شعار الموقع

سورة البقرة - 30

00:00
00:00
تحميل
63

هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} من الآيات العظيمة المحكمة الدالة على وحدانية الله U، وأنه المعبود بالحق، كما أنه الخالق الرازق الواحد كما أنه الخالق الرازق، المدبر الذي لا شريك له في الخلق، ولا شريك له في الربوبية، ولا شريك له في الملك، ولا شريك له في التدبير، فكذلك لا شريك له في العبادة والألوهية فهو الإله الحق، هو إله الحق سبحانه وتعالى، لذلك قال سبحانه وتعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} يعني: لا معبود بحق سواه، فالعبادة حق الله U الدعاء، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والذبح، والنذر والاستعانة والاستغاثة والخوف، والرجاء، والتوكل، هذه الأنواع من العبادة كلها حق الله U، محض حق الله لا يستحقها غيره، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو المعبود بحق لا شريك له، والمنفرد بالألوهية، الله تعالى له حق لا يشاركه فيه أحد والرسول r له حق: وهو الطاعة، والتوقير، والمحبة، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والله تعالى حقه العبادة، والرسول حقه الطاعة والاتباع والمحبة والمؤمنون حقهم المحبة والاقتداء بأفعالهم، وأقوالهم الطيبة، فالله تعالى حقه العبادة، هو المنفرد بالألوهية والعبادة، لا يستحق العبادة غيره، لا دعاء ولا ذبح، ولا نذر، ولا استعاذة، ولا استغاثة، ولا صلاة، ولا صوم، ولا ركوع، ولا سجود، هذه حق الله لا تصرف لغيره لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما فهو المنفرد بالألوهية كما أنه المنفرد بالربوبية لا رب غيره، وكما أنه المنفرد بالملك لا مالك غيره، وكما أنه المنفرد بالتدبير لا مدبر غيره، فكذلك هو المنفرد بالألوهية، وهذه الآية فيها من الآيات المحكمة التي يرد فيها على النصارى الذين يتعلقون بالمتشابه عندهم، كما لو تعلق النصراني وقال قوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر:9] يقول: نحن هذه للجمع فالآلهة متعددة، كما يقول النصارى الآلهة ثلاثة والعياذ بالله فيقال أنت من أهل الزيغ تتعلق بالمتشابه، رد المتشابه إلى المحكم في هذه الآية: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} هذه تقطع شبهة النصراني وغيره؛ لأنها آية محكمة كذلك قد يتعلق المعطل والجهمي بقوله تعالى {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}[الزخرف:84] ويقول: إن الله في كل مكان تعالى الله عما يقولون نقول أنت من أهل الزيغ{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} يعني معبود في الأرض ومعبود في السماء وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.

والآيات المحكمة واضحة في أن الله فوق العرش: {ثم استوى على العرش}[الحديد:4]، {أأمنتم من في السماء}[الملك:16]، {وهو العلي العظيم}[البقرة:255] وأدلة العلو تزيد على ثلاثة آلاف دليل، ثم استدل سبحانه وتعالى على استحقاقه العبادة وأنه هو المعبود بحق بتوحيد الربوبية كما في هذه الآية: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}[البقرة:164] هذا الدليل على استحقاقه للعبادة، وكثيرا ما يستدل سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون على توحيد الألوهية كما أنكم تقرون بأن الله هو الخالق، الرازق المدبر، فعليكم أن تعبدوه وحده سبحانه وتعالى وتخصوه بالعبادة كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} ثم جاء بالدليل{الذي خلقكم} [البقرة:21]توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية وكما في قوله سبحانه وتعالى{أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أئله مع الله}[النمل:60] استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أئله مع الله}[النمل:61]،  {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أئله مع الله}[النمل:62]  وهكذا يستدل سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون على توحيد الألوهية.

اسم الفرد؟

الصمد، ما أعلم أن الفرد من أسماء الله لكن من باب الخبر

[قال رحمه الله: يقول تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع، واختلاف الليل والنهار، هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}[الأنبياء: 33] وتارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان، كما قال تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }[الحديد: 6] أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا{والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون إلى قوله ومما لا يعلمون}[يس: 33] {وبث فيها من كل دابة} أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفى عليه شيء من ذلك كما قال تعالى{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}[هود: 6]

المبشرة هذه اللي تبشر بالمطر كما في الآية الأخرى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} [الأعراف:57].

[{وتصريف الرياح} أي فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الشمال وهي الشامية]

شمال الكعبة.

[وتارة تأتي من ناحية اليمن]

وهذه الجنوبية.

[وتارة صبا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة]

الشمالية من شمال الكعبة، الجنوبية من جنوب الكعبة، الصبا شرق الكعبة تصدم وجه الكعبة والباب، باب الكعبة، وتارة دبور التي تأتي دبر الكعبة من جهة الغرب

الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله في الأول عن شهر بن حوشب أن اسم الله الأعظم الرحمن الرحيم، هذا ضعيف الحديث في سنده شهر بن حوشب صدوق له أوهام، ولو صح فالمعنى أن هذا من الأسماء العظيمة المراد به اسم التفضيل، المراد أن اسم الرحمن الرحيم من الأسماء العظيمة، وكثيرا ما يراد باسم التفضيل الصفة المشبهة، اسم الله الأعظم يعني العظيم لو صح، المراد اسم الله الأعظم يعني: اسم الله العظيم؛ أفعال التفضيل كثيرا ما يأتي ويراد به الصفة المشبهة، المراد أن الرحمن الرحيم من أسماء التفضيل.

[عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح، فنؤمن بك ونقاتل معك، قال أوثقوا لي لئن دعوت ربي أجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي" فأوثقوا له، فدعا ربه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين، قال محمد صلى الله عليه وسلم «رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم» ، فأنزل الله هذه الآية: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية.

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به، وزاد في آخره: وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا؟ وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون}]

وهذا مرسل عن عطاء.

[فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه، عن أبي الضحى، قال: لما نزلت {وإلهكم إله واحد} إلى آخر الآية، قال المشركون: إن كان هكذا، فليأتنا بآية، فأنزل الله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} إلى قوله: يعقلون]

أبي الضحى كذلك هذا مرسل، وكيع هذا وكيع بن الجراح وهو شيخ الشافعي، والإمام أحمد قال: هو المشهور عنه أنه شكا إليه الشافعي في طلب سوء الحفظ:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي

  وقال اعلم بأن العلم نور ...      ونور الله لا يؤتاه لعاصي

ويقال: إن الشافعي رحمه الله أخذ الموطأ عن شيخه مالك في جلسة واحدة، قال له الإمام مالك: إني أرى عليك نورا فلا تطفئه بمعصية الله.

[رواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي الضحى به قوله تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165-167]

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»]

وهذا التنديد تنديد في العبادة، في العبادة كالدعاء، والذبح، والنذر، والاستغاثة، تنديد في العبادة، شرك، حيث أنهم جعلوا لله ندا؛ يعني: شريك في العبادة يدعونه مع الله، يستغيثون به، يذبحون له، ينذرون له، وهناك تنديد في الربوبية كأن يجعل لله ندا في الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وهذا أعظم، هذا أشد وأعظم كفرا من كفار قريش وأعظم منه تنديد الملاحدة كالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، ويقولون: لا إله والحياة مادة، نسأل الله السلامة والعافية، فهؤلاء أعظم الناس كفرا وتنديدا لله لأنهم عبدوا الشيطان وجعلوا الشيطان لله ندا نعوذ بالله.

[وقوله: {والذين آمنوا أشد حبا لله} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم، له، لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك، فقال {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا} قال بعضهم: تقدير الكلام، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه.

{وأن الله شديد العذاب}كما قال{فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}[الفجر25- 26] يقول: لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبري المتبوعين من التابعين، فقال {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة: { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون}[القصص: 63] ويقولون: {سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}[سبأ: 41] والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى{ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 46- 47] وقال تعالى{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا}[مريم: 81- 82] وقال الخليل لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}[العنكبوت: 25]

وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} [سبأ: 31- 32- 33]

وقال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 22]

هذه الآيات فيها بيان براءة المعبودين من عابديهم، وأنهم يتبرءون منهم، وفيها بيان ضلال من يعبد وهذا عام كل واحد له هذا الوصف، الرسل وغيرهم، من عبد الملائكة، ومن عبد الصالحين {وهم عن دعائهم غافلون} [الأحقاف:5] لأنهم ما بين ميت وبين غائب، مشغول بنفسه، هذه حال المعبودين من دون الله، المعبودون يتبرءون من العابدين، وينكرون عبادتهم، ويكفرون بهم، ويعادونهم، نسأل الله السلامة والعافية.

[وقوله {ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس {وتقطعت بهم الأسباب} قال المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح وقوله {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا} أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده للعبادة وهم كاذبون في هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}[الفرقان: 23] وقال تعالى: { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف}[إبراهيم: 18] وقال تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] ، ولهذا قال تعالى: { وما هم بخارجين من النار}]

وهذه حال المشركين نسأل الله السلامة والعافية، أعمالهم ضائعة، حابطة، باطلة، يندمون ندما عظيما ولكن لا حيلة، ليس لهم إلا النار نعوذ بالله، لا حيلة لا مهرب لا خلاص، المعبودون يتبرءون منهم والله سبحانه وتعالى قد أحصى عليهم أعمالهم، وعرضت عليهم أعمالهم، وليس لهم إلا الحسرات يساقون للنار سوقا نعوذ بالله، ويتساقطون في النار نعوذ بالله.

{يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة:165] لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، فالمؤمنون أشد حبا لله.

يعني: يعبدون الله ويعبدون غيره من المشركين، يحبون الله ويحبون غيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله فصاروا مشركين، محبة المشركين مشتركة للأصنام ولله، ومحبة المؤمنين خالصة، يحبون الله لكن يحبون معه غيره فلا تنفعهم محبتهم لله ولا عبادتهم لله؛ لأنها حابطة بالشرك.

[قال الله U: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة:168-169]

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها]

كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وهذه الآيات الكريمة وهي قوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} وقوله سبحانه وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}[البقرة:29]، وقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا}[الجاثية:13] هذه الآيات وأمثالها استدل بها العلماء على أن الأصل في هذه الأشياء الحل والإباحة، الأصل في الأعيان، والمطاعم، والملابس والمشارب، الأصل فيها الحل والإباحة، لقوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فإذا أشكل عليك شيء فإنك ترجع إلى الأصل في مطعم أو مشرب أو ملبس حتى يأتي الدليل على التحريم، بخلاف الأبضاع والفروج الأصل فيها التحريم، قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة:3] وكذلك الذبائح الأصل فيها التحريم، الذبيحة الأصل فيها أنها إذا أشكل عليك شيء امتنع حتى يأتي الدليل على التحليل في الذبائح، بخلاف الأبضاع الفروج، الفروج والأبضاع والذبائح الأصل فيها التحريم، أما الأعيان والمآكل والمشارب والملابس فالأصل فيها الحل والإباحة كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة:29] وقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا}[الجاثية:13].

وهذا إذا وجدت الشبه وكثرت، وكثر الاشتباه فحسن، أما إذا ما كان هناك اشتباه فالأصل السلامة والحل لان الذبائح الأصل فيها التحريم، لكن الأصل في بلاد المسلمين ما يذبح أنه حلال إلا إذا اشتبه الأمر وكثر من يذبح على غير الطريقة الإسلامية، أو الذي يتولى الذبح وهو غير مسلم.

[ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار]

عياض بن حمار المجاشعي الصحابي الجليل.

[كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وفيه وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم»

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري

حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال «يا سعد أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به»]

(محمد بن عيسى بن شبة السدوسي أبو علي البزاز البصري ثم المصري) يحتمل يكون سكن في البصرة وسكن في مصر، مثل الشافعي سكن في العراق وسكن في مصر، له قول قديم في العراق وقول جديد في مصر، فالشافعي عراقي ومصري، وهذا لو ثبت يكون بصري ومصري، إذا ثبت هذا يكون بصري ومصري، سكن في البصرة وسكن في مصر، كما يقال المكي المدني، الرسول r المكي المدني، سكن في مكة وسكن في المدينة.

[«والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به»]

هذا الحديث فيه الاحتياط في الكلام، لكن الحديث: «أطب مطعمك» له شواهد، من شواهده: «إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه» من شواهد الحديث حديث أبي هريرة عند مسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا» في قصة «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» هذا يشهد له

وكذلك الاحتياط في هذا، ابن جريج نعم مدلس وعنعن.

[وقوله: {إنه لكم عدو مبين} تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6]، وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} [الكهف: 50] وقال قتادة والسدي في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان، وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه أو قال خطاياه، وقال أبو مجلز: هي النذور في المعاصي.

وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان.

وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده، فقال: أصائم أنت قال: لا، قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعا أبدا، فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان]

الضرع لعله: لحم ضرع، يعني: الإبل والبقر والغنم، أو المراد بالضرع اللبن، لعل هذا الرجل من البراهمة الذي لا يأكل اللحم، ما يأكل إلا النبات، أتي بلحم ضرع حرمه ولم يأكله، خطوات الشيطان عامة، خطوات الشيطان المعاصي كلها، ولكن السلف رضي الله عنهم ورحمهم الله كانوا يفسرون الآية ببعض ما دلت عليه من المعاني من باب التوضيح، فالنذور من خطوات الشيطان، وكذلك تحريم الحلال من خطوات الشيطان، خطوات الشيطان عامة، المعاصي كلها من خطوات الشيطان، لكن هذه أمثلة.

[فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفر عن يمينك، رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي، عن أبي رافع، قال: غضبت يوما علي امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك]

كيف غضبت عليه امرأته فقالت: إن لم تطلق امرأتك، لعله غضبت علي سيدتي، أبو رافع مولى من الموالي، لعله غضبت علي سيدتي فقالت: إن لم تطلق امرأتك فأنت كذا وكذا، تأمره بطلاق امرأته؛ لأن أبو رافع مولى من الموالي.

[فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان، وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة: وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك.

وقال عبد بن حميد: حدثنا أبو نعيم عن شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.

وقوله {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا]

يعني: وبأغلظ من ذلك؛ يأمركم بالفاحشة ويأمركم بأغلظ من ذلك، (وهو القول على الله بلا علم) يعني: يشمل الشرك وغيره أعظم القول على الله بلا علم

الأقرب أنه عاصم بن عمر قال، بدل قالا، ابن حبان رحمه الله متساهل في التوثيق.

[{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة:170-171]

يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين: {اتبعوا ما أنزل الله} على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: {بل نتبع ما ألفينا} أي وجدنا عليه آباءنا، أي من عبادة الأصنام والأنداد، قال الله تعالى منكرا عليهم {أولو كان آباؤهم} أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم {لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} أي ليس لهم فهم ولا هداية وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا:{بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}فأنزل الله هذه الآية

ثم ضرب لهم تعالى مثلا كما قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} [النحل: 60]]

والأقرب أنها عامة في المشركين واليهود، الآية عامة ليست خاصة باليهود لكن المشركين يدخلون دخولا أوليا، يتبعون آباءهم بالضلال والباطل.

[كما قال تعالى {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} [النحل: 60]، فقال: {ومثل الذين كفروا} أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا وقيل: إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا اختاره ابن جرير، والأول أولى، لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها.

وقوله {صم بكم عمي} أي صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه]

يعني: لا ينطقون، صم: لا يسمعون الحق، عمي: لا يبصرون الحق، بكم: لا يتكلمون بالحق، نعوذ بالله.

[{فهم لا يعقلون} أي لا يعلمون شيئا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام:39].

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} [البقرة:172-173]

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم}[المؤمنون: 51] ، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟» ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق]

هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه كما قال المؤلف رحمه الله، وهو قوله r: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» فهو سبحانه وتعالى طيب في ذاته، وفي صفاته، وأفعاله وأسمائه، ولا يقبل من العمل إلا ما كان طيبا، وهو الخالص لوجهه، الموافق لشريعته، وفيه: إثبات اسم الطيب لله U، من أسمائه الطيب ويعبد به يقال: عبد الطيب، كما أن من أسمائه الجميل، في الحديث: «إن الله جميل يحب الجمال» يعبد يقال: عبد الجميل، عبد الطيب وفيه: بيان عظم شأن الحرام وأنه يمنع قبول الدعاء، في هذا الحديث وفي الآيات الكريمة بيان عظم الحرام وأن الحرام يمنع من قبول الدعاء، فهذا الرجل الذي كان في السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فعل أسبابا متعددة تستوجب عدم قبول الدعاء، وهو أنه مسافر، والسفر من أسباب قبول الدعاء، في الحديث: «ثلاث لا ترد دعوتهم منهم المسافر».

ومنها: أنه أشعث أغبر بعيد عن الترفه والتنعم، ومنها: أنه يرفع يديه إلى السماء وهي من أسباب قبول الدعاء، ومنها أنه يتوسل بربوبية الله يا رب يا رب، لكن عرضها مانع أقوى منها وهو التلبس بالحرام أكلا، وشربا، ولباسا، وتغذية فهذا المانع قضى على هذه الأسباب، نسأل الله السلامة والعافية، فالواجب على المسلم أن يحذر من أكل الحرام حتى يقبل الله دعاءه ويقبل أعماله: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة:172] إن كنتم عبيده فكلوا من طيباته واشكروا له فالمال الطيب الحلال هو الذي ليس فيه شيء من أسباب الحرام، الحرام طرقه متعددة يكسب المال عن طريق الربا، أو عن طريق الرشوة، أو عن بيع المحرمات كالدخان وآلات اللهو والخمور، أو يجحد حقوق الناس ويأكل أموال الناس، أو ينفق سلعته بالحلف الكاذب، أو يخفي عيب السلعة، أو يأخذ المال عن طريق السرقة أو الغصب، أو النهب؛ كل هذه من أنواع أكل الحرام فالواجب على المسلم الحذر من الحرام بأنواعه؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.

[ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96].

يعني: كما ذكر الله في آية المائدة: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة} هي التي تموت بالخنق، {والموقوذة} هي التي تضرب على رأسها فتموت، {والمتردية} التي تسقط من جبل أو من شاهق، {والنطيحة} التي تنطحها أختها فتموت، {وما أكل السبع} ما أكلها السبع، أكيلة السبع أو أكلها السبع {إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} [المائدة:3] وما ذبح للأصنام وذكر عليها اسم الله، كل هذه أنواع الميتات كلها محرمة لا يجوز أكلها.

[وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96] على ما سيأتي إن شاء الله، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه الصلاة السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا «أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.

مسألة: ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره، لأنه جزء منها، وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة]

والأقرب أنها نجسة، الميتة وبيضها نجسة تبع لها هذا هو الأقرب.

[وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير هاهنا يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع.

وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه»]

هذا الحديث ضعيف السند إلى سيف بن هارون ضعيف الحافظ سكت عليه

[وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه]

لأن الخنزير عينه نجسة كالكلب، لا يطهر بالتزكية إنما التزكية تطهر مأكول اللحم كالإبل، والبقر، والغنم، هذه تطهرها التزكية، أما نجس العين فلا تطهره التزكية ولا يستفيد من التزكية كالسباع، والكلاب، والخنزير، لا تفيدها التزكية شيئا لأنها نجسة العين، إنما الذي تطهره التزكية مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم.

سيف بن هارون متروك يعني: متهم بالكذب فيكون ضعيف جدا، المقصود أنه ضعيف.

الفراء كسحاب الحمار الوحشي أو فتيه جمعه أفراء وفراء (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء كأنه شيء مستثنى يعني سياق الكلام يقتضي أنه من جنس الجبن يتعلق بشيء من السباع أو بشيء من الميتة ساقه المؤلف كأنه ليس مطلق، لكن لعله جبن الميتة أو ما يتصل بها.

 (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء) يكون لما حرمت الحمر الأهلية

يحتاج إلى تأمل.

[وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي]

والأقرب أنه يشمله، الشحم داخل في العموم وهو محرم بجميع أجزائه، ولهذا أخذ بعض العلماء من هذا أن لحم البعير ينقض الوضوء، لحمه وشحمه، وذهب بعض العلماء كالحنابلة وغيرهم إلى أنه لا ينقض إلا اللحم الأحمر، لحم الإبل، أما الشحم فلا ينقض، العصب، لحم الرأس، الكبد، الكرش فلا ينقض الوضوء لأنه ليس بلحم، والصواب أنه ينقض بجميع أجزائه؛ لأن الله تعالى لما حرم لحم الخنزير شمل ذلك جميع أجزائه، فكذلك لحم الإبل ينقض الوضوء بجميع أجزائه.

المرق لا، واللبن، إذا شرب لبن الإبل، أو الحليب أو المرق ما ينقض، ما يسمى أكل لحم.

[وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له.

وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري: أنه سئل عن امرأة عملت عرسا لبعلها فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم.

(عند القرطبي هنا قال ابن عطية: رأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت بلعابها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم)

كأنه من باب الإسراف، كأنها تقربت إليه، والأقرب أنه من باب الإسراف هذا.

[وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم]

يعني: كلوا من النباتات ولا تأكلوا مما ذبح، لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم، ولا الأكل من طعامهم، ولا الإهداء لهم، ولا قبول الهدية في وقت أعيادهم، ولا الأكل معهم في أعيادهم، لا يجوز، الواجب البعد عنه وقد بسط الكلام على هذا أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم ولا احتفالاتهم، ولا تهنئتهم، ولا الأكل معهم، ولا قبول هديتهم، ولا الإهداء لهم؛ كل هذا منكر قد يكون هذا من الكبائر، كونه في يوم عيدهم يهدي هدية، أو يشتري ورود أو ما أشبه ذلك؛ كل هذا من مشاركة الكفرة ولا يجوز ومحرم هذا، لا الهدية ولا التهنئة، ولا الموافقة لهم في صنع الطعام في أيام أعيادهم، الواجب البعد والحذر من مشابهتهم وموافقتهم في أيام أعيادهم، ولا التعزية في أيام أعيادهم، التعزية شيء آخر إذا كانوا حربيين قد يقال: إن هذا من جنس الإحسان إليهم، هذا شيء آخر، الممنوع كون الإنسان يتخذ كافرا صديقا له يزوره ويدعوه بدون دعوة، أما الشيء الذي يجمع بدون اختيار الإنسان هذا شيء عارض.

[ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد {فلا إثم عليه} أي في أكل ذلك {إن الله غفور رحيم}، وقال مجاهد: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة، أو خارجا في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد، بن جبير. وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان: {غير باغ} يعني غير مستحله، وقال السدي: {غير باغ} يبتغي فيه شهوته، وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني، عن أبيه قال: لا يشوي من الميتة ليشتهيه، ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال]

العلقة يعني: ما يسد الرمق، ولا يتزود، والأقرب: أنه له أن يأكل، وله أن يشوي، من أحل الله له الميتة له أن يأكل، وله أن يشوي، ويأكل ما معه ما يوصله إلى الحلال، والبغي: مجاوزة الحد، فإذا اضطر وأكل ولم يكن مجاوزا للحد ولا معتديا متصفا بالعدوان فلا إثم عليه.

[ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال فإذا بلغه ألقاه، وهو قوله {ولا عاد} ويقول لا يعدو به الحلال، وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لا يشبع منها، وفسره السدي بالعدوان، وعن ابن عباس {غير باغ ولا عاد} قال غير باغ في الميتة ولا عاد في أكله، وقال قتادة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} قال: غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: {فمن اضطر} أي أكره على ذلك بغير اختياره.

مسألة: إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف، كذا قال]

يعني: إذا لم يؤدي إلى قطع يده، يتهم بأنه سارق، ثم تقطع يده، يعني: إذا وجدت مضطر إما أن يأكل ميتة أو يأكل طعام الغير أيهما يقدم؟

[ثم قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية: سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال: أصابتنا عاما مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطا، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل «ما أطعمته إذ كان جائعا، ولا ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا» فأمره فرد إليه ثوبه، فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة، من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال «من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» الحديث]

الغبري بضم المعجمة وفتح الموحدة صحابي نزل البصرة روى عنه جعفر بن أبي وكيع.

الحديث لا بأس بسنده ويشهد له حديث عمرو بن شعيب، وفيه: دليل على أن الإنسان إذا احتاج ومر ببستان واحتاج إلى الأكل فله أن يأكل من ثمره ولا يتخذ خبنة، لا يأخذ معه شيء يتزود ولا يفسد، يأكل حاجته إذا اضطر إلى ذلك، أو مر ببستان وله ثمر فله أن يأخذ ما يحتاج ليأكل ولا يتزود، أو يأخذ يعطيه غيره، أو يأخذ شيئا يفسده، فإنما يأخذ بمقدار ما يحتاج للأكل، فهذا الحديث دليل على أنه لا بأس، ولهذا الصحابي لما أخذ من السنبل وفركه وضربه صاحب البستان أنكر عليه النبي r، قال: «ما أطعمته إذ كان جائعا، ولا ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا».

ساغبا كأنها أقرب، لكن الساغب هو الجائع: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} [البلد:14].

قال القرطبي على الحديث: قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده، وعباد بن شرحبيل الغبري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا وليس له عن النبي r غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه الله، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة.

قطع اليد يعني في حالة الجوع كأن الأقرب أو ساغبا؛ «ما أطعمته إذ كان جائعا، ولا ساغبا» والمعنى واحد؛ يعني: كأنه شك في أي اللفظتين، المقصود: أن هذا دليل على أنه لا بأس للإنسان إذا احتاج، وأولى إذا كان إنسان احتاج إلى الأكل لكونه خاف على نفسه الموت ولا يأكل من الميتة، يأكل طعامه ثم بعد ذلك، الأقرب أنه يضمنه إذا استطاع يعطيه ثمنه، أما إذا مر بثمر وبستان فيه تمر واحتاج فإنه يأكل بفمه ولا يأخذ شيئا معه؛ لأنه مر به وهو محتاج، وهو كثير ويراه.

[وقال مقاتل بن حيان في قوله: {فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} فيما أكل من اضطرار، وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم، وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار، وقال وكيع: أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات، دخل النار، وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة.

عزيمة ورخصة لأنها حلال من حرام، أكل الميتة كان حراما ثم صار حلالا فرخصة، وهي عزيمة من جهة أنه يجب عليه أن يأكل ما يقيم جسمه ولا يستسلم للموت، فإن استسلم للموت ولم يأكل حتى مات فإنه يأثم، فهي رخصة وعزيمة، رخصة؛ لأنها أحلت وكانت حراما، حلال من حرام، وهي عزيمة؛ لأنه يجب عليه أن يأكل ما يقيم جسمه حتى لا يموت، يجب، هذا وجوب، وليس له أن يستسلم للموت، والميتة في هذه الحال حلال له.

[قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكياالهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا، كالإفطار للمريض ونحو ذلك]

يعني: أنه عزيمة، وإفطار المريض هذا فيه تفصيل إذا كان مرض خفيف وصام فلا بأس، أما إذا كان مرض يشق عليه فهو في حقه الصيام وينبغي له، أما إذا كان يخشى من المرض يجب عليه أن يفطر وليس له أن يصوم ويضر نفسه، بعض المرضى ما عنده بصيرة، إذا كان الصوم يزيد في المرض فيجب عليه أن يفطر، يكون عزيمة في هذه الحالة مثل أكل الميتة، كما قال الطبري.

[{إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة:174-176].

يقول تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رئاستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك]

فخشوا، بعض الناس يقرؤها خشوا؛ لأن الفعل المعتل بالياء إذا أسند إلى واو الجماعة تقلب ياؤه واوا فيجتمع واوان ويضم ما قبلها: خشوا، رضي رضوا، بخلاف معتل الآخر بالألف فإنه يفتح ما قبله مثل غزوا، رموا، دعوا، غزا غزوا، دعا دعوا، رمى رموا، أما رضي رضوا، خشي خشوا، علا علوا.

[فخشوا- لعنهم الله- إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله، بذلك النزر اليسير]

سماه الله ثمنا قليلا والدنيا كلها ثمن قليل؛ حتى ولو جاءتهم الدنيا كلها، هؤلاء اعتاضوا عن تصديق الرسول r والإيمان به بما يأخذونه من الدنيا من الأموال والهدايا وهي كلها ثمن قليل نسأل الله السلامة والعافية، والذي حملهم على ذلك الحسد وإيثار الدنيا على الآخرة، هم كتموا ما يعلمونه في كتبهم من نبوة محمد r وصدقه وأنه رسول الله حقا، ولم يؤمنوا ولم يصدقوا، فحل عليهم العذاب والنقمة، نسأل الله السلامة والعافية فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبها ما أصابهم من كتمان الحق وعدم الإيمان والتصديق؛ حتى لا يصيبهم ما أصاب أهل الكتاب، وهو تحذير لنا كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم، فاحذروا أنتم أن تفعلوا مثل فعلهم فيصيبكم ما أصابهم.

[فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونا له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا} وهو عرض الحياة الدنيا {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق، نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة، كما قال تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}[النساء: 10]

وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، «الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»]

المعروف أن الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر، هذا يحتاج إلى مراجعة، المعروف في الحديث: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

هذا في الحديث الآخر: «لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».

في رواية أخرى للبخاري: الذي يشرب محتمل هذا.

[وقوله: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه، هاهنا حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر»]

رواه مسلم.

هذا يدل على الوعيد الشديد، وأن هذه من الكبائر: «شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» وذلك لأن الداعي إلى المعصية ضعيف، وإذا كان الداعي إلى المعصية ضعيف عظم الذنب، «شيخ زان» شيخ زاني كبير السن، زان، الزنا محرم وقبيح من الشاب والشيخ، لكن الشيخ أشد؛ لأن الشاب عنده الداعي أقوى، إذا كان شيخ ويزني دل على حبه للفواحش، وكذلك الملك فالكذب لا يجوز لا للملوك ولا لغيرهم لكن الفقير قد يكذب مثلا وقد يكون هناك داعي إلى الكذب ويخشى، لكن الملك ما الذي يدعوه إلى الكذب وهو الذي يتصرف، هذا يدل على قوة الداعي، ويدل على حب الكذب مع ضعف الداعي «وعائل مستكبر» كذلك الكبر حرام ولا يجوز من الفقير ولا من الغني، الغني قد يكون هناك ما يدعوه إلى الكبر بسبب غناه وجاهه، لكن الفقير ما عنده شيء فما الذي يدعوه إلى الكبر، هذا يدل على أنها خصلة متمكنة فيه، يدل على حبه للمعصية، فهؤلاء مع ضعف الداعي صار ذنبهم أعظم، وجاء في أحاديث أخرى: «ثلاثة لا يكلمهم الله: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان بما أعطى» هناك من جمع الأحاديث التي فيها ثلاثة.

[ثم قال تعالى مخبرا عنهم: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم {والعذاب بالمغفرة} أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب، وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة]

اشتروا يعني: اعتاضوا، كقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} [لقمان:6] يعني: يعتاض، اعتياض، يأخذ من هذا عوضا عن هذا، {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} [آل عمران:77] يعني: اعتاضوا عن الدين بالدنيا؛ يعني: أخذوا الدنيا عوضا عن الآخرة.

[وقوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال، عياذا بالله من ذلك وقيل معنى قوله {فما أصبرهم على النار} أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار]

والأقرب الأول، وهو التعجب من صبرهم وهم لا حيلة لهم في الخروج منها، نسأل الله السلامة والعافية.

[وقوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه، وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته، فاستهزءوا بآيات الله المنزلة على رسله، فلهذا استحقوا العذاب والنكال، ولهذا قال ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد