حدثنا مسدد، أخبرنا يحيى عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات} [التحريم: 5]
وجاء في رواية أنها أم سلمة، وأنه قال عمر: كسرت ما في نفسي، قالت: يا عمر دخلت في كل شيء حتى بين النبي r ونسائه، قال: فكسرت ما في نفسي، فأنزل الله الآية موافقة له، وافق ربه فيها.
[وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنسا عن عمر رضي الله عنهما، هكذا ساقه البخاري هاهنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، وقد تفرد عنه بالرواية البخاري من بين أصحاب الكتب الستة، وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء، كما قال الإمام أحمد فيه هو سيء الحفظ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أخبرنا حميد عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}[التحريم: 5] فنزلت كذلك، ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد، عن أنس عن عمر، أنه قال: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فذكره
وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وابن ماجه عن محمد بن الصباح، كلهم عن هشيم بن بشير به ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة والنسائي، عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما، عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به]
ابن تيرويه هو حميد الطويل.
[ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة والنسائي، عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما، عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه علي بن المديني عن يزيد بن زريع، عن حميد به، وقال: هذا من صحيح الحديث وهو بصري. ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر فقال: أخبرنا عقبة بن مكرم، أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم. وقال أبو حاتم الرازي: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب t. وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء، فنزلت آية الحجاب، والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قلت: يا رسول الله تصلي على هذا الكافر المنافق؟ فقال: إيها عنك يا ابن الخطاب، فنزلت {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84].
وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك لم ينه عن ذلك، ومراعاة لرهط عبد الله بن أبي الأوس، ومراعاة لابنه عبد الله بن عبد الله فإنه من أصلح عباد الله، ثبت في صحيح البخاري أنه لما مات عبد الله بن أبي ودلي في حفرته جاءه النبي r فاستخرجه من حفرته وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه وصلى عليه، فلما أراد أن يصلي جاء عمر وأخذ بثوبه قال: تصلي على رئيس المنافقين، فقال: أخر عني يا عمر فإني خيرت فقيل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}[التوبة:80] فلو أعلم أني زدت على السبعين أن يغفر له لزدت على السبعين.
كان يفعل هذا عليه الصلاة والسلام رجاء أن ينفعه الله به، ومراعاة لرهطه الأوس، ومراعاة لعبد الله ولأنه لم ينه، ثم بعد أن صلى نزلت الآية: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة:84] فلم يصل بعد ذلك على منافق قط.
[وهذا إسناد صحيح أيضا، ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه، والله أعلم]
يعني: أن في الحديث الأول الموافقات إنما في المقام وفي الحجاب والثالث في أي شيء؟ في إبدال نسائه وهذا في أسارى بدر، وفيه الصلاة على عبد الله بن أبي، زادت عن الثلاث فكيف يجمع بينهما، قال: «وافقت ربي في ثلاثة أو وافقني ربي في ثلاثة» هنا أكثر من ثلاثة، أربع أو خمس، يقول رحمه الله: مفهوم العدد ملغى إذا عارضه المنطوق، فالمفهوم: وافقت ربي في ثلاثة أو وافقني ربي في ثلاثة» مفهومه: أنه لا يزاد على الثلاثة، لم يزد على الثلاثة، لكن جاء حديث مسلم وزاد في أسارى بدر وهو منطوق، فالمنطوق يقدم على المفهوم فيكون مفهوم «وافقت ربي في ثلاث» ملغى ويؤخذ بالزائد، هذا هو الجمع بينهما، أعد العبارة.
[ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه]
أسارى بدر، وفيه موافقات أخرى غير هذا، أكثر من ثلاثة، فيه موافقات كثيرة.
[وقال ابن جريج: أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقال ابن جرير حدثنا يوسف بن سلمان، أخبرنا حاتم بن إسماعيل]
عمد من باب ضرب، عمد يعمد، بخلاف صعد فإنها من باب علم، صعد يصعد، أما عمد يعمد.
[وقال ابن جرير: حدثنا يوسف بن سلمان، أخبرنا حاتم بن إسماعيل، أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل]
وفيه مشروعية قراءة الآية قبل صلاة الركعتين، وفيه أنه يجعل المقام بينه وبين الكعبة؛ هذا السنة، وهذا هو الأفضل إن تيسر، وإن لم يتيسر للزحام يصليها في أي مكان من المسجد.
[وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين. فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده ليرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفا تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل]
هذا قسم؛ لأن أبا طالب في قصيدته قد أقسم بأشياء كثيرة ومنها الموطئ على عادتهم في الجاهلية يحلفون بغير الله.
[وقد أدرك المسلمون ذلك فيه كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب: أن أنس بن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه]
يعني: فيه أثر الأصابع، والأخمص وسط الرجل، وكان إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة على القواعد كما قال الله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد} [البقرة:127] ولم يكن هناك حجر وإنما الحجر أخرج هذا في زمن قريش، كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى الكعبة على القواعد ثم لما كان في زمن قريش قبل بعثة النبي r بخمس سنين وكان عمره يومئذ خمس وثلاثين سنة أرادت قريش أن تبني الكعبة، تصدعت فأرادت أن تبنيها، ثم هدموها لكنهم تحرجوا من هدمها وقالوا: نحن ما نريد إلا الخير وبدأ رجل وهدمها قالوا: ننظر إن هدم شيء منها ننظر إن جاءه شيء في الصباح تركناها وإن لم يجئه شيء هدمناها، فلم يأته شيء، فلم يصبه شيء فهدموها وجمعوا مالا لبنائها، قالوا: نريد أن نجمع المال لبنائها ولابد أن يكون مال حلال ليس فيها ربا ولا مهر بغي، ولا حلوان كاهن جمعوا لكن ما وجدوا مال حلال يكفي لبنائها، الحرام طبق عليهم، ما استطاعوا أن يجمعوا مالا حلال يبنون به الكعبة، فلما عجزوا بنوا بعضها وأخرجوا الحجر، ما عندهم مال يكفيهم لبناء الحجر فأخرجوا الحجر فبقي إلى الآن، ولما قاتل الحجاج بن يوسف عبد الله بن الزبير، كان عبد الله بن الزبير أعاد الكعبة على ما كانت عليه عملا بالحديث وقول النبي r لعائشة: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين وأدخلت الحجر».
فطبق عبد الله بن الزبير لما ولي مكة، لما ولي الحجاز وأدخل الحجر، وصار يستلم الأركان الأربعة كلها؛ لأنها هكذا صارت على قواعد إبراهيم، ثم لما قاتل الحجاج ابن الزبير بأمر عبد الملك بن مروان رمى الكعبة بالمنجنيق وهدمها وقتل عبد الله بن الزبير وصلب على خشبة وأخرج الحجر وبناها على ما كانت عليه في الجاهلية، فهي الآن على بناء الحجاج.
[قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه]
(رأيت أثر أصابعه وأخمص) معطوف على الأصابع؛ يعني: رأى الأصابع ورأى وسط الرجل.
[غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سعيد عن قتادة {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى]
وهذا في الزمن الأول كانوا يمسحونه، وهذا خطأ، ما يمسح، المسح هذا خطأ مثلما يفعل بعض الجهال يتبرك ويمسح، الحجر اللي قام عليه إبراهيم يمسحه، ما يمسح هذا، إنما الذي يمسح الحجر الأسعد في الطواف والركن اليماني، هذا خطأ إذا كان هذا في الزمان الأول فكيف في العصور المتأخرة، لو حصل لهم الآن أثر مقام إبراهيم لتجالدوا عليه بالسيوف ليفتح لهم الآن المقام يتبركون به.
[قلت: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك]
هذا في زمان الحافظ بن كثير، والآن أخر أيضا أكثر من هذا.
[وكان الخليل عليه الصلاة السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا، والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وهو الذي نزل القرآن بوفاته في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين]
والحديث لا بأس بسنده. أخر، كتب فيه كتابات أخر زيادة على عهد الملك سعود أخر زيادة الآن ولو كان ملتصق بالكعبة لكان فيه مضايقة على الناس فأخر أكثر، وكتب فيه كتابات في المقام بعض العلماء لهم كتابة في تأخير المقام لو احتيج لا بأس لكن الآن لا بأس في السعة.
[قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول ما نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال عبد الرزاق أيضا عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضيل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان، يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.
وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان لا أدري أكان لاصقا بها أم لا؟ فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله علم.
للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله رسالتان فيما يتعلق بالمقام:
الأولى: في جواز نقل المقام سماها "الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مطبوعة ضمن فتاواه. الثانية: في الرد على الشيخ سليمان بن حمدان في اعتراضه على رسالة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في جواز نقل المقام سماها "نصيحة الإخوان ببيان ببعض ما في نقل المباني لابن حمدان من الخط والجهل والبهتان" مطبوعة ضمن فتاواه.
وهما رسالتان قيمتان حشد فيهما رحمه الله جواز نقل المقام، واستشهد بكلام الحافظ بن كثير هنا، وكلام الحافظ بن حجر في فتح الباري، وهما تدلان على تبحره وسعة علمه رحمه الله.
المعلمي هو الذي يرى الجواز، والشيخ بن حمدان يرى المنع
[وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم هو ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، قال: قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم]
يعني: رواية مجاهد عن عمر أن من أخره هو رسول الله مرسلة يعني: منقطعة والمنقطع يسمى مرسل عند بعض المحدثين؛ لأن مجاهد لم يسمع من عمر، فالعمدة على الروايات السابقة الذي أخره عمر، أما هذه الرواية عن مجاهد أن الذي أخره رسول الله r فهي منقطعة، والمنقطع ضعيف فلا تصح، فالعمدة على الروايات الأخرى أن الذي أخره عمر، ولم يؤخره النبي r.
فيه بعض الضعف، في سنده إبراهيم بن مهاجر، صار ضعيف هذا فيه علتان: الانقطاع، وضعف إبراهيم بن مهاجر.
في الحاشية قال الحافظ بن حجر في الفتح: إسناده ضعيف ضعيف لعلتين: العلة الأولى ضعف إبراهيم بن مهاجر، العلة الثانية الانقطاع.
مقامات إبراهيم الحج كله، أما المقام في الآية هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم أثر رجليه على الحجر الله أبقاه وهل يكون عادة إذا وقف إنسان على الحجر هل يؤثر؟ الحجر صلب، لكن هذه حكمة والله على كل شيء قدير.
سؤال اختفت الآثار من لمس الناس له؟
نعم، هو الآن موجود يرونه كأنه بقي شيء منها، الآن الأثر موجود.
معروف الارتفاع نعم، ولهذا لما أرادوا أن يبلطوا الصحن فارتفع تفطن لهذا الشيخ ناصر بن حمد لما كان رئيس الإشراف على المسجد الحرام، وقال: إن العلماء ذكروا أن طولها ثمانية عشر ذراع فإذا بلطتم هذا نقص فأزالوا التبليط، الارتفاع هذا معروف، توقيفي الارتفاع كان يرفع البلاط وليس فيه درجات، الآن تدخل المسجد الحرام وأنت نازل من درج إلى درج حتى تصل إلى الكعبة، لو كان ما هو بتوقيفي كان يدفن، لكن هذا توقيفي ولا يبلط أكثر فيرتفع؛ لأنه لو بلط صار الارتفاع أقل والارتفاع محدد ثمانية عشر ذراع، فلا يرفع البلاط أكثر من هذا بل يبقى على ما كان عليه.
يكون من الجهة الثانية الجهة الغربية، السنة أن يجعل المقام بينه وبينه في أي مكان.
[قوله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 125- 128].
قال الحسن البصري: قوله {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {وعهدنا إلى إبراهيم} أي أمرناه كذا، قال: والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا]
حرف يعني: عهدنا يسمى حرف، منه أن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، الكلمة تسمي حرف؛ يعني: عدي بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا، وأمرنا.
[وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قوله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} قال: من الأوثان، وقال مجاهد وسعيد بن جبير {طهرا بيتي للطائفين} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس]
التطهير: التطهير من النجاسات والأذى، وأعظم من ذلك تطهيره من الشرك والأوثان، فالله تعالى عهد إليهما بتطهيره من النجاسات والأذى، وأعظم من ذلك تطهيره من الشرك والأوثان والمعاصي.
[قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة {أن طهرا بيتي} أي بلا إله إلا الله من الشرك وأما قوله تعالى: {للطائفين} فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى {للطائفين} يعني من أتاه من غربة {والعاكفين} المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس، أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير.
وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان، عن عطاء في قوله {والعاكفين} قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين، وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا كان جالسا فهو من العاكفين، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون.
الطائف هو الغريب الآفاقي، والعاكف المقيم في مكة، الطواف معروف، {أن طهرا بيتي للطائفين} يعني: القادمين الغرباء الآفاقيين، والمقيمين في مكة، للجميع لهؤلاء ولهؤلاء، فالمقيم في مكة، والطائف الغريب الآفاقي؛ يعني: تشمل النوعين.
في الطواف يشترط الطهارة؟
معروف عند جمهور العلماء أن الطهارة شرط في صحة الطواف، هذا الذي عليه جمهور العلماء، بعض العلماء يستدلون بحديث ابن عباس: «الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» ولأن النبي r توضأ وطاف، وآخرون من أهل العلم يرون عدم اشتراط الطهارة، منهم من قال: إنه واجب يجبر بدم، ومنهم من قال: ليس بواجب، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يرى وجوب الطهارة، وهو مذهب الأحناف.
الفتوى على أن الإنسان يحتاط، جمهور العلماء والفتوى على أنه لابد من الوضوء، وأن من طاف على غير طهارة يؤمر بالإعادة.
الأقرب أن عطاء يروي عن ابن عباس والعوفي كذلك يروي عنه منقطعا، العوفي عن ابن عباس منقطع.
[ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به. قلت: وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب]
عزب يعني: غير متزوج، فتحتين، عزب، عزب يقال عزب وأعزب، وهو غير المتزوج.
[وأما قوله تعالى: {والركع السجود} فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: {والركع السجود} قال: إذا كان مصليا فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء وقتادة.
قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الآية، وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين:
أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به، كما قال عبد الرحمن بن زيد {أن طهرا بيتي} قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها، قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم]
قوم نوح هل كانوا في مكة يعبدون الأوثان، السفينة رست على الجودي هناك جهة الموصل، هذا يحتاج إلى دليل أنه كان في أصنام تعبد قبل إبراهيم.
[الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهرا من الشرك والريب، كما قال جل ثناؤه: {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} [التوبة:109].
قال: فكذلك قوله: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي {أن طهرا بيتي} ابنيا بيتي للطائفين، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به، والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26].
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله، الطواف به لأهل الأمصار أفضل وقال الجمهور الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام]
جنس الصلاة أفضل من جنس الطواف، لكن الغريب ينبغي له أن يكثر من الطواف لأنه لا يجده في بلده، وإن كان جنس الصلاة أفضل من الطواف، لكن الغريب ينبغي أن يكثر من الطواف بالبيت لأنه لا يجده في بلده. هل المفضول أفضل من الفاضل في هذا المكان للغريب؟
ليس أفضل لكن لأنه عبادة لا يجدها في بلده، من هذه الناحية.
[والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}[الحج: 25]ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم سواء العاكف فيه والباد وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكاتبين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي{لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}[النجم4]
وتقدير الكلام إذا {وعهدنا إلى إبراهيم} أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل{أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} أي طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصا لله معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال}[النور: 36] ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك ولهذا قال عليه السلام «إنما بنيت المساجد لما بنيت له»]
لما سأل رجل أنشد ضالة قال: «لا ردها الله عليك إنما بنيت المساجد لما بنيت له».
[وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة، ولله الحمد والمنة]
يعني الحافظ جمع ما يتعلق بالمساجد، موجود رأيتموه جزء في المساجد للحافظ بن كثير مطبوع أو مفقود محتمل أنه مفقود، جمع جزءا فيما يتعلق بالمساجد وتطهيرها رحمه الله.
[وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غرابة، وقيل: آدم عليه السلام، رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضا وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه الصلاة السلام، وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين]
المعنى: أن هذه لا دليل عليها، ليس عليها دليل، إنما الدليل أن الذي ذكره الله في كتابه أن أول من بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما هذه الأقوال إن أول من بناها آدم أو الملائكة أو شيث كل هذه ليس عليها دليل إنما هي من أخبار بني إسرائيل. ما في دليل، لا تأسيس ولا بناء، هذا يحتاج إلى دليل، ما في دليل مثلما ذكر الحافظ لو في دليل فعلى الرأس والعين، لكن ما في دليل، كلها عن فلان وفلان وكلها أخبار عن أخبار بني إسرائيل.
[وقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} [البقرة:126]
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاها»]
«إن إبراهيم حرم بيت الله» يعني: أظهر تحريمه ونشره بين الناس، وأخبر بتحريمها، وإلا فالله سبحانه وتعالى هو الذي حرمها كما في الحديث الآخر: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض» فالله تعالى هو الذي حرم وإبراهيم أظهر تحريمها ونشره بين الناس وبلغ عن الله عز وجل تحريمها، وهذا هو الجمع بين الأحاديث، حديث: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض» وهنا «إن إبراهيم حرم بيت الله» الجمع بينهما: أن الله تعالى هو الذي حرمها، وإبراهيم حرمها بمعنى نشرها، نشر تحريمها وأظهره للناس وبلغ عن الله U تحريمها.
[وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار بندار به]
محمد بن بشار بندار لقب محمد بن بشار لقبه بندار.
[وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري. وقال ابن جرير أيضا: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، وأخبرنا أبو كريب، أخبرنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعا: سمعنا أشعث عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير».
(لابتيها) هي حدود الحرم، «ما بين لابتيها» العلماء قالوا: الحرم هو ما بين عين إلى ثور من جهة الشرق والغرب، وهي بريد في بريد، من جهة الشمال والجنوب الحرتين.
كل هذا محتمل والله أعلم بذلك، ما نجزم بشيء إلا بدليل، نوح يقولون طاف بالبيت، وهناك أخبار للواعظين يقولون: آدم عليه السلام لما أهبط من الأرض جعل يبكي ويطوف بالبيت وهل البيت موجود في ذلك الوقت أو في هذا المكان؟ الله أعلم، هذا كله ممكن لكن لابد من دليل، ما يجزم الإنسان بالنفي ولا بالإثبات إلا بدليل، عندنا الدليل واضح أن إبراهيم هو الذي بناه، كان ربوة واد غير ذي زرع وأنزل هاجر وابنها إسماعيل في مكان، واد لا أنيس فيه.
[وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه»]
يعني: بمثليه، مثله مرتين، وقوله: «لا يختلى خلاها إلا لبعير» دليل على أن الحرم المدني أخف من الحرم المكي، الحرم المكي لا يجوز يختلى خلاه ولا لعلف البعير والحرم المدني يجوز للبعير يحش الحشيش لأعلاف البعير والحرم المكي أغلظ وأشد، وكذلك الصيد فيه جزاء، الصيد هناك، الصيد في المدينة ليس فيه جزاء، فيه الإثم وفيه السلب «من رأى من يصيد في الحرم المدني فله سلبه» يعني: يأخذ ما معه من السلاح والثياب، كما في صحيح مسلم.
[ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ «بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان لفظ مسلم.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها» انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به، ولفظه كلفظه سواء.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: «التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني» فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» فلما أشرف على المدينة قال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم» وفي لفظ لهما «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم» زاد البخاري يعني أهل المدينة.
هذه من فضائل المدينة.
[ولهما أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة»]
(ضعفي) يعني: مثله مرتين.
[وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة»]
كما سبق، حرم مكة يعني: أظهر تحريمها، حرمت يعني: أظهرت تحريمها وإلا فالمحرم هو الله سبحانه وتعالى، وإنما إبراهيم عليه الصلاة والسلام ونبينا عليه الصلاة والسلام بلغوا عن الله تحريم مكة والمدينة.
[رواه البخاري وهذا لفظه، ولمسلم ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة».
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين» الحديث، رواه مسلم]
(مأزميها) هما اللابتان، هما حدودها، حدود الحرم، إبراهيم أظهر تحريمها، والله تعالى حرمها يوم خلق السماوات والأرض، لكن إبراهيم أظهرها للناس وبلغ عن الله، ونبينا r كذلك حرمها بوحي من الله.
وليس إلا حرمان في الدنيا هذا هو الصواب كما حقق ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله وغيره والمسجد الأقصى ليس حرم، كما أشاع عند بعض العامة وبعض الصحفيين، ثالث الحرمين خطأ، وإنما قال: «ثالث المسجدين» ثالث الحرمين معناه يجعلوه حرما ثالث الصواب ثالث المسجدين
منه قولهم حريم البئر هذا من المعنى اللغوي، حريم الشيء يعني ما حوله، ولهذا يقول العلماء: حريم البئر أربعون ذراعا في أربعون ذراعا، إذا صار في خصومة في بئر، حريمها يعني: ما يتبعها، ويسمى الحمى ومنه الحديث: «من حام حول الحمى» حمى البئر وحريم البئر المعنى واحد، المعنى اللغوي، أما الحرم يعني الحرم الذي حرمه الله، حرم فيه الصيد، وحرم فيه القتال، وحرم فيه تنفير الطير، وحرم فيه اللقطة، لكن المعنى اللغوي حريم البئر، حريم الجامعة؛ يعني: ما حولها وما يتبعها من المعنى اللغوي.
[والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة، لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى، والله أعلم]
وهو الصواب.
[وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها» فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم]
(لقينهم) القين: الحداد، والإذخر: نبت رقيق يستعمله أهل مكة يضعونه لقينهم وبيوتهم، القين: الحداد يوقد عليه النار، هو بدل الخوص في نجد، بدل ما يوقد بالخوص يوقد بالإذخر، وكذلك للبيوت خلل بين الخشب يوضع الإذخر بدل الخوص ونحن نضع الخوص بدله، وكذلك في القبور لقينهم وقبورهم، الخلل الذي بين اللبنات يوضع فيه الإذخر نبت طيب، وهو بمثابة الخوص في نجد، كانوا سابقا بين الخشب يضعون الخوص، وكذلك توقد النار بالخوص؛ لأنه سريع الاشتعال، في مكة عندهم الإذخر بدله، في الخلل بين خشب السقف، وفي القبور، وفي الحداد أيضا، أول ما يوقد بالإذخر، ولهذا قال العباس: «يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم» فقال النبي r: «إلا الإذخر».
[قال العباس: «يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم» فقال: «إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم، ولهما عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نحو من ذلك، ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن صفية بنت شيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يؤخذ لقطتها إلا منشد» فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه للبيوت والقبور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر»]
المعنى أن اللقطة ما تؤخذ إلا لمنشدها، إلا لمن ينشدها، أو في اللفظ الآخر: «لمعرف» الذي يعرفها مدى الدهر، بخلاف لقطة غير الحرم تعرف سنة قال عرفها سنة فإن جاء طالبها وإلا فهي لك، أما لقطة الحرم فإنها من خصوصية الحرم أنها لا تلتقط إلا لمنشدها مدى الدهر، يعرفها مدى الدهر، لكن الآن وجد لجنة الآن موجودة في المسجد الحرام تقبل الضائع تأخذ الضائع فإذا سلمها إليهم معناه سلم وبرئت ذمته لأنهم نابوا منابه، ظاهره في الحرم المكي هذا.
وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة]
(بخربة) يعني: بجناية، عمرو بن سعيد هذا أمير المدينة من قبل يزيد بن معاوية، وكان يبعث البعوث والجيوش لقتال عبد الله بن الزبير في مكة فأبو شريح الصحابي الجليل t نصح عمرو بن سعيد وتأدب معه تلطف قال: (ائذن لي أيها الأمير) من باب مخاطبة الأمراء بما يناسبهم، وإلا أبو شريح أفضل منه هو صحابي جليل قال (ائذن لي أيها الأمير أحدثك حديثا) أنا متأكد منه، (سمعته أذناي، ووعاه قلبي) حين تكلم به النبي r، قال: «الغد يوم الفتح يعني اليوم الثاني ليوم الفتح: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يسفك فيها دم ولا ينفر صيده» ولا كذا؛ يعني: لا تسفك الدماء، فرد عليه ردا قبيحا ردا سيئا، الواجب على عمرو بن سعيد أن يقول: سمعا وطاعة لله ولرسوله، لكن قيل له ما قال لك؟ قال: (أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة) ابن الزبير عاص يعني لابد من قتاله، واستعاذ بالحرم وما يعيذه الحرم.
الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة بجناية وهل عبد الله بن الزبير الصحابي الجليل فيه شيء من هذا، هل هو عاص، هل هو فار بدم، هل فار بخربة، بويع له t في وقت قبل البيعة ليزيد، وكذلك أيضا قتله عبد الملك بن مروان بعد ذلك، المقصود أن رد عمرو بن سعيد رد سيء، الواجب عليه أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله ولا يرد هذا الرد السيء ويقول للصحابي: أنا أعلم بذلك منك.
قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة، رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه]
يعني: أن ابن الزبير عاص لابد من قتاله، جان فلابد من قتاله والحرم لا يعيذ الجاني، صحيح من ارتكب جناية في الحرم وفعل ما يوجب الحد فهذا يقام عليه الحد لأنه انتهك حرمة الحرم، أما من لجأ إلى الحرم وجاء إليه من بعيد فهذا معظم للحرم، ولو كان عليه حد يلجأ أو يخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد، أما من انتهك حرمة الحرم وفعل جناية في الحرم هذا يقام عليه الحد في الحرم.
[فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه الصلاة السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه الصلاة السلام: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} [البقرة: 129] وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بدء أمرك فقال: «دعوة أبي إبراهيم عليه الصلاة السلام، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك، كما سيأتي قريبا إن شاء الله
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} أي من الخوف لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا، كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} [آل عمران: 97] وقوله: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67] إلى غير ذلك من الآيات]
المعنى: أن هذا الخبر بمعنى الأمر: {ومن دخله كان آمنا} فالخبر بمعنى الأمر، والمعنى: أمنوه، أمنوا من دخله، المعنى أنه ينبغي أن يؤمن من دخل البيت، فهو خبر بمعنى الأمر وليس المعنى أنه لا يصيب الحرم رعب ولا خوف بل حصل هذا في القديم وفي الحديث، الصواب: لو كان خبر ليس معناه الأمر لكان ما يحصل في مكة رعب، لكنه حصل رعب في القديم وفي الحديث في أيام القرامطة قتلوا الحجاج، وفي أيام ابن الزبير كذلك عبد الله بن الزبير، أيام الحجاج دخل الرعب لأهل مكة ودخل مكة وقاتل أهل مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق، وإنما هذا الخبر بمعنى الأمر، المعنى: ينبغي أن يؤمن، أمنوا من دخل البيت، اجعلوه آمنا، فهو خبر بمعنى الأمر.
[وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر t: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» وقال في هذه السورة {رب اجعل هذا بلدا آمنا} أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا} [البقرة: 126] وناسب هذا هناك لأنه، والله أعلم، كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة]
مبني على فتح الجزأين: ثلاث عشرة، أربع عشرة، خمس عشرة؛ إلى آخره، مبني على فتح الجزأين.
[ولهذا قال في آخر الدعاء {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39]
المعنى أن هذه الآية قبل بناء البيت، الدعاء في هذه الآية وأما الدعاء في سورة إبراهيم إنما كان هذا بعد ولادة إسحاق وبعد بناء البيت.
وقوله تعالى: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال [ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} قال: هو قول الله تعالى، وهذا قول مجاهد وعكرمة، وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله]
يعني هذا من قول الله: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}.
[قال: وقرأ آخرون: قال {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم]
وعلى هذا يكون فأمتعه، القراءة الثانية فأمتعه واضطره، من دعاء إبراهيم من كلام إبراهيم، دعاء من إبراهيم (بإسكان الميم فأمتعه أمر) يسأل الله أن من كفر أن يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار، يسأل الله أن يفعل به ذلك.
[وقرأ آخرون: قال {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يقول ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا
وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد ومن كفر فأمتعه قليلا يقول، ومن كفر فارزقه رزقا قليلا أيضا {ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}]
أمتعه؛ يعني: مدة بقاءه في هذه الدنيا، والدنيا كلها قليل، أمتعه قليلا ولو عاش ألف سنة: {قل متاع الدنيا قليل} [النساء:77] ولو عمر ألف عام هذا يعتبر قليل، الدنيا كلها قليل؛ يعني: أمتعه مدة حياته ولو طالت، ثم بعد ذلك يصير إلى النار نعوذ بالله، من كفر ولو متع مهما متع مآله إلى النار نعوذ بالله، والدنيا كلها قليل، ومنه قوله: {اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} [التوبة:9] يعني: اليهود، والدنيا كلها ثمن قليل ولو بالآلاف.
[قال محمد بن إسحاق: لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته، وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك، قال الله تعالى: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا.
وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في قوله تعالى: {رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله: ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} [الإسراء: 20] رواه ابن مردويه، وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى{إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} [يونس: 70] وقوله تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} [لقمان: 23- 24] وقوله{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف: 33- 35] وقوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير، ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} [الحج: 48].
والمعنى: أن الإنسان لا يغتر، فالله تعالى يملي للظالم ثم يأخذه، فالعصاة قد يغترون بحلم الله عز وجل وبإمهاله لهم، ولكنهم يؤخذون على غرة، الواجب الحذر، قال بعضهم: ما أخذ الله قوما إلا على غرتهم وسهوتهم، يحذر الإنسان، وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحبه وهو مقبل على معاصيه فاعلم أن ذلك استدراج ثم قرأ {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [القلم:44]
فالواجب الحذر وألا يغتر الإنسان بنعم الله وإمهاله، قد تنزل العقوبات وكثير من الناس لا يشعرون بها ويظنون العقوبات خاصة بالعقوبات الحسية، العقوبات في القلوب، موت القلوب هذا أعظم العقوبات حيث الإنسان لا يحس بالمعاصي ولا تؤلمه الجراحات، نسأل الله السلامة والعافية.
[وفي الصحيحين «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» وفي الصحيح أيضا «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود:102].