شعار الموقع

سورة البقرة - 20

00:00
00:00
تحميل
43


الفراسة: حدة النظر والتأمل، قال الله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر:75] أي: للمتفرسين، وفي الحديث: (اتقوا المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وهو حديث ضعيف، لكن له شواهد ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني في شرح الطحاوية لكن ذكر له شواهد يتقوى بها يكن من باب الحسن
والفراسة أنواع: فراسة إيمانية، وفراسة رياضية وفراسة خلقية فالفراسة الإيمانية: سببها نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن، وهذه محمودة، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين.
والثاني: فراسة رياضية وهي التي يذكرها الأطباء والصوفية، ومن ذلك أنه يروض نفسه يقلل الطعام ويقلل النوم، ويقلل من مخالطة الناس، ويعصب عينيه، يحصل له في ذلك أنوار تكون أنوار شيطانية، وهذا مثل الذي ينظم أكله لكي يصح بدنه، وهو مثل ما يفعله بعض الناس ويسمونه (رجيم)، فهو من هذا الباب يعني يقلل الطعام ويقلل الشراب، وكذلك أيضا كثير الأظناء وكثير الأوهام كلها من هذا الباب وكلها مشتركة بين المؤمن والكافر، قد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة.
وهناك فراسة تسمى فراسة خلقية، وهي الاستدلال بالخلق على الخلق، وهذه أيضا مشتركة بين المؤمن والكافر، تكون محمودة وتكون غير محمودة، يستدلون بالخلق على الخلق يستدلون -مثلا- بطول الرقبة على الغباوة، وبالقصر على الحماقة، وبسعة الصدر على سعة الخلق، يستدلون بكلال النظر على جمود العينين وهذه قد يصيبون وقد يخطئون، الفراسة الرياضية والفراسة الخلقية فالفراسة الإيمانية هذه خاصة بالمؤمنين، وسببه نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن.
  [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريض].
سميت النميمة سحرا لما فيها من تغير القلوب كما أن السحر فيه تغيير للقلوب وسميت النميمة سحرا لأن لها تأثير في الخفاء، لأن أصل السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، والنميمة فيها تأثير في الخفاء، وهي داخلة في السحر من جهة اللغة؛ لأن السحر عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه البيان والفصيح والبليغ، الذي يؤثر في الناس حتى يقنعهم، قد يقلب الحق باطلا، ويقلب الباطل حقا بسبب فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره، وقدرة تصرفه بأنواع الكلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحرا). وسمي السحر سحرا لأنه يقع خفيا آخر الليل، هذا من جهة اللغة، فيدخل في السحر لغة: النميمة والبيان. كل هذا سمي سحرا
  [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريض من وجوه خفيفة لطيفة؛ وذلك شائع في الناس].
لعل الصواب (خفية)، فهي قد تخفى، فإنه يأتي إلى هذا ويكلمه ويقول: إن هذا يتكلم فيك، ثم يأتي إلى الآخر ويكلمه خفية، فالمقام يقتضي أن المراد أنها (خفية) لا (خفيفة)؛ لأن المقام ليس في ذكر الخفة والثقل، وإنما المراد ذكر ويؤيده قوله: لطيفة.
  [وذلك شائع في الناس قلت: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: (ليس بالكذاب من ينم خيرا)، أو تكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبني قريظة، جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، والله المستعان].
تسمية هذا النوع الثاني نميمة فيه نظر، إلا من جهة أنه عمل خيرا في الخفاء، وأخذا بعموم الحديث "ليس الكذاب الذي يقول خيرا أو ينمي خيرا" من هذه الجهة لكن المعروف أن النوع الأول هو الذي يسمى نميمة، وأما هذا النوع إصلاح وخير.
  [ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، قلت: وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه].
دخل في السحر لأنه تدخل من جهة اللغة حيث إنها فيها خفاء ولطافة

  [ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحرا)، وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل]

سمي السحر سحرا وكذلك السحور أكلة السحر لأنه يؤكل في ذلك الوقت آخر الليل.
[والسحر: الرئة]

ذكر في القاموس أنها ساكنة، ثم قال: وهي بالتحريك والضم.
[وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه].
قوله: محل الغذاء فيه نظر، هل هي محل الغذاء إلا من جهة تصفية الدم. قوله محل الغذاء فيه نظر
  [كما قال أبو جهل يوم بدر لـ عتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري)].
يعني متكئا على صدرها.
  [وقال تعالى: {سحروا أعين الناس} [الأعراف:116] أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم].

العلم لا شك خفي ولا يزال خفيا
[وقال تعالى: {سحروا أعين الناس} [الأعراف:116] أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء].
قوله: [حق] يعني موجود وثابت، ليس المراد بالحق ضد الباطل، لا هو باطل السحر باطل ومنكر، فقوله: (الحق) أي: له وجود وثبات، خلافا لمن قال: إنه خيال، كـ أبي حنيفة والمعتزلة، فهم يقولون: ليس له حقيقة،

  [وعندنا أن السحر حق وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل].
وأبو حنيفة كذلك
  [حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي ومنه ما يكون كلاما يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك].
صحيح كل هذا يكون من السحر، هو عزائم ورقى وعقد وأدوية وتدخينات تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه.
[قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرا) يحتمل أن يكون مدحا كما تقوله طائفة، ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة، قال: وهذا أصح، قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.
فصل وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه الإشراف على مذاهب الأشراف بابا في السحر فقال أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال لا حقيقة له عنده]
انضم أبو حنيفة مع المعتزلة ومع أبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية، يرون أنه لا حقيقة له، ومشى على هذا الجصاص في كتابه: (الأحكام) من الحنفية على أنه خيال ليس له حقيقة، والصواب الذي عليه الجماهير أن منه حقيقة ومنه خيالا.

حكم تعلم السحر
  [فقال أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله: فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر].
وهذا ضعيف، الصواب الأول يكفر بمجرد تعلم السحر؛ لقوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة:102] أي: كفروا بتعليم الناس، وقوله: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقوله: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله} [البقرة:103]، فدل على أن السحر ضد الإيمان والتقوى، إذا تعلم السحر أو علمه كفر، هذا هو الصواب إذا كان السحر يتصل صاحبه بالشياطين وعبادة الكواكب عبادة الشياطين والتقرب إليها، أما إذا كان سحره لا يتصل بالشياطين ولا يعبد الشياطين وإنما من باب يتعلم أشياء حتى يأكل أموال الناس بالباطل؛ فهذا إذا استحل أكل الناس بالباطل وإيذاءهم كفر، وإن لم يستحلها فقد ارتكب محرما وكبيرة. أما السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين كفر والعياذ بالله
  [وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر -مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها- فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر]

