قال الله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:58 - 59].
[يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم].
وهي بيت المقدس كما قال الله على لسان نبيه موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة:21].
[فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكيا عن موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا} [المائدة:21] الآيات.
وقال آخرون: هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد، وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام].
ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي صحبه في رحلته إلى الخضر {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح} [الكهف:60] وقد صار نبيا بعد ذلك، وقاد بني إسرائيل للجهاد، ففتح بهم بيت المقدس، حبست له الشمس، بعد موت موسى عليه السلام موسى مات في التيه مع بني إسرائيل.
وهي الأربعون السنة التي حرم الله عليهم فيها دخول بيت المقدس {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة} [المائدة:26] تحريما قدريا، تمت المدة وجاء جيل جديد، استطاع استجابوا لنبيهم وفتحوا بيت المقدس، أما الجيل الأول الذين تربوا على الجزع والهلع، وانخلعت قلوبهم من فرعون، رفضوا ونكلوا قالوا: ما يمكن ما نستطيع {اذهب أنت وربك فقاتلا} [المائدة:24] يقولون لنبيهم! نسأل الله السلامة والعافية.
[وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح].
وهذا ثابت في الصحيحين عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. حبس الشمس ليوشع بن نون
[ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد: {سجدا} [الأعراف:161]، أي: شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم، وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: أنه كان يقول في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا} [الأعراف:161] أي: ركعا، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وادخلوا الباب سجدا} قال: ركعا من باب صغير.
رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به، وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم].
يعني: أدبارهم، الدبر يقال له: است، المقعدة يعني والجمع أستاه، وهذا من عتوهم وعنادهم، والمراد من قوله ركعا سجدا فدخلوا يزحفون على أدبارهم، كل واحد دخل يزحف على مقعدته والعياذ بالله! هذا من التغيير بالفعل والتغيير بالقول، قال الله: {وقولوا حطة} [الأعراف:161] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا! قالوا: حنطة، غيروا بالقول وبالفعل حنطة زادوا نونا، والجهمية في: (استوى) زادوا لاما قالوا: استولى ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن لام الجهمية مثل نون اليهود، فاليهود زادوا نونا في حطة قالوا: حنطة، والجهمية زادوا لاما في استوى قالوا: معنى {استوى على العرش} [يونس:3] استولى.
[وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود: الخضوع لتعذر حمله على حقيقته].
والصواب الأول، الصواب أن المراد بالسجود: الركوع، وليس المراد السجود على الجباه أو الخضوع؛ لأمرين: الأول: أن السجود يأتي في اللغة بمعنى الركوع.
والأمر الثاني: أنه لا يمكن دخولهم على جباههم، والركوع في اللغة يسمى سجودا، " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " ومنه قال سجدت الأشجار أي: مالت، فالميل يسمى سجودا. والركوع يسمى سجودا لغة والمعنى: ادخلوا الباب ركعا وأنتم خاضعون لله بالقول والفعل ادخلوا الباب ركعا راكعين تعظيما لله عز وجل، واسألوا الله المغفرة، وحط الخطايا، وقولوا حطة، فغيروا بالقول والفعل، أما الفعل فدخلوا على أدبارهم وأما بالقول فقالوا حنطة نسأل الله السلامة والعافية استهزاء وسخرية والعياذ بالله بكلام الله نسأل الله والعافية ولهذا عاقبهم الله {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:59] هذا فسق وعصيان لله ولرسوله، غيروا بالقول وبالفعل الله تعالى من الله عليهم وفتح عليهم، فأمروا أن يشكروا الله وأن يدخلوا ركعا خضوعا له وشكرا له على ما تم لهم من الفتح والنصر، وعلى استرداد بلدهم عليهم، وعلى نصرهم على العماليق الكفار، أمروا أن يشكروا الله بالقول والفعل يدخلون ركعا خاضعين لله ويسألون الله المغفرة وحط الخطايا فغيروا بالقول وبالفعل، دخلوا يزحفون على أدبارهم، وقالوا: حنطة، نعوذ بالله!
[وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي: عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيل لهم: ادخلوا الباب سجدا، فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي: رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا].
[وقوله تعالى:{وقولوا حطة} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما:(وقولوا حطة)قال مغفرة استغفروا وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه
وقال الضحاك عن ابن عباس: (وقولوا حطة) قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله، وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: (وقولوا حطة) فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي: احطط عنا خطايانا.
{نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} [البقرة:58] وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر:1 - 3].
فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضا].
الأمران نعي إليه روحه الكريمة وهي خبر بقرب أجله عليه السلام، وهي أمر بكثرة الذكر والاستغفار عند تقدم السن.
والمقصود من هذه الآية تحذير هذه الأمة المقصود من قص الله تعالى علينا خبر بني إسرائيل إنهم مضوا المقصود تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فيصيبها ما أصابهم تحذير هذه الأمة من أن تعصي نبيها عليه الصلاة والسلام بالقول أو بالفعل فيصيبها ما أصاب بني إسرائيل من الرجس والعذاب، ولهذا قال سبحانه: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء} [البقرة:59] كما قال بعض المفسرين: مضى القوم ويعني به سواهم، هم مضوا، لكن المقصود نحن الآن، تحذير لنا من أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم.
[ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلا إليها من الثنية العليا وأنه خاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيها ثمان ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى، صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل: يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم]
والصواب أنه يسلم من كل ركعتين، وهي يصدق عليها أنها صلاة الضحى وصلاة الفتح، وصلاة الضحى ثابتة وسنية المداومة عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا الدرداء وأبا هريرة بالمحافظة على صلاة الضحى. وكذلك أيضا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) -وهي المفاصل- ثم قال: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).
قال الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} [البقرة:59].
[قال البخاري: حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة).
ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفا، وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسندا في قوله تعالى: (حطة) قال: فبدلوا وقالوا: حبة.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} [البقرة:58] فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة)، وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعيرة).
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} [البقرة:58]).
ثم قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا].
يعني هذا من تبديل حرف بحرف، حطة حنطة.
[وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} [البقرة:58]).
وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سيقول السفهاء من الناس} [البقرة:142] قال اليهود: قيل لهم: {وادخلوا الباب سجدا} [البقرة:58] قال: ركعا، {وقولوا حطة} [البقرة:58] أي: مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} [البقرة:59]].
في نسخة: حبة في شعرة، وهو الأقرب.
[وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود: (وقولوا حطة)، فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء]
هذا باللغة العبرية، لغة اليهود.
[فذلك قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وادخلوا الباب سجدا) قال: ركعا من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا: حنطة، فذلك قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع.
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يقولوا حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزءوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} [البقرة:59] وقال الضحاك: عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب، وقال أبو العالية: الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم).
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها) الحديث].
والرجز هو العذاب، والطاعون نوع من العذاب، لكنه رحمة للمؤمنين وشهادة لكل مسلم كما في الحديث: (الطاعون شهادة للمسلم). وفي الحديث الآخر: (الشهداء خمسة، وذكر: المطعون والمبطون والحريق وصاحب الهدم).
[قال ابن جرير: أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم).
وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه].
{ولفظ البخاري: (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم).
ولفظ مسلم: (الطاعون رجس أو عذاب).
وفي لفظ: (الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناسا من عباده).
وفي لفظ آخر: (إن هذا الوجع أو السقم رجس عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد في الأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى)}.
وهو شهادة للمسلم
باب: ما يذكر في الطاعون.
قال ابن حجر في الفتح: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلا كان يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، ...
قصة بلعام ثلاث دعوات له وأنه دعا ثلاث دعوات وذهبت منه الدعوات أمره أن يدعو على موسى وعلى كل حال يعني عن سيئة الله أعلم بثبوتها لكن الله تعالى أخبر في كتابه {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} أما كون هذه الآيات بسبب هذه الدعوات هذا الأثر يقول أن هذه الدعوات آتاه الله كلها ضيعها فانسلخ منه والله أعلم
الرجز كما قال {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}كان بسبب فسقهم كما في الآية عتوهم وعنادهم وتغييرهم في القول والفعل
قوله تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة:60].
[يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها.
وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل.
وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا.
وقال قتادة: كان حجرا طوريا من الطور يحملونه معهم، حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه.
وقال الزمخشري: وقيل: كان من الرخام، وكان ذراعا في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان.
وقيل: كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار.
قال: وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا.
وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته.
قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر.
وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر، ثم يضربه فييبس.
فقالوا: إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم].
يكلم الحجر، يعني: يضربها، أو يجعل فيها كلم، والكلم: الجوف.
في هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم، ويخاطب الله تعالى اليهود في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحفاد اليهود السابقين الذين كانوا مع موسى، هم أحفادهم يذكر الله تعالى الأحفاد بالنعم لأن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد؛ ولهذا قال تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه) أي: اذكروا نعمتي عليكم في إخراج الماء من الحجر حينما استسقى موسى، هذا من نعم الله عليهم لما كانوا في التيه، وهي صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين.
أنعم الله عليهم بهذه النعم أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ولكنهم قوم عتاة، ومن ذلك: أن الله تعالى أغرق فرعون عدوهم وهم ينظرون، فلما ساروا مع موسى ومروا بقوم يعبدون صنما قالوا: {يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف:138]، الآن هم ينظرون أهلك الله عدوهم وهم ينظرون يعلمون أن الله ربهم، وأنه مستحق للعبادة، فلما مروا على قوم يعبدون صنما قالوا: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف:138]، ثم لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه أربعين ليلة، استخلف أخاه هارون وكان نبيا، عبدوا العجل صور لهم السامري العجل فعبدوه من دون الله، ثم بعد ذلك سأل موسى ربه التوبة لهم فتاب الله عليهم، كان من توبتهم أن قتل بعضهم بعضا، ثم لما بقي البقية منهم بعد توبتهم أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بيت المقدس، أن يفتحوها، وأن يقاتلوا العماليق وهم قوم كفار، وأخبرهم موسى عليه السلام أن الله وعدهم بفتحها إذا حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وقالوا: لا يمكن، قال لهم: إن الله وعدني احملوا عليهم، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، قالوا: لا: {إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها} [المائدة:22] {فاذهب أنت وربك فقاتلا} [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} [المائدة:26] أربعين سنة لا يهتدون إلى البلد، حتى ماتوا كل هؤلاء الجيل ماتوا في التيه -في الصحراء- ومات معهم موسى عليه السلام، ثم لما نشأ أحفادهم وأبناؤهم سار بهم يوشع بن نون فتى موسى كان نبيا بعد ذلك وفتح بهم بيت المقدس، ولما عاقبهم الله بالتيه في الصحراء أرض قاحلة ليس فيها أنهار وليس فيها عيون وليس فيها آبار، أنعم الله عليهم بنعم أعطاهم الله نعم كثيرة، منها: أن الله أنزل عليهم المن والسلوى، من مثل العسل ينزل عليهم كل يوم، غذاء وحلوى وفاكهة، والسلوى طائر يقال له السمانى يأكلون منه، فقالوا: هذا الأكل فأين الشراب؟ والشراب أمر الله موسى أن يضرب الحجر بعصاه فتنفجر اثنا عشر عينا كل سبط كل قبيلة لها عين حتى لا يتنازعوا ولا يختلفوا، الله أعلم بهذا الحجر، أما القول: بأن هذا الحجر طوله كذا وعرضه كذا، وأنه نزل من الجنة، وأنه من الطور، أو أن له عينان تتقدان، كل هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم بذلك، وإنما العبرة بالإيمان بأن موسى يضرب حجرا، الله أعلم بهذا الحجر فينفجر اثني عشر عينا، يضرب بعصاه فيكون اثنا عشر عين لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين حتى لا يتنازعوا ولا يختلفوا؛ ولهذا قال الله: {قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة:60]، وكذلك أيضا من نعمه عليهم في هذه الصحراء الشمس حارة في شدة الحر ولهبها صار يأتي عليهم الغمام مثل السحاب، يظلل عليهم حتى يزول الحر في الشدة، نعم عظيمة أنعم الله بها عليهم أنزل عليهم المن والسلوى طعام وشراب وتظليل ولكنهم قوم عتاة. وبهذا يتميز أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم صبروا في غزوة تبوك على الشدة والجهد والجوع الذي أصابهم، ولم يتعنتوا ولم يطلبوا ما طلب بنو إسرائيل من موسى، وإنما لما قل عليهم الطعام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله وأن يبارك فيه، وجمعوا ما عندهم فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله في هذا الطعام وملئوا كل إناء، وكذلك لما قل عليهم الماء أمرهم بأن يأتوا بإناء فيه ضحضاح من ماء، فبسط يده أصابعه وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه فملئوا كل وعاء. بهذا يتميز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفضلهم وعلمهم وصبرهم وتحملهم وتقديرهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فنسأل الله أن يوفقنا للسير على منهاجهم والتأدب بالآداب الشرعية، وتعظيم السنة والعمل بها واتباعها وملازمتها، إنه على كل شيء قدير.
يوشع كان فتى موسى عليهما السلام، لما ذهب إلى الخضر، لكن هو الذي فتح بيت المقدس هو الذي سار بهم وفتح بيت المقدس بعد وفاة موسى، هو الذي حبست له الشمس كان يوم الجمعة ليلة السبت يوم عيدهم، وخشي أن تغرب الشمس قبل أن يتم الفتح فدعا الله، وقال: اللهم احبسها علينا، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، حبسها الله ووقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ولم تحبس الشمس لأحد إلا لـ يوشع بن نون، وهذا ثابت في الصحيح.
[وقال يحيى بن النضر: قلت لـ جويبر: كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.
وقال الضحاك: قال ابن عباس: لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارا.
وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.
وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم.
وأما في هذه السورة وهي البقرة فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجها إليهم، وأخبر هناك بقوله: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} [الأعراف:160] وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخرا وهو الانفجار، فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم].
لأن سورة الأعرف مكية قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة، فالله تعالى يخبره عن بني إسرائيل بضمير الغيبة: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم} [الأعراف:160]، وهنا قال: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة:60]، وهنا في هذه الآية مدنية وهو يخاطب اليهود الذين في المدينة بعد الهجرة أما في سورة الأعراف يخبر عنهم بضمير الغيبة لأنهم قبل أن يكون النبي ﷺ عند اليهود ليس عنده يهود في ذلك الوقت في مكة ما عنده إلا مشركون في مكة فلما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام صار في المدينة اليهود ونزل القرآن يخاطب اليهود ويذكره بنعمه على أجدادهم
[وَبَيْنَ السِّيَاقَيْنِ تَبَايُنٌ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ لَفْظِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ قَدْ سئل عنها الزمخشري فِي تَفْسِيرِهِ وَأَجَابَ عَنْهَا بِمَا عِنْدَهُ، وَالْأَمْرُ في ذلك قريب. والله أعلم.]
قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة:61].
[يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم بذلك].
ومنه قوله تعالى: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء:2]، والمراد بذلك استبدال الأطعمة، فالباء إنما تدخل على المتروك، فهم قد استبدلوا الشيء الطيب وأخذوا بدله الأطعمة الرديئة.
[قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه. وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} [البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد].
قوله: دبركم، يعني: توليكم، وهذا من دنو همتهم، فإن الله تعالى أنزل عليهم المن، وهو يشبه العسل، يكون طعاما، ويركب مع غيره صار حلوى وفاكهة، والسلوى طائر لحمه من ألذ اللحوم، ومع ذلك يقولون: يا موسى! نريد البقل الكراث والثوم والبصل، لن نصبر على طعام واحد، كل يوم من وسلوى؟ نريد تغييرا {ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها} [البقرة:61] وشجر البقل معروف، ومنه البقالة الآن يبيع الكراث والبصل والثوم والقثاء الخيار وما أشبهه، والفوم هو الثوم أو غيره، فقال لهم موسى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة:61] يعني: تختارون الرديء وتتركون الجيد؟! وهل يقاس الآن الثوم والبصل والكراث بالمن والسلوى؟! ولهذا قال لهم موسى: هذه الأمور التي طلبتم دنيئة ما تستحق أن أسأل ربي، لو دخلتم أي بلد من البلدان تجدوها {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة:61] أي بلد تدخلونها تجدون الكراث والثوم والبصل، هذا يدل على دنو همتهم وتعنتهم. هذا من تعنتاتهم تعنتات بني إسرائيل
[فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناها، فوقع في قراءة ابن مسعود: (وثومها) بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم.
وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس، عن الحسن في قوله: {وفومها} [البقرة:61] قال: قال ابن عباس: الثوم، قال: وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا؟! قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير].
وهذي فوم وثوم، الحروف ينوب بعضها عن بعض، يقال: فوم، ويقال: ثوم، ويقال: أثافي وأثاثي، وعلى هذا القول فالفوم معناه الثوم، هذا أحد الأقوال.
[وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء، والثاء فاء لتقارب مخرجيهما. والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل عن قول الله: (وفومها) ما فومها؟ قال: الحنطة.
قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم].
وهنا القول الثاني الحنطة، يعني البر والقول الأول أقوى أنه الثوم والقول الثاني البر
[وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب].
وفي بعض النسخ: رشيد، والصواب أنه: رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني ضعيف من السادسة كما في التقريب.
[حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: (وفومها) قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة.
وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء: (وفومها) قالا: وخبزها.
وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحسين عن أبي مالك: (وفومها) قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. فالله أعلم.
وقال الجوهري: الفوم: الحنطة. وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة.
وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز.
قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي.
قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم].
يعني منقلب عن فام، أصلها فوم، فقلبت الواو ألفا فامي.
[وقوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}[البقرة:61] فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع].
يعني هذا من تعنتاتهم، لهم تعنتات كثيرة على أنبيائهم، والله سبحانه وتعالى يحنو عليهم وينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة.
[وقوله تعالى:(اهبطوا مصرا) هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف.
وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس: (اهبطوا مصرا) قال: مصرا من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف].
يريد بـ (مصر) الدولة المعروفة، والقراءة المعتبرة كما تقدم مصرا: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة:61] والمراد بـ (مصرا) يعني بلد من البلدان، أي مصرا من الأمصار، أي: اهبطوا أي بلد من البلدان، ولا يمكن أن يكون المراد الدولة المعروفة؛ لأنهم خرجوا منها ولا يريدون الرجوع إليها، وإنما المراد: اهبطوا أي بلد من البلدان، اهبطوا مصرا من الأمصار تجدون هذه التي طلبتم: البقول، والكراث والثوم
ما يحتاج أن تقولوا: (ادع لنا ربك) يعنى: ليس بالأمر المهم حتى أسأل ربي يعطيكم كرات وبصل هذه تجدونها في أي بلد من البلدان.
[وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك: بمصر فرعون].
هذه قراءة شاذة بدون صرف مصاحف الأئمة العثمانية التي أجمع عليها الصحابة: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة:61] بالتنوين، فلا تثبت قراءة: (اهبطوا مصر). قراءة شاذة
[وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضا. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضا. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قواريرا * قوارير} [الإنسان:15 - 16] ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟].
وهذا الاحتمال ضعيف، والأقرب القول الأول، أن المراد: أي مصر من الأمصار.
[وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره].
هذا هو الحق هذا هو الصواب كما قال الحافظ رحمه الله تعالى.
[والمعنى على ذلك؛ لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ أَيْ مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ لَمْ يجابوا إليه والله أعلم.
هذا بطر النعمة ملوها بطروا النعمة التي أنعم الله عليهم وملوها فكان من اشرهم وبطرهم ما نصبر على طعام واحد نريد تغيير وتبديل نريد كراث وبصل هذا من بطرهم نسأل الله السلامة والعافية
[قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة:61].
تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا، أي: لا يزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون
قال الضحاك قال ابن عباس (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) قال: هم أصحاب النيالات يعني الجزية]
والسبب عصيانهم وعتوهم وعنادهم، ومخالفتهم لأنبيائهم عوقبوا بهذا نسأل الله السلامة والعافية
والقبيل: هو العريف، أو رئيس اليهود الذي يأخذ الجزية من اليهود ويدفعها إلى المسلمين.
[وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة) قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: (وضربت عليهم الذلة) قال: الذل وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية].
تجبي منهم، أي: تأخذ منهم الجزية.
[وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة: الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، وقال الضحاك: الجزية.
وقوله تعالى: (وباءوا بغضب من الله) قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير: (وباءوا بغضب من الله) يقول: استوجبوا سخطا.
وقال ابن جرير: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله) انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء، ومنه قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} [المائدة:29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} [البقرة:61].
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)].
جمعوا الشرور كلها والعياذ بالله؛ كفروا بالله، وقتلوا أنبياء الله، وتجاوزوا الحدود، وقد توعدهم الله بقوله: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران:22]، وهذا من أعظم الذنوب أعظم الكفر، كفروا بالله وقتلوا أنبياء الله نسأل الله السلامة والعافية.
الوهم يحصل الحافظ ابن كثير له عناية بالسنة، ولكن الوهم لا يسلم منه أحد.
[وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: (كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله! قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك هو البغي؟ فقال: لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي من بطر، أو قال: سفه الحق وغمط الناس).
يعني: رد الحق، وانتقاص الناس، والازدراء بهم، والتعاظم عليهم].
غمط الناس، يعني: احتقارهم، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، أفذلك من الكبر؟ قال: لا، الكبر بطر الحق وغمط الناس)، يعني: رد الحق، ودفعه، وعدم قبوله، وغمط الناس يعني: احتقارهم وازدراءهم، والتعاظم عليهم والترفع عليهم. هذا هو الكبر
أما كون الإنسان تكون ثيابه جميلة ونعله جميلة، وهو يقبل الحق ولا يرده، ولا يحتقر الناس فلا يضره هذا
الرجل لا يحب أن يكون أحد أفضل منه في ثيابه وغيره، فإذا لم يكن من باب الترفع، وإنما من محبة الجمال، يعني يحب أن يساوي غيره ولا يكون أحدا أعلى منه لكن لا يكره أن يساويه غيره فلا بأس
[ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار].
الظاهر أن سنده لا بأس به، لولا عنعنة الأعمش، أما إبراهيم فالظاهر أنه إبراهيم النخعي، لكن في متنه غرابة، كونه يجتمع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، هذا غريب بعيد ثلاثمائة نبي كلهم في زمن واحد فيقتلونهم من أول النهار ثم يفتحون البقالات من آخر النهار، وكأنهم ما عملوا شيئا، هذا بعيد فيه غرابة، يحتمل أن هذا أخذه ابن مسعود من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند صحيح لا بأس به إلى ابن مسعود، لكن ابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل، يعني اجتماع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، هذا بعيد لا شك أن أنبياء بني إسرائيل يجتمع أنبياء في وقت واحد، كيحيى وزكريا وعيسى، اجتمعوا في وقت واحد وداود وسليمان في وقت واحد وإبراهيم ولوط في وقت واحد لكن ثلاثمائة نبي هذا بعيد، الأقرب أن هذا مما أخذه ابن مسعود رضي الله عنه من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند صحيح لا بأس به إلى ابن مسعود.
[وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا وإمام ضلالة وممثل من الممثلين)].
وهذا فيه وعيد شديد على هؤلاء، أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي من قتل نبيا والعياذ بالله، ارتكب جريمة عظيمة، الأنبياء هم أفضل خلق الله، وهم الدعاة إلى الله والمبلغون عن الله، فإذا قتله دل على شدة عداوته وكفره، وكذلك من قتله نبي، ما قتله النبي إلا لشدة عداوته وإيذائه، وكذلك إمام ضلالة، الإمام الذي يدعو إلى الضلالة، ويشمل الأمراء والعلماء. سواء كان أمير يدعو إلى ضلالة أو عالم يدعو إلى ضلالة
قوله: وممثل من الممثلين.
المراد: مصور من المصورين، ليس المراد الممثل المعروف عصريا، الذي يمثل يحكي عن غيره لا، المراد المصور وهؤلاء الثلاثة أعظم الناس عذابا، مثل ما جاء في الحديث الآخر: (أشد الناس عذابا يوم القيامة هم المصورون)، وقال عليه السلام: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وإمام الضلالة جاء في حديث ثوبان أيضا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خافهم على أمته، فقال: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، وهم الأمراء والعلماء، ذكر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، في باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، قال: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) إمام الضلالة: الذي يدعو إلى ضلالة.
هؤلاء الثلاثة من أشد الناس عذابا: من قتل نبيا أو قتله نبي؛ وإمام ضلالة؛ وممثل وهو المصور، ومثله أيضا الذي يحكي هذا منهي عنه لا شك وهو آثم؛ لأن هذا من التزوير، ومن تغيير خلق الله.
في مسند أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا عوف عن خلاس عن أبي هريرة: (اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله نبي، وقال روح: قتله رسول الله، واشتد غضب الله عز وجل على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا لله عز وجل).
وفي الحديث الآخر: (إن أخنع اسم رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله)
قال: حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل) صحيح مسلم
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، وَالِاعْتِدَاءُ الْمُجَاوَزَةُ في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم].
العصيان فعل المحرمات والعدوان ترك الواجبات جمعوا بين الشرين فعلوا المحرمات وتعدوا الحدود التي حدها الله تركوا الواجبات فعوقبوا بسبب ذلك من عصيانهم قتلهم الأنبياء وهذا من أعظم العصيان وجحدهم توحيد الله لأن من قتل نبيا فقد كفر قد جحد توحيد الله من توحيد الله طاعة الأنبياء ومتابعة الأنبياء فمن قتلهم فقد كفر وقد انتقض توحيده وإيمانه
قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة:62].
: [لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت:30].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدوي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة:62] الآية).
وقال السدي: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا} [البقرة:62] الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي: (بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان! هم من أهل النار.
فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية)، فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا].
فهذه الآية الكريمة عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كل من آمن وعمل صالحا فهو ناج من أي أمة من الأمم سواء كان هذه الآية نزلت في سلمان أو في غيره: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة:62]، كل من آمن وعمل صالحا ووحد الله، واتبع النبي الذي أرسل إليه في زمانه فهو من الناجين، ومن لم يؤمن بالله وخالف النبي في زمانه الذي بعث إليه فهو هالك، كل إنسان مطالب في كل وقت بالتوحيد والإيمان بالله واتباع النبي الذي أرسل إليه، حتى يأتي النبي الذي بعده، فإذا جاء النبي الذي بعده ولم يؤمن به كان هالكا، فالناس مأمورون بالإيمان والتوحيد واتباع نوح في زمانه عليه الصلاة والسلام، حتى بعث الله هودا، فصار الناس مطالبين بالتوحيد والإيمان بالله واتباع هود عليه الصلاة والسلام، حتى جاء صالح، وهكذا في زمن إبراهيم، وفي زمن موسى، وفي زمن عيسى، حتى بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فكانت بعثته عليه السلام عامة للثقلين الجن والإنس العرب والعجم، فمن لم يؤمن بالله ويتبع محمدا عليه الصلاة والسلام فهو من الهالكين، وهو من أهل النار، قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
[قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت: وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن بعثه بما بعثه به].
والإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، وهو دين الأنبياء جميعا، ولهذا قال: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران:85] في أي مكان وفي أي زمان، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران:85]، والإسلام هو توحيد الله والإيمان به، وتعظيم الأوامر والنواهي، وطاعة كل نبي في زمانه، فالإسلام في زمن آدم توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح توحيد الله وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله والإيمان به وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم توحيد الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، فالإسلام بمعناه العام دين الأنبياء جميعا وبمعناه الخاص ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة.