بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ» أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُهُ «احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يُعْرَفُ عَبْدَ اللَّهِ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِتَفَرُّدِ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ ضَعِيفٌ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَكِيعٍ، وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ وَكِيعٌ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاضِحٌ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ, فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّفْيُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا سَكَتَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ وَلَمْ يَنْفِهِ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ إنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ النَّفْيَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ وَذَلِكَ كَالشَّفِيعِ إذَا أَبْطَلَ شُفْعَتَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِهَا وَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّ لَهُ النَّفْيَ مَتَى عَلِمَ إذْ لَا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ مِنْ دُونِ عِلْمٍ، فَإِنْ سَكَتَ عِنْدَ الْعِلْمِ لَزِمَ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ فَوْرٌ، وَلَا تَرَاخٍ بَلْ السُّكُوتُ كَالْإِقْرَارِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالشَّافِعِيُّ بَلْ يَكُونُ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ قَالَ: وَحَدُّ الْفَوْرِ مَا لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِيًا عُرْفًا كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِإِسْرَاجِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثِيَابِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِيًا وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَقَادِيرُ لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ إلَّا الرَّأْيُ وَفُرُوعٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ أَصِيلٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا» قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ إنَّ اسْمَهُ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ قَالَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» بِالرَّاءِ وَالْقَافِ بِزِنَةِ أَحْمَرَ، وَهُوَ الَّذِي فِي لَوْنِهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ «قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنَّى ذَلِكَ؟ قَالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ» بِالنُّونِ فَزَايٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ جَذَبَهُ إلَيْهِ «عِرْقٌ قَالَ فَلَعَلَّ ابْنَك هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَيْ الرَّجُلُ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ, قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الرَّجُلِ تَعْرِيضٌ بِالرِّيبَةِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ الْوَلَدِ فَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلَمْ يُجْعَلْ خِلَافُ الشَّبَهِ وَاللَّوْنِ دَلَالَةً يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِمَا يُوجَدُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فِي الْإِبِلِ وَلِقَاحُهَا وَاحِدٌ.
وَفِي هَذَا إثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَبَيَانُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَيْنِ حُكْمُهُمَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ فِي الْمَكَانِيِّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْقَذْفِ الصَّرِيحِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ السُّؤَالِ لَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَقْصِدُ الْأَذِيَّةَ الْمَحْضَةَ وَالزَّوْجَ قَدْ يُعْذَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّسَبِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالسُّمْرَةِ وَالْأُدْمَةِ، وَلَا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ قَالَ فِي الشَّرْحِ كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِهِ وَإِلَّا فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ زِنًا لَمْ يَجُزْ النَّفْيُ، وَإِنْ اتَّهَمَهَا بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ جَازَ النَّفْيُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ النَّفْيُ مَعَ الْقَرِينَةِ مُطْلَقًا وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِهَا وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مَعَهُ قَرِينَةَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مُخَالَفَةِ اللَّوْنِ.