أي: إن استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم لأن الساحر الذي لا يتصل بالشياطين يداوي الناس يضرهم يضر أبدانهم ويأكل أموالهم بالباطل إن استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم كفر، لأن هذا مجمع على تحريمه أكل أموال الناس بالباطل وإن كان لا يستحل ذلك لكن غلبه الهوى وطاعة الشيطان وحب المال صار مرتكبا لكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، فلذلك فصل هذا التفصيل قال: السحر قد يكون صاحبه متصلا بالشياطين وقد لا يتصل، فإن اتصل بالشياطين كفر، وإلا فلا يكفر.
أما الجمهور فلم يدخلوا السحر اللغوي في مسماه، ولهذا قالوا: الساحر يكفر مطلقا، فإذا قلنا السحر يكون في اللغة قالوا هذا ما نسميه سحرا وعلى هذا فلا يكون هناك منافاة بين الشافعي وبين الجمهور لأن كل من الفريقين اتفقوا على أن الساحر إذا اتصل بالشياطين فإنه يكفر، لكن إذا لم يتصل بالشياطين الشافعي يسميه سحرا، وقال الجمهور لا نسميه سحرا، فلهذا فصل الشافعي، ولم يفصل الجمهور.
[قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا، فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم، إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصا].
الصواب أن الساحر يقتل على كل حال المسألة فيها خلاف: هل يقتل الساحر أم لا يقتل؟ فقال أبو حنيفة وجماعة: يحبس حتى يموت والجمهور على أنه يقتل، ثم القائلين بأنه يقتل هل قتله كفرا أو حدا؟ والأكثر على أن قتله كفرا، هذا هو الصواب، وقال آخرون: قتله حدا، الصواب أنه يقتل كفرا؛ لحديث جندب (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولأن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، ولأن حفصة رضي الله عنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت.
  [وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل].
المسألة فيها خلاف، هل تقبل توبة الساحر؟ فالمحققون على أنها لا تقبل، وكذلك أيضا الزنديق، ومن سب الله، أو الرسول، أو سب الدين، أو استهزأ بالله وبرسوله وبكتابه، قالوا لا تقبل في الدنيا؛ زجرا له ولأمثاله عن هذا الكفر الغليظ، قالوا: ولو ادعى التوبة لا نقبل توبته، لا بد من قتله في الدنيا، وأما في الآخرة بينه وبين الله فإن كان صادقا فالله يقبل توبة الصادقين وإن كان كاذبا فله حكم الكاذبين.
وقال آخرون من أهل العلم: يستتاب، فإن تاب ولو كان ساحرا يترك، والصواب أنه إن سلم نفسه قبل أن يقبض عليه فإنه تقبل توبته؛ لأن هذا دليل على أنه تاب، وأما إذا قبض عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل، ويكون حكمه حكم المحاربين، كما قال الله تعالى في المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34]. لعل الشافعي يشير إلى هذا والمؤلف هذا قول وسط إن سلم نفسه قبل التوبة قبلنا توبته لأن هذا دليل على توبته وإن قبض عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل 
[وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل؛ يعني لقصة لبيد بن الأعصم].
والصواب أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل؛ لأنه على الكفر قبل سحره، فهو كافر فهو من أهل الكتاب وأهل الكتاب يعملون الكفر يعبدون المسيح ويعبدون عزيرا، ويعملون السحر، فهم على الكفر قبل ذلك، فلا يقتل إذا سحر، لأنه كافر من الأصل من أهل الكتاب ولأن النبي ما قتل لبيد بن عاصم  تركا للفتنة وتحصيلا للمصلحة الأعظم  ولعدم تأثير السحر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قيل له: لماذا لم تدفن البئر؟ فقال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا)، الصواب أنه لا يقتل؛ لأنه من أهل الكتاب، وهو كافر قبل ذلك، بخلاف من كان مسلما ثم سحر، يقتل.
[قال الحافظ في (فتح الباري): وقال القرطبي: لا حجة على مالك من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله الفتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو مثل ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين، حيث قال: (حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)].
ليس بجيد هذا لأن هناك فرقا، المنافقون ينتسبون إلى الإسلام ويظهرون الإسلام، فلو قتلوا لتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وأما هذا كافر معروف أنه كافر من أهل الكتاب.

[واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم].
هذا هو الصواب حكم المرأة كحكم الرجل.
  [وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها].
هذا ضعيف ليس بصحيح الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم لبيد، وهو من اليهود، اليهودية سمته زينب وضعت سما في الذراع، أما الذي سحر النبي ﷺ لبيد عمر بن هارون هذا ضعيف جدا فلا يثبت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يعفو ما ينتصر لنفسه، وكذلك أيضا من سبه قد يعفو عنه لكن بعد وفاته لا يعفى عمن سب النبي ﷺ لا بد من قتله.
  [وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل بسحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة:102]، لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق].
يعني: إذا قبض عليه قبل أن يسلم نفسه.
[: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه]

وهذا هو الأقرب، فهو كالمحارب، وقد قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33] ثم قال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34].
 [فإن قتل بسحره قتل، قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية].
يحمل على أنه تطبب مثلا يقول ما تعمدت القتل، وإنما أعالج علاجا، له وجه من هذه الجهة هذا يكون قتله خطأ، له وجه من هذه الجهة لكنه سحر من جهة اللغة، أدوية، ليس سحرا يتصل بالشياطين،  الذي يتصل بالشياطين هذا يقتل ما فيه إشكال لكن إذا كان سحره من جهة الأدوية لا من جهة الشياطين فقتله الدواء بدون اختياره له وجه من هذه الجهة يكون مخطئ

[مسألة: وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري].
والنشرة: حل السحر عن المسحور، قيل لـ سعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه، فظاهر هذا أنه لا بأس بحل السحر عن المسحور؛ لأنه سئل: رجل به طب يعني سحر يؤخذ عن امرأته يعني يحبس عن امرأته، فلا يصل إلى جماعها أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، يعني لا بأس بحل السحر، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. وحمله ابن القيم رحمه الله وتبعه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد أن النشرة جائزة لقوله النشرة جائزة وهي الحلف السحر بأدوية ورقى وأدوية شرعية للحديث الحسن لا يحل السحر إلا ساحر ولحديث أحمد سئل عن النشرة قال هي من عمل الشيطان الجمع بين النصوص هذا هو الأقرب 
[وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! هلا تنشرت؟ فقال: أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شرا)]

هذا مثال للنشرة الجائزة، وقد فات الحافظ رحمه الله حديث أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان)، رواه الإمام أحمد بسند جيد. هذا فات الحافظ رحمه الله يحمل كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة لهذا الحديث " سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان" النشرة محرمة وكذلك حديث الحسن "لا يحل السحر إلا ساحر" يحمل كلام ابن المسيب: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) على النشرة الجائزة ولهذا حمله ابن القيم رحمه الله ونقله عنه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد (باب ما جاء في النشرة) وقسم النشرة إلى قسمين: نشرة محرمة، وهي التي من عمل الشيطان، وهي حل السحر بسحر مثله، ونشرة جائزة، وهي حل السحر برقى وأدعية وتعاويذ شرعية، أو بذكر مباح، ويحمل كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة، ويحمل كلام الحسن: (لا يحل السحر إلا ساحر)، وحديث أحمد سئل عن النشرة قال: (هي من عمل الشيطان) على النشرة المحرمة، وهي حل السحر بسحر مثله.
[وحكى القرطبي عن وهب أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به].
هذا مثال النشرة الجائزة، لا بأس به، وذكره -أيضا- الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتاب التوحيد، واعترض عليه محمد حامد الفقي وقال: إن هذا لا أصل له، لكن ليس فيه محذور شرعا، فإنه يقرأ آيات من القرآن، فلا وجه لاعتراض الشيخ حامد الفقي رحمه الله. قول عائشة: (هلا تنشرت؟) معناه: هلا حللت السحر النشرة حل السحر عن المسحور

إذا هدم البئر استخرج السحر من البئر جاء في الحديث الآخر هلا دفنت البئر قال لو دفنت لصار الناس يتحدثون لماذا دفنت خشيت أن أفتح على الناس شرا تركها على حالها

  [وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته].
أي: يحبس عن امرأته.
[قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث (لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما) وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان].
كل هذا من النشرة الجائزة.

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم * ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [البقرة:104 - 105]].
  [نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء:46]].
الرعونة: ضعف العقل، اليهود قبحهم الله يريدون يقولون للنبي: راعنا، يعني انتبه لنا، وهم يقصدون الرعونة، وهي ضعف العقل، فالله تعالى نهى المؤمنين عن هذه الكلمة الموهمة حتى لا يشابهوا اليهود، قال: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)؛ انظرنا بمعنى راعنا هذه فيها إيهام، وهذه ما فيها إيهام.
  [، كما قال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء:46] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ: وعليكم فإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم}
وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت قال: أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)].
والحديث فيه عبد الرحمن بن ثابت بن الدرغام الموصلي، وهو ضعيف، قال ابن حجر رحمه الله: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي الدمشقي صدوق يخطئ تغير في آخر عمره. وهذا الحديث ثابت، فله شواهد.
[وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم بن قاسم به: (من تشبه بقوم فهو منهم) ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها].
وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أقل أحواله هذا الحديث أنه يفيد التحريم، (من تشبه بقوم فهو منهم) وإلا فظاهره يفيد الكفر، فلا يجوز للمسلمين التشبه بالكفار في أقوالهم أو أفعالهم أو لباسهم أو أعيادهم أو تقاليدهم، ومن ذلك مشابهتهم في قولهم: (راعنا)، نهاهم الله سبحانه وتعالى عن التشبه بهم نهى الله المؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وأما عادة الكافرين فإنه إذا فعلها المسلمون كلهم فذلك ممكن، وأما إذا فعلها بعض الأفراد صار ممنوعا.
[وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي قال: أخبرنا نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرءون في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فإنه في التوراة: (يا أيها المساكين)].
(ما تقرءون) بمعنى: الذي، أي: الذي تقرءونه في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) هو في التوراة: (يا أيها المساكين).
[وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (راعنا) أي: أرعنا سمعك، وقال الضحاك عن ابن عباس: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} [البقرة:104] قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك، وإنما (راعنا) كقولك: أعطنا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: (لا تقولوا راعنا): لا تقولوا خلافا، وفي رواية: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.
وقال عطاء: (لا تقولوا راعنا) كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها، وقال الحسن: (لا تقولوا راعنا) قال: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام، وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله.
وقال أبو صخر: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له).
وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (راعنا)؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي)، وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} [البقرة:105] يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [البقرة:105]].
هذا فيه بيان شدة عداوة أهل الكتاب والمشركين للمؤمنين، وأنهم يودون قطع المدد من السماء عن المؤمنين، وقطع أسباب الخير والرحمة. من شدة عداوتهم " ما يود الذين كفروا والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " وهذا قول الله يختص به من يشاء
قال الله تعالى: [قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [البقرة:106 - 107].
[قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ما ننسخ من آية): ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) أي: ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية): ما ننسك، وقال عطاء: أما (ما ننسخ) فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني: ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: (ما ننسخ من آية) نسخها: قبضها، وقال ابن أبي حاتم يعني: قبضها رفعها، مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وقوله: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا).
وقال ابن جرير: (ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ: من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها أو خطها؛ إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب].
هذه الآية الكريمة فيها إطلاق النسخ، وأن الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يشاء من الآيات لحكمة بالغة، وبين سبحانه وتعالى أنه إذا نسخها أتى بخير منها، وله الحكمة البالغة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، واليهود ينكرون النسخ ويقولون: إنه يلزم منه البداء على الله، يعني بدا له شيء كان جاهلا ثم علم فأنكروا النسخ وهذا من جهلهم وضلالهم، فالنسخ فيه حكم ومصالح للعباد، والله تعالى عليم بمصالح عباده، ولهذا قال سبحانه: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض} [البقرة:106 - 107].
والنسخ في اللغة: يطلق على الإزالة، ويطلق على النقل، يقال: نسخت الشمس الظل: إذا أزالته، ويقال: نسخ ما في الكتاب: إذا نقل ما فيه، والنسخ يكون في القرآن، ويكون في السنة المطهرة، وقد تنسخ الآية لفظها ويبقى حكمها، كما نسخت كانت آية تقرأ (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) نسخت هذه لفظها وبقي حكمها، والمراد بالشيخ: المتزوج إذا زنا وهو متزوج فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم).
وقد ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، كنسخ آية تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولا كاملا نسخ إلى تربص أربعة أشهر وعشرة أيام، ولفظها موجود قال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} [البقرة:240] نسخ إلى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234].
وقد يكون النسخ إلى بدل، كما في هاتين الآيتين، وكما في آية المصابرة، نسخ الله تعالى مصابرة المسلم الواحد لعشرة نسخ إلى حكم أخف، بأن يصابر الواحد اثنين، قال سبحانه: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} [الأنفال:65] في هذه المسلم يجب عليه أن يقف أمام عشرة أولا، ثم نسخ فخفف الله نزلت بعدها: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} [الأنفال:66].
هذا النسخ قد يكون إلى ما هو أخف كما في هاتين الآيتين، وقد يكون النسخ إلى ما هو أثقل، وقد يكون النسخ إلى مماثل، كنسخ القبلة التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس نسخ إلى التوجه إلى الكعبة.
وقد يكون النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، نسخ إلى غير بدل قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة:12] ثم نسخت إلى غير بدل، والله تعالى له الحكمة البالغة.
وقد ينسخ الحكم قبل التمكن من العمل به، فقد فرض الله الصلاة خمسين صلاة على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، ثم نسخها الله إلى خمس صلوات قبل تمكن العباد من الفعل فضلا منه وإحسانا، وله الحكمة البالغة.
[وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء. ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه، والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه].
وقد يقال مثال هذا ما حرم الله على بني إسرائيل الطيبات بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم، مثل قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران:93]، كان حرم على نفسه لحم الإبل، وقوله فيمن صدوا عن سبيل الله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} [النساء:160]، وكذلك حرم الله عليهم الشحوم بسبب تعنتهم، نسخ الله الحل إلى التحريم فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [الأنعام:146].
[وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها)].
قوله: (فالهوا عنها) أي: تشاغلوا عنها.
[فكان الزهري يقرؤها: {ما ننسخ من آية أو ننسها} [البقرة:106] بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف].
أي أن السند ضعيف؛ لأجل سليمان بن الأرقم.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا، ذكره القرطبي.
وقوله تعالى: (أو ننسها) فقرئ على وجهين: (ننسأها) و (ننسها)، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه: نؤخرها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما ننسخ من آية أو ننسها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: (أو ننسأها): نثبت خطها ونبدل حكمها.
وقال عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء: (أو ننسأها): نؤخرها ونرجئها، وقال عطية العوفي: (أو ننسأها): نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني: الناسخ والمنسوخ، وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها): نؤخرها عندنا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل -يعني: ابن أسلم - عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) أي: نؤخرها.
وأما على قراءة (أو ننسها) فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج يعني: الجزري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة:106].
وقال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطأة، هو شيخ لنا جزري
وقال عبيد بن عمير: (أو ننسها): نرفعها من عندكم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: (أو ننساها)، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى:6]، {واذكر ربك إذا نسيت} [الكهف:24]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: على أَقْضَانَا وَأُبَيٌّ أَقْرَأُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أبيا يقول ما أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وَاللَّهُ يَقُولُمَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. قَالَ البخاريأخبرنا يحيى أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُأَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُلَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُمَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها. وَقَوْلُهُنَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَيْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ويقول خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِمَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فَلَا نَعْمَلُ بِهَا أَوْ نُنْسِأْهَا، أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا نَأْتِ بِهَا أَوْ نَظِيرِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُنَأْتِ بِخَيْرٍ من الذي نسخناه أو مثل

الذِي تَرَكْنَاهُوَقَالَ قَتَادَةُنَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ

وهذا فيه بيان أن الله عليم بمصالح عباده وما يناسب حالهم وما فيه صلاحهم ولهذا قال " ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض"     
[وقوله: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [البقرة:106 - 107]، يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء]
وله الحكمة البالغة هذا مبني على الحكمة يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، لما له من الحكمة البالغة، مبني على الحكمة والله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، {إن ربك عليم حكيم) [يوسف:6] خلافا لأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم الذين أنكروا الحكمة، وقالوا: إنه يفعل لمجرد المشيئة، الجبرية من الأشاعرة والجهمية يقولون: لا توجد حكمة، يفعل بالإرادة فقط، وقالوا: المشيئة لله تخبط خبط عشواء، تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات، فلا توجد حكمة، يفعل بالإرادة، نسأل الله السلامة والعافية، هذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أفعاله مبنية على الحكمة، وأوامره مبنية على الحكمة، وخلقه مبني على الحكمة يخلق لحكمة ويأمر لحكمة وينهى لحكمة.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب من قرأ (أو ننسها) بمعنى (نتركها)؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره فهو آتيه بخير منه أو بمثله، فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها أن يكون إذا قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعضد ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) قوله: أو نترك نسخها؛ إذ كان ذلك المعروف لجعله كلام الناس، مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت فهو يشتمل على معنى الإنشاء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير].
قراءة حفص: (أو ننسها)؛ فيها معنى (ننسيها) وفيها معنى ننسأها، أي: (نؤخرها) فتشمل الأمرين.
[كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا].
اليهود -قبحهم الله- أنكروا النسخ وقالوا النسخ غير ممكن؛ لأنه يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى، وأن الله كان جاهلا ثم علم، وإلا فلماذا ينسخ؟! اعترضوا على الله، ينسخ لأنه جاهل؟ لا ينسخ إلا الجاهل الذي لا يعلم، أما العالم فلا يحتاج إلى النسخ، يشرع من أول الأمر ولا ينسخ؛ لأنه عالم بالعواقب، فقالوا  يلزم من النسخ البداء على الله، يعني أن يكون جاهلا وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، يعلم بأحوال عباده.
الشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، كان في شريعة آدم يتزوج الأخ أخته، لكن في البطن الآخر حتى كثر الناس فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذ الذكر والأنثى الذي يكون في بطن واحد هذا أخته حرام عليه لا يتزوجها لكن يتزوج أخته من بطن آخر؛ حتى كثر الناس، ثم حرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو ولهذا جاء في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر تسامح، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أكمل الشرائع يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجانا، هذا تدرج في التشريع يناسب أحوال الناس تختلف أحوال الناس من عصر إلى عصر، كذلك الله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.
[قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء، وأقر فيهما ما أشاء
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه، وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثه عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخا لقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187]].

الصيام مغيا إلى الليل فإذا جاء الليل انتهى الصيام
قوله: [مغياة]، أي: غايتها ونهايتها أن يعمل بها إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
[قيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردا على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [البقرة:106 - 107] فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء{ألا له الخلق والأمر}[الأعراف:54] وقرر في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطابا مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره].
وهذا مثال للنسخ إلى الأثقل.
[والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قالوا بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، والله أعلم.
قال الله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} [البقرة:108].
[نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} [المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت عن مثل ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، وفي صحيح مسلم: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد