعني لما ترك أوامر الله وارتكب المناهي عومل أنساك يعني أعاملك معاملة المنسي كقوله تعالى {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} [الحشر:19] نسوا الله يعني: نسوا أوامره ونواهيه، (فنسيهم) يعني: عاملهم معاملة المنسي، فأعرض عنهم، وتركهم في النار ولم يبال بهم. نسأل الله السلامة والعافية
[وسيأتي مبسوطا عند قوله تعالى {نسوا الله فنسيهم} [التوبة:67] إن شاء الله تعالى].
قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة:47].
[يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علم على العالمين} [الدخان:32]، وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة:20] قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة:47]، قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان].
يعني على عالم زمانهم المراد بالعالمين عالم زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110]، والمراد: على عالم زمانهم، هذا هو الصحيح؛ يعني بني إسرائيل أفضل الناس في زمانهم، أرسل الله منهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فهم أفضل الناس، ثم جاءت هذه الأمة فكانت أفضل منهم.
[فإن لكل زمان عالما، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} [آل عمران:110].
وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران:110].
وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ولا يلزم تفضيلهم مطلقا، حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم؛ لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر؛ لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه].

قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} [البقرة:48].
[لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: {واتقوا يوما} [البقرة:48] يعني: يوم القيامة {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة:48] أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164]، وقال: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس:37]، وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} [لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} [البقرة:48] يعني: من الكافرين كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} [الشعراء:100 - 101].
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} [البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} [آل عمران:91]، وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} [المائدة:36]، وقال تعالى: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} [الأنعام:70]، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} [الحديد:15] الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} [البقرة:254]، وقال: {لا بيع فيه ولا خلال} [إبراهيم:31].
قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {ولا يؤخذ منها عدل} [البقرة:48] قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {ولا يؤخذ منها عدل } البقرة 48يعني: فداء.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة].
وهذا من باب الوعيد نسأل الله العافية.
[وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ، وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية.
وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال: قيل: يا رسول الله! ما العدل؟ قال: (العدل الفدية)].
لكن ضعيف هذا فيه مجهول، الصواب القول الأول: أن العدل يعني الفداء، المفاداة، مهما افتدى ولو بملء الأرض ذهبا ما قبل منه إذا كان كافرا وأعماله سيئة، {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} [البقرة:123]، لا تجزي نفس عن نفس ولا يقبل منها فداء فليس هناك إلا الأعمال الصالحة والأعمال السيئة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة:7 - 8]، الذي عمله سيء لا يفيده ولو فدى نفسه بملء الأرض ذهبا ما يقبل منه قال تعالى {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة:36 - 37].
[وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} [البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم، كما قال:{فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق:10] أي: أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا يخلصه منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون:88]، وقال: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد} [الفجر:25 - 26]، وقال: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات:25 - 26]، وقال: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم} [الأحقاف:28] الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {ما لكم لا تناصرون} [الصافات:25]: مالكم اليوم لا تمانعون منا؟! هيهات ليس ذلك لكم اليوم].
لا تمانعون يعني: لا تستطيعون أن تدافعوا وتمنعوا عن أنفسكم، أو تردوا عنكم العذاب ولا تمتنعون منه. السدي عن ابن عباس سند لا بأس
[قال ابن جرير: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} [البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات].
الرشى جمع رشوة، ولا وجود للرشوة في الآخرة، فالرشوة موجودة في الدنيا، بعض الناس يدفع رشوة ويسلم من العقوبة ومن العذاب، لكن في الآخرة ما فيه
والرشا من المثلثات بالضم جمع رشوة، وهي المال الذي يدفعه الإنسان ليفتدي به، أو يتزلف به حتى يحصل على شيء أو يدفع عنه شيء، والرشى بالكسر الحبل الذي يدلى به في البئر، والرشى بالفتح ولد الغزال.
[بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات:24 - 26]].

الله تعالى لا يضل ولا ينسى لكن المراد بالنسيان الترك تركهم في النار والإعراض عنهم والمبالاة لهم مجازاة لهم على صنيعهم كما أنهم نسوا أوامر الله عوملوا معاملة المنسي

قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:49 - 50].
[يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته؛ رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى].
هذه الآية وما بعدها يمتن الله سبحانه وتعالى بها على بني إسرائيل، ويعدد عليهم نعمه، حيث أنجاهم من آل فرعون،  كان فرعون يسومهم سوء العذاب: يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ثم ذكر نعمته بأن فرق بهم البحر، وأنجاهم وأغرق آل فرعون، وجعل يعدد سبحانه وتعالى نعمه المتتابعة.
والخطاب لبني إسرائيل، وهذا إنما حصل لآبائهم وأجدادهم، ولكن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد، فهو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل أهل الكتاب الذين في المدينة في زمن النبوة، وهم ما رأوا هذا ولا حصل لهم، ولكن حصل هذا لآبائهم وأجدادهم؛ ولأن الأحفاد إذا أقروا الأجداد على ما هم عليه فحكم الأحفاد حكم الأجداد؛ لأن الراضي كالفاعل، إذا رضوا بأفعالهم فحكمه حكمهم والامتنان على الآباء والأجداد امتنان على الأحفاد والأولاد، {وإذ نجيناكم من آل فرعون} [البقرة:49] إن هذه النجاة إنما كانت لآبائهم وأجدادهم عندما كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وهو خطاب لليهود في المدينة وقت نزول الوحي: {وإذ نجيناكم} [البقرة:49] يعني: نجينا آباءكم، {وإذ فرقنا بكم البحر} [البقرة:50]، يعني: فرقنا بآبائكم وأجدادكم مع موسى.
وحديث الفتون سبق حديث طويل في سورة طه رواه ابن عباس وأخرجه النسائي بطوله، وأكثره مأخوذ من بني إسرائيل.
[وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها].
يعني يكونوا عمال هم الأيدي العاملة يستعملونهم في الخدمة والعمل والكنس والطبخ، وما أشبه ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقوم بها إلا هم، ولهذا لما أمر فرعون بقتل بني إسرائيل قال له الأشراف إذا تنتهي اليد العاملة ينتهون من يعمل؟ من يعمل؟ من يقوم بهذه الأشغال؟ فعند ذلك رأى رأيا آخر وهو أن يقتل الذكور سنة ويبقيهم سنة؛ حتى تبقى اليد العاملة ولا ينقطع الذكور من بني إسرائيل وكذلك أيضا تقل الكثرة التي يخاف منها؛ إذا قتلهم سنة بعد سنة تقل الكثرة الذي يخاف منهم وتبقى الأيدي العاملة أما إذا تركوا كثروا ويخشى منهم، وإذا قتلوا في كل سنة انتهوا وانتهت اليد العاملة ولا يوجد أحد يشتغل هم العمال بالأعمال الشاقة والأعمال الرذيلة
واختلف في المراد بالآل: فقيل يطلق على الرجل من باب التعظيم، فيقال: آل فلان، ولا يضاف إلى البلدان على المشهور، وجوز بعضهم ذلك كأن يقال: أهل المدينة، حكى أبو عبيد: أهل مكة، أهل الله، وهكذا يضاف إلى موطن الرجل على المشهور، قال عبد المطلب: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال غيره:

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي    وآلي كما تحمي حقيقة آلك

يعني في قوله وإن يكن من آل فرعون ما المراد بالآل؟ مثل قول المصلي اللهم الصلاة على محمد وعلى آل محمد ما المراد بالآل؟ قيل آله أزواجه وذريته، وقيل: نسبه وعشيرته، وقيل: أتباعه على دينه، وهذا هو الأرجح أتباعه على دينه، ويدخل فيه أزواجه وذريته وجميع المؤمنين من أزواجه وذريته وبني هاشم، وأتباعه على دينه اللهم الصلاة على محمد وعلى آل محمد يدخل فيه جميع أتباعه على دينه

وآل الرجل يدخل فيهم هو دخولا أوليا، فآل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم دخولا أوليا، وآل فرعون يدخل فيهم فرعون دخولا أوليا، هو أولهم، وأتباعه تبع له.
[وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]].
فجعل تذبيح الأبناء جزء من العذاب.
[وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد.
ومعنى يسومونكم: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:

 إذا ما الملك سام الناس خسفا      أبينا أن نقر الخسف فينا]

فهذا عمرو بن كلثوم يمدح قومه وأنهم لا يستجيبون ولا يقبلون الخسف وإن قبله غيرهم، يعني العذاب والإهانة. إذا أهانت الملوك الناس فقومي لا يقبلون الإهانة
[إذا ما الملك سام الناس خسفا      أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} [إبراهيم:6]].
(يسومونكم) أي: يولونكم أو يديمون العذاب يذبحون الأبناء ويستحيون النساء يعني: يقتلون الأبناء، (ويستحيون النساء)، يعني: يبقون النساء أحياء فلا يقتلونهن، الذكور يقتلون والإناث تستحيا وتترك حية لأن النساء أو الإناث لا يخشى منهن؛ لضعفهن، وعدم تحملهن، وعدم حملهن السلاح في الغالب.
[وإنما قال هاهنا: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: {يسومونكم سوء العذاب} [إبراهيم:6]ثم فسره بهذا لقوله هاهنا: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة:40]، وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم:5] أي: بأياديه ونعمه عليهم، فناسب أن يقول هناك: {يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل].
يعني المراد تعداد النعم هنا وهنا في هذه الآية لما ذكر النعم جعل الذبح داخلا في سوم العذاب، وهناك لما أراد التعداد وذكرهم بأيام الله بنعمه قال: {ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [إبراهيم:6]، عطف بعضها على بعض تعدادا للنعم، وهنا جعلها شيئا واحدا جعل الذبح جزءا منه
[وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا، وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافرا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند].
وهذا فيه نظر؛ لأن بطليموس معروف لمن ملك اليونان، يسمون البطالسة ملوك اليونان وحدهم: بطليموس.
[ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، وقيل مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من إصطخر، وأيا ما كان فعليه لعنة الله.
وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله تعالى: {بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال: نعمة].
يأتي البلاء للنعمة ويأتي للمحنة والمصيبة يطلق على هذا وعلى هذا قال بلاء عظيم، يعني: نعمة عليكم أو مصيبة.
ويطلق بطليموس على حكماء اليونان، والحكيم قد يكون ملكا وقد لا يكون.
[وقال مجاهد {بلاء من ربكم عظيم} [البقرة:49] قال: نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم.
وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء:35]، وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم      وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو].
أبلاه يعني: في الخير، ويبلو: في الشر.
[قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل: المراد بقوله: {وفي ذلكم بلاء} [البقرة:49] إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان].

[وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50]، معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في موضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله.
(فأنجيناكم) أي: خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50] قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط].
يعني ملك جبار ظالم كافر، فإذا أمر ينفذ أمره؛ لأنه يخشى شره، ولهذا قال: لا أفرغ من أكل الكبد حتى يجتمع إلي ستمائة ألف فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط: من الجنود والجيوش العظيمة.
[فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك؟ قال: أمامك يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به الغمر ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت فعل ذلك ثلاث مرات].
يعني: ما كذبت أنت، ولا كذبت يعني: كذب أمر الله لك.
قال المؤلف رحمه الله: [فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: مثل الجبل-، ثم سار موسى ومن معه، وأتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال:{وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} [البقرة:50]، وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء)، وهذا ضعيف من هذا الوجه؛ فإن زيدا العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه].
فيه ضعيفان فلا يصح هذا الحديث في الصحيحين أنه قال: (يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى، قال النبي: فنحن أحق بموسى منكم)، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على قولهم.
قوله تعالى: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون].
وهذه من النعم التي يعددها الله تعالى عليهم، يعني واذكروا إذ واعدتم موسى أربعين ليلة، ثم عبدتم العجل، ثم الله عفا الله عنكم وتاب عليكم، مع أنهم وقعوا في الشرك.
[وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} [البقرة:51 - 53]يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف:142]، قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} [البقرة:53] يعني: التوراة {والفرقان} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لعلكم تهتدون)].
الله أعلم بتحديد السنة يحتاج إلى دليل المهم بعد هلاك فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل أنزل الله التوراة على موسى، كما قال: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس} [القصص:43].
[وقوله تعالى: {وإذ آتينا موسى الكتاب} [البقرة:53] يعني: التوراة {والفرقان} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لعلكم تهتدون)]. وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص:43]، وقيل: الواو زائدة والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب].
يعني الفرقان وصف للكتاب آتى موسى الكتاب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
[وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحدا، كما في قول الشاعر:

 وقدمت الأديم لراهشيه   فألفى قولها كذبا ومينا].
لراهشيه بالهاء وهذا هو المعروف. معروف من الشواهد يستشهد به ذكره ابن عقيل في شرح الألفية 
هذا الشاهد: (كذبا ومينا)، عطف المين على الكذب، والمين هو: الكذب والكذب هو: المين، يريد أن يستشهد به الكتاب والفرقان عطف الفرقان على الكتاب وهما شيء واحد، وهذا من باب اختلاف اللفظ والمعنى واحد، فإذا اختلف اللفظ يعطف أحدهما على الآخر وإن كان المعنى واحدا، كما تقول: قام ووقف، جلس وقعد، الجلوس هو القعود، والقعود هو الجلوس، فعطف أحدهما على الآخر تأكيدا.
[وقال الآخر:

ألا حبذا هند وأرض بها هند         وهند أتى من دونها النأي والبعد]

الشاهد هو: (النأي والبعد)، فعطف البعد على النأي وهما واحد، النأي هو البعد والبعد هو النأي، كذلك الكتاب هو الفرقان والفرقان هو الكتاب.
[فالكذب هو المين، والنأي هو البعد، وقال عنترة:

حييت من طلل تقادم عهده     أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

أقوى وأقفر معناهما واحد فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو].

قال الله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:54].
[هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة:54]، فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع، حتى قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} [الأعراف:149]، الآية.
قال: فذلك حين يقول موسى: {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} [البقرة:54].
وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فتوبوا إلى بارئكم} [البقرة:54] أي: إلى خالقكم.
قلت: وفي قوله هاهنا {إلى بارئكم} [البقرة:54] تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى: (إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول)، وهذا قطعة من حديث الفتون، وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله].
وذلك أن ذنبهم عظيم وهو: الشرك، حيث عبدوا العجل فجعل الله توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا نسأل الله العافية، وهذه أخبار عن بني إسرائيل لكن الآية واضحة في هذا، كما يروى عن ابن عباس وغيره أنهم جاءتهم ظلمة فكانوا فيها وأخذوا السيوف فجعل يقتل بعضهم بعضا حتى انجلت، فإذا سبعين ألفا قتلوا، فتاب الله عليهم، والله أعلم بالكيفية، لكن الآية واضحة في هذا أن الله تاب عليهم، وجعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54]، فجعل توبتهم من عبادة العجل والشرك أن يقتل بعضهم بعضا، الكيفية والعدد فلا يهمان.


[وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:54] قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا]

احتبى هكذا وأولئك أخذوا الخناجر الذين عبدوا العجل احتبوا يعني مستسلمين للقتل والذين لم يعبدوا العجل أخذوا الخناجر وقتلوهم نسأل الله السلامة والعافية احتبى يعني جلس الحبوة

[قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة.
وقال ابن جرير قال ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا يقولان في قوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54] قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف قتيل، وأن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه.
وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك.
وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة وللمقتول شهادة.
وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس فقتل بعضهم بعضا، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.]

ظلمة حندس يعني شديدة الظلمة
[وقال السدي في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54] قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل منهم سبعون ألفا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، ومن بقي مكفرا عنه، فذلك قوله: {فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:54].
وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا فتر أتاه بعضهم قالوا: يا نبي الله! ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل.
رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.
وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذره في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى! ما من توبة؟ قال: بلى، {فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم} [البقرة:54] الآية، فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين].
الجرزة عمود من حديد.
[وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضا، قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري، قال: ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم ثم قرأ:{فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:54]].
قول الله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة:55 - 56].
[يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55] قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس: أنه قال في قول الله تعالى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55] أي: علانية. أي حتى نرى الله وقال قتادة والربيع بن أنس: {حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55] أي: عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال: فسمعوا كلاما فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]، قال: فسمعوا صوتا فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله: {فأخذتكم الصاعقة} [البقرة:55] الصاعقة نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: {وأنتم تنظرون} [البقرة:55] قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: {فأخذتكم الصاعقة} [البقرة:55] فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ قال: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} [الأعراف:155]، فأوحى الله إلى موسى: أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، قال: فذلك قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذره في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى! اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف:155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك، واخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إنا هدنا إليك} [الأعراف:156]، فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، هذا سياق محمد بن إسحاق].

هذا من تعنت من بني إسرائيل في سؤالهم موسى أن يريهم الله جهرة، وقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]، هذا من عتوهم وتعنتهم، فإنه لا يمكن لحي أن يرى الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى الكليم ربه: {قال رب أرني أنظر إليك} [الأعراف:143] قال الله: {لن تراني} [الأعراف:143] يعني: لن تستطيع أن تتحمل الرؤية في الدنيا، ولهذا قال الله: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} [الأعراف:143]، لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يثبت لرؤية الله، وهو من الحجارة الصم! فكيف يستطيع البشر أن يثبتوا لرؤية الله؟! لا يستطيعون، لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله عز وجل، تبدل الصفات، بأبصار قوية، وأجسام قوية تتحمل الرؤية، أما في هذه الدنيا فلا يستطيع أحد أن يرى الله، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا)، وفي اللفظ الآخر: (نور أنى أراه) يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي الحديث الآخر في حديث أبي موسى في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ: النار-، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام يشمل جميع الخلق.
الصواب أن الله تعالى لن يراه أحد في الدنيا حتى نبينا صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض الصحابة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والصواب الذي عليه الجمهور والذي تدل عليه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وإنما سمع كلامه ولم يره، ويدل على هذا قول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى:51]، فالله تعالى كلم نبيه صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وكلم موسى كذلك، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يراه، ثم إن الرؤية نعيم خاص بأهل الجنة. لا تكون لأهل الدنيا وبنو إسرائيل هذا من عنادهم وعتوهم لهم بنو إسرائيل تعنتات على أنبيائهم وعلى نبيهم موسى عليه السلام، وهذا من تعنتاتهم، ولما سألوا الرؤية عاقبهم الله بالصاعقة، رجفة أصابتهم فماتوا، ثم أحياهم الله؛ ليستكملوا بقية آجالهم، موسى عليه الصلاة والسلام ناجى ربه وسأل ربه وتضرع إلى ربه أن يحييهم فأحياهم، كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة} [الأعراف:155] أي: أصابتهم الصاعقة فماتوا، {فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} [الأعراف:155]، فلم يزل يتضرع لربه حتى أحياهم الله، امتن الله تعالى عليهم بذلك، يعني هذا من النعم كما في هذه الآية الكريمة: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة:55 - 56] يعني: اذكروا نعمتي عليكم حيث سألتم موسى رؤية الله جهرة فأخذتكم الصاعقة، ثم بعثتكم من بعد موتكم، هذه امتن الله بها عليهم، وهذا لم يحصل لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل لآبائهم وأجدادهم، لكن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد والأولاد، {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم} [البقرة:55 - 56] أي: اذكروا نعمة الله حيث أن الله عاقبكم بالصاعقة والرجفة لما سألتم شيئا ممنوعا على أهل الدنيا، ثم امتن الله عليكم فأحياكم واستكملتم آجالكم. قال تعالى في سورة النساء: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} [النساء:153]. وهذا من أخبار بني إسرائيل القول أنهم سمعوا موسى وهو يكلم ويأمر وينهى كل هذا كما ذكر المؤلف من أخبار بني إسرائيل وموسى هو الذي سمع كلام الله هذا من خصائصه موسى الكليم شاركه نبينا ﷺ كلمه الله ليلة المعراج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  يقول هذا ثابت عند جميع الطوائف ما عدا الجهمية من شدة إنكارهم لرؤية الله حتى أنكروا رؤيته في المنام يرى على حسب معتقده الرؤية تكون حق لكن ما يلزم من هذا التشبيه يرى الإنسان ربه على حسب اعتقاده فإن كان اعتقاده سليم رأى ربه في صورة حسنة وإن كان اعتقاده غير ذلك رأى ربه على حسب اعتقاده ولما كان النبي ﷺ أحسن الناس اعتقادا وأصحهم علما وعملا رأى ربه في أحسن صورة كما في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال رأيت ربي في أحسن صورة قال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله، فعلمت، فقلت: يا رب! في الكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، معروف حديث اختصام الملأ الأعلى، أفرده بعض العلماء بالشرح منهم: الحافظ ابن رجب شرح هذا الحديث حديث اختصام الملأ الأعلى.
فيه: (رأيت ربي في أحسن صورة) هذا في المنام، أما في اليقظة فلم ير ربه، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، فرض عليه الصلوات الخمس من وراء حجاب، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهو من خلقه، ما يتحمل، وداخل في قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى:51]، كلمه الله من وراء حجاب هذا هو الصواب.
قال بعض الصحابة وبعض العلماء: إنه رآه بعين رأسه، والصواب أنه رآه بعين قلبه ولم يره بعين رأسه، هذا هو الصواب وهذا هو الجمع الصحيح بين الآثار والنصوص، فما جاء من النصوص ومن الآثار ومن أقوال الصحابة والسلف على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فمحمول على أنه رآه بعين قلبه، وما جاء من النصوص والآثار أنه لم يره، فمحمول على أنه لم يره بعين رأسه.
وجاء عن عائشة أنها أنكرت سألها مسروق: (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب).
جاء عن ابن عباس: (أنه رأى ربه)، ورواية عن الإمام أحمد، لكن ما جاء عن ابن عباس وعن الإمام أحمد فهو إما مطلق أو مقيد برؤية الفؤاد، فيحمل المطلق على المقيد.
ذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بعين رأسه، وقالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: التكليم لموسى، والرؤية لمحمد، والخلة لإبراهيم، لكن هذا ضعيف والصواب أنه شارك موسى في التكليم وشارك إبراهيم في الخلة ذهب إلى هذا القاضي عياض والنووي في شرح صحيح مسلم، وأبو إسماعيل الهروي وجماعة، لكنه قول مرجوح

[وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية، وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55]، والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى! إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته. وهذا غريب جدا؛ إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟].
لا شك أن هذا غلط، وليسوا أنبياء وهذا غلط آخر قولهم: إنهم أنبياء هذا من الأغلاط التي نقلها الرازي رحمه الله.
 [القول الثاني في الآية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة:55] قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة:56]، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم، وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعدما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم؛ لمعاينتهم الأمر جهرة، حتى صاروا مضطرين إلى التصديق. والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف].
الصواب: أنهم مكلفون، وهذا الصعق والموت هذا شيء عارض، ليس الموتة التي سيموتون الموتة التي كتبت عليهم، هذا عقوبة الصاعقة والرجفة ولا تمنع من التكليف، فالتكليف مستمر، لما أحيوا استمر التكليف إلى موتهم، حتى يأتي كل واحد أجله الذي قدره الله له.
[والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح. والله أعلم].
صدق القرطبي رحمه الله، وهو كلام جيد.

قال الله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [البقرة:57].
[لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم].
وهذه مناسبة الآية لما قبلها الأولى بين سبحانه وتعالى نعمه عليهم في دفع النقم، وهذه فيها بيان نعم الله عليهم من النعم التي أنعم بها عليهم الأولى دفع النقمة بحيث إن الله أماتهم ثم أحياهم، لأنهم عوقبوا بالصعق، وهذه فيها النعم التي أنعم بهم عليها في التيه في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين، لما عوقبوا بالتيه أنعم الله عليهم بنعم عظيمة وهم في شدة الحر في صحراء ما فيها شيء، تأتيهم السحاب وتظللهم، هذه من نعم الله عليهم، وكذلك ينزل عليهم المن والسلوى كما سيأتي، شيء يشبه العسل، والسلوى طائر، وكذلك أيضا يحمل موسى الحجر، فإذا ضربه بعصاه انفجر منه اثنا عشر عينا، كل قبيلة لها عين؛ حتى لا يختصموا، هذه من النعم نعم عظيمة في التيه، وهم معاقبون بالتيه بسبب امتناعهم ورفضهم عن فتح بيت المقدس، عوقبوا بالتيه ومع ذلك أنعم الله عليهم بهذه النعم في التيه.
  [فقال: {وظللنا عليكم الغمام} وهو جمع غمامة؛ سمي بذلك لأنه يغم السماء، أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض، ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: (ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام).
قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس.
وقال الحسن وقتادة: {وظللنا عليكم الغمام} كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (وظللنا عليكم الغمام) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (وظللنا عليكم الغمام) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه، في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة:210].
وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس: وكان معهم في التيه].
ظاهر الآية أن الغمام هو السحاب المعروف، هذا هو ظاهر الآية وهو الأصل؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بما يعرفون، (وظللنا عليكم الغمام)، وهو السحاب المعروف، هذا السحاب إذا كان في شدة الشمس في شدة الحر فهو نعمة عظيمة، فيظلل ويقي من الشمس ووهجها وشدة حرارتها.
[وقوله تعالى: (وأنزلنا عليكم المن) اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.
وقال مجاهد: المن: صمغة.
وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرب الغليظ.
وقال السدي قالوا: يا موسى! كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته، ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه وسئل عن المن، فقال: خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسحاق البزار حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:

فرأى الله أنهم بمضيع    لا بذي مزرع ولا مثمورا

فسناها عليهم غاديات        ويرى مزنهم خلايا وخورا

عسلا ناطفا وماء              وحليبا ذا بهجة مزمورا].
يعني: أن المن كان ينزل من السماء كالطل على شجر أو حجر، ويحلو ويعقد عسلا، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبين.
والمعروف أن المن ما وقع على شجر البلوط، معتدل نافع للسعال الرطب والصدر والرئة.
سيأتي في الحديث الصحيح: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) الكمأة التي يسمونها الفقع من المن قالوا شيء ينزل ويشبه العسل، ويستعملونه أكل وحلوى، فهو نعمة امتن الله بها عليهم، وهو مأكول يشبه العسل، ويستعمل مع غيره ويستفاد منه، وأما اللحم فأنزل الله عليهم السلوى طائر، فالله أعطاهم نوعا من الطعام ونوعا من اللحوم، فالسلوى طائر، والمن طعام، وكان المن يغنيهم عن الطعام، يشبه العسل، فهو طعام وحلوى.
  تعالى: [فالناطف هو السائل، والحليب المزمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه أكل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد].
كأنه طعام وشراب كأنه يكفيهم عن الطعام والشراب وأما اللحم فهو السلوى وهذا  ليس لهم فيه تعب، ينزل عليهم من السماء، كما أن السلوى طائر ليس لهم فيه يد، وهذا من منة الله تعالى عليهم، ما يتعبون يأتيهم طعام لذيذ وشراب وحلوى، ويأتيهم أيضا من اللحوم هذا الطائر السلوى

[فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].
يعني: المن هو طعام وشراب لذيذ امتن الله به عليهم، يكفيهم عن الطعام والشراب.
 : [وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه.
وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بـ أبي محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب، قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها].
أول الحديث ثابت في البخاري كما سبق: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وإن كان هذا الطريق فيه كلام.
 : [ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: (أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم)].
هذا الحديث ضعيف منقطع؛ لأن شهر بن حوشب لم يسمع من أبي هريرة، وقوله: (الكمأة جدري الأرض) هذا الذي استنكر منه، وأما: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) هو ثابت في البخاري.
 : [وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب، بقصة الكمأة فقط.
وروى النسائي أيضا وابن ماجة من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجة، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].
صار بين شهر وأبي هريرة عبد الرحمن بن غنم سقط في الرواية الأولى دل على أنه لم يسمع فيه كلام لكنه ما سمع الآن وما سمع من أبي هريرة، الرواية الأولى منقطعة، وشهر فيه منهم من وثقه ومنهم من ضعفه.

[عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].
 [وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم).
وقال النسائي في الوليمة أيضا: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا وَابْنُ ماجة من طرق الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ شَهْرٍ عَنْهُمَا به، وقد رويا- أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجة من حديث سعيد ابن أبي سلمة- كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عن أبي سعيد رواه النَّسَائِيُّ وَحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ لَاحِقِ بن صواب عن عمار بن زريق عَنِ الْأَعْمَشِ كَابْنِ مَاجَهْ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًاحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كَمَآتٌ، فَقَالَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَنْصُورٍ عن الحسن بن الربيع به ثم ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الْأَعْمَشِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن موسى، وَقَدْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا حَمْدُونُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم تدارأوا فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْنَحْسَبُهُ الْكَمْأَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ أَصْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طريقه شيئا من هذا، والله أعلم. وروي عَنْ شَهْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي الْوَلِيمَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ الْخَرَّازِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ عَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ شَهْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْكَمْأَةُ من المن، وماؤها شفاء للعين» وقد اخْتَلَفَ كَمَا تَرَى فِيهِ عَلَى شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ حَفِظَهُ وَرَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كُلِّهَا، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبَلَّغَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ الْأَسَانِيدَ إِلَيْهِ جَيِّدَةٌ، وَهُوَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَحْفُوظٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.

نعم ثبت في البخاري والمؤلف رحمه الله أطال في هذا والحديث ثابت (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)

ماء الكمأة شفاء للعين كما في الحديث: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)؟ نقول: لابد أن يراجع أهل الخبرة وأهل التجارب؛ لأن بعض الناس قد يستعمل الكمأة في غير ما يستعمل في التجارب فتضره، فقد يضع الكمأة في العين قد تضر العين وقد تعمى، لكن لها طريقة عند أهل التجارب، أظن يحمونها على النار ويأخذون شيئا من ماء الكمأة على العين. تستعمل على حسب التجارب وعلى حسب معرفة أهل الخبرة.
[وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السلوى طائر شبيه بالسمانى، كانوا يأكلون منه.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السمانى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال: السلوى هو السمانى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك.
وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت، وفي رواية عن وهب قال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحما، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحا فأذرت عند مساكنهم السلوى -وهو السمانى- مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء، فخبئوا للغد، فنتن اللحم، وخنز الخبز.

خبئوا يعني ادخروا
وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [البقرة:57].

الحاصل أن الله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل في التيه بنعم عظيمة، ذكر الله بها أحفادهم وأولادهم الموجودين في المدينة في زمن نزول الوحي، قال تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة:57]، فهذه من نعم الله عليهم، وهم معاقبون في التيه لما نكلوا وامتنعوا من فتح بيت المقدس، وقال لهم موسى: احملوا عليهم حملة واحدة فقد وعدني الله {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة:21]، قاتلوا هؤلاء الكفرة العماليق، فأبوا ورفضوا وامتنعوا، وقالوا لنبيهم قولا سيئا الشرك قولة قالوا: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة:24]، عاقبهم الله بالتيه، قال الله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} [المائدة:26]، والتيه هي الصحراء التي بين فلسطين وبين مصر، صحراء يتيهون ما يهتدون إلى البلد، حرمها الله تحريما قدريا، {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة} [المائدة:26]، هذا تحريم قدري والتحريم يكون شرعيا ويكون قدريا، فالتحريم القدري، مثل قوله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} [القصص:12]، فتحريم المراضع على موسى تحريم قدري، وأما التحريم الشرعي فمثل قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة:3] وقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23]، فهذا تحريم شرعي.
فحرم الله عليهم دخول البلد أربعين سنة يتيهون في الأرض، ومع ذلك لما صاروا في التيه أنعم الله عليهم بهذه النعم، ولكنهم قوم عتاة عصاة، أنعم الله عليهم بالمن وهو ينزل عليهم كالزنجبيل، وهو غذاء إذا جعل مع غيره صار شرابا وصار فاكهة، والسلوى هو طائر، وهذا كالإجماع عند المفسرين، أو قول جماهير المفسرين؛ هناك من يرى أنه غير اللحم، والصواب: أن السلوى طائر، وأن الزنجبيل غذاء.
وجعل الله الغمام مظللا عليهم من حر الشمس، من نعمه عليهم، وكانوا يحملون معهم حجرا فيضربه موسى بعصاه فتنفجر منه اثنا عشر عينا، لكل قبيلة ولكل سبط عين، حتى لا يتنازعوا، هذه من نعم الله عليهم، ولهذا قال: {كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة:60].
ومع ذلك حصل ما حصل لهم من العتو والعناد، ولما انتهت الأربعون السنة وسار بأحفادهم يوشع بن نون الذي كان نبيا، وهو فتى موسى، دخلوا بيت المقدس وقاتلوا العماليق، وكاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس وكان يوم الجمعة ليلة السبت، كان يوم السبت يوم عيدهم، فحبس الله الشمس ليوشع بن نون فقال: (اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، حبسها عليهم، ووقفت حتى تم الفتح قبل أن يدخل يوم السبت)، هذا ثبت في الحديث الصحيح، فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وهذه يلغز بها مسألة فقهية: من الذي حبست له الشمس؟ لم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، جاء في أحاديث ضعيفة لا تصح أنها حبست لـ علي رضي الله عنه، لكنها لا تصح.
فدخلوا بيت المقدس، ومع ذلك لما دخلوا بيت المقدس قال الله تعالى: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} [البقرة:58] كما سيأتي، فغيروا بالقول وبالفعل، ادخلوا الباب سجدا دخلوا على أستاهم يزحفون على أدبارهم، {وقولوا حطة} [البقرة:58] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا، فغيروا وقالوا: حنطة، فزادوا فيها نونا، فهذا من تغييرهم بالقول وبالفعل، ولهذا قال: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا} [البقرة:59] يعني: عذابا {من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:59]، فهذا من عتوهم وتمردهم وعنادهم لأنبيائهم، نسأل الله السلامة والعافية.
أما أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم خير أصحاب الأنبياء؛ فإنهم صبروا رضي الله عنهم، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في ساعة العسرة، في شدة عظيمة، وجوع شديد، ومفازة عظيمة، وأصابهم جهد من قلة الطعام، ولم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل، بل قالوا: (يا رسول الله! لو دعوت لنا جمعنا ما عندنا من الطعام فدعوت لنا، فجمعوا ما عندهم من الطعام، فدعا وبرك، وبارك الله فيه وملئوا كل وعاء)، والماء كذلك لما نضب وقل جاء النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤتى بماء قليل رحراح ووضع أصابعه فيه فنبع الماء من بين أصابعه، فتوضئوا واغتسلوا وملئوا كل وعاء رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفي يوم بدر قالوا لنبيهم: (لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة:24] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وأمامك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك).

فذلك قوله {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقوله: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة:60]].
[وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.
وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن].
قوله: (لا تخرق ولا تدرن) يعني: لا تبلى ولا تتدنس، والدرن هو الدنس، تخرق يعني تبلى هذا من أخبار بني إسرائيل. والله أعلم
[قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.
قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل].
يعني: قول الأكثر؛ لأن هناك اختلافا كما سيأتي؛ فالمقصود بالإجماع قول الأكثرين، وإلا الخلاف موجود وسيأتي والصواب أن السلوى طائر.
[وأنشد في ذلك مستشهدا: وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها].
في القرطبي: إذا ما نشورها.
أنشد الهذلي هذا البيت على أن السلوى طعام وليس طائرا.
[قال: فظن أن السلوى عسل. قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرج بن عمرو السدوسي أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به، ومنه عين سلوان.
وقال الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي أيضا، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقول إِذَا صُبَّ عَلَيْهَا مَاءُ المطر فشربها العاشق سلا، قال الشاعرالطويل

شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءَ مُزْنَةٍ ... فَلَا وَجَدِيدِ الْعَيْشِ يَا ميُّ مَا أَسْلُو هؤلاء يقولون السلوى العسل هذا يدل على أنه قول الأكثرين المراد بالإجماع قول الأكثرين وعلى هذا ما فيه فرق بين المن والسلوى كلها عسل المن والسلوى وهذا بعيد الصواب الأول المن هو العسل وهو إذا خلط مع غيره يكون فاكهة والسلوى هو الطائر لحم

وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ السُّلْوَانُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْالسُّلْوَانُ دَوَاءٌ يَشْفِي الحزين فيسلوا وَالْأَطِبَّاءُ يُسَمُّونَهُ مُفَرِّجٌقَالُواوَالسَّلْوَى جَمْعٌ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: سُمَانَى لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ وَوَيْلَى كَذَلِكَ وَقَالَ الْخَلِيلُوَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ: الطويل

وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ 

وَقَالَ الْكِسَائِيُّالسَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوِي، نَقَلَهُ كُلَّهُ الْقُرْطُبِيُّ.

 وَقَوْلُهُ تَعَالَىكُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ وإرشاد وامتنان، 

وقوله تعالىوَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَنْ يَعْبُدُوا كَمَا قَالَ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ فَخَالَفُوا وَكَفَرُوا فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ هَذَا مَعَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَمِنْ هَاهُنَا تَتَبَيَّنُ فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ فِي صَبْرِهِمْ وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كَانُوا مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ وَغَزَوَاتِهِ مِنْهَا عَامُ تَبُوكَ فِي ذَلِكَ الْقَيْظِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْجَهْدِ لَمْ يَسْأَلُوا خَرْقَ عَادَةٍ وَلَا إِيجَادَ أَمْرٍ مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلّى الله عليه وسلم لكن لَمَّا أَجْهَدَهُمُ الْجُوعُ سَأَلُوهُ فِي تَكْثِيرِ طَعَامِهِمْ فَجَمَعُوا مَا مَعَهُمْ فَجَاءَ قَدْرَ مَبْرَكِ الشَّاةِ فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كُلَّ وِعَاءٍ مَعَهُمْ وَكَذَا لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَمْ تُجَاوِزِ العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مَعَ قَدَرِ اللَّهِ مَعَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم.

كذلك في غزوة الحديبية لما كانت هناك بئر نزحوها فنضبت فآذن بالرحيل شكا الناس العطش للنبي ﷺ فدعا بإناء قليل فيه ماء رحراح شيء قليل فوضع أصابعه يده وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام فشربوا وتوضئوا واغتسلوا من عليه جنابة اغتسل وملئوا كل إناء وكل وعاء

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

[وقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة:57] أمر إباحة وإرشاد وامتنان.
وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [البقرة:57] أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم، وأن يعبدوا كما قال: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} [سبأ:15]، فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات.
ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مبرك الشاة، فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة، فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم، ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر، فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم].
كذلك في غزوة الحديبية كانت هناك بئر فنزحوها فنضبت فلم يبق شيء، فشكا الناس العطش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء قليل فيه شيء قليل، فوضع أصابع يده وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فشربوا وتوضئوا واغتسلوا، وملئوا كل وعاء.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد