ذكر هذا حتى في الجاهلية معروف في الجاهلية، وأنهم ماتوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد، ما يدور الحول وبقي منهم عين تطرف ما دار الحول وبقي منهم أحد باهلوا قبيلة
[وقال الضحاك عن ابن عباس: {فتمنوا الموت} فسلوا الموت، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا)، حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به].
وهذا ثابت عن ابن عباس وأن هذا في المباهلة.
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم.
قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} [البقرة:95]، وهذا غريب عن الحسن].
غريب وضعيف عن الحسن، والصواب الأول، وهو ما ثبت عن ابن عباس، وأن هذا في المباهلة، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا. سند الحسن فيه انقطاع ضعيف
[ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين، أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة].
كما قال في نصارى نجران {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}[آل عمران:61] هذه المباهلة دعاء على أي الفريقين كان كاذبا بالهلاك
[ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة:{قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين*ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين*قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}[الجمعة6 8]
فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [البقرة:111] دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران:61].
فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} [مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه، ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى].
لما قالوا له ابعث معنا أمينا قال لأبعثن أمينا حق أمين، فاستشرف الناس لها، فبعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه هذا من مناقبه.
[أما من فسر الآية على معنى: {إن كنتم صادقين} [الجمعة:6]، أي: في دعواكم فتمنوا الآن الموت، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعدما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس} [البقرة:94] الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وَجَادَلُوهُ فِيهِ إِلَى فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ المباهلة، فقال لفريق الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ ذلك غير ضاركم إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أُمْنِيَتَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا تَمَنَّيْتُمْ، فَإِنَّمَا تَصِيرُونَ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا وَكَدَرِ عَيْشِهَا وَالْفَوْزِ بِجِوَارِ اللَّهِ فِي جَنَّاتِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، مِنْ أَنَّ الدَّارَ الآخرة لكم خاصة دُونَنَا، وَإِنْ لَمْ تُعْطُوهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمُ الْمُبْطِلُونَ وَنَحْنُ الْمُحِقُّونَ فِي دَعْوَانَا، وَانْكَشَفَ أَمْرُنَا وَأَمْرُكُمْ لَهُمْ، فَامْتَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهَا، أَنَّهَا إِنْ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ هَلَكَتْ فَذَهَبَتْ دُنْيَاهَا، وَصَارَتْ إِلَى خِزْيِ الْأَبَدِ فِي آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِذْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ في دعواهم، أنهم يتمنون
الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ وُجُودِ الصَّلَاحِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ، وَكَمْ مِنْ صَالِحٍ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، بَلْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ لِيَزْدَادَ خَيْرًا وَتَرْتَفِعَ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عَمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ]
فيه ضعف لكن له شواهد حسن الحديث خيركم من طال عمره وحسن عمله من شواهده حديث لا يتمنى أحدكم الموت فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيرا وهو ثابت في مسلم
[ وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا: فَهَا أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَنْتُمْ لَا تَتَمَنَّوْنَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قِيلَ لَهُمْ كَلَامٌ نَصَفٌ]
(يعني عدل كلام عدل النصف يعني العدل من الإنصاف يعني كلام فيه عدل)
[بَلْ قِيلَ لَهُمْ كَلَامٌ نَصَفٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَاهِلُوا عَلَى ذَلِكَ وَادْعُوا عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُبَاهَلَةَ تَسْتَأْصِلُ الْكَاذِبَ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ، نَكَلُوا (يعني امتنعوا) عَنِ الْمُبَاهَلَةِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، فَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بَاطِلَهُمْ وَخِزْيَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَعِنَادَهُمْ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ تَمَنِّيًا، لِأَنَّ كُلَّ مُحِقٍّ يَوَدُّ لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُبْطِلَ الْمُنَاظِرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ في ذلك حجة له في بَيَانُ حَقِّهِ وَظُهُورُهُ، وَكَانَتِ الْمُبَاهَلَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِنْدَهُمْ عَزِيزَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ سُوءِ مَآلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وَعَاقَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ الْخَاسِرَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَامِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ. وَمَا يحاذرون منه وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ حَتَّى وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا؟ قال:
الأعاجم، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى سَنَدِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أَحَدُ الْيَهُودِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ السِّيَاقِ، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد الْمَجُوسُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: هو كقول الفارسي «ده هزار سال» يَقُولُ: عَشَرَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَفْسِهِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ هو قول الأعاجم هزار سال نَوْرُوزْ مَهْرَجَانْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: حَبَّبَتْ إِلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ طول العمر، وقال محمد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أي وما هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا له في الآخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم، وقال العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ عَادَوْا جبرائيل، قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عُمَرَ: فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا مُنْجِيهِ مِنْهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الآية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عَمَّرَ إِبْلِيسُ لَمْ يَنْفَعْهُ إِذْ كَانَ كَافِرًا، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي خبير بصير بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَسَيُجَازِي كل عامل بعمله
في هذه الآية بيان محبة اليهود للبقاء في الدنيا وأنهم أحرص الناس على البقاء في هذه الدنيا حتى أنهم أحرص من الوثنيين ومن الذين أشركوا هذا عام يشمل الأعاجم وغير الأعاجم من الذين أشركوا من الوثنيين فاليهود أحرص الناس على حياة من كل أحد حتى من الذين أشركوا " يود أحدهم لو يعمر ألف سنة " ولو عمر ألف سنة ليس ذلك بنافعه ولا بمنجيه من عذاب الله ما يحذره لابد أن يقع به نسأل الله السلامة والعافية
قول الله تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:97 - 98].
: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته. ذكر من قال ذلك].
وهذه عادة ابن جرير، فيذكر القول ثم يقول: ذكر من قال ذلك، ثم يسرد الأقوال.
قبح الله اليهود، فرقوا بين الملائكة كلهم، جبرائيل وميكائيل وسائر الملائكة، كلهم أتوا بالخير، وكلهم معظمون لأمر الله، وكلهم يأتمرون بأمر الله {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6]، وقال: {بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء:26 - 27] لكن هذا من خبث اليهود والعياذ بالله، فرقوا بين جبريل، فقالوا: جبريل عدونا، وميكائيل ولينا. وقالوا: جبريل ينزل بالعذاب وبالهلاك، وميكائيل ينزل بالقطر وبالنبات وبالخير، هكذا يزعمون! قبحهم الله.
[حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم].
عصابة بكسر العين يعني: جماعة أما عصابة بالضم فهي اللفافة التي على الرأس.
[عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا أبا القاسم! حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام، فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة، ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني، فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه]
قوله: (نشدتكم بالذي أنزل التوراة)، هذا ليس قسما، وإنما هو سؤال لهم بما يعظمونه، كأن تقول مثلا: أسألك بالرحم، يعني: بحق الرحم، أو أسألك بحق أبيك، أو بحق أخيك، فأنت تسأل مخلوقا بشيء هو يعظمه، وليس قسما هذا، وإنما هو سؤال المخلوق بشيء يعظمه، لا بأس ومنه قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء:1]، على قراءة الجر: (والأرحام)، يعني: أنهم كانوا يتساءلون بالأرحام، ويقول بعضهم لبعض: أسألك بحقي عليك إلى آخره، أو أسألك بالرحم الذي بيني وبينك، أو أسألك بحق أبيك أو بحق أخيك ليس حلفا وإنما سؤال المخلوق بشيء يعظمه
[فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم)].
يعني صدقوه، وافقوه بقولهم: اللهم نعم.
[(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل؟ قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد، وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟]
هذا من خبثهم الآن وافقوا على هذه الأشياء وصدقوه صار ما لهم حيلة الآن في التكذيب قالوا نسألك من هو وليك من الملائكة هذه بيننا وبينك، فلما قال: إن وليه جبريل، قالوا: لا لو كان ميكائيل ما نتبعك لأن جبريل هذا عدونا، لو كان ميكائيل تابعناك، وهذا من خبثهم نسأل الله العافية.
[(قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك)].
ومعنى: (نجامعك) يعني: نجتمع معك ونوافقك، أو نخالفك.
[(قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} إلى قوله{لو كانوا يعلمون} فعندها باءوا بغضب على غضب وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به ورواه أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه].
عبد الرحمن بن حميد صاحب التفسير المذكور في السند هو يقال له: عبد الرحمن بن حميد ويقال له: عبد بن حميد.
[وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة؟ وكيف تذكر؟)].
قولهم: (كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟) يعني: كيف يكون الولد أنثى، وكيف يكون الولد ذكرا في بطنها.
[قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة؟ وكيف تذكر؟ قال يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النساء)].
وعرق النساء: هو مرض يقال له: عرق النساء.
[(فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا، قال أحمد: قال بعضهم: يعني: الإبل -فحرم لحومها- قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه، أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه الصلاة السلام، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة:97] إلى آخر الآية).
رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به، وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: (أن يهودا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، قال: جبرائيل، قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: {قل من كان عدوا لجبريل} الآية).
قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت اليهود: (يا محمد! ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال، فإنه لنا عدو، فنزل: (قل من كان عدوا لجبريل) الآية). قال البخاري: وقوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل) [البقرة:97]، قال عكرمة: جبر وميك وإسراف: عبد إيل: الله].
أي: أن كلمة (جبرائيل) مكونة من كلمتين، جبر، ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (ميكائيل) مكونة من كلمتين: ميك، معناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (إسرافيل) أيضا مكونة من كلمتين ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وقيل بل العكس؛ لأن الكلمات الأعجمية قد يقدم فيها المضاف إليه على المضاف.
[حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف].
ومعنى يحترف بالحاء أي: يشتغل يعني وهو في أرضه يشتغل عبد الله رضي الله عنه هذا أول إسلامه عندما سمع بمقدمه صلى الله عليه وسلم، وكلمة: يحترف مأخوذة من الحرفة. وتحتمل هذه الكلمة وجها آخر وهو: يخترف -بالخاء- أي: يجني الثمر، من الخراف جني الثمر، ومنه الخريف؛ لأن جني الثمار يكون في وقت الخريف. الثمار تخرف وتجنى
[(سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهذه جبرائيل آنفا)].
قال يعني قال النبي صلى الله عليه وسلم. نعم.
[(قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك} وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت)].
بادر بالتوبة رضي الله عنه، عبد الله بن سلام الإسرائيلي، وهو مشهود له بالجنة، واليهود قوم بهت، ما أسلم منهم إلا القلة، ولهذا أنكروا قوله عبد الله بن سلام كان سيدا فيهم، فلما أسلم أنكروا فضله، في وقت واحد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، فلما خرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قالوا: شرنا وابن شرنا في الحال، من خبثهم قبحهم الله. ولم يسلم من اليهود إلا قلة
جاء في الحديث: أنه لو أسلم عشرة لتبعهم اليهود، لأن اليهود قوم بهت، خبثاء عندهم شدة وعتو وعناد، بخلاف النصارى فإنهم أقرب منهم وألين قلوبا، فلهذا يسلم الآن في مكاتب الدعوة الآلاف من النصارى، مئات وما سمعنا يهوديا أسلم، نعوذ بالله من اليهود ومن أفعالهم.
(وقوله زيادة كبد الحوت) الكبد فيها قطعة صغيرة زائدة، هذه الزيادة التي في كبد الحوت هذا طعام أهل الجنة، كبيرة يعني حوت كبير وزيادتها القطعة الزائدة تكفي أهل الجنة، وهي أول طعامهم.
[(قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا)].
وكان عبد الله بن سلام قد اختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسألهم عنه.
[قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه]
في الحال يعني أثنوا عليه في الحال، وانتقصوه في الحال.
[(فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله!) -انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجاه من وجه آخر عن أنس بنحوه].
يعني ثابت في الصحيح.
[وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى].
وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله، وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة، ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة، ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال: إن جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد الله، إيل: الله. ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء.
وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريبا. ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله].
يعني عكس جبر: عبد، ومعنى: إيل: الله، وهذا القول الثاني: بالعكس إيل هو: عبد، وجبر: الله، لأنها كلمة أعجمية، والعجم يقدمون المضاف إليه على المضاف، خلافا للعرب يقدمون المضاف على المضاف إليه، نحو: عبد الله، فعبد مضاف، والله الاسم الشريف مضاف إليه، لكن الأعاجم بالعكس وهذا تجدونه الآن في لهجة بعض الأعاجم الباكستاني يقول ثاني واحد، فيقدم الثاني على الواحد.
[ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله].
يعني يوازن هذا في اللغة العربية.
[واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف. والله أعلم].
سؤال هؤلاء للرسول عن ذكورية المرء أو أنوثيته، وقوله لهم: إن ذلك سببه سبق للماء أو علوه، وكذلك يكون الشبه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان المولود ذكرا وأشبه أباه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كان المولود أنثى وأشبه أمه، فيكون الشبه وتحديد الجنس بناء على الماء السابق.
وقد جاء في بعض الأحاديث: (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له، وفي بعضها: إذا سبق).
وبعضهم فرق بين السبق وبين العلو فقال: إذا علا كان الشبه له، وإذا سبق كان الولد ذكرا أو أنثى؛ أي: أن العلو هو الذي يحدد الشبه، وأن السبق يحدد الجنس.
[(ثم قال ابن جرير وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى حدثني ربعي بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل عمر الروحاء فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها فقالك ما بال هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا قال: فكره ذلك وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها، ثم ارتحل فتركه، ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم)].
قوله: يوم مدراسهم، يعني: اليوم الذي يجتمعون فيه.
[كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن، ومن القرآن كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم ذلك؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق القرآن، قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم: عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا].
يجوز ضبطها بإذا أو إذ نشدتنا، ولكن إذا أحسن فيضبط بها، بمعنى: حين أنشدتنا.
[قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذا هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة، قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو ذلك، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا، قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت: فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: (يا ابن الخطاب! ألا أقرئك آيات نزلن قبل، فقرأ علي: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة:97]، حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر)].
هذا كما سبق منقطع، واليهود لا شك في خبثهم، وقد تقدم ما ذكره المؤلف رحمه الله من سبب النزول.
[وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر].
عامر هو عامر الشعبي، مجالد ضعيف والشعبي لم يدرك عمر، هذا أيضا كذلك منقطع فهو ضعف.
[قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: نعم، قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا، وإن جبرائيل كفل محمد، وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا.
قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل، فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب! فقام إليه عمر فأتاه، وقد أنزل الله عز وجل: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98].
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر؛ فإنه لم يدرك زمانه. والله أعلم].
وفيه أيضا: في السند الأخير مجالد، وهو ضعيف.
[وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما أبصروه رحبوا به].
لعلها فلما أبصروه؛ لأن الترحيب يكون عند الدخول لا عند الانصراف، فلما أبصروه رحبوا به.
وقوله: قال ابن جبير، لعله ابن جرير، والحديث الأول يدل على أن جبريل هو ملك الوحي، أو هو الموكل بالوحي، وهذا هو الظاهر، وربما أتى غيره، لكن المعروف أن جبريل هو ملك الوحي.
[وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما أبصروه رحبوا به فقال لهم عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل، فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة].
يعني: جاء بالجدب السنة الجدب والقحط.
[ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمدا صلى الله عليه وسلم؟].
والخصب يعني: المطر والخير، ضد القحط والجدب.
[ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة:97] الآيات]
وما جاء في بعض النسخ قال ابن جرير: حدثنا بشر، ولكن عندنا بشير، ولكن إذا جاء في مشايخ ابن جرير هذا الاسم فهو بشر بن معاوية.
[ثم قال: حدثنا المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه، وهذا في تفسير آدم، وهو أيضا منقطع].
لأن قتادة رواه بلاغا، فيكون منقطعا.
[وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو منقطع أيضا].
وكذلك منقطع عن السدي عن عمر.
[وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98]، قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي].
وأبو جعفر الرازي كذلك أيضا فيه ضعف، وعبد الرحمن بن أبي ليلى في سماعه من عمر نظر، لكن هذه الآثار مجموعها يشد بعضها بعضا، مع الآثار التي ذكرها المؤلف تدل على أن لهذا أصلا، وأن سبب نزول هذه الآية قول اليهود قبحهم الله: إن جبريل عدو لنا، فأنزل الله هذه الآية:{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:97 - 98].
وميكال يقال له: ميكال وميكائيل، وكله سواء، واليهود قبحهم الله قوم بهت وخبثاء، هذا من خبثهم وضلالهم، واستكبارهم عن عبادة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو وفقوا للخير لآمنوا واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وسلموا لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.
[وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: (من كان عدوا لجبريل) قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه عدو لنا، قال: فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب، أخبرنا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال: قالت اليهود: إن جبرائيل عدو لنا. لِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالشِّدَّةِ وَالسَّنَةِ، وَإِنَّ مِيكَائِيلَ يَنْزِلُ بالرخاء والعافية والخصب، فجبرائيل عدو لنا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية
[وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) فإنه نزل على قلبك بإذن الله، أي: من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء:150] الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق، إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم.
وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم:64] الآية، وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء:192 - 194]].
وذلك أن الرسل متضامنون عليهم الصلاة والسلام، فالمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق بالمتقدم، كما قال الله تعالى عن عيسى: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6]، فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولهذا قال سبحانه: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء:105]، وهو أول رسول بعثه الله إلى الأرض، فجعلهم مكذبين للرسل: {كذبت عاد المرسلين} [الشعراء:123] وقال: {كذبت ثمود المرسلين} [الشعراء:141] وقال: {كذبت قوم لوط المرسلين} [الشعراء:160] وقال أيضا: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} [الشعراء:176]، وكذلك الرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام، من كذب برسول فقد كذب بالجميع، وجبريل وميكائيل وإسرافيل هؤلاء الأملاك الثلاثة هم أفضل الملائكة، وهم الموكلون بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي، الذي فيه حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر، الذي فيه حياة الأبدان أبدان الآدميين والحيوانات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، الذي فيه إعادة الأرواح إلى أبدانها.
وأفضلهم جبريل عليه الصلاة والسلام، وهو ملك الوحي، ولما كان هؤلاء الأملاك الثلاثة موكلين بما فيه الحياة، توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة في حديث الاستفتاح في صلاة الليل، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح بهذا الاستفتاح: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فمن كذب برسول ملكي أو رسول بشري فهو كافر بالجميع، نسأل الله السلامة والعافية.
[وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب). ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه} [البقرة:97]، أي: من الكتب المتقدمة، {وهدى وبشرى للمؤمنين} [البقرة:97] أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت:44] الآية، وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء:82] الآية]. قال الله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98].
يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج:75]، (وجبريل وميكال) وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل؛ ثم خصصا بالذكر، لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا؛ ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان].
يعني: ميكائيل، هذا ما ذكره المؤلف، والمعروف أن جبرائيل هو السفير بين الله وبين أنبيائه ورسله.
[كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر].
المعروف أن الذي قرن برسول الله ابتداء هو جبريل هذا يحتاج إلى دليل
[ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وقد تقدم ما حكاه البخاري.
ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال: جبر وميك وإسراف: عبيد وإيل: الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: الله.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا، قال: اسمه عبد الله، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك، ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله.
قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض، وقال: لهذا الحديث أحب إلى من كل شيء وكتبه في دفتر كان بين يديه، وفي جبرائيل وميكال لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات].
والسياق يقتضي أن تكون الجملة: (وكتبه في دفتر بين يديه).
[ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك، إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة وهو المستعان].
وقوله تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98]، فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل: فإنه عدو، بل قال: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98].
الأصل أن يقول: فإنه عدو لهم بعد {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة:98]، ولكنه قال: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98]؛ لبيان هذا الحكم وإيضاحه وأهميته.
[كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء سبق الموت ذا الغنى والفقيرا].
فهنا كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء.
وقوله: (سبق الموت) جاء في نسخة أخرى: نغص الموت ذا الغني والفقير؛ نغص أحسن، والشاهد هنا أنه كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء، فجعل المظهر مكان المضمر، مثل قوله تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة:98] وكان الأصل فإنه عدو لهم.
[وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج].
الأصل كان هو كرر كلمة: (الغراب) هنا
[وإنما أظهر الله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة)].
لتقرير هذا الحكم وبيانه وإيضاحه، أظهر الله الاسم الشريف هنا.
[وفي الحديث الآخر: (إني لأثأر لأوليائي كمن يثأر الليث الحرب)].
والحرب، على وزن اللعب، والليث: هو الأسد، والحرب يعني: الغضبان، المعنى: إني لأنتصر لأوليائي كما ينتصر الأسد الغضبان.
و [وفي الحديث الآخر: (إني لأثأر لأوليائي كمن يثأر الليث الحرب) وفي الحديث الصحيح: (من كنت خصمه خصمته)].
ذكر هذا الحديث وقال: إنه صحيح، وهذا له أصل، رواه ابن ماجة.
إقامة الله الحجة على أهل الكتاب
قال الله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} [البقرة:99 - 101].
: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات) الآية، أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعه إلى هلاكه الحسد والبغي].
قوله: (ولم يدعها إلى هلاكه) الصواب: ولم يدعه، فالضمير يعود إلى الهلاك.
[إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئا منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات)، يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان عليهم حجة لو كانوا يعلمون].
وهذا أمر واضح لا شك أن هذا الأمر واضح، نبي كريم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، يأتيهم بأخبارهم وما يسرونه بينهم، وما يوافق ما في التوراة، وهم يعلمون، يرونه ويعرفونه عليه الصلاة والسلام، أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأتيهم بهذا القرآن العظيم البليغ الفصيح الذي بهرهم بهر العقول، وأتاهم بالأخبار الماضية والمستقبلة، وبما يوافق ما في كتبهم، ومع ذلك حملهم الحسد والكبر والبغي على الكفر نسأل الله السلامة والعافية.
[وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة:99]).
وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا، فأنزل الله تعالى: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} [البقرة:100]
اليهود قوم بهت والعياذ بالله، يكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة وللعلماء بالخصوص أن يكتموا الحق، فيصيبهم ما أصاب أولئك، فقص الله نبأهم، وما حصل منهم من الاستكبار والاستنكاف عن قبول الحق والبغي والحسد؛ تحذيرا لهذه الأمة من هذه الأوصاف الخبيثة الذميمة، حتى لا يصيبهم ما أصابهم.
الواجب على كل مسلم أن يبين الحق ويظهره، ولاسيما العلماء، فيجب عليهم أن يظهروا الحق ويبينوه للناس، ولا يكتمونه، والواجب على كل إنسان أن يقبل الحق ممن جاء به أيا كان.
[وقال الحسن البصري في قوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون} [البقرة:100] قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غدا. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نبذه فريق منهم، أي: نقضه فريق منهم.
وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذا، ومنه سمي النبيذ، وهو: التمر والزبيب إذا طرحا في الماء قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكما قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها،
ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف:157] الآية، وقال هاهنا: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} [البقرة:101] الآية، أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم -مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم، أي: تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر ذي أروان].
البئر هو بئر ذي أروان، وهو لبيد بن الأعصم اليهودي قبحه الله، سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، والمشط: هو البقية من الشيء الذي يمشط به الشعر. في جف طلعة ذكر، يعني: في وسط غلاف وعاء النخل الذي يكون فيه اللقاح، ذكر يعني: الفحال، وقد أخذ الغلاف الذي يأكل فيه، وجعل فيه مشطا ومشاطة، وجعلها تحت راعوفة، أي: تحت صخرة في بئر ذي أروان؛ من خبثه يعني جمع المشط والمشاطة وأتى بجف طلعة ذكر وعاء طلع الفحال ووضعه فيه ثم نزل في البئر وجعلها تحت صخرة في هذا البئر من يستطيع استخراجه من خبثه، وبئر ذي أروان بئر معروف واستخرج هذا
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله: (لماذا لم تدفن البئر؟ قال: أما أنا فقد عافاني الله وخشيت أن أثير على المسلمين شرا) كما ثبت في الحديث الصحيح. أمر به فاستخرج من نحن راعوفة
وقوله: (مشاقة) بالقاف، يعني: البقية، وقد جاء أنه في مشط ومشاطة -بالطاء- والمعنى واحد، يعني: بقية الشعر الذي يبقى على المشط، أو المشاطة، والمشط نفسه هو المشاطة والبقية.
وسيذكر المؤلف رحمه الله أنواعا من الطرق، يأتي بها المؤلف ويطول فيها في مبحث يتكلم فيه على آية السحر، وذكر في هذا المبحث جميع ما يتعلق بالسحر.
هل تقبل توبة الساحر؟
نعم، إن للساحر توبة، وكل أحد تقبل منه التوبة، فمن جاء بالتوبة بشروطها قبل الموت تاب الله عليه، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر:53]، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين لمن تاب فيما بينه وبين الله، أما بينه وبين الناس فيه كلام لأهل العلم: هل يستتاب الساحر أو لا يستتاب؟ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
[وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر ذي أروان وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه. قال السدي: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} [البقرة:101] قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قوله{كأنهم لا يعلمون} [البقرة:101]. وقال قتادة في قوله: ((كأنهم لا يعلمون)) قال: إن القوم كانوا يعلمون، لكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{واتبعوا ما تتلوا الشياطين} [البقرة:102] وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه قام الناس على الدين كما كان وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي سليمان عليه الصلاة والسلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان].
قوله: [حدثان ذلك]: بكسر الحاء يعني: إثر ذلك، وعقب ذلك.
[وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} [البقرة:101] الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} [البقرة:102].
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية].
قوله: [سلم بن جنادة] سلم، وهو ثقة وربما خالف.