ِبسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إرْسَالَهُ, وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ رَجَّحَا الْإِرْسَالَ.
الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْحَلَالِ أَشْيَاءَ مَبْغُوضَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ أَبْغَضَهَا الطَّلَاقُ فَيَكُونُ مَجَازًا عَنْ كَوْنِهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلَا قُرْبَةَ فِي فِعْلِهِ.
(الشرح)
فيهِ: دليل عَلَى إثبات البغض لله عز وجل وأنه من الصفات, كما قَالَ تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}[غافر/10], ما في مجاز.
(المتن)
وَمَثَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَبْغُوضَ مِنْ الْحَلَالِ بِالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ تَجَنُّبُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً، وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الطَّلَاقَ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فَالْحَرَامُ الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ وَالْمَكْرُوهُ الْوَاقِعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْمَبْغُوضُ مَعَ حِلِّهِ.
فِي قَوْلِهِ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ لِابْنِ عُمَرَ بِالْمُرَاجَعَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عُمَرَ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ابْنِهِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْمُرَاجَعَةِ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ}[إبراهيم/31] فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْمُرَنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِذَا عَرَفَتْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبِدْعِيَّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَقَعُ، وَيُعْتَدُّ بِهِ أَمْ لَا يَقَعُ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ يَقَعُ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي أُخْرَى أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ وَحُسِبَتْ تَطْلِيقَةٌ, وَقَدْ يَدُلُّ قَوْلُهُ أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ إذْ الرَّجْعَةُ فَرْعُ الْوُقُوعِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، وَخَالَفَهُ فِيهِ طَاوُسٌ، وَالْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ وَالنَّاصِرِ قَالُوا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَنَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ حَزْمٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ, (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أَيْ لِمُسْلِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ) وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا, وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
(الشرح)
الروافض الخوارج لا عنوة بهم.
(المتن)
الْحَدِيثُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْ عُمَرَ مُخَالَفَةُ مَا كَانَ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فِي عَصْرِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ فِي أَوَّلِ أَيَّامِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ" إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ النَّسْخُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَعْمُولًا بِهِ إلَى أَنْ أَنْكَرَهُ عُمَرُ.
قُلْت: إنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّسْخِ فَذَاكَ وَإِلَّا، فَإِنَّهُ يُضَعِّفُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ إلَخْ، فَإِنَّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُ رَأْيٌ مَحْضٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ.
(الشرح)
الستة أوجه تحتاج إِلَى وقت, فنقف عَلَى هذا للدرس القادم.
فإن قيل: ثم إنه قوي عندي ما كنت أفتي بِهِ أولًا من عدم الوقوع لأدلة قوية صغتها في رسالة سميناها: "الدليل الشرعي في عدم وقوع الطلاق البدعي" ومن الأدلة: أَنَّه منسوبٌ ومسمى نسبةً إِلَى البدعة, كل بدعة ضلالة والضلالة لا تدخل في نفوذ حكمٍ شرعي, ولا يقع بها بل هي باطلة.
لحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» هذا استدلال شيخ الإسلام اِبْن تيمية, وفيه دليل عَلَى أَنَّه رأي اِبْن حزم أيضًا من الظاهرية, اِبْن حزم, وشيخ الإسلام, وابن القيم, الروافض والخوارج هؤلاء لا عنوة بهم, طاوس, والناصر, وجماعة, وَكَذَلِكَ الصنعاني أيضًا كلهم يرون أَنَّه لا ينفذ, والشيخ محمد بْنُ عثيمين يرون أَنَّه لا ينفذ لِأَنَّهُ ليس عليه أمر الله ورسوله, لَكِنْ الجماهير والمحاكم كلهم يفتون بأنه يقع مع الإثم.