بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
بَابُ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْر ذَلِكَ.
(الشرح)
حتى لو كَانَ أقرب شيء له الأخ ولا يستطيع النفقة عَلَى نفسه يَجِبُ عليه أن ينفق عليه, يَجِبُ عليه أن ينفق عليه إذا كَانَ ل يستطيع وليس له قدرة عَلَى الكسب وأخوه غني وليس له أحد لا والد ولا ولد وجب عَلَى الأخ أن ينفق عَلَى أخيه, كما أَنَّه يرثه فكذلك ينفق عليه.
(المتن)
العدة: بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ اسْمٌ لِمُدَّةٍ تَتَرَبَّصُ بِهَا الْمَرْأَةُ عَنْ التَّزْوِيجِ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، أَوْ فِرَاقِهِ لَهَا إمَّا بِالْوِلَادَةِ، أَوْ الْأَقْرَاءِ، أَوْ الْأَشْهُرِ.
وَالْإِحْدَادُ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا دَالَانِ مُهْمَلَتَانِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ وَشَرْعًا تَرْكُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ.
عَنْ الْمِسْوَرِ بْنُ مخرمة بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ فَرَاءٍ بْنِ مَخْرَمَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ, (أَنَّ سُبَيْعَةَ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ تَصْغِيرُ سَبْعٍ وَتَاءُ التَّأْنِيثِ, (الْأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ, (بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا) هُوَ سَعِيدُ بْنُ خَوْلَةَ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
(الشرح)
وهو الذي رثى له النَّبِيِّ r, جاء في الحديث: أن سعد بْنُ خولة يرثي له النَّبِيِّ r أن مات بمكة, يَعْنِي: توجع له؛ لِأَنّ الصحابة هاجروا وتركوا البلد لله, فهم يكرهون أن يموتوا في البلد الَّتِي تركوها لله, ولهذا لما مات بدون اختياره توجع له النَّبِيِّ r, لَكِنْ البائس سعد بْنُ خولة يرثي له النَّبِيِّ r لما أتى بمكة.
(المتن)
(بِلَيَالٍ) وَقَعَ فِي تَقْدِيرِهَا خِلَافٌ كَبِيرٌ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ وَيَأْتِي بَعْضُهُ قَرِيبًا فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ, رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ, وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْ عَنْ الْمِسْوَرِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تُزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا أَيْ دَمِ نِفَاسِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرٌ وَيَجُوزُ بَعْدَهُ أَنْ تَنْكِحَ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَهَذَا الَّذِي أَفَادَهُ الْحَدِيثُ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لِهَذَا الْحَدِيث وَلِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/ 4] وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَخُصُّ عُمُومَهَا وَأَيَّدَ بَقَاءَ عُمُومِهَا عَلَى أَصْلِهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْنَدِ الضِّيَاءِ فِي الْمُخْتَارَةِ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4] هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَمْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؟ قَالَ: «هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا».
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أُبَيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَرَكَةٌ أَمْ مُبْهَمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْت: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق/4] الْمُطَلَّقَةُ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ دَالَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذَا, وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ قَالَ نَسَخَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى كُلَّ عِدَّةٍ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4] أَجَلُ كُلِّ حَامِلٍ مُطَلَّقَةٍ، أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا.
(الشرح)
هَذِه سورة الطلاق, آية البقرة فيها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[البقرة/234].
(المتن)
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ بِسَبْعِ سِنِينَ.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْت أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَحَلَّتْ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ قُلْت أَنَا {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/ 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ امْرَأَةً جَرَّتْ حَمْلَهَا سَنَةً فَمَا عِدَّتُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا أَمْضَتْ فِي ذَلِكَ سَنَةً، فَقَالَتْ: «قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ, وَفِيهِ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَى عَائِشَةَ فَسَأَلُوهَا، فَقَالَتْ وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ مِثْلَ مَا مَضَى إلَّا أَنَّهَا قَالَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ.
وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ عَنْ السَّلَفِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى عُمُومِهَا فِي جَمِيعِ الْعِدَادِ، وَأَنَّ عُمُومَ آيَةِ الْبَقَرَةِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَعَ تَأَخُّرِ نُزُولِهَا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ، أَوْ النَّسْخُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِآخِرِ الْأَجَلَيْنِ إمَّا وَضْعُ الْحَمْلِ إنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، أَوْ بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ إنْ تَأَخَّرَتْ عَنْ وَضْعِ الْحَمْلِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة/234].
قَالُوا فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ, وَقَوْلُهُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}[الطلاق/ 4] كَذَلِكَ فَجُمِعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِالْعَمَلِ بِهِمَا وَالْخُرُوجِ مِنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ مَا إذَا عُمِلَ بِأَحَدِهِمَا.
(الشرح)
وهذا اجتهاد, والصواب الأول وهو أن الآية عامة, ولأن الرحم يبرأ بالولادة, وَلَكِن المتوفى عنها معلون أن المدة ليست لبراءة الرحم فقط وَإِنَّمَا للتعبد ولحق الزوج.
(المتن)
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ حَدِيثَ سُبَيْعَةَ نَصٌّ فِي الْحُكْمِ مُبَيَّنٌ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى شَامِلَةٌ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَأَيَّدَ حَدِيثَهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ مَا أُصَدِّقُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ هَذَا وَكَلَامُ الزُّهْرِيِّ صَرِيحٌ أَنَّهُ يُعْقَدُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَطْهُرْ مِنْ دَمِ نِفَاسِهَا، وَإِنْ حَرُمَ وَطْؤُهَا لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ بَقَاءُ الدَّمِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ وَلَدًا، أَوْ أَكْثَرَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقِصَهَا، أَوْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ إذَا كَانَ فِيهِ صُورَةُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ سَوَاءٌ كَانَتْ صُورَةً خَفِيَّةً تَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِمَعْرِفَتِهَا، أَوْ صُورَةً جَلِيَّةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ.
(الشرح)
هذا تعميم النووي, سواء علقة أو مضغة يَعْنِي: إذا تخلقت المضغة أما العلقة ما تتصور؟ العلقة دم, فمقصود النووي: أنه إذا تبين فيهِ خلق الإنسان صار ولده, أما إذا أسقطت عدة لحم فهذه ليست نفساء والدم دم فساد, وتعتد أربعة أشهر وعشرة أيام.
(المتن)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ وَلَدًا، أَوْ أَكْثَرَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقِصَهَا، أَوْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ إذَا كَانَ فِيهِ صُورَةُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ سَوَاءٌ كَانَتْ صُورَةً خَفِيَّةً تَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِمَعْرِفَتِهَا، أَوْ صُورَةً جَلِيَّةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ.
وَتَوَقَّفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي إطْلَاقِ وَضْعِ الْحَمْلِ هُوَ الْحَمْلُ التَّامُّ الْمُتَخَلِّقُ. وَأَمَّا خُرُوجُ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ، فَهُوَ نَادِرٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَقْوَى.
(الشرح)
العلقة قطعة دم, والمضغة قطعة لحم, وقد ما يتبين فيهِ صورة.
(المتن)
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ قِطْعَةِ لَحْمٍ لَيْسَ فِيهَا صُورَةٌ بَيِّنَةٌ، وَلَا خَفِيَّةٌ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ الْإِطْلَاقُ فِيمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَمْلًا.
(الشرح)
وهذا صواب هذا كلام الشافعي جيد.
(المتن)
وَأَمَّا مَا لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَمْلًا، فَلَا لِجَوَازِ أَنَّهُ قِطْعَةُ لَحْمٍ وَالْعِدَّةُ لَازِمَةٌ بِيَقِينٍ، فَلَا تَنْقَضِي بِمَشْكُوكٍ فِيهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أُمِرَتْ» مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ وَالْآخَرُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, «بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ عِدَّةَ الْمَمْلُوكَةِ دُونَ عِدَّةِ الْحُرَّةِ لَا بِالزَّوْجِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ مِنْ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا.
(الشرح)
ولذلك اعتدت بثلاث حيض؛ لِأَنَّهَا حرة هي فاعتدت عدة الحرائر, ولو كانت العدة تعتبر للزوج لاعتدت حيضتان؛ لِأَنّ زوجها عبد.
(المتن)
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ هُوَ أَبُو عَمْرٍو عَامِرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
(الشرح)
شرحبيل ولا شرحيل؟ يقول هنا في المخطوط: شرحبيل والصواب ما أثبتناه شرحيل, فهو شرحيل بالياء.
(المتن)
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ هُوَ أَبُو عَمْرٍو عَامِرُ بْنُ شُرَحْيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيُّ الْهَمَذَانِيُّ.
(الشرح)
هو بالدال؛ لِأَنّ المعروف نسبة إلى القبيلة بالدال, أما بالذال هذا نسبة إِلَى مدينة في الشرق همذان, وإذا نُسب لقبيلة من قبائل العرب فهو همدان بالدال, والظاهر أنه منسوب لقبييلة من العرب همدان.
فإن قيل: ما ضبطها عندي لَكِنْ قَالَ: راجع تاريخ البخاري ويوجد ترجمته في عدة كتب.
(المتن)
الهمداني الْكُوفِيُّ تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ فَقِيهٌ كَبِيرٌ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ, مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِالشَّعْبِيِّ، وَهُوَ يُحَدِّثُ بِالْمَغَازِي، فَقَالَ شَهِدْت الْقَوْمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ ابْنُ الْمُسَيِّبِ بِالْمَدِينَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ وُلِدَ الشَّعْبِيِّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ كَمَا فِي الْكَاشِفِ لِلذَّهَبِيِّ وَقِيلَ: لِسِتٍّ خَلَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَيْسَ لَهَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى, وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ.
ذَهَبَ إلَى مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالْقَاسِمُ وَالْإِمَامِيَّةُ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُد وَكَافَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَنَفِيَّة وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مُسْتَدِلِّينَ عَلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/ 6].
وَهَذَا فِي الْحَامِلِ وَبِالْإِجْمَاعِ فِي الرَّجْعِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ النَّفَقَةُ. وَعَلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}[الطلاق/6] .
وَذَهَبَ الْهَادِي وَآخَرُونَ إلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ دُونَ السُّكْنَى مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}[البقرة/241].
وَلِأَنَّهَا حُبِسَتْ بِسَبَبِهِ كَالرَّجْعِيَّةِ، وَلَا يَجِبُ لَهَا السُّكْنَى.
(الشرح)
وهذا قياسٌ مع الفارق, وهذا محمول عَلَى أَنَّه ما بلغهم النص, حديث فاطمة نص في أن المطلقة ليس لها نفقة ولا سكنى, وليست كالرجعية, الرجعية زوجة والقياس عليها قياسٌ مع الفارق, ومن قَالَ من العلماء: أن لها نفقة وسكنى فهو محمول عَلَى أَنَّه خفت عليه السنة وما بلغه الحديث, وفاطمة هي صاحبة القصة ولم يجعل لها النَّبِيِّ r نفقة ولا سكنى.
(المتن)
لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}[الطلاق/ 6]يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الزَّوْجُ، وَهُوَ يَقْتَضِي الِاخْتِلَاطَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي حَقِّ الرَّجْعِيَّةِ.
قَالُوا وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَدْ طُعِنَ فِيهِ بِمَطَاعِنَ يَضْعُفُ مَعَهَا الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَحَاصِلُهَا أَرْبَعَةُ مَطَاعِنَ: الْأَوَّلُ كَوْنُ الرَّاوِي امْرَأَةً وَلَمْ تَقْتَرِنْ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يُتَابِعَانِهَا عَلَى حَدِيثِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ الرِّوَايَةَ تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الْمَنْزِلِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى بَلْ لِإِيذَائِهَا أَهْلَ زَوْجِهَا بِلِسَانِهَا.
الرَّابِعُ: مُعَارَضَةُ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ عُمَرَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَوْنَ الرَّاوِي امْرَأَةً غَيْرُ قَادِحٍ فَكَمْ مِنْ سُنَنٍ ثَبَتَتْ عَنْ النِّسَاءِ يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ السِّيَرَ وَأَسَانِيدَ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، فَهَذَا تَرَدُّدٌ مِنْهُ فِي حِفْظِهَا وَإِلَّا، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ عِدَّةُ أَخْبَارٍ وَتَرَدُّدُهُ فِي حِفْظِهَا عُذْرٌ لَهُ فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا يَكُونُ شَكُّهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}[الطلاق/1] ، فَإِنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّخْصِيصِ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ فَأَرَادُوا بِهَا قَوْلَهُ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَ
الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا يَكُونُ مَرْفُوعًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَجَعَلَ يُقْسِمُ وَيَقُولُ وَأَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إيجَابُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا؟ وَقَالَ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ: «عُمَرَ سَمِعْت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ»، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُولَدْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسِنِينَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ خُرُوجَ فَاطِمَةَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لِإِيذَائِهَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ بِلِسَانِهَا فَكَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ عَمَّا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَتْ، وَلَوْ كَانَتْ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى لَمَا أَسْقَطَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَذَاءَةِ لِسَانِهَا وَلَوَعَظَهَا.
(الشرح)
هي توعَظ بالكف, والمقصود: أن هذا كلام لا وجه له.
(المتن)
وَكَفَّهَا عَنْ إذَايَةِ أَهْلِ زَوْجِهَا، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذِهِ الْمَطَاعِنِ فِي رَدِّ الْحَدِيثِ فَالْحَقُّ مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ نَاصِرًا لِلْعَمَلِ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ.