بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[إقْرَاعُ الْمُسَافِرِ بَيْنَ نِسَائِهِ]
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
(الشرح)
فأذن له هَذَا بمعنى أسقطن حقهم, كُلّ واحدة أسقطت نوبتها وَكَانَ في بيت عائشة, وَهَذَا مطلق, إِذَا أسقطت المرأة يومها عَنْ رضا وَعَنْ طواعية سواء في وقت المرض أو في غيره يسقط حقها, وكما فعلت سودة, وَإِذَا أرادت أن تعود بَعْدَ ذَلِكَ لها أن تعود, فَهُوَ حقها.
(المتن)
وَفِي رِوَايَةٍ «، وَكَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ مِنْ مَرَضِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ» أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَقَوْلُهُ «فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ» ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بُيُوتَكُنَّ فَإِنْ شِئْتُنَّ أَذِنْتُنَّ لِي فَأُذِنَ لَهُ» ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ فَاطِمَةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ إنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الِاخْتِلَافُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاسْتَأْذَنَتْ لَهُ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» فَيَجْتَمِعُ الْحَدِيثَانِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الَّذِي يَلِيهِ» ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَذِنَتْ كَانَ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا مِنْ النَّوْبَةِ، وَأَنَّهُ لَا تَكْفِي الْقُرْعَةُ إذَا مَرِضَ كَمَا تَكْفِي إذَا سَافَرَ كَمَا دَلَّ لَهُ قَوْلُهُ.
(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ (قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَزَادَ فِيهِ عَنْهَا فَكَانَ «إذَا خَرَجَ سَهْمُ غَيْرِي عُرِفَ فِيهِ الْكَرَاهِيَةُ» .
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِمَنْ أَرَادَ سَفَرًا، وَأَرَادَ إخْرَاجَ إحْدَاهُنَّ مَعَهُ، وَهَذَا فِعْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُوبِهِ، وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ لَهُ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ وَأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْقُرْعَةُ قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ فِي السَّفَرِ، وَفِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، وَلُطْفِ شَمَائِلِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ فَإِنْ سَافَرَ بِزَوْجَةٍ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِغَيْرِ مَنْ سَافَرَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ بِقُرْعَةٍ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَلَا مُفَصَّلًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الْقَسْمَ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِالسَّفَرِ جَوَابُهُ أَنَّ السَّفَرَ أَسْقَطَ هَذَا الْوَاجِبَ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَلَا يُخْرِجَ مِنْهُنَّ أَحَدًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ عَوْدِهِ قَضَاءُ أَيَّامِ سَفَرِهِ لَهُنَّ اتِّفَاقًا، وَالْإِقْرَاعُ لَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِهِ لِمَا عَرَفْت أَنَّهُ فِعْلٌ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَنَحْوِهِمْ وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَطْرِ وَالْقِمَارِ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ إجَازَتَهَا اهـ.
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الْقُرْعَةَ بِأَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ قَدْ تَكُونُ أَنْفَعَ فِي السَّفَرِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا فِي السَّفَرِ لِأَضُرَّ بِحَالِ الزَّوْجِ، وَكَذَا قَدْ يَقُومُ بَعْضُ النِّسَاءِ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ بَيْتِ الرَّجُلِ فِي الْحَضَرِ فَلَوْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا بِالسَّفَرِ لِأَضُرَّ بِحَالِ الزَّوْجِ مِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ بَيْتِ الرَّجُلِ فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَخْتَصُّ مَشْرُوعِيَّةُ الْقُرْعَةِ بِمَا إذَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُنَّ لِئَلَّا يَخُصَّ وَاحِدَةً فَيَكُونَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ.
(الشرح)
هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل.
(المتن)
قِيلَ: هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ، وَالْجَرْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَقْوَمُ.
[جَوَازُ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ ضَرْبًا خَفِيفًا]
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ».
(الشرح)
الأقرب الوجوب إذا أراد أن يسافر وحده.
(المتن)
بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَتَمَامُهُ فِيهِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ ضَرْبًا خَفِيفًا لِقَوْلِهِ جَلْدَ الْعَبْدِ، وَلِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «وَلَا تَضْرِبُ ظَعِينَتَك ضَرْبَك أَمَتَك» ، وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ «كَمَا تَضْرِبُ الْعَبْدَ أَوْ الْأَمَةَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ» فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الضَّرْبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ ضَرْبَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَمَالِيكِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاضْرِبُوهُنَّ}[النساء/34].
وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ غَيْرِ الزَّوْجَاتِ فِيمَا ذُكِرَ ضَرْبًا شَدِيدًا. وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُجَامِعُهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَحْسِنُهُ الْعُقَلَاءُ فِي مَجْرَى الْعَادَاتِ لِأَنَّ الْجِمَاعَ وَالْمُضَاجَعَةَ إنَّمَا تَلِيقُ مَعَ مَيْلِ نَفْسٍ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِشْرَةِ، وَالْمَجْلُودُ غَالِبًا يَنْفِرُ عَمَّنْ جَلَدَهُ بِخِلَافِ التَّأْدِيبِ الْمُسْتَحْسَنِ فَإِنَّهُ لَا يُنَفِّرُ الطِّبَاعَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ عَدَمَ الضَّرْبِ وَالِاغْتِفَارِ وَالسَّمَاحَةِ أَشْرَفُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ أَخْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً لَهُ، وَلَا خَادِمًا قَطُّ، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ قَطُّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ تُنْتَهَكُ مَحَارِمُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ».
(الشرح)
إِذَا سافر بها بدون قرعة لَابُدَّ من القضاء, إِلَّا إِذَا اتفقن عَلَى أن تخرج واحدة معناه أنهن أسقطن نبوتهم, إِذَا اتفقا عَلَى شيء فالحق لهن, إِذَا قلن: يا فلانة أنت سافري هَذِهِ المرة, وأنت يا فلانة سافري هَذِهِ المرة, ونحن سامحين, هَذَا الْحَقِّ لهم.
الإقراع ظاهره الوجوب هم يَقُولُونَ: لَيْسَ للوجوب لِأَنَّهُ هَذَا فعل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, فعل لكن لَيْسَ هناك بديل غيره, لو كَانَ هناك بديل لما أقرع.