بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
الظِّهَار وبما يَكُون.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِه» الحديث, هَذَا مِنْ بَابِ الظِّهَارِ وَالْحَدِيثُ لَا يَضُرُّ إرْسَالُهُ كَمَا كَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ إتْيَانَهُ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ وَطَرِيقٍ مَوْصُولَةٍ لَا يَكُونُ عِلَّةً بَلْ يَزِيدُهُ قُوَّةً.
(الشرح)
هذا عَلَى طريقة الفقهاء والأصوليين, وطريقة المتأخرين؛ أن المرسل يقوي الموصول, يقوي أحدهما الآخر, إذا جاء مرسلًا وموصولًا فالعبرة بالموصول والمرسل يقويه, كذلك إذا جاء مرفوعًا وموقوفًا فالعبرة بالموقوف, أما القدماء من المحدثين فَإِن المقدم عندهم قول الأكثر والأحفظ, إذا كَانَ الأكثر هم الذين يُرسلونه فهو مرسل, وإذا كَانَ الأكثر وصلوه فالعبرة بالموصول.
(المتن)
وَالظِّهَارُ مُشْتَقٌّ مِنْ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَأُخِذَ اسْمُهُ مِنْ لَفْظِهِ وَكَنَّوْا بِالظَّهْرِ عَمَّا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ وَأَضَافُوهُ إلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الظِّهَارِ وَإِثْمِ فَاعِلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}[المجادلة/2] .
وَأَمَّا حُكْمُهُ بَعْدَ إيقَاعِهِ فَيَأْتِي، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي مَسَائِلَ:
الْأُولَى: إذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنْهَا غَيْرِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا أَيْضًا.
(الشرح)
يَعْنِي: إن قَالَ: أنتِ كيد أمي, أو كرجل أمي؛ يَعْنِي: غير الظهر فهذا فيهِ خلاف.
(المتن)
وَقِيلَ: يَكُونُ ظِهَارًا إذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الظَّهْرِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إذَا شَبَّهَهَا بِغَيْرِ الْأُمِّ مِنْ الْمَحَارِمِ، فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأُمِّ وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمٍ مِنْ الرَّضَاعِ وَدَلِيلُهُمْ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَارِمِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأُمِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشَبَّهُ بِهِ مُؤَبَّدَ التَّحْرِيمِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ بَلْ قَالَ أَحْمَدُ حَتَّى فِي الْبَهِيمَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْأُمِّ وَمَا ذُكِرَ مِنْ إلْحَاقِ غَيْرِهَا فَبِالْقِيَاسِ وَمُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَنْتَهِضُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ.
(الشرح)
كأنه يميل إِلَى أَنَّه خاص بالأم وهذا ليس بظاهر.
(المتن)
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَنْعَقِدُ الظِّهَارُ مِنْ الْكَافِرِ فَقِيلَ: نَعَمْ لِعُمُومِ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِهِ الْكَفَّارَةَ وَهِيَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَمَنْ قَالَ يَنْعَقِدُ مِنْهُ قَالَ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوْ الْإِطْعَامِ لَا بِالصَّوْمِ لِتَعَذُّرِهِ فِي حَقِّهِ, وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْإِطْعَامَ إذَا فُعِلَا لِأَجْلِ الْكَفَّارَةِ كَانَا قُرْبَةً، وَلَا قُرْبَةَ لِكَافِرٍ.
(الشرح)
من يُلزم الكافر, هو لا يلتزم, ولا تصح منه العبادة, لَكِنْ لو قيل: إن هذا بعد إسلامه ممكن, كما لو نذر في حال كفره فَإِنَّهُ بعد الإسلام ,, قول عمر رضي الله عنه: «إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية, فَقَالَ له النَّبِيِّ r أوفِ بنذرك» لو كَانَ بعد الإسلام ممكن, لَكِنْ قبل الإسلام من الذي يُلزمه, هو لا يلتزم ولا أحد يُلزمه ولا تصح منه العبادة في حال كفره.
(المتن)
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِهِمْ}[المجادلة/ 3] لَا يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَةَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ لِلِاتِّفَاقِ فِي الْإِيلَاءِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ النِّسَاءِ وَقِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأَمَةِ لِعُمُومِ لَفْظِ النِّسَاءِ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقِيلَ: لَا تَجِبُ إلَّا نِصْفُ الْكَفَّارَةِ فَكَأَنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى الطَّلَاقِ عِنْدَهُ.
الْخَامِسَةُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}[المجادلة/3] فَلَوْ وَطِئَ لَمْ يَسْقُطْ التَّكْفِيرُ، وَلَا يَتَضَاعَفْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ» قَالَ الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ سَأَلْت عَشَرَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَقَالُوا "كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ"، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِلظِّهَارِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ وَالثَّانِيَةُ لِلْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَاتَ وَقْتُهَا، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَدْ فَاتَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يُسْقِطُ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْمُقَدِّمَاتِ فَقِيلَ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسِيسِ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَنْ يَحْرُمُ فِي حَقِّهَا الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَعَنْ الْأَقَلِّ لَا تَحْرُمُ الْمُقَدِّمَاتُ؛ لِأَنَّ الْمَسِيسَ هُوَ الْوَطْءُ وَحْدَهُ، فَلَا يَشْمَلُ الْمُقَدِّمَاتِ إلَّا مَجَازًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ؛ هُوَ الْبَيَاضِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ كَانَ أَحَدَ الْبَكَّائِينَ رَوَى عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ يَعْنِي هَذَا الَّذِي فِي الظِّهَارِ قَالَ: «دَخَلَ رَمَضَانُ فَخِفْت أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي» وَفِي الْإِرْشَادِ قَالَ: «إنِّي كُنْت امْرَأً أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي فَظَاهَرْت مِنْهَا فَانْكَشَفَ لِي شَيْءٌ مِنْهَا لَيْلَةً فَوَقَعْت عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِّرْ رَقَبَةً فَقُلْت مَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قُلْت وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ قَالَ أَطْعِمْ فَرَقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ بِالِانْقِطَاعِ بَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَلَمَةَ؛ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ سَلَمَةُ حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ تَرْتِيبِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَالتَّرْتِيبُ إجْمَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا أُطْلِقَتْ الرَّقَبَةُ فِي الْآيَةِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا وَلَمْ تُقَيَّدْ بِالْإِيمَانِ كَمَا قُيِّدَتْ بِهِ فِي آيَةِ الْقَتْلِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا إلَى عَدَمِ التَّقْيِيدِ، وَأَنَّهَا تُجْزِئُ رَقَبَةٌ ذِمِّيَّةٌ، وَقَالُوا لَا تُقَيَّدُ بِمَا فِي آيَةِ الْقَتْلِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ إلَى الْمَوْتِ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ إدْخَالَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي حَيَاةِ الْحُرِّيَّةِ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ مَوْتِ الرَّقَبَةِ، فَإِنَّ الرِّقَّ يَقْتَضِي سَلْبَ التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَمْلُوكِ فَأَشْبَهَ الْمَوْتَ الَّذِي يَقْتَضِي سَلْبَ التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَيِّتِ فَكَانَ فِي إعْتَاقِهِ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ فَأَشْبَهَ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يَقْتَضِي إثْبَاتَ التَّصَرُّفِ لِلْحَيِّ.
وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ، وَقَالُوا تُقَيَّدُ آيَةُ الظِّهَارِ كَمَا قُيِّدَتْ آيَةُ الْقَتْلِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ قَالُوا: وَقَدْ أَيَّدَتْ ذَلِكَ السُّنَّةُ، فَإِنَّهُ «لَمَّا جَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّائِلُ يَسْتَفْتِيهِ فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَارِيَةَ أَيْنَ اللَّهُ، فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ مَنْ أَنَا، فَقَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ فَأَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ, قَالُوا فَسُؤَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَعَدَمُ سُؤَالِهِ عَنْ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ وَسَبَبِهَا دَالٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِيمَانِ فِي كُلِّ رَقَبَةٍ تُعْتَقُ عَنْ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ كَمَا قَدْ تَكَرَّرَ قُلْت الشَّافِعِيُّ قَائِلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنْ قَالَ بِهَا مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّقْيِيدِ هُوَ السُّنَّةُ لَا الْكِتَابُ؛ لِأَنَّهُمْ قَرَّرُوا فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد مَا لَفْظُهُ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
قَالَ عِزُّ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْإِيمَانِ إلَّا لِأَنَّ السَّائِلَ قَالَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ.
الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ بِأَيِّ عَيْبٍ.
(الشرح)
فعلى هذا فالصواب: تقييدها بالإيمان من الحديث, لابد أن تكون مؤمنة.
فإن قيل: حتى لو ترغيبًا لها؟.
وصفها بالإيمان لِأَنّ السنة هي اللي دلت عَلَى هذا.
(المتن)
فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَدَاوُد تُجْزِئُ الْمَعِيبَةُ لِتَنَاوُلِ اسْمِ الرَّقَبَةِ لَهَا وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى عَدَمِ إجْزَاءِ الْمَعِيبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا بِجَامِعِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ كَالْأَعْوَرِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ نَقَصَتْ مَنَافِعُهُ لَمْ تَجُزْ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُنْقِصُهَا نُقْصَانًا ظَاهِرًا كَالْأَقْطَعِ وَالْأَعْمَى إذْ الْعِتْقُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ نَقَصَتْ, وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفَاصِيلُ فِي الْعَيْبِ يَطُولُ تَعْدَادُهَا وَيَعِزُّ قِيَامُ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ الْآيَةُ وَشُرِطَتْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَوْ مَسَّ فِيهِمَا اسْتَأْنَفَ، وَهُوَ إجْمَاعٌ إذَا وَطِئَهَا نَهَارًا مُتَعَمِّدًا.
وَكَذَا لَيْلًا عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَآخَرِينَ، وَلَوْ نَاسِيًا لِلْآيَةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَلَا إفْسَادَ بِوَطْءِ اللَّيْلِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَاخْتَلَفُوا إذَا وَطِئَ نَهَارًا نَاسِيًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ الصَّوْمَ، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ بَلْ يَسْتَأْنِفُ كَمَا إذَا وَطِئَ عَامِدًا لِعُمُومِ الْآيَةِ قَالُوا وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ إفْسَادَ الصَّوْمِ بَلْ دَلَّ عُمُومُ الدَّلِيلِ لِلْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَتِمُّ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِوُقُوعِهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ.
الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إذَا عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ عُذْرٌ مَيْئُوسٌ ثُمَّ زَالَ هَلْ يَبْنِي عَلَى صَوْمِهِ، أَوْ يَسْتَأْنِفُ، فَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إنَّهُ يَبْنِي عَلَى صَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ بَلْ يَسْتَأْنِفُ لِاخْتِيَارِهِ التَّفْرِيقَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعُذْرَ صَيَّرَهُ كَغَيْرِ الْمُخْتَارِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُذْرُ مَرْجُوًّا فَقِيلَ: يَبْنِي أَيْضًا وَقِيلَ: لَا يَبْنِي؛ لِأَنَّ رَجَاءَ زَوَالِ الْعُذْرِ صَيَّرَهُ كَالْمُخْتَارِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَعَ الْعُذْرِ لَا اخْتِيَارَ لَهُ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ تَرْتِيبَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصُمْ عَلَى قَوْلِ السَّائِلِ مَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي يَقْضِي بِمَا قَضَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الصَّوْمِ إلَّا لِعَدَمِ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُهَا لِخِدْمَتِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الصَّوْمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ قَدْ صَحَّ التَّيَمُّمُ لِوَاجِدِ الْمَاءِ إذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَهَلَّا قِسْتُمْ هَذَا عَلَيْهِ؟
قُلْت: لَا يُقَاسُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ شُرِعَ مَعَ الْعُذْرِ فَكَانَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْمَاءِ كَالْعُذْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُجْعَلُ الشَّبَقُ إلَى الْجِمَاعِ عُذْرًا يَكُونُ لَهُ مَعَهُ الْعُدُولُ إلَى الْإِطْعَامِ وَيُعَدُّ صَاحِبُ الشَّبَقِ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصَّوْمِ؟
قُلْت: هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ سَلَمَةَ. وَقَوْلُهُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ: «وَهَلْ أَصَبْت الَّذِي أَصَبْت إلَّا مِنْ الصِّيَامِ» وَإِقْرَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُذْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَطْعِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُذْرٌ يُعْدَلُ مَعَهُ إلَى الْإِطْعَامِ.
السَّابِعَةُ: أَنَّ النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ وَالنَّبَوِيَّ صَرِيحٌ فِي إطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَأَنَّهُ جَعَلَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرَيْنِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لَا بُدَّ مِنْ إطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، أَوْ يَكْفِي إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ سِتِّينَ يَوْمًا فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ إلَى الْأَوَّلِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّهُ يَكْفِي إطْعَامُ وَاحِدٍ سِتِّينَ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِقَدْرِ إطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالُوا: لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُسْتَحِقٌّ كَقَبْلِ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ تُغَايِرُ الْمَسَاكِينَ بِالذَّاتِ وَيُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَالْقَوْلَيْنِ هَذَيْنِ وَالثَّالِثُ إنْ وَجَدَ غَيْرَ الْمِسْكِينِ لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَجْزَأَ إعَادَةُ الصَّرْفِ إلَيْهِ.
(الشرح)
فإن قيل: صاحب الشبق يعتبر حكمه حكم,,؟.
ها هو الظاهر, المرض يُخشى عليه.
فإن قيل: لَكِنْ حكمه في الصيام وكذا؟.
هو معذور, ينتقل إِلَى الإطعام